الاثنين، 30 ديسمبر 2013

الفصل (أ16) – أحمد محمود صبحي - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ16) أحمد محمود صبحي
بقلم: عزالدين كزابر
من مؤلفات الدكتور أحمد محمود صبحي
عودة إلى فهرس الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الدكتور أحمد محمود صبحي[2]،[1]: "إن القرآن ليس كتاباً في العلم، وإن كنا لا نقبل أن يتحكم الدين في مجالات العلم، فإنه يجب أن نرفض أيضاً تدخل العلم فيما هو مجال الدين."
المتكلم هنا – يرحمه الله تعالى – من أهل اللغة العربية، لغة القرآن، والفلسفة الإسلامية. وما يقصده من أن القرآن ليس بكتابٍ في العلم، أن علومه ليست من قبيل علوم الطبيعيات وما يشاكلها. وهي المسألة التي تناولناها في الفصول السابقة من وجهات عديدة، وبما تكشَّف معه زيفها الكثير وإصابتها القليلة.
غير أن الجديد هنا عرض ما يمكن أن يكون مساومة ضمنية أو صريحة من المتكلم، وذلك في قوله: لا نقبل أن يتحكم الدين في مجالات العلم، (و) نرفض أيضاً تدخل العلم فيما هو مجال الدين. وكأن الأمر تَرِكة تُقسَّم بين حزبي الفكر البشري في الوجود، يكون فيها كلام الله من شأن (الحزب الديني - تجوُّزاً في التعبير) ، ويكون فعل الله تعالى (أي: خلقه سبحانه) من شأن (الحزب العلمي)! ... ولا نجد تعليقاً أقرب إلى تقييم هذه القسمة الجائرة إلاّ قول الله تعالى "تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى"(النجم:22)، ثم لا نجد إغلاقاً لذلك إلا قول الله تعالى: "بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا"(الرعد: 31)
نعلم أن "الحزب الديني" المشار إليه، مكتوف الأيدي تجاه أي شيء من قبيل التدخل في العلم، فلا هو من برامجه، ولا من قدراته. وهي ورقة يطرحها - بإسمه المتكلم أعلى - في هذه المساومة لا تعبر عن أي تنازل حقيقي، لأنه لا يملك عدم التنازل، ولا تزيد عن الإفصاح عن واقع الأمر، وأنه لا قدرة له على المواجهة!
غير أنه يطلب في المقابل ألا يتدخل الحزب العلمي في الدين، على منوال "لكم دينكم ولي ديني". ورغم أن هذه القسمة جائزة في الاعتقادات المتضادة المتنافرة؛ كالإيمان بالله تعالى والكفر به ، إلَّا أن القرآن والعلم لا يتضادان ولا يتنافران! فما هي المرجعية التي اعتمد عليه المتكلم ويمكن أن تُزكِّي هذا الفصل التعسفي؟! .. بحثنا عن ذلك فلم نجد إلا مرجعية نفسية!!!
ويمكن أن نجد رداً مضاداً على هذه الدعوى - للدكتور أحمد محمود صبحي- بفصل السلطات العلمية، وذلك على لسان د. مصفى محمود - رحمه الله تعالى - حين قال[3] (رداً على ما تعرَّض له من مؤاخذت عن تفسيراته العصرية): [إذا كان لنا ألا نتكلم في الآيات الشرعية، فعلي المشايخ ألا يتكلموا في الآيات الكونية.]! .. وهو رد .. لا نفهمه على أنه مقصود المعنى الحرفي، وإنما نعتبره (رد فعل) يُعبِّر عن الامتعاض من الإقصاء الذي شعر به مصطفى محمود من قِبل المتخصصين بالعلوم الشرعية، وخاصة "بنت الشاطئ"، (أنظر الفصل أ8).
وإذا تنازل الحزب الديني، وسلَّم بعدم التدخل في العلم، فهل يمكن أن يرجع عن هذا التنازل تحت أي دعوى؟! – لا لن يُمكن!! ... إنها خطوة اعترافية بحق العلم (في منهجه الغربي الإلحادي البنية، العلماني التوجه) دون غيره، في البت في مسائل الخلق وسننها، والمجتمعات وعمرانها أو فسادها! .. إنه عرض لا يختلف كثيراً عن عرض سلام الشجعان بين العرب واليهود، بل قل، سلام الحِملان! – سلام من لا حيلة له إلا الراية البيضاء.
إنه أقرب إلى التنازل عن بعض الحق، أملاً ألا يضيع كل الحق. وفي هذا يقول الله تعالى "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ"(القلم:9)، ولكن الله تعالى قد حكم وألزم المؤمنين بالحق كاملاً، لا يتنازلون عن شيء منه، حين قال سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام: "وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ"(المائدة:49).
والحق أن هناك علاقة أكيدة بين الإسلام وموضوعات العلم الحديث، أقر بها علماء شرعيون، مشهود بنزاهتهم العلمية، وصدحهم بالحق الذي يؤمنون به، فهذا الشيخ بن باز رحمه الله تعالى يقول[4] : [علوم الفلك فيها ما له تعلق بالشرع، وقد وجد في الأدلة الشرعية ما يدل عليه. فهذا القسم لا يجوز لعلماء الإسلام ولا غيرهم أن يقلدوا فيه علماء الفلك، بل يجب عليهم أن يتمسكوا فيه بما دل عليه الشرع وأن ينكروا ما خالف ذلك.]، ... وهذا الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى، يقول[5] : [بما أن بعضاً من النظريات الحديثة يلامس ما عرض له الكتاب الكريم بالإثبات أو بالنفي، وجب أن يقف المسلمون منه موقفاً يلائم العقيدة والإيمان، ويوائم هدى القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فيثبتوا ما أثبته، وينفوا ما نفاه، وما لم يتعرض له بإقرار ولا إنكار، تركوه للتحقيق العلمي، فهو وحده الذي يتحمل تهمة إقراره أو إنكاره ...].
وإذا كان موقف – د. أحمد محمود صبحي – يمثل بعض رجالات الحزب الديني، الذين فقدوا الحُجَّة، أو تعثّروا السبيل، أو زاغت رؤاهم في لجة الإرباكات العلمية الحديثة في علاقتها بالإسلام، بكل ما في موقفهم هذا من قسمات وعبرات وآهات. فما هو موقف "الحزب العلمي" المتحامل على الدين وأهله؟!
سنلتقط من هذا الحزب بعض رموزه العربية، ونذكر رده الافتراضي بإيجاز على هذا العرض السخي من الحزب الديني: ونقصد برموزه: طه حسين، محمد أركون، حسن حنفي، نصر حامد أبو زيد، سيد القمني، ومراد وهبه، ومن وراء حجاب يمكن أن نضيف أسماءاً أخرى تأتي في الطابور الثاني، ومنهم عبدالوهاب المسيري، حتى مع إعلانه بالتبرؤ من العلمانية الفجًّة، وتأييده فقط للعلمانية المقيدة. ورغم أنه لا يوجد لمثل هذه الرموز من الأعمال العلمية التي تؤهلهم للتحدث بإسم العلم، أللهم إلا تحدثهم الدائم عنه، إلا أنهم تصدروا المشهد للدفاع عن القيم الإلحادية والعلمانية. ولا نقول للدفاع عن قيم أصيلة فيه، يُفتخر بها وتُحمد له، بل للدفاع الهجومي على حمى كان من المفترض أنها من حق الحزب الديني الذي رأينا عرضه الهزلي أعلى، على لسان الدكتور أحمد محمود صبحي.
أما إيجاز عريضة هذا الحزب العلمي بزعمه، فهي:
1- زيادة رقعة العمل العلمي؛ ببسط قيم التشكيك والنيل من حمى الحزب الديني.
2- إنكار وجود أي حدود تميز بين ما هو ديني وما هو علمي، فكل حِمَى الحزب الديني أصبحت مشاع، من النهر إلى البحر.
3- نَسَبْ مفاهيم وآليات الحزب الديني إلى قيم ما قبل العلم، ومن ثم النيل منها، وتوهين ما لديها من حجج (لا علمية)! باعترافات بعض أهلها للأسف.
4- تعرية مقدسات الحزب الديني باختلاق تهافتها، وتاريخيتها، وزيف أصولها، وعلى نحو علمي (بزعم الحزب العلمي) أقدس من أن يمسه أيديولوجي (يقصدون الدينيين).
5- التعويل على ثقافة حقوق الإبداع، وحرية الرأي، وعلمنة الإلحاد، كحَصَانَات تقي مصارع التكفير، ومهانات الزندقة، وعقوبات النفي المعنوي.
6- الالتجاء إلى دعم مؤسسات (ضرار)[6] بالجوائز والأوسمة، والكراسي العلمية، وشهادات التقدير، والتزييف الإعلامي، والألقاب، وبطولات الاستشهاد في سبيل "العلم الإله".
ونؤكد ما ذهبنا إليه بما قاله عبدالمجيد الشرفي، في تعريفه للعلمانية، يقول[7]: [يبدو أن التعريف الذي يقترحه بيتر بيرجي (Peter Berger) أكثر تعريفات العلمنة المتعددة دقة. فالعلمنة كما ضبطها هي[8]: "السيرورة التي بها تخرج قطاعات تابعة للمجتمع والثقافة عن سلطة المؤسسات والرموز الدينية". وهكذا، فليست المؤسسات مثل الدولة أو المؤسسة هي وحدها التي تفلت من السلطة الدينية، وإنما تشمل العلمنة أيضاً الذهنية أو الثقافة في مجموعها. هذا ما يؤدي على وجه الخصوص إلى تطور العلوم المتعلقة بالعالم على سبيل انتهاج الاستقلال والعلمنة، كما يؤدي إلى غياب النماذج الدينية من الفن والفلسفة والأدب وغيرها ... وبعبارة أخرى العلمنة هي تطوير الجانب الدنيوي على حساب الجانب المقدس أو الديني. وهي تتجسم إذن في ازدياد عدد الأفراد والمجموعات البشرية التي تتمثل العالم وحياتها الخاصة دون الرجوع إلى التأويلات والقيم الدينية.]
أو بما قاله محمد عمارة، بعد تحقيقه لمعنى العلمانية ومراداتها، .. قال[9] : [مصطلح "العلمانية" هو الترجمة التي شاعت - بمصر والمشرق العربي - للكلمة الانجليزية secularism .. بمعنى .. الدنيوي .. والعالمي .. والواقعي - من "الدنيا" و"العالم" و"الواقع" - المقابل لـ "المقدس" أي: الديني الكهنوتي، النائب عن السماء، والمحتكر لسلطتها، والمالك لمفاتيحها، والخارق للطبيعة وسننها، والذي قدّس الدنيا قداسة الدين، وثبت متغيراتها ثبات الدين..[10]  ]

ونسأل الدكتور أحمد محمود صبحي، هل يجدي مع من كان هذا برنامجه الحزبي، أي أمل للمساومة، بل قل للمداهنة، وتقديم التنازلات على حساب ديننا، وكتاب ربنا، وحقه العلي في الوحدانية دون شريك من علوم مُخْتَلَقَة، وكيد متصل، وكفر متجذر، وبهرجة دعائية بإسم العلمية؟!
فإن قال: ما هذا الحزب وبرنامجه عنيت، إنما عنيت العلوم الطبيعية والرياضية والكيميائية وما كان موضوع دراسته المادة، وكانت أفكاره التجريد الرياضي، ومنطقه العقلانية العلمية الصارمة، التي أحكامها قواطع، ولا تعرف المشاعر، ولا الأحقاد، ولا القيم المتسلطة على النفوس.
قلنا: وهل بغير اسم العلم - الذي وصفته بهذه الصفات الموضوعية - يتكلم هذا الحزب ومَن ورائه؟! –
لا تنخدعن أخانا العزيز بهذا الزيف من الإعلام العلمي، فالعلم الغربي الحديث اعتقادات، بين حق قليل، وظن كثير، ونفوس ذات أهواء، وقيم تُبَخَّس وتُؤخَّر، وتُشكَّك وتُحقَّر، واقرأ إن شئت مراجعاتهم على أنفسهم[11]  في شأن العلم وموضوعيته المتوهمة. ثم إذا كان ما قصدته أعماق المحيط، فتلك شطآنه، وفيوضه الافتراسية على ديننا وحمانا، قد تأذَّت منه أقدامنا وثيابنا، وولج فيه سفهاؤنا، وغرق فيه من لا قِبل له بأوليات السباحة، من علمانيين وزنادقة معاصرين، وجُهلاء مُغَيَّبين. فما الحال إذا طغت علينا أمواجهم العكرة، وبلغت منا الروح والنَّفَس؟!!! ... فيجب أن تتقدم خطوط دفاعنا لدرئها، لا عن اختلاق، وتَعَدٍّ، وافتراء؛ بل عن امتثال لقول الله تعالى "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ"(الأنفال:59)، وقوله تعالى "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"(الحج: 78)، وقوله تعالى "قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ"(الملك:26).
فالعلم كله لله، والخلق كله لله. وفي كتابه تعالى هُدانا، في كل منحى من مناحي حياتنا، بما في ذلك أفكارنا الطبيعية والوجودية، ... لا عن أوهام لُغوية، بل عن إعمال معاني كلام الله فيما تَفَتَّقت عنه من موجودات.
المؤلف
عودة إلى فهرس الكتاب


[1] أحمد محمود صبحي، أستاذ الفلسفة الإسلامية، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية. له العديد من المؤلفات، منها: "ابو حنيفه النعمان و آراؤه الكلاميه"، "التصوف - ايجابياته و سلبياته"، "الفلسفه الاخلاقيه في الفكر الاسلامي"، "في فلسفة التاريخ"، "نظرية الأمامة لدى الشيعة الإثنى عشرية"-تحليل فلسفي للعقيدة، "في علم الكلام - دراسة فلسفية لأراء الفرق الاسلامية"، وغيرها. (ملاحظة: د. أحمد محمود صبحي ليس أحمد صبحي منصور المُنكر لحجية السنة المطهرة، والمطرود من جامعة الأزهر ويقيم بأمريكا)

[2] "بعض جوانب التجديد في الفكر الإسلامي"، أحمد محمود صبحي، مستلة من مجلة كلية الآداب والتربية ببنغازي، ص 69. نقلاً عن "العقل والدين سلسلة نقد العقل التجديدي في الإسلام"، هاني المرعشلي، المكتب العلمي للنشر والتوزيع، الإسكندرية، 2001،ص 84.

[3] في لقائه ببرناج (مواجهات) على فضائية إقرأ – المخصص لموضوع الشفاعة:

[4] عبد العزيز بن باز، "الادلة النقلية و الحسية على جريان الشمس و القمر و سكون الأرض"، مكتبة الرياض، 1982، طبعة ثانية، ص 44.


[5] محمد الحامد، "ردود على أباطيل، وتمحيصات لحقائق دينية"، دار الإمام مسلم ودار الدعوة بحماة، سورية، ص 334-335.

[6] منحت مؤسسة ابن رشد للفكر الحر جائزتها ـ في العام 2005 ـ لـ "نصر حامد أبو زيد"، وقالت في حيثيات منح الجائزة : "إنها منحت الجائزة لـ" أبو زيد" عن مجمل أعماله التي وصفتها لجنة التحكيم بأنها قراءة مستقلة عن التفسير التقليدي. .. وأضاف البيان: أن أبو زيد ينقد القراءة التقليدية للقرآن ويدعو إلى تفسير علمي مدعم بالحجج، ينطلق من النص ليصنفه في سياقه التاريخي فيفرّق بين المعاني العقائدية والمعاني التي فرضها السياق التاريخي. والباحث يؤكد أن القراءة المعاصرة للقرآن يجب أن تستعين بمناهج علوم اللغة والتاريخ، خاصة وان النص القرآني يحتمل قراءات وتفسيرات مختلفة. وقد ظهرت في التاريخ الإسلامي قراءات وتفسيرات متنوعة قبل أن يحتكر المسلمون المتشددون تفسيراتهم الأحادية المنفردة لمعاني الكلمات الإلهية، والتي حصروها في إطار المسموحات والمحرمات لا غير.":
http://ibn-rushd.org/arabic/PM.A-05.Abu-Zaid.htm

[7] كتاب "لَبِنات" من سلسلة معالم الحداثة، عبدالمجيد الشرفي، دار الجنوب للنشر، تونس، 1994، ص 54-55.

[8] بيتر بيرجي (Peter Berger): الدين في الضمير الحديث، باريس 1971/ ص 174.
La Relgion dans la Conscience Moderne. Paris 1972 p.174.

[9] "معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام"، محمد عمارة، نهضة مصر، ط2، 2004، ص 23.

[10] هامش المرجع السابق، ص 23: [أنظر(معجم العلوم الاجتماعية) - وضع معجم اللغة العربية - القاهرة سنة 1975م، و(قاموس علم الاجتماع) - إشراف د. عاطف غيث - طبعة القاهرة سنة 1970، ود. محمد البهي (العلمانية والإسلام بين الفكر والتطبيق) ص 7، 8 - طبعة القاهرة سنة 1976.]

[11] بنية الثورات العلمية، توماس كون، ترجمة شوقي جلال، عالم المعرفة، العدد 168، ديسمبر 1992. وما نتج بعد هذا الكتاب من مراجعات في اجتماعيات العلم، وطبيعته القيمية، وعدم براءته في ادعاء الموضوعية، والنزاهة، والتجرد من الأهواء، وخلوه من النزعات الأيديولوجية.

الاثنين، 23 ديسمبر 2013

الفصل (أ15) – شوقي ضيف - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ15) شوقي ضيف
بقلم: عزالدين كزابر


بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الأستاذ الدكتور شوقي ضيف- رحمه الله تعالى-[2]،[1]: "تلت الشيخ الإمام [محمد عبده] تفاسير كثيرة منها ما اهتدى بهديه ومنها ما خاض في مباحث علمية. كنت ولا أزال أراها تجنح عن الجادة إذ القرآن فوق كل علم. ومن الخطأ أن يتخذ ذريعة لإثبات نظريات علمية في الطبيعة والعلوم الكونية والفلكية وهو لم ينزل لبيان قواعد العلوم ولا لتفسير ظواهر الكون، وما ذُكر فيه من خلق السماوات والأرض والأفلاك والكواكب إنما يُراد به بيان حكمة الله وأن للوجود خالقاً أعلى يدبره وينظم قوانينه. ولا ريب في أن القرآن يدعو أتباعه دعوة عامة إلى العلم والتعلم للعلوم الرياضية والطبيعية والكونية. ولكن هذا شيء والتحول بالقرآن إلى كتاب تُستنبط من النظريات العلمية شيء آخر، لا يتصل برسالته ولا بدعوته. إنه دين لهداية البشرية يزخر بما لا يُحصى من قيم روحية واجتماعية وإنسانية. وحَسْب المفسر أن يُعنى ببيان ما فيه من هذه القيم ومن أصول الدين الحنيف وتعاليمه التي أضاءت المشارق والمغارب أضواء غامرة."
نقول: لم يُدرك كثيرٌ من علمائنا – رغم تألقهم في تخصصاتهم كالنجوم في الظلمات المدلهمة – أن النزال قائم ولا يزال يستعر، وله اصطكاك يبرق ويرعد هنا وهناك بين الحق والباطل. ومهما دوّى هذا النزال في صورة من صور العنف أو خفَّ صداه، فإن قطب الرحى منه ومرجعه ليس إلاّ إلى الحُجّة والغلبة. وبقدر ما يطغى أهل الإضلال والزيغ على أرض جديدة من بقاع الفكر الصادق، وحمى الله تعالى في حججه، بقدر ما يفقد أهل الإيمان بالله تعالى من هيمنة الروح القرآنية على ما سبقه من كتب إلهية، ناهيك عن علوم بشرية لا ينفك عنها العوج والشطط، تسعى إلى هيمنة على عقل الإنسان وقلبه، دع عنك انقياده ومصيره.
يقول أحد المتحررين الليبراليين[3]: ["هذا من فعل الله" ليس تفسيرا لظاهرة ما، إنما هو اعتراف بأنه ليس لدينا تفسير لهذه الظاهرة، وأحيانا يؤدي هذا الموقف-وهذا هو الأخطر- إلى عدم بذل الجهد العلمي المطلوب لمحاولة إيجاد تفسير معقول]. ونُلاحظ كم في هذه العبارة من سُمٌّ قاتل، وفحواها! .. أن على من يُصدِّقُها أن يختار بين أحد الاختيارين دون الآخر؛ فإما أن يقول: "هذا من فعل الله" كما يقول المؤمنون بالله، أو أن يسعى إلى تفسير الظاهرة تفسيراً علمياً على النهج الغربي الحديث. ومعنى أن يقول المؤمن هذه العبارة "هذا من فعل الله" أنه يفتقر إلى التفسير العلمي للظاهرة. ومن ثم، فأي موقف يتراءى لمؤمن فيه أنه يؤدي إلى أن يقول هذه العبارة، عليه أن يتوقف ويفكر، ألها تفسير علمي؟ - فإن وجد التفسير فقد بلغ المراد! وإلا فليقلها ليعلن أنه ليس لديه تفسير. أنظر أيها القارئ الكريم مدى خبث هذه الفكر الذي ينتصر بالعلم الحديث لنفي الإقرار بما هو حق لله تعالى دونما شريك في الوجود، والذي هو بتمامه من خلقه سبحانه، أسباباً وثمارا. ورغم أن الرد على هذا الزيف الفكري يسير، وفضح تلبيسه غير عسير، إلا أن الأغرار من الناس – مسلمين وغير مسلمين – صيدٌ هائم يلتقطه الضُلاَّل بهذا المكر الداهم.
ولمثل هذا – وغيره – من مكر الماكرين، وجب أن ينكشف للناس علاقة الدين – في الإسلام والقرآن – بما بنى عليه العلم الحديث قواعده، ألا وهو ما خلقه الله تعالى وأودع فيه من أسرار وإبداعات. وليس هذا رد فعل لمحض التشويش دون الأصول والبراهين، بل دفاعاً عن حق لله فيما خلق، وفيما أنزل، وفيما يجب أن يُنسب إليه سبحانه، حتى لو توسطت ذلك أسباب جعلها الله تعالى من دلائل حكمته في الخلق، وظن الـمُـبطلون – أو تغافلوا عن – أنها مما ينفي أو يستغني عن ضرورة وجود الـمُبدع لها سبحانه.
وليس غريباً على أهل الإلحاد العلمي، أن يسعَوا إلى دعم إلحادهم بالمكر في رداء العلم، والله تعالى يقول لنبيه: "وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا"(الإسراء:73-75)، وهذه الآية محققة فيما نقلناه أعلى، في تخيير الناس بين نسب الحق لله وبين التفسير العلمي الغربي بعيداً عن الله، افتراءاً وكذباً!! .. وكأن المسألتين – الإيمان والعلم- متناقضتان ولا تجتمعان؟!
وأينما يذهب المؤمن في العلوم الحديثة يجد مثل هذه الألغام، والفتن، ويظل يبتعد عن حمى الإيمان شيئاً فشيئا، حتى يصل به الأمر إلى أن يصبح من زمرة أقوام أخذتهم الفتنة وابتلعتهم، ثم صنعت منهم ألسنة لها، يلمزون ويخدشون الحق بجهلهم أو ظنهم، وما يخدشون إلا وجوههم وما يشعرون.
ولا يظن ظان أن الإعجاز العلمي في القرآن ملجأ مصطنع، يأوي إليه المؤمن من هذا الهجوم الإلحادي، هروباً من النزال العلمي، وانكشافاً لوهن فكري، وتذرعاً بجوار الله، وفراراً من الزحف! .. بل الحال غير ذلك، وهو، أن الله تعالى غالبٌ على أمره، عالم بالغيب ومكر الماكرين. وما نراه، أنه سبحانه جعل في كتابه من الأدلة والبراهين على ائتلاف كلامه الحكيم مع إبداعه في خلقه، ينطق كل منهما ليدلل على الآخر في غير تباين ولا تنافر ولا افتراق، لأنهما جميعاً منه سبحانه. فبالحق خلق ما خلق، وبالحق أنزل ما أنزل، فكان ما أنزل مصداق ما خلق، وكان ما خلق تصديق ما أنزل.
فالأسباب إذاً حاضرة لشمول كتاب الله تعالى لأسرار الله في خلقه سبحانه، ولا نقول لنظريات البشر حولها. وليس هذا افتراءاً دون سند، ولا ادعاءً ما عليه من دليل، فآيات القرآن في ذلك متواترة. بل إن التصريح بعلل شمول التنزيل على مثل هذه الآيات جلية بينة، ولا أدل على الحق من علة صريحة عند أصحاب البراهين، وخاصة إذا صدرت من أصدق القائلين، وأحكم الحاكمين. فلم تتركنا الآيات نبحث معللين، مخطئين أو مصيبين، تائهين ضائعين، ولم يعفنا في نفس الوقت من تدبر الأسباب والبحث والتنقيب. فقال تعالى في علّة تبيين الحق للكافرين "حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"(فصلت:41)، وفي علة تثبيت المؤمنين، واستيقان الذين أوتوا الكتاب، ونزع فتنة الارتياب "لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ"(المدثر:31). والعبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وإذا نظرنا في كتاب الله تعالى فسنجده مشحوناً بالآيات الكونية، وأسرارٍ مازلنا نجهل معانيها، فلا يعلم أحدٌ من المفسرين ترجيحاً، ولا اطمئنان معرفياً، ما تؤول إليه "الذَّاريات" و"الوِقْر"، ولا "الصَّافَّات" و"الزَّجْر"، ولا "المُرسَلات" و"العًرف"، ولا الحروف المقطعة، ولا "مستقر الشمس" ولا الفرق بين جريانها وسبحها، ولا ما في الأرض من مثل السموات السبع، ولا الأمر العارج بين السماء والأرض، ولا الأيام ذوات الألف سنة والخمسين من مثلها ... إلخ. ... فأنَّى لنا أن نعرفها إن لم نتفحص ما خلق الله، وما قاله الراصدون لها في صورة قوانين حاكمة، أو نظريات مطروحة، أو أفكار هائمة. ... أم أننا ننتظر الوحي ينزل – وما هو بنازل كما أخبرنا ربنا جل وعلا- ليخبرنا بعد أن أخبرنا، ويطعمنا بعد أن أطعمنا، ويسقينا بعد أن سقانا؟! – أم يظن عاقلنا أن الأرض تخرج ثمارها مطبوخة، أو ذهبها مسكوكا، أو أن يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه! وما هو ببالغه!
ثم ما هو الذي أمرنا الله تعالى أن نتدبره في كتابه العزيز حين قال سبحانه " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا"(النساء:82)، وحين قال جل في علاه " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"(محمد:24)؟! – أم أن التدبر غرضه الإقرار، فإذا حضر الإقرار انتفى التدبر بظن الظانين؟! – وهل يختلف هذا عن قول القائل أن الصلاة غرضها التسليم، فإذا تم التسليم رفعت الصلاة؟! ... ومن يرفع التدبُّر، فكأنما يرفع الصلاة. ... أنظر كم يزيغ الداعي إلى ذلك؟!
وقد نفهم أن ينفي نافٍ عن كتاب الله تعالى ما لا يليق به ولا يرتقي لقيمته، تبعاً لقياس الأَوْلى! .. ولكن أن ينفي النافي عن كتاب الله تعالى صدق حديث الله عن خلقه، وأسرار ملكوته، ويقصرها على التلاوة، والترتيل، ... وكثيرٌ منها مازال مُشتبها في معانيه؛ ينتظر من يفك منه الشفرة، ويذيع العِبرة، وينشر حروف الحق، ولا يكون من الكاتمين، الذين توعدهم الله بقوله سبحانه "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ"(البقرة:159)، فهذا ما لا نفهمه!!!
ولا يعني ذلك أن يخوض الخائضون، ويلغُ اللاغون، وفي كتاب الله يتخبطون، فيرفعوا مآذن للعلم بزعمهم، ما أنزل الله بها من سلطان. فالحق برهان، والعابث فيه خسران. ومن أراد دخول الدار، فللدار أبواب، وجهة ومخبر، وأهل ومحرم. فأدب القرآن لا يقل عن أدب الديار، فلا يقتحمنها أحمق إلا بإذن، وإذن القرآن الفهم والعلم، ولا ينطق إلا ببينة، وإلا فهو منها في مهلكة. وإن ظن أن الناس عن حقيقة قوله غافلة، فسهام القرآن بالمرصاد له ناظرة، ترمق العابثين بفضائح مُقبلة، لا يدري أين يذهب إن كان من أصحاب القلوب المبصرة.
أما المانعون الناس عن كتاب الله متفقهين، بأدوات العلم والفهم متزودين، فما يرون في من يمنع الناس عن بيت الله حجاجاً أو معتمرين؟! – إن كانوا يرون كتاب الله من ثقب نافذة، فقد فتح الله على الناس ألف نافذة. ومن قصر على الناس السبل إلا سبيلاً يعلمه، فمن أدراه، بعد الذي ما دراه، أنه عن سبيل الله صادٌّ أو نافرُ؟!
وأما قول شوقي ضيف – رحمه الله: "حَسْب المفسر أن يُعنى ببيان ما فيه من هذه القيم - الروحية والاجتماعية والإنسانية -ومن أصول الدين الحنيف وتعاليمه التي أضاءت المشارق والمغارب أضواء غامرة"، فيه كثير من الحجر على عطاءات القرآن! .. ولأن القرآن كلام الله تعالى، فعطاءاته وأسراره ونهايات معانيه لا يعلمها إلا مُنزله؛ العليم الحكيم، سبحانه. ومهما بلغ إنسان من علمٍ، فليس له من أمر القرآن شيئاً في سبر أغواره وآفاق ارتقاءاته.     
ثم نقول: برغم هذا الحَجْر الذي أعلنه الأستاذ الدكتور شوقي ضيف عن التفسير العلمي في القرآن الكريم في قوله: [تلت الشيخ الإمام تفاسير كثيرة منها ما اهتدى بهديه ومنها ما خاض في مباحث علمية، كنت ولا أزال أراها تجنح عن الجادة] ... إلا أننا سنراه يبحر بنفسه في التفسير العلمي، ويعترك مضماره، بقدر ما أحاط به من علم بالطبيعيات، وذلك في سياقات تفسيره لعدد من الآيات:
ففي قوله تعالى: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) "(الرحمن)، واقتراناً مع قوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) "(الفرقان)
يقول[4]: [هذا البرزخ والحجر، إما حقيقيان، بمعنى أن بين البحرين برزخاً من اليابسة، وكأن الآية عن مطلق البحر العذب والبحر المالح، ووجودهما على ظهر المعمورة، وإما مجازيان بمعنى قدرة الله. ويجري مع ذلك فهمان متقابلان؛ فهمٌ يمثله (التقاء) الأنهار بالبحار والمحيطات، وأن كلاً من الماءين العذب والمالح، لا يتجاوز حده، وهو معنى (لا يبغيان). فكل منهما لا يبغي على صاحبه، ولا يطغى عليه بالممازجة والاختلاط، وفهمٌ ثان أعم، وهو قدرة الله على أن خلق البحار ملحة والأنهار عذبة، والتقاؤهما ليس التقاء حقيقياً وإنما هو التقاؤهما في مرأى العين، بمعنى أن الإنسان يراهما، وإذا رأى أحدهما تذكر صاحبه.] ..
نقول: لا بد أن ينتبه القارئ إلى غرابة التفسير الثاني عن معنى (يَلْتَقِيَانِ)، وأنه معنى مرجوح، بل مطروح، وليس بعيد أن يكون شوقي ضيف قد نقله عن غيره ممن لا يعلم شيئاً عن مصبات الأنهار في البحار. ومن هنا نرى أيضاً أهمية التفسير العلمي في استبعاد التفسيرات التي لا تتفق مع الواقع المحكي عنه في الآيات.
وفي قوله تعالى " فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) "(الرحمن)
يقول[5]: [معنى وردة: حمراء، ..... وقيل وردة إسم مَرَّة من الورود، مثل سَجْدة من السُّجُود، أي أن السماء انشقت وردة أو دفعة أو حركة واحدة، والدهان دهن الزيت، أي أن السماء تصير مثل الدهن ذوباناً وسيلاناً .. والانشقاق التصدع والانهيار والذوبان. وذكر القرآن مراراً هذه الصور إبان البعث، وأنها حين تقع ويختل نظام الكون، يكون ذلك إيذاناً بالنشور والنشأة الثانية، وهو تارة يتحدث عن انشقاقها، وتارة يتحدث عن انفطارها دلالة على اختلال بنائها، والله يصورها ذائبة سائلة كما في هذه الآية، ومثل قوله في سورة المعارج عن يوم القيامة "يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ"، والمهل دُرْدِيّ الزيت المغلي وحثالته، وهو يقابل الدهان بمعنى دهن الزيت في الآية. وقيل المهل: ما ذاب من المعادن حتى سال وتموج من شدة الغليان، ...]
نقول: هل هذا التفسير شيء آخر غير التفسير العلمي، والخوض في المباحث العلمية التي تراءى لقائلها – في بداية كلامه- أنها تجنح عن الجادة؟! .. أم أن التفسير العلمي يكون مذموماً إذا ما ازداد استيضاحاً بما استُحدث من اكتشافات وإضاءات معرفية. أما إن كان من تخريجات اللغة، بلا إسقاط للأسماء على الدلالات، من الذوات كانت أو الصفات، فهو المقبول، والممدوح، والمشهود له باليمن والبركات؟!!! ... إن كان الأمر كذلك، وكان إغلاق التفسير على اللغة، دون ما تشير إليه اللغة، فهو حجر لا نعلم له شاهد ولا برهان، إلا انغلاقاً على مكنون معاجم، كتبت لأذانٍ قبل أذان، ... رغم أن داعي الله لا يكف عن الأذان.
وفي قوله تعالى: "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ "(الرحمن:3)
يقول[6]: [للمفسرين كلامٌ كثير في تصور خلق الله السموات والأرضين السبع، وهل خُلقت السموات أولاً أم الأرضون أولا، أو هل خلق الدخان أولاً لقوله تعالى في سورة فصِّلت: " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ "، وماذا يُقصد بالدخان، وهل هو السديم عند الجغرافيين والفلكيين المحدثين، وفي رأيي أن كلام القدماء والمحدثين في هذه الجوانب الفلكية مما يخرج عن الغاية المقصودة بها الذكر الحكيم.] ..
نقول: نرى هنا تصادماً من شوقي ضيف مع التفاسير المأثورة التي وازنت بين أسبقية الخلق بين الأرض والسموات، وخاصة أن هناك إشكالاً في هذا الأمر، ذكره جل المفسرين بين الآيات: (فصلت:9-12)، و آية (النازعات:30). .. وربما لم يكن لدى شوقي ضيف إضافة مفيدة هنا، فآثر الاكتفاء بما في الآيات من عظة. وكان عليه التمييز بين كفاية التفسير  في نفسه بما لا مزيد عليه، أو اكتفائه هو منه. فالخلط بين المسألتين لا يجوز. وربما أنه أضمره في قوله (في رأيي) تحرجاً من إلزام غيره به.
ثم يستكمل ويقول: [فهذه السموات المليئة بالمجموعات الكثيرة من الكواكب، كلما اكتشف منها الإنسان مجموعة، وكلما توغل في دراسة مجموعتنا الشمسية، عرف عظمة الكون وعظمة خالقه، وما إحصاء القرآن للسموات السبع بأنها سبع إلا رمزاً لكثرة سدمها ونجومها ومجراتها ومن الخطأ محاولة التعرف على السبع؛ لأن هذا من عالم الغيب الذي لا يدري الإنسان حقيقة أمره، لأنه يخرج عن قدرته ومدى عقله وعلمه. .... وحسبنا أن ننظر ونتأمل ونتفكر في ملكوت السموات والأرض، أما أن نأمل التعرف من القرآن على كيفية خلق الله الوجود وما أشار إليه من سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، فذلك يخرج عن غاية القرآن نفسه بما ذكره من هذه الجوانب.] ..
نقول: إن استنكار حقيقة العدد سبعة للسموات، وما مثلهن من الأرض، لا مستند له. كما أنه تحكم تفسيري، وقطع بما لم ينقطع له المعنى بالضرورة. أما القول بأنه رمز، للدلالة على الكثرة، فهو قول من الأقوال التي ذكرها المفسرون، وإن لم يكن بأقواها، بل هو أضعفها. وأياً كانت درجة الحَجْر الذي يستخدمه شوقي ضيف، فإنه يمارس التفسير العلمي، أي التفسير الذي يُأول الآيات الكونية في القرآن بما تشير إليه من وقائع، حتى وإن كانت من منظور قديم. .. ومما لا شك فيه أن التفاوت بين المفسرين في معرفتهم بالظواهر الكونية تعكس جرأتهم أو توجلهم أو إمساكهم عن ممارسة هذا التفسير. ... وعليه يكون حكم المفسر مقرون بخلفيته الثقافية، وليس بحكم موضوعي على التفسير العلمي، سواء من حيث ما ينبغي له ومن حيث ما لا ينبغي، إلا أللهم قياس الأوْلَى.
وفي قوله تعالى "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ"(التكوير:1)
يقول[7]: [ .. إذا جعلنا الكلمة (كُوِّرَتْ) في الآية بمعنى الإلقاء والإزالة، التقت في معناها بقوله تعالى "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ"(الأنبياء:104)، والآية لا تريد الطي بآلة أو علاج، وإنما تريد الدلالة على الذهاب والفناء، ومثلها التكوير هنا بمعنى الإزالة والسقوط وضم الشيء بعضه إلى بعض، فهذه المعاني الثلاثة متقاربة، وتنتهي إلى إفناء الشمس والذهاب بها. ... وقيل معنى (كورت) ألقيت من فلكها على الأرض كأنها تُطعن ثم يُلقى بها، وقيل: بل يُلقى بها في النار زيادة في عذاب الكفار، واعتُرض على هذا القول بأن النور لا يلحق بالنار، وإنما الحري أن يُلحق بالجنة وأهلها. وأول بعض المفسرين أن يوفق بين الرأيين، فقال إن الشمس تحمل النور والنار، فما كان فيها من النورية يلحق بنور العرش، وما كان فيها من النارية يلحق بالنار. ... والله جل شأنه في هذه الآيات وما يشبهها إنما يتحدث عن آياته الكونية، .. ]
نقول: هذه التفسير مليء بالإشكالات، فالقول بأن [الآية لا تريد الطي بآلة أو علاج] يعني أن تكوير الشمس – إذا جاز تشبيهه بالطي - سيحدث بلا سبب طبيعي، أي أنه سيجري على غير سُنَّة كونية، وأنه مما يلحق بغيب لا سُنَّة معه، فنقول: أنّي ذلك، وأحداث الكون جميعاً مرتبطة على نحوٍ سببي، كما أننا نرى الآن بالتلسكوبات نفس هذا الحدث الذي تتكور فيه نجوم أخرى، قد آن أوان تكورها، ويعلم علماء الفيزياء الفلكية علل هذا التكور، ومآله. ... ثم ما الذي يدفع المفسر إلى تفسير يخلو من الأسباب؟! هل يريد بذلك أن القدرة الإلهية لا تتجلّى إلا مع غياب الأسباب؟ .. إن الخلق وتسيير شئون الكون بأسباب وتقدير لَأَحْكَم من الخلق السحري أو العمالي (الذي تُسخر في آدائه الملائكة)، فلماذا يلتزم المفسر باللاسببية كي يثبت لله تعالى عظيم القدرة وتجلي الإرادة؟! ... أوليس الإنسان مع ارتقاء علمه أصبح يستبدل العمال بالأسباب (التكنولوجية) التي تفعل فعل العمال على نحو أدق وأصوب وأرقى، ولا يعني ذلك الاستغناء عن العمال أو الملائكة، ولكن يعني أن الاستغناء عن صناعة منظومة سببية لإنجاز خلق/عمل ما ـلَمِمَّا هو أولى بالحكمة وبديع صنع الصانع، ويُصَدِّق كلامنا هذا قول الله تعالى "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ"(الأنعام:59)، وهو ما يعني أن كشف الغيب له مفاتح، أي أسباب، أي منظومة سببية، أي مسالك، وأنها من شأن الله تعالى وحده. ... ويؤول إلى هذا الإشكال كثير من التفسيرات التي تبرر أحداث الكون بتدخل مباشر من الملائكة، مثل ذلك تفسير قوله تعالى " وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) "(الانفطار)، والذي أتى به شوقي ضيف – والمنسوب لابن عباس- و فيه[8] [(أن الكواكب) قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات في النفخة الأولى مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض تناثرت تلك الكواكب وتساقطت سلاسلها لأنه مات مَنْ كان يمسكها من الملائكة]! ... نقول: إن هذا التفسير مرفوض ومردود ... والسبب واضح؛ وهو أن تماسك أجرام السماء يجري على سنة كونية، نعلم كثيراً من أسرارها على نحو تفصيلي الآن، وليس كما جاء في هذا الفهم المرتبط بثقافة غير محيطة بأسباب السموات حتى تقطع بأمر كهذا. .. ولا ينجينا من مثل هذا الجنوح الثقافي القديم في فهم كلام الله تعالى إلا "التفسير العلمي" الذي أدانه شوقي ضيف.
ثم كيف نكرر كلام من يقول بأن تكوير الشمس يمكن أن يكون معناه [ألقيت من فلكها على الأرض]، فنسبة الشمس إلى الأرض كنسبة الفيل إلى فأر، أو ما يزيد عن ذلك، فهذا سقوط متوهم، لا يمكن أن يحدث! .... ثم ما هذا التفريق بين نور الشمس ونارها، وبأي فهم يمكن قبول هذا الخلط المفاهيمي، ... ثم بعد ذلك يتم فصل هذا النور عن تلك النار، وإلحاق الأول بالعرش والأخر بنار جهنم!! هذه أقوال ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يكشف فسادها إلا العلم بفيزياء الكون وسننه التي برهنت عليها الأدلة، وأصبح فهم آلياتها يشبه فهمنا لسباحة السمك في الماء والطيور في جو السماء، من حيث التعليل والصنعة. .... إن القلب ليحزن والعقل ليُجرح من مثل هذه التفاسير التي يتم تداولها، وهي عن الحق زائغة، وعن النقل جانحة، وعن الحجة فارغة. ... 
وأما القول بأن [الله جل شأنه في هذه الآيات وما يشبهها إنما يتحدث عن آياته الكونية]، فلا نراه إلا اعترافاً صريحا من القائل بأن الآيات كونية، وما من آلة نعلمها لفهم الآيات الكونية مع اللغة إلا علوم الآيات الكونية، وهذا هو "التفسير العلمي" لمن تأهل له بحقه، وأقام فهمه على براهين دامغة وحجج راسخة.
وأخيراً نقول: إن هذه النماذج لتفسير الآيات الكونية لأصدق دليل على أمرين: الأول أنه ما من سبيل إلى أحسن فهم للمشتبه من آيات القرآن الكونية إلا التفسير العلمي، والثاني، أنه ما من سبيل إلى نفض غبار التفاسير القديمة الموهومة إلا بالفهم العلمي، وهذا الفهم هو "التفسير العلمي" أيضاً.

المؤلف




[1] أحمد شوقي عبد السلام ضيف (1910 - 2005)، وقد اشتهر بإسم "شوقي ضيف": أديب وعالم لغوي والرئيس السابق لمجمع اللغة العربية المصري حتى وفاته عن 95 عاماً. وكان عضواً في عدد من المجامع اللغوية العربية، مثل سوريا، والأردن، والعراق. نال العديد من الجوائز، منها: جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1979، وجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي عام 1983. له خمسون مؤلفا، أهمها: سلسلة "تاريخ الأدب العربي"، و "تجديد النحو"، و "تيسيرات لغوية"، وكتاب الرد على النحاة لابن مضاء، نَشْراً وتحقيقا.
[2] شوقي ضيف، "سورة الرحمن وسور قصار"، دار المعارف، 1995، طبعة ثالثة، نسخة إلكترونية، ص 11-12.
[3] اسمه وضاح نصر، نقلاً عن سيد القمني، "الأسطورة والتراث"، ط3، 1999، ص11.
[4] شوقي ضيف، "سورة الرحمن وسور قصار"، دار المعارف، 1995، ص 48.
[5] السابق، ص61-62.
[6] السابق، ص 112.
[7] السابق، ص 153-154.
[8] السابق، ص 155.

الاثنين، 16 ديسمبر 2013

الفصل (أ14) – زكي نجيب محمود - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ14) زكي نجيب محمود
بقلم: عزالدين كزابر

د. زكي نجيب محمود
عودة إلى فهرس الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
قيل في شأن الدكتور "زكي نجيب محمود" - رحمه الله تعالى- مع التفسير والإعجاز العلمي في القرآن[3]،[2]،[1]: "يبين د. زكي نجيب محمود خطورة هذه الدعوى الذاهبة إلى محاولة استخراج الحقائق العلمية من القرآن، ويرى فيها انحرافا شديدًا عن النظرة العلمية، وهذه الدعوى إذا سمعها الجمهور وطلاب العلم وكبار العلماء كان لها أكبر الأثر في فساد العلم، وانحراف الفكر السليم عن المنهج العقلي."
نقول: حكم زكي نجيب محمود على دعوى استخراج الحقائق العلمية من القرآن بالفساد! وأوعز هذا الفساد إلى انحراف هذه الدعوى الشديد عن النظرة العلمية، وعن المنهج العلمي! ... ما معنى هذا الكلام؟
معناه أن مرجعية الحكم لدى زكي نجيب محمود هي الشائع من نظرة علمية ومنهج علمي غربي! لأنهما يمثلان - دون منازع أو بديل - جناحي العلم الحديث. ولكن العلم الحديث قام وصِيغ وبُنِي على استبعاد الدين، أي دين، واعتباره دوجما من دوجمائيات المجتمعات. وأفضل أحوال الديانات في هذه النظرة العلمية التي يجلُّها د. زكي نجيب محمود ويجعلها المرجع في المسألة، أنها تُعزَل عن العلم، وتُحبس في القلوب، ودور العبادة، والدراسات الدينية وما يرتبط بها، وذلك لعدم جدواها في العلم الحديث، واتقاء أذاها الداعي إلى التفرق والتصارع لكثرة الديانات وعدم التقائها إلا على كلمة غامضة تُدعى "روحانيات"!.
قد يصح هذا الكلام على ديانات لا مرجعية إلهية لها كالبوذية وأمثالها، وقد يصح على ديانات إلهية فقدت مصادرها الموثوقة كاليهودية وما صدر عنها وألحق بها، وذلك إما بالعبث الإنساني أو بالترجمات المتتابعة والمجهولة الصدق. ولكن، كيف يصح هذا الكلام على الإسلام الذي حُفظ مصدره الأصلي – القرآن - أشد مما حفظت معايير الأطوال والأوزان والأزمان في أشد معامل البحث العلمي رصانة وأمانة؟!
إن تعميم التشكيك في القيمة العلمية – أي المفيدة للعلم الصادق – للقرآن، والمستبطن في اعتراض زكي نجيب محمود أعلى، ظلم شديد لمصداقية القرآن، وصريح إفاداته عن مخلوقات الله تعالى وسننه المبثوثة في الخلق، وحكمٌ جائر يجمع بينه وبين ما أدانه القرآن نفسه من آثار الديانات المنحرفة والضالة، وكل ما يَتَّبعُه الناس عن عماية.
فإن قيل: أن النظرة العلمية الحديثة، والمنهج العلمي المشهود له، يختلف من حيث النوع مع نظرة القرآن ومنهجه، وليس من حيث المصداقية؛ من حيث أن القرآن دين يعالج القلبيات والاعتقادات والسلوكيات الإنسانية الدينية، أما النظرة والمنهج العلميين فيعالجان الموجودات من طبيعيات ومخلوقات وسننها، وشتان ما بين الصنفين من افتراق، ومن ثم من منهجين يعالجانهما.
قلنا: أن الحكم على القرآن بخلوه من إعلام الإنسان بشيء عن الطبيعيات والمخلوقات وسننها، حكم لا سند له، إلا أوهام وظنون من لم يـُحط بالقرآن علما، ومن يصادر على ما ينبغي أن يحتويه القرآن وما لا ينبغي. وتَقُول النظرة العلمي والمنهج العلمي الغربي الذي يتبناه زكي نجيب محمود، ومن سار على دربه في ذلك، أن الأحكام تقريرات لا قيمة لها ما لم تستند إلى الواقع الذي تتحدث عنه. وهنا الواقع محل النزاع هو القرآن، فهل حصرت هذه النظرة وهذا المنهج آيات القرآن وأثبتت خلوها من الحديث عن الطبيعيات والمخلوقات وسننها؟! – إما أن يجيب أصحاب هذا المنهج بنعم، فيلزمهم البرهان، وإلا فعليهم ألا يعترضوا على التفسير والإعجاز العلمي، بما لم يقطعوا معه بنفيه، ولم يحصوه بتمامه، وإلا كان كلامهم خوضٌ فيما لا علم لهم به، أو بعبارة الوضعية المنطقية التي تبناها زكي نجيب محمود  طوال حياته الفكرية:("لغو" nonsense).
واستكملت صاحبة المقالة، فقالت: "ويتلخص نقده (أي: زكي نجيب محمود) في نقطتين:
الأولى: أن القرآن الكريم هو كتاب مُنَزَّلٌ لتوضيح عقيدة وشريعة، وقد يكون منه بعض الإشارات إلى حقائق علمية، إلا أن ورودها لم يكن بقصد أن تكون نظرية علمية، وإنما وردت لتخدم القصد المتفق مع سياق ورودها.
هنا يأتينا زكي نجيب محمود – على لسان المتكلم باسمه أو عنه- بمثال مما طلبنا، أو بمخرج من مأزق يتجنب الوقوع فيه ، فيقول أن الطبيعيات، أو ما سماه بعض الإشارات إلى حقائق علمية، إن جاءت في النص القرآني، فإنما لتخدم القصد المتفق مع سياق ورودها. ولكن، ما مدى صدق هذا الحكم منه؟! هل استقرأ آيات القرآن فوجدها كذلك؟! أم أن حكمه ليس إلا قناعة مسبقة يُسقطها من يتبنى هذا المنظور على القرآن؟! – فإذا سألناه مثلاً عن المراد من مستقر الشمس في قول الله تعالى "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ"(يس:38)، ما هو؟ - فمن المتوقع أن يقول: لتخدم حكمة تقدير الخالق لمخلوقاته باعتبار الشمس أكبر وأهم ما يراه الإنسان ويتطفل عليها الأحياء في وجودهم. فإن ألححنا في السؤال عن ما هو ذلك المستقر! فلربما قال أنه مجاز عن ثبات سنة الجريان، ورتابة الأحداث الكونية. فإن أرضته هذه الإجابة، فلن ترضي علماء الفلك والكونيات المعاصرين الذين محَّصوا الأجرام وجريانها، ويعلمون أسرار حركتها، وعلل روابطها، ومآل مواقعها. فإن استثقل زكي نجيب محمود هذه المسائل وتفاصيلها، واشتباك معانيها، واستنباط أحكامها، فليُرفق بنفسه عن الخوض في صعاب الأمور، لأن أصحاب هذه المسائل وأهلها لا يتأذون مما تأذى، ولا يستعصي عليهم ما عليه استعصى. ولو كان القرآن هو المشترك المفهوم لكل المسلمين، مثلما يريد زكي نجيب محمود من مثل هذ الآيات، لكانت علوم القرآن والنحو والفقه وأصوله وقواعده والجرح والتعديل، والمعاجم، والفروق، والفِرق، .. إلخ من التكلف المفسد للفطرة السليمة التي يكتفي فيها قارئ القرآن بسطحيات الفهم ليعلم دين ربه! ولسقط بناء السنين، واجتهادات العلماء المرموقين، وأئمة الفهم في الدين!!!
وإذا كان "مستقر الشمس" مثالاً واحدا فقط، أثبتنا به خطأ الحكم الذي أصدره زكي نجيب محمود على القرآن، فكيف به إذا علم أن هناك المئات من مثل هذا المثال، ما زالت محل نظر، وتتطلب الاجتهاد والفهم والتمحيص؟! – ونتساءل: كيف يحق لإنسان يؤمن بالقرآن ويعلم أنه منزل من الله سبحانه، وقد أرسله رسالة إلى الناس، أن يُعطِّل فهم شيء من آياته لأنه استكفى بشخصه، واستثقل بطبعه حمل المزيد. ثم إن الرسالة رسالة الله، وهو سبحانه صاحب القصد منها، ولسنا إلاّ بعض المتلقين لها، وما زلنا نستفهم مقاصدها، ونستعلم أوامرها، ونستهضم فوائدها. كما وأن الرسالة ما زالت في طريقها إلى أناس لم يخلقهم الله بعد، يأتون بعدنا، أو من غير جلدتنا، فما أدرانا ما حمل القرآن لهم من رسائل وفوائد؟!
إن مشكلة هذه الأحكام المبتسرة عن القرآن، مشكلة من صميم المنهج العلمي الغربي، وقد اعترف بها المنهجيون منهم، وأقروا بتأزم العلم الغربي بسببها، ونقصد بذلك "الاستقراء الناقص"! وخلاصته أن يستقرئ العالم بعض النماذج من ظاهرة ما، لعدم قدرته على حصر جميع عيناتها والإحاطة بكل خصائصها، ثم يصدر حكماً يشمل هذا البعض، لعدم علمه بالكل، ثم يعمم الحكم على الكل! فيظل الإشكال قائم! ونقصد مصداقية الحكم الاستقرائي الناقص على نماذج الظاهرة غير المعلومة للباحث؟! – وهذا عين ما فعله زكي نجيب محمود عندما عمم حكماً على أديان لا حق في مجملها، ولا تمام في الحق إلا في أحدها. ثم أسقط حكمه المجمل على القرآن، رغم تميزه بمطابقته للحق، وإلا لما كان المؤمنون ليؤمنوا به على أنه كلام الله سبحانه. ومما زاد الحكم تهافتاً أن العلم بمقاصد القرآن نفسه كان استقراءاً ناقصاً، لأنه لم يحط بجوامع المقاصد، فكان الحكمُ نقصاً في نقصٍ.
وتستكمل صاحبة المقالة، فتقول: النقطة الثانية (من نقد زكي نجيب محمود): أن العلم بحكم طبيعته يصحح نفسه بنفسه، والحقائق فيه متغيرة، والوقائع تنكشف باستمرار، ونظل نلاحقها بتغيير القوانين العلمية، فإذا ارتبط العلم بالعقيدة فمن ذا الذي يرضى لعقيدته الدينية أن توضع في هذا المنظور المتغير مع تعاقب العصور؟! فالعلم متغير، وكل عصر جديد يصحح أخطاء العلم في العصر السابق، إما باكتشاف جديد، أو دقة الأجهزة التي تضبط الاكتشافات، فالعلم متغير والعقيدة الدينية ثابتة، والدين ثابت منذ ظهوره، ومع مرور الوقت يظل أيضا ثابتا، والعلم متغير ومتطور عبر الزمان."
نلاحظ هنا ارتباكا في الاصطلاحات، وتشويشا في المعاني، فنعمد أولا إلى تفكيكها ثم تجليتها، ثم إعادة ترتيبها.
العلم (الحديث): ليس إلا تأويل العلماء للظواهر الواقعية، ومن ثم فتصحيحه يعني تصحيح العلماء لتأويلاتهم بإعادة تنقيحها وتركيبها، لتصبح أشد رجحاناً وأقرب إلى وصف الظواهر في حقيقتها الواقعية.
القرآن (بين دفتي المصحف): هو النص الإلهي الخالص، وأي تفسير أو تأويل له – فيما وراء المحكمات من آياته، والتي لا تتطلب تأويلاً لصراحة معانيها - فهو قول بشري قابل للمراجعة بما هو أشد رجحاناً، وأقرب إلى شرح نصوص الآيات في عيون معانيها الحقيقية.
الحقائق الكونية: هي التي يكتشفها العلم الحديث بالنظر التحليلي للموجودات رصداً وتجريباً، وهي ما لا سبيل إلى تغيرها إذا تعينت وتأبَّت على النقد، مثل كروية الأرض ودورانها حول محورها، ودورانها والشمس والكواكب التابعة حول مركز كتلة المجموعة، وأن سرعة الضوء كذا، وأن .. وأن، ... إلخ
الحقائق القرآنية: هي الدلالات الحقيقية التي تشير إليها آيات القرآن. وآياته نوعان: المحكم والمتشابه. أما المحكم فمعانيه لها حكم (النص)، وهو ما وضع له العلماء القاعدة الأصولية التي تقول: "لا اجتهاد مع النص"، ويقصدون بالنص هنا ما كان جلي المعنى، بما لا سبيل معه لغير هذا المعنى الواحد والواضح منه، ومن ثم، فلا تبديل ولا اعتراض. وفقط في هذا النوع المحكم من الآيات تقع العقيدة الدينية، ولا يقع شيء منها في المتشابه من الآيات، لأنها عقيدة ولا تتبدل.
أما الدلالات الحقيقية للنوع الثاني الذي هو المتشابهات، فهذه هي التي يختلف فيها النظر بين عصر وآخر، وثقافة وأخرى، وبقدر ما تستبين معانيها، وتتعضد بالكشوف والاستنباطات الجديدة، بقدر ما يقل تشابهها، وتقترب من رتبة الـمُحكمات مع مرور الزمن، إذا تهذب لها معنى واحد فريد، وبما تقوم عليه الأدلة الدامغة، وتتآلف البراهين على واحدية المعنى لها، وكونه مراد من الآيات.
وبناءاً على هذا التحليل، تكون عبارة زكي نجيب محمود التي قال فيها "العلم يصحح نفسه بنفسه" صحيحة،
والعبارة: "الحقائق فيه متغيرة" غير صحيحة، إلا إذا كان يقصد الحقائق المظنونة!، ولكن، كيف تكون حقائق مظنونة؟! ... لا سبيل إلى ذلك، إلا أن يقصد أطروحات، ... ومعلوم أن الأطروحات رتبة أدنى من الحقائق، لأنها قد تتبدل وتسقط أو ترتقي إلى الحقائق بمزيد من أدلة!
أما العبارة: "الوقائع تنكشف باستمرار" فصحيحة،
والعبارة: "نظل نلاحقها بتغيير القوانين العلمية" غير صحيحة على العموم، لأن هذا يعني محض استبدال قانون بقانون مختلف، وصوابه أن يقال: أن صياغة القانون الأحدث أقرب إلى الحقيقة من الأسبق، مثل النسبية العامة مقابل جاذبية نيوتن، مثلاً لا تحقيقاً، أو يحدث أن تكون صياغة القانون الأحدث مكافئة للقانون الأسبق، ولكل منهما مجال تطبيق يتيسر فيه الحصول على النتائج من أحد الوجوه دون الأخرى، مثل ميكانيكا الكم في صياغة شرودنجر أو صياغة هايزنبرج. أو يقال أن القانونين متنافيين في ظاهرهما، ويستوجب الأمر تجربة فاصلة للحكم بينهما، أو ربما أكثر من تجربة، مثل القول بأن جسيمات المادة أمواج خالصة، أو جسيمات خالصة، .... وفي هذا الأمر تفصيلات واختلافات تنظيرية، ربما لا تفترق كثيراً عن اختلافات المذاهب الفقهية في تعليل الأحكام، والاستنباط والقياس. فإن كان محض وجود التنظيرات المتفاوتة تُسقط النظريات الطبيعية من حسبان الحقيقة (إذا افترضنا جدلاً صحة التسمية، ونريد منها الأطروحات الراجحة)، فالقائل بذلك يسقط من حيث لا يدري تنظيرات الفقهاء، ومن ثم، الحقيقة الفقهية أيضاً. ... وهو أمر لا يستسيغه الفقهاء، مثلما أن إسقاط الحقائق الطبييعة الراجحة أمر لا يستسيغه علماء الطبيعيات. ... ويصبح الأمر في النهاية متكافئ في وجوب الأخذ بالراجح من الأقول المدعومة؛ فقهية كانت أو طبيعية.
أما العبارة: "الدين ثابت والعلم متغير ومتطور" فغير صحيحة على عمومها، لأن المقارنة بين الدين والعلم لا تستوي، فالدين، وهو هنا الإسلام، قرآن محكم ومتشابه، وتأويل بشري للمتشابه منه. كما وأن العلم الحديث حقائق ونظريات.
فالمحكم من القرآن تفسيراً، هو فقط ما يمكن مواجهته بالحقائق الكونية، أي التي ثبتت معانيها،
أما التأويل البشري للمتشابه من القرآن فهو فقط ما يمكن مواجهته بالنظريات العلمية.
ويمكن مواجهة المحكم من القرآن تفسيراً بالنظريات العلمية لتقييم قيمة تلك النظريات تصحيحاً أو رداً.
ويمكن مواجهة المتشابه من القرآن تأويلاً، مع الحقائق الكونية، فتتقيم تأويلات المتشابه بالحقائق الكونية، فترتقي قوة أو تترجح بتأويل آخر أقوى.
ويمكن مواجهة المتشابه من القرآن تأويلاً بالنظريات العلمية، فيستقوي هذا بهذا، ويضيق نطاق التشابه في كلا الطرفين، وربما يؤدي ذلك إلى الإحكام؛ أي انتقال المتشابه إلى المحكم.
وهذه هي قواعد المواجهة/الاشتباك بين الإسلام والعلم الحديث.
يضيف المقال ويقول: "أن دعوة استخراج الحقائق العلمية من القرآن ستؤدي إلى أمر من أمرين: إما أن يثبت العلم الطبيعي، وهذا محال، وإما أن يتغير الدين بتطور العلم، وهذا محال أيضا؛ ولذا أوجب علينا احترام الحقائق العلمية التي لا سبيل إلى نكرانها، حتى إذا وجدناها كأنها تتعارض مع نصوص العقيدة في ظاهرها وجب النظر في تأويل تلك النصوص تأويلا يقبله العقل، وتقبله اللغة العربية في الوقت نفسه."
نقول: القول بحتمية ثبات العلم الطبيعي، أو تغير الدين الإسلامي دون احتمال ثالث، إذا ما قبلنا استخراج الحقائق العلمية من القرآن، قول لم يرى من ألوان الطبيعة إلا الأسود والأبيض. أي أنه تبسيط مخل لحيوية العلاقة بين القرآن وواقع الخلق الذي يدرسه الإنسان بالنظر والتحليل. لذا، سنحلل لونيها الأسود والبيض، أقصد: ثبات العلم الطبيعي، أو تغير الدين الإسلامي ليتبين أنهما يحتويان فيض من التفاصيل اللونية.
القول بـ "ثبات العلم الطبيعي" وأنه محال! يجافي طبيعة التصور الواقعي لتطور العلوم. فالحقيقة أنه لا العلم الطبيعي يمكن ثباته كثبات منظر طبيعي في لوحة جدارية، ولا أنه متبدل على نحو يتغير فيه المنظر على نفس اللوحة الجدارية بين جيل وآخر بما يجعلهما منظران مفارقان متباينان. ... والحاصل أن المنظر الجداري للواقع الطبيعي يزداد في وضوح الرؤية في بعض ألوانه، وتتكشف فيه تفاصيل جديدة لم تكن معلومة من قبل، وتتداخل أو تتميز بقع لونية منه بما يستوجب مزيد من التقصّي والتحري، ومع كل هذا تظل اللوحة هي هي، وموضوعها هو هو. ... ففيها ثوابت، وفيها متغيرات، ومتنقحات، ومتزايدات. فالأمر ليس نعم ولا، بل تفاعل يتكشف الحق فيه بمزيد من الرؤية، وينخذل الباطل فيه بوضوح البؤرة، وتنضاف مناطق عمل جديدة بما يتطلب إعادة كَرَّة البحث والتنقيح.
كما وأن القول بـ "تغير الدين الإسلامي" وأنه محال، لون مبهم، وكلام مجمل، أراد صاحبه الحق فيه، ونحن معه، ولكنه وقع في إقرار باطلٍ فيه، ولسنا معه. فالقول بأن استخراج معلومات علمية كونية وطبيعية عن الخلق من القرآن تؤدي إلى تغير الدين الإسلامي، قول ملتبس، ومشوش، ويجب إعادة ترتيبه! فالدين الإسلامي ذو أساس راسخ، يتعين من محكم الآيات، وتقريرات النبي – صلى الله عليه وسلم - الصريحة من أقوال وأفعال. ولا ريب أن هذا الأساس لا تغيير فيه، ولا يعمد إلى ذلك إلا الـمُبطلين الذين ينكشف أمرهم إذا ولجوا هذا الأساس الراسخ، بنوايا سيئة، وتفسيرات مفضوحة، ... وهذا الأساس من الدين لا يشمل آيات القرآن التي تتناول الخلق وسننه وبديع صنعته. وهذا المنحى الأخير، أي الخلق وسننه، هو ما نجد له من آيات القرآن ما يفيض عن تصورنا المحدود، وما يغنينا عن السياحة الباهتة في الخيال المجرد بحثاً عن أسرار الخلق فيها، وآيات المبدع لها سبحانه، ودلائلها على حكيم خلقها فيها. والظن بأن تصحيح هذه الآيات لمفاهيمنا، إذا تلاحقت بالكشوف العلمية الجديدة، يؤدي إلى "تغير الدين الإسلامي" قول جافي، حاد، قاطع في وصف أمواج ناعمة رائقة موّارة مسكوبة. وشتان ما بين الوصف واعتلاله، والموصوف وروعته وجماله!!!
ونتج عن هذا الوصف الجافي ثنائي اللون، خلوصه إلى نتيجة واحدة متأزمة توهمت التعارض بين الأسود والأبيض وقال: "حتى إذا وجدنا (الحقائق العلمية التي لا سبيل إلى نكرانها) كأنها تتعارض مع نصوص العقيدة في ظاهرها، وجب النظر في تأويل تلك النصوص تأويلا يقبله العقل، وتقبله اللغة العربية .." ... وهي صورة لا تختلف عما قاله الفخر الرازي وغيره من المتكلمين قبل مئات الأعوام، وتأزمت معه إشكالية النقل والعقل، وردّها أهل التراث والنقل في وجوه المتأولة. أما في زمننا هذا فإن المعاني الطبيعية قد تفتقت، وأرض الفكر العلمي قد حُرثت، وجديد المعلومات قد بُذرت، وثمار آيات الخلق والقرآن قد تكشَّفت وأينعت، فلم يعد الأمر مقصوراً على وجوب جر آيات القرآن لتلاطف تعارضاً موهوماً، وتُساير مُتزعِّماً مغروراً، وبما يصبح معه العلم الغربي قائداً والقرآن وتفسيره مقوداً. ... بل إن الصورة بجملتها – وكما عرضها زكي نجيب محمود – غير مُعبِّرة عن واقع العلاقة الراهنة بين العلم والقرآن، بل هي مطموسة، مشوشة، بل ومضللة لحدٍّ بعيد. فالأدلة الباعثة على تأويلات جديدة في آيات الخلق في القرآن لم تعد أقوال فلان من الحكماء الموهومين، ولا دعاة العقل الخالص من المتفلسفين، ولا ظنون الظانين، ... بل أصبحت منطوقات المخلوقات، وتعبيرات الظاهرات، وتغريدات السنن المتناغمات. فأصبح خلق الخالق صداحاً بآيات القرآن، وأصبحت آيات الباري تصويرات نراها كالأعيان، فتكاملت معزوفة الخلق والوحي في مشهد نابض، لا يُنكره إلا من حُرم حواس العلم الرهيف، ومعاني السمع اللطيف.
وعن علاقة القرآن والعلم، يقول المقال: " أن للمسلم كتابين: كتاب القرآن الكريم، وكتاب الكون العظيم، فمن القرآن يستمد المسلم المبادئ والقواعد التي يقيم حياته السلوكية على أساسها، ومن الكون يستمد المسلم وغيره قوانين العلم، وكلاهما مقروء للناس بمقادير ودرجات، ولكل كتاب عالم مختص به. ويجب على العالم في كل مجال أن يقصر بحثه على مجال علمه، فلا يتجاوزه فيما لا يفهمه"
نقول: في هذا التصور، تنجلي ازدواجية الحياة الفكرية التي استلبت مفكري المسلمين وعلماءَهم، فجعلت لهم – إن استبقوا إيمانهم- قلباً مع الإسلام، وقبلته بيت الله الحرام في مكة المكرمة، وعقلاً مع الغرب، وقبلته هارفارد وأخواتها. إن هذا الفصام ليمزق أهل هاتين القبلتين، كما قال تعالى "مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ"(الأحزاب:4)، ومن ورائهم حشود من المتعلمة والشباب التائه!! .... لماذا؟! لأن القرآن الكريم لا يقتصر على السلوك كما قال زكي نجيب محمود، بل إنه ليكسب قارءه تصوراً حتمياً للوجود واقعاً ومآلا، له هيئاته وسننه، .... وهذا التصور يعاند ما يمليه العلم الغربي المحكوم بين جنبيه بما يستغني عن، بل ويستخف بـه ، من إرادة عليا، وأن سنن الكون مسنونة مقدوره، فاعلة مع كونها مفعولة.
كما وأن العلم الغربي، قد استحوذ على السلوك من بين ما استحوذ عليه في حمى جامعاته ومؤسساته، فجعل السلوك والشعور والأخلاق ومبادئ الحياة مادة للدراسة، واستعلى بكلمته العلمية بزعمه، ليُسَوّدها على ما عداها من أديان تُوجِّهها، وقد أفَلَت شموسها كما يزعم. وأصبح ترك الميدان للعلم الغربي والفرار بالدين فراراً من الزحف، وليس كما يظن زكي نجيب محمود، حماية للدين والعلم جميعا!!
لذلك، فإن الصورة بين جانبي المعرفة عند عالم الطبيعة المؤمن، أو المفسّر الطبيعي، ليست بالبساطة المعرفية التي يظنها زكي نجيب محمود حين يقول: "إن كان يمكن لعالم الطبيعة - بعد أن ينتهي من معرفة الكون- الإيمان أكثر برب الكون؛ فيكون إيمانه حينئذ نورا على نور، ويكون قد جمع بين العلم والإيمان. والعلم يمكن أن يكون إسلامياً عن طريق الوقفة العامة التي يقفها المسلمون من الكون؛ فيرتب العلوم الجزئية في وحدة تضمها على نحوٍ ما، تُحقق للمسلم نوعاً من التوحيد بين عناصره الداخلية والعلوم الجزئية الكثيرة، ويكون هذا هو التوحيد الحقيقي." ويصبح ترتيب العلوم الجزئية في وحدة تضمها على نحو ما، كما يقول، شكل من أشكال التكامل لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال أبجدية مشتركة حتى يتحقق ذلك التوحيد الكلي الذي يتكلم عنه. ويصبح السؤال هو: كيف يمكن إنشاء أبجدية مشتركة للمعرفة التوحيدية دون توحيد المقايسة commensurability بين مقولات القرآن ومقولات الظاهرات الطبيعية في إطار صياغة العلوم الحديثة لها؟! .... وغني عن البيان أن تحقيق هذا التوحيد وتلك الأبجدية لا يمكن إنجازه إلا بشكل من أشكال التفسير العلمي والرؤية الموحدة لتفسير الظواهر. ... والنتيجة أن زكي نجيب محمود يعود ليدخل صرح التفسير بعد أن ظن أنه أوصده؟! .. مفارقة كبيرة لم يكن ليتوقعها صاحبها!
وفيما اشتهر بأسلمة العلوم، يرفضه زكي نجيب محمود ويستدل على رفضه بعدد بالأسباب:
"1 - أن في هذه الدعوى مصادرة على المطلوب؛ لأنها تشترط على الباحثين أن يقروا بنتيجة قبل أن يسيروا في بحوثهم، وهو أن تأتي نتائج أبحاثهم متفقة مع العقيدة الإسلامية.
2 - أن في هذه الدعوة ميلاً عاطفيا يدفع الإنسان إلى عدم التزام الموضوعية.
3 - أن في هذه الدعوة نوعا من التعصب، لا يرينا من الموقف إلا ما نتمناه، وفي العلم يجب أن تذكر الحقيقة كما هي في الواقع.
4 - أن في هذه الدعوة خطورة أن يتحول العلماء إلى تلاميذ يكرسون كل مجهودهم لقراءة كتب الأسلاف، بدلا من الاطلاع على أحدث ما وصل إليه الغرب في مجال هذه العلوم.
5 - أن المنهج الواجب استخدامه في العلوم الإنسانية هو المنهج التجريبي، وهو منهج واحد عند الجميع باختلاف عقائد أصحابه الدينية.
6 - أن طبيعة هذه العلوم متجددة، لأن مشكلات الحياة تتجدد باستمرار، ولا نستطيع أن نقف عند مشكلات المسلم القديم؛ فالذي قابله ابن خلدون مثلا من مشكلات غير ما يلقاه الباحث العلمي الآن.
7 - أن النتيجة التي نصل إليها في هذه العلوم هي نتيجة علمية؛ لأنها التزمت بالمنهج العلمي، بصرف النظر عن موضوعها أو عالمها، وتطبق على الإنسان في كل مكان بصرف النظر عن عقيدته."  
نقول: من الجيد أن يثير زكي نجيب محمود هذه الاعتراضات، ليس لوجاهتها، بل لأنها ما زالت إشكالات عالقة في أذهان الكثيرين، من مسلمين وغيرهم. غير أنها موهومة، وسرعان ما ينقشع ضبابها بشيء من الجلاء الفكري لمفاصلها.
1- ففي قوله: " أن دعوى أسلمة العلوم مصادرة على المطلوب؛ لأنها تشترط على الباحثين أن يقروا بنتيجة قبل أن يسيروا في بحوثهم، وهو أن تأتي نتائج أبحاثهم متفقة مع العقيدة الإسلامية "
نستغرب بشدة هذا الطرح الاعتراضي، ولا نرى له من وجاهة إلا إذا ظن قائل العبارة أن العقيدة الإسلامية تفتقر إلى الاستدلال البرهاني الدامغ على صدقها، أو بعبارة حديثة: أنها لا سند علمي لها! ... هنا فقط يكون له الحق في استنكار أسلمة العلوم، على اعتبار أن العلم لا يمكن أن يقوم على أي مبدأ اعتقادي قلبي (إسلامي أو مسيحي أو يهودي أو هندوسي ... إلخ)، فنجد عندئذ (مَسْيحة العلوم، أو هودنة العلوم ...إلخ ) ولكن هل هذا الفرض المركزي بالاعتقاد القلبي في عبارته صحيح؟! ... الإجابة:.. لا.. ليس صحيحا. ... ، وإذا سأل سائل: لماذا، ومعلوم أن الإسلام دين كما أن المسيحية دين؟ ... والإجابة هي: أن الإسلام دين خالص لا دَخَلَ فيه، وقد قامت عليه البراهين الدامغة على صدقه، وبما لا يشوب مصادره (القرآن وما يتأيد به من السنة الصحيحة) أي شائبة.
فإذا كان الإسلام له أدلته المستقلة على صدقه، وأعظمها القرآن ذاته، فيصبح اعتماد القرآن مصدراً للعلم وأرضية لأسلمة العلوم عملاً مبرراً، بل ضرورياً. ولا تتحرَّج عندئذ أسلمة العلوم من اعتماد القرآن مصدراً لا شك في صدق أقواله ذات العلاقة بالعلوم الجاري أسلمتها (تصحيحها). ويصبح الحديث عن صدق آيات القرآن ووجاهة اعتمادها مصدراً مباشراً– في أقل درجات التشبيه- شبيه باعتماد قانون من القوانين الهندسية في علم الفيزياء. حيث يجد من يشاء الاطمئنان إلى صدقها براهينها في علم الهندسة، وكذلك القرآن، فمن شاء أن يطمئن إلى مصداقيته، فليرجع إلى أدلة الوحي والنبوة. فإن فرغ، فعليه أن يعتمد القرآن مصدراً قاطعاً في ما يصرح به نصاً، أو ترجيحا. فإن لم يفعل، وكان لهذا التناول تأثيرٌ على صياغته العلمية لما يتناوله، فحتماً هو متشكك في نفسه، كالمتشكك في أن 1+2=3، أو يمنعه مانع ولا يستطيع مقاومته لضعفه.
فإن قال زكي نجيب محمود: ولكن كل ديانة مما ذكرت تقول نفس الشيء، فماذا نفعل؟ ... نجيبه ونقول: أن للبرهان سلطان، ولا يمكن أن ينتصر برهانان متعاندان. فالمصدر الديني الأصدق واجب الاعتماد، وبإسم العلم. وهل ينتهج العلماء غير نصرة النظرية الأقوى برهاناً، فما الحرج إن طبقوا نفس المنهج في مقارعة المصادر الدينية المتنازعة؟!
2- ثم يأتي زكي نجيب محمود بمبرر ثان لاعتراضه على أسلمة العلوم ويقول: "أن في هذه الدعوة ميلا عاطفيا يدفع الإنسان إلى عدم التزام الموضوعية". .. ونجيبه أننا لا ننكر ذلك، .. كما أنه لا ينكر أيضاً أن الميل العاطفي نفسه موجود في نوازع كل باحث لما يميل معه قلبه، وليس له عليه برهان! .. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما كان لمسألة الموضوعية objectivity في العلم تلك الأهمية التي حرص أهله على تجليتها كلما أمكن. ومعلوم أن هذا الميل العاطفي يُحجب بالنقد والتمحيص، وآليات المنهجيات العلمية من التحكيم العلمي، والمراجعة الـمُعمَّاة للأبحاث قبل قبولها للنشر. ... ونضيف أن هذا السبب بعينه هو الذي دفعنا إلى مراجعة كثير من مزاعم الإعجاز العلمي ونشرناها على مدونتنا، وذلك بعد أن تبين لنا خطؤها، وقامت عندنا الأدلة على ذلك، ... ولا يخفى أن الميل العاطفي كان فاعلاً في دفع أصحاب تلك الدعاوى إلى نشر دعاويهم قبل الاحتراز عن الأخطاء العلمية فيها. ولكن المنهج النقدي يقينا شر هذا الميل، مثلما يفعل مع أي علم آخر مما يُحتفى به من علوم حديثة، ولا فرق.
3- ويندرج مع الاعتراض السابق لزكي نجيب محمود اعتراضه الثالث الذي قال فيه [أن في هذه الدعوة نوعا من التعصب، لا يرينا من الموقف إلا ما نتمناه، وفي العلم يجب أن تذكر الحقيقة كما هي في الواقع]، ويعالج هذا الأمر في مسائل أسلمة العلوم مثلما يعالج في غيره من علوم، إذ أن العيوب الإنسانية يسهل فضحها، لأن سلطان العلم ذو سطوة، والحجج الرصينة مفحمة مهما علا صوت الهوى والتعصب. وهذا ما فعلناه في نقدنا على دعاوى الإعجاز التي وسمناها بالمتهافتة، وما استطاع أصحابها، ولا مناصريهم الرد إلا عادوا منحاذين أو جاهلين، فرجعوا صفر اليدين منخذلين. فالحق أولى بالاتباع، ولا ينتصر دين الله تعالى بالباطل أبدا.
.. ثم ماذا أراد زكي نجيب محمود بقوله أنه [في العلم يجب أن تذكر الحقيقة كما هي في الواقع]! - هل يقصد أن مقولات القرآن في شأن الظواهر الكونية ربما لا تطابق الواقع، ولهذا يجب استبعادها؟! ... نقول: إن رجحت أفهامنا لمراد آيات القرآن - دون تقصير أو قصور في الفهم- أصبح اعتمادها واجباً، وكأننا نرى معاني الآيات رأي العين، وإلا كان إيماننا بالقرآن زائفاً، حتى ولو أقسمنا على صدقه. إذ لا إيمان بلا تحقيقه عملاً واقعا عند الاختبار. فمن آمن بالقرآن ثم نجده يُرابي في أمواله، فهو لا محالة كاذب في إيمانه، وإن أقسم وأقسم. ونعيد لنؤكد أن الإيمان هنا إيمان عن حُجة وبرهان، مثلما أن وقوع العقاب على أصحابه يوم الحساب، عقاب عن حُجة وبرهان.
4- وفي اعتراض رابع يقول زكي نجيب محمود: "أن في هذه الدعوة خطورة أن يتحول العلماء إلى تلاميذ يُكرِّسُون كل مجهودهم لقراءة كتب الأسلاف، بدلا من الاطلاع على أحدث ما وصل إليه الغرب في مجال هذه العلوم." .. نجيبه أن العلماء علماء ما بقوا طلاب علم. ثم ما الحرج في قراءة كتب الأسلاف؟! ... ألا يقرأ الغربيون كتب اليونان حتى يومنا هذا، ... ألا يوازنون بين مقولات القدماء والمحدثين – ومنهم زكي نجيب محمود نفسه- في تخصصاتهم؟! .. هل يرجع هذا الاعتراض إلى الإشفاق على العلماء، أم سوء الظن بهم أن يقرؤوا فقط كتب الأسلاف. ... ثم من قال أن أسلمة العلوم تدفع فقط إلى قراءة كتب الأسلاف. ... إنْ ظن صاحب الاعتراض ذلك، فلا بد أن الأمر قد تشوش عنده في منهجيات أسلمة العلوم، والتي في موجزها تدعوا إلى تهذيب العلوم الحديثة مما يتعارض بجلاء مع كتاب الله تعالى. فكيف يقال أن هذا يعيق الاطلاع على أحدث ما وصل إليه الغرب في مجال العلوم، وما من معنى لأسلمة العلوم إلا تمحيص هذا الأحدث من العلم؟! .. كما وأن قراءة كتب الأسلاف هام لتنقيتها من أوهام الثقافات القديمة، التي تداخلت مع الحق الذي أتى به وحي الله، فكان التمييز بين الحق والباطل ضرورة، لتنقية الماضي الطاهر من عوالق التاريخ.
وأخيراً تثيرنا عبارة زكي نجيب محمود، بالاعتراض على التتلمُذ على كتب الأسلاف – وفي كثير منها الخير – ودعوته المنفتحة للتتلمذ على كتب الغرب المعاصر، وفي الكثير منها الباطل! .. ولا شك أنه لا حرج في مبدأ الاطلاع على كل مصدر علمي، ولكن الحرج كل الحرج في الإعراض عن الحق لكونه قد وصلنا عن طريق الأسلاف، وعدم التوقي من الباطل لأنه من الغرب المحتفى به. فأي ظلم علمي تدعونا إليه هذه العبارة، وأي تعصب للغرب تمثله، في وقت يزعم صاحبها اتقاء التعصب للأسلاف وللاعتقاد الديني باسم العلم؟! .. بل ويدعونا - دون تصريح - للتعصب للأغراب وللاعتقاد اللاديني، المبثوث في العلم الحديث، وباسم العلم أيضاً! .. مفارقة أيَّما مفارقة!!!
5- وفي الاعتراض الخامس يقول زكي نجيب محمود: "أن المنهج الواجب استخدامه في العلوم الإنسانية هو المنهج التجريبي، وهو منهج واحد عند الجميع باختلاف عقائد أصحابه الدينية". .. نجيبه: ومن قال أن أسلمة العلوم لا تستخدم التجريب، واختبار الواقع، وسؤاله، والإنصات إليه. ومعلوم أن التجربة تخبر بما يتعلق بها وبلغتها دون عقائد الناس القلبية، فهذا بديهي، .. إلا أنه ما من عصمة وراءها حيث يأتي الملحد فيُلبس مقولات التجريب بلباس الإلحاد وهذا باطل، ويأتي الهندوسي ويُلبس هذا التجريب بتصورات عقيدته الدورانية في الاستنساخ وهذا باطل، ويأتي كل ذي مذهب ليرى التجريب في إطار صورة العالم المرتسمة في صفحة قلبه العقائدية. .... وما نراه من كلام زكي نجيب محمود أنه على المسلم وحده أن يجرد التجربة من أصدق العقائد على الأرض! وبماذا؟ بحجة براءة التجريب من العقائد، حتى لو كانت العقيدة الصحيحة؟! ... وهذا أغرب ما يمكن أن نسمعه من مؤمن. ... ولا ننكر أن العلم الحديث قد استطاع بتر صريح هذه العقائد المشوهة من الظهور في الدوريات العلية الرصينة، إلا أن أشباحها تجيء وتروح بين السطور، وتفعل فعلها الأثيم على أوتار القلوب، ولا يفطن إليها إلا ذوي الألباب. ...  ولا ننكر أيضاً أن كثيراً من تصورات المتدينين من المسلمين قد شابها فساد التصورات الثقافية للأسلاف، وبما أملته عليه عصورهم وما فيها من خلط ووهم بالكون والخلق... وهذه التصورات الفاسدة تتطلب التهذيب أيضاً، ولا يمكن ذلك إلا بإنشاء علماً رصيناً بين الحق المنطوق بالتجربة، والحق المنزّل بالوحي. .. وليس هناك من حق أجلى إذا اجتمع له هذان المصدران لأي باحث، مهما علا قدره وامتاز اتقانه، وهذا هو "أسلمة العلوم" كما ينبغي لها أن تكون.
6- يقول زكي نجيب محمود: "أن طبيعة هذه العلوم متجددة، لأن مشكلات الحياة تتجدد باستمرار، ولا نستطيع أن نقف عند مشكلات المسلم القديم؛ فالذي قابله ابن خلدون مثلا من مشكلات غير ما يلقاه الباحث العلمي الآن" !!! ... نقول: ومن قال أن أسلمة العلوم هي إعادة ترديد ما قيل؟! .... إن أسلمة العلوم وما تتطلبه من تفسير علمي هو أن يتسلح الباحث المسلم بذخيرة الوحي الذي جمع بين دفتيه احتياجات المسلم المفاهيمية حتى قيام الساعة، ويكتسب من الخبرات الماضية ما يستطيع حمله والتأهل به، فيقتحم بذلك عراك الحياة، وقد أصبح في أعلى درجات الإعداد المعرفي والخبرة المعلوماتية عن تجارب السابقين، لخوض معارك تجريبية وتحليلية وتصورية جديدة. فيعالج مسائل اليوم أفضل مما كان لو كان خالي الوفاض من هذا الإعداد وهذه الخبرة.
7- ويختم زكي نجيب محمود اعتراضاته ويقول: "أن النتيجة التي نصل إليها في هذه العلوم هي نتيجة علمية؛ لأنها الْتَزَمَتْ بالمنهج العلمي، بصرف النظر عن موضوعها أو عالمها، وتطبق على الإنسان في كل مكان بصرف النظر عن عقيدته". .. فنجيبه ونقول: أن إعادة القول بأن نتائج العلوم المستقلة عن الإسلام علمية لأنها تتبع المنهج العلمي، ليس إلا مصادرة على المطلوب. حيث أن مدار الحديث بطوله وعرضه على أن هذه العلمية التي يحتفي بها المتكلم إنما هي علمية مبتورة، وأنها أفضل إذا تدعمت بكلام الخالق سبحانه في عيون مسائل البحث، مثلما أن معادلتين أفضل من معادلة واحدة في حل المسألة الرياضية، فكذلك إضافة مصدر الوحي إلى مصدر الوقائع - المتحري عن البحث فيها - يجعل الوصول إلى علاج مسائل البحث أكثر إضاءة وأبعد عن الغموض والتشويش. ولا يقول معترض أن معادلة واحدة أفضل إلا إذا كان على غير ثقة في معادلة الوحي، وهذه هي عقدة المعترضين على أسلمة العلوم، وفي مقدمتها التفسير العلمي. ... وأنهم مبيتوا النية على الاعتراض، مع علمهم أن هذا الإجراء منهم يخالف مبادئ المنهج العلمي الذي يدَّعونه، ونقصد مبدأ الموضوعية الذي كان أحد اعتراضاتهم، ، فإذ بهم يقعون فيه، إضافة إلى اجتزاء المصادر وتحكيم الهوى فيما يأخذ الباحث منها وما يدع.

المؤلف

عودة إلى فهرس الكتاب


[1] زكي نجيب محمود (1905-1993)، فيلسوف، وكاتب، وأكاديمي. حصل على الدكتوراة في الفلسفة من لندن. وظل يدرس بكلية الآداب بجامعة القاهرة حتى تقاعد، مع انقطاعات قليلة عمل خلالها في واشنطن والكويت. عمل مستشارا ثقافيا للسفارة المصرية في واشنطن، وعضوا في المجلس القومي للثقافة بالقاهرة. من تلاميذه أنيس منصور، وإمام عبد الفتاح. له العديد من المؤلفات، منها: المنطق الوضعي، وموقف من الميتافيزيقا، وقيم من التراث.
[2] مصدر المعلومات لهذا الفصل مقالة للأستاذة الدكتورة منى أبو زيد، بعنوان " زكي نجيب محمود وثلاث قضايا ساخنة "، ورغم حرصنا على تتبع مصادرنا إلى كتابات أصحابها، إلا أن خبرة د. منى أبو زيد وشمول مقالتها أغنتنا عن ذلك، لذلك سنعتمد نقلها عنه آراءه، آخذين في الاعتبار شيء من التصرف من جهتها، لذلك لن نتمسك بحرفية النقل، بل بوضوح الفكرة وعلل اعتراضات زكي نجيب محمود.
http://www.onislam.net/arabic/madarik/culture-ideas/107854-2008-07-02%2013-32-05.html
[3] الحاشية السابقة.