الثلاثاء، 25 يونيو 2013

من نصدق: العلم أم الدين؟ .... أسئلة يطرحها (لا-أدري) ... و ردودنا عليه


عزالدين كزابر

قال (اللّا-أدري): من نُصدّق؟

1 - العلم الذي يقول إن القلب مضخة لا علاقة لها بالتفكير أم الدين الذي يقول إنه موضع العقل والتفكير؟
2- العلم الذي يقول إن الإنسان نشأ عن التطور أم الدين الذي يقول إن الله خلقه بيده؟
3- العلم الذي يقول إن الإيمان والكفر قناعات شخصية أم الدين الذي يقول إنهما بسبب قبول الحق أو الإعراض عنه؟
4- العلم الذي يقول إن السبب فيما نقدم عليه من أفعال خاطئة هو تفكيرنا أم الدين الذي يقول إن السبب في ذلك هو الشيطان؟
5- العلم الذي يقول إن السبب في الكوارث والمصائب هو الطبيعة أم الدين الذي يقول إنه ابتلاء من الله؟
6- العلم الذي يقول إن السبب في الشهب سبب طبيعي أم الدين الذي يقول رجم الشياطين؟
7- العلم الذي يقول إن السبب في الرعد سبب طبيعي أم الدين الذي يقول الملائكة؟
8- العلم الذي يقول إن السبب في الأمراض النفسية هو خلل في المخ أم الدين الذي يقول السحر والمس والحسد؟

----------------------------------------------------------------------------------------------------------------

السؤال الأول:

من نصدق .... العلم الذي يقول إن القلب مضخة لا علاقة لها بالتفكير أم الدين الذي يقول إنه موضع العقل والتفكير؟


الإجابة:

من جهة العلم، فإنه لم يقل بعد كلمة نهائية في مسألة القلب
أما إجابتي السريعة لك، فهي أنه لو كان القلب محض مضخة للدم كما تحمله الكلمات من معاني، لما علم القلب بدواعي زيادة الطلب على الدم ساعات النشاط البدني والقلق والخوف، فيزيد ضخه، ولما علم بنقصان الطلب على الدم ساعات النوم والاسترخاء والرضا والسكينة .. فيقل ضخه. وفي الحالتين لا دخل لإرادة الإنسان من تفكير دماغي ونحوه في رد فعل القلب المتناغم مع حالة الجسم. وغرضنا من هذا المدخل أن نصل إلى:
أن مسألة التعقل نفسها – أي الآلية التي تتطلب تقليب المسائل العقلية على وجوهها – والتي تَحدُث في الدماغ فقط باعتباره المكان الذي تتم فيه، كما هو مُلاحظ، فمثلها مثل حالات الجسم الأخرى التي يتناغم معها القلب. ولا يخلص المتفكر إلى نتائج التفكير بحاسة دماغية، حيث يجري طبخ الأفكار ومعالجتها، بل بحاسة قلبية ينبسط معها الفلب على نحو ما، فترى أن من يصل إلى فهم ما كان مستغلق عليه قد أخذ نفساً عميقاً وسكن قلبه المضطرب، واسترخى (انشرح صدره). ويمثل القلب عندئذ المؤشر الذي ينطق بوصول عمليات التفكير إلى نهايتها من قناعة، أو تردد أو ارتباك أو بقاء المسألة مستغلقة، ولكل حالة من هذه الحالات نمط انفعالي يصل القلب إليه، فيعكس النتيجة التي خلصت إليها عمليات التفكير، أو بعبارة أخرى أن القلب ينطق فيه بتلك الحالة الدماغية النهائية. بمعنى أن القلب بالنسبة إلى العقل يقوم مقام تابلوه السيارة بما عليه من مؤشرات بالنسبة إلى محرك السيارة. فيعلم (يدرك) سائق السيارة (الإنسان المفكر) كل ما يريد معرفته عن حالة سيارته السائرة (المسألة التي يعالجها في عقله) ليس بالنظر إلى المحرك بداخلها (الدماغ)، بل بمؤشرات العدادات (التابلوه) (القلب) الناطقة بحالة السيارة
أي أن الإنسان المفكر يستقبل المعلومات من حواسه المستقبلة، فتمر إلى دماغه، ويستلم الإنسان النتائج من شعور نفسي مصدره قلبه الذي في صدره، وعليها ختمه. ومن هنا كان القلب هو العاقل لا الدماغ. فالقلب في قضايا قناعات التفكير مثل وجه الإنسان في النطق بتعبيرات الفرح والحزن، والرضا والغضب ..إلخ. ولو صدق قول القائل أن الدماغ هو الذي يعقل وليس القلب، لصدق القول بأن الدماغ هو الذي يفرح ويغضب و .. وليست قسمات الوجه. وعليه يكون القلب هو وجه الدماغ، وفيه تنطبع ردوده ورسائله، فيعلم الإنسان من قلبه - لا من دماغه - أنه عقل أو لم يعقل، مثلما نعلم من وجه الإنسان - وليس دماغه - أنه سعيد، أو حزين، أو ... .
وهكذا يمكننا أن نفهم قول الله تعالى "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ"(الحج:46). أي أن الأبصار قد استقبلت المعلومات، ولكن القناعات لم تصل إلى القلوب، فعميت عنها. ولماذا عميت القلوب عنها؟! ... لأنها مرت في الدماغ على "نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ "(العلق:16)

-------------------------
انتقدنا أحد رواد المنتديات (بإسم مستعار "حاير") وقال:
[كيف لم يقل العلم مسألة نهائية في القلب ؟
توجد قلوب إصطناعية مثل Jarvik-7 و AbioCor ...
وهذه القلوب الإصطناعية أكبر دليل على أن القلب مضخة ....
أما بالنسبة لتغير دقات القلب فهذا ليس من القلب نفسه , دقات القلب يتحكم بها الـMedulla Oblongata وهو جزء من المخ مسؤول عن بعض الأمور اللاإرادية ..]

أجيبه وأقول:
[قولي بأن "العلم لم يقل كلمته النهائية في مسألة القلب"، تعني أن البحث العلمي عن أسرار القلب مازال قائماً، ولم يستوف بعد فك كل ألغازه.
ومن هذه الألغاز ما نتج عن عمليات نقل القلب وقد اقترن بعدد منها انتقال خبرات شخصية لا علاقة لها بكون القلب مضخة للدم في ظاهر وظائفه.
وهذا الفيدو يؤكد ذلك (Mindshock-transplanting memories)
ومن وراء هذا الفيديو كتاب (The Heart's Code) لمؤلفه (Paul Pearsall)، ويمكن تنزيله من  هنا.

ورغم هذه المعلومات الهامة والموثقة، إلا أني لم أعتمد عليها إلا بقولي أن العلم لم يستوف كل أسرار القلب، ولا يستطيع باحث علمي أن ينتقدني في ذلك، إلا إذا كان ممن يقدس العلم، ولا يرى له تطوراً وتصحيحاً ونماءاً.
أما حجتي فكانت أن القلب ليس فقط مضخة للقلب، بل إنه فوق ذلك أنه (واجهة الوعي والانفعال) مثلما أن الوجه هو (واجهة التعبير) ومثلما أن تابلوه السيارة هو (واجهة الاتصال وقراءة معلومات السيارة المستترة في آليات الحركة داخلها).
وهذه التشبيهات هي التي احتججت بها،

وأتساءل: ألا تنشأ تعبيرات الوجه الإنسان عن الخلايا العصبية في الدماغ؟! – الإجابة: بلي، ... فإذا كان ذلك كذلك فهل منع ذلك أن يكون الوجه هو آداة التعبير؟ .... لا لم يمنع. ... وكذلك القلب، لا يمتنع أن يكون منظم ضخ الدم ودقات القلب جزء ما في الدماغ ويظل القلب هو واجهة الوعي والانفعال.
ويُقال مثل ذلك في باقي التشبيهات؟
ويبدو لي أن الأخ المعترض على كلامنا لم يحط بمرادنا، وأنه قد أدلى بدلوه اقتحاماً.]
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------

السؤال الثاني:

من نصدق .... العلم الذي يقول إن الإنسان نشأ عن التطور أم الدين الذي يقول إن الله خلقه بيده؟


الإجابة:

من جهة العلم، فإنه لم يقل بعد كلمة نهائية في مسألة التطور، وأقصد بالتطور: تتابع الكائنات المتكاثر في التعقيد، وكل ما قيل ويقال إنما هو في إطار سيرورة خلق الحياة، أي السيناريوهات المحتملة، والعلاقات الظاهرة لأسبقيات الظهور، ولم يقل العلم بعد شيئاً ذي بال في فاعلها المستتر عنا. بل إن العلم لا يمكن أن يتفوه بعلل ظهور الذكاء المتصاعد، فضلاً عن أن يبررها في محض انتقاءات عمياء تمليها الصدفة، ومن يسلك هذا السبيل فهو ساقط الحجة، ويقحم من عند نفسه أهواءه الشخصية بما لا يمكننه التدليل عليه بأدوات العلم ولوازم الملاحظات التجريبية.
وكما ذكرت في موضع آخر أنه: لو صح زعم التطوريين المرتب (بل المُمَوَّه) عقلياً، بنشأة الحياة من العدم بمحض الصدفة، لأمكن تحقيقه حاسوبياً، .. بمعنى أن يتم عمل برنامج نمذجة حاسوبي simulation يبدأ بعشوائية ما chaotic state، وينتهي بإبداعات هندسية مثلاً .
فإن قلت: أن هذا تم، وتعطيني أمثلة مثل (لعبة الحياة لـ كونويي  Conway's Game of Life
قلت لك: إن مقام هذه النمذجة من الخلق الحي يماثل مقام ما نطق به مسيلمة الكذاب من القرآن. .. وذلك لمدى سخافتها وعبثها. وعليه أصبح زعم التطوريين بنشأة الخلية الحية من العشوائية الكيميائية، أمر محرج لمن يقول به، ولم يعد يفكر التطوريين بإمكان تحقيق شيء ذي قيمة علمية فيه. .... فكيف يبقيه المحاجج عن نظرية التطور -بالانتخاب الطبيعي- احتمالاً؟!
وعلى ذلك فالعلم عاجز عن تبرير ظهور الحياة الذكية، ويقتصر دوره على كشف الترابطات بين ظواهر الحياة، مثلما يكشف عن الترابطات بين الظواهر المادية، ويصوغ هذه الترابطات في صورة قوانين. ومثلما أن العلم لا يمكن أن يبرر أي مصدر مادي صرف لظهور قوانين المادة، والثوابت الكونية (سرعة الضوء، كتل الجسيمات، ... إلخ) وأنها على النحو الذي هي عليه دون سواه، فكذلك لا يمكنه أن يبرر أي مصدر مادي لقوانين الحياة. .. وكل ما يمكن أن يقوله أن هذه الهندسة الكونية في محتوى الكون الجامد والحي تتمظهر أمامنا على نحو القوانين المكتشفة، أما مصدر هذه الهندسة والإبداع المتجلي لكل ذي لب فالإجابة عنه وراء حدود التجربة، ... أي الدين الصادق الصادر عن مصدر إبداع الكون نفسه، وليس أي دين يفتريه الناس.
فإذا جاء في القرآن أن الخالق سبحانه "قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ"(ص:75)، .. فأقول لك ماذا أفهم أنا شخصياً من هذه الآية؛ أفهم أن الخالق جل وعلا قد خلق الإنسان، أي أوجده وأخرجه للوجود، وأن ذلك تم بكامل عنايته سبحانه، كما يفعل أحدنا شيئاً بكلتا يديه كناية عن العناية التامة بهذا المخلوق دون سواه، لما فيه من إبداع وتميز لم يتوفر لغيره من مخلوقات، وأن الخالق قد باشر خلقه دون وساطات بينية على الأرجح.
وإذا كنا لا نرى ما في الكون من مادة وطاقة مظلمتان، يجزم الفلكيون وعلماء الكونيات بوجودهما، وإذا كنا لم ولن نرى الجن والملائكة في هذه الحياة، وهم يخالطون الإنس في المكان والزمان، فكيف بنا نريد أن نرى إبداعات الله تعالى في الكون رؤية عيانية؟! .. وهي إبداعات كانت وما زالت وستظل قائمة، .. بدليل "الاستمرار" في قوله تعالى "وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"(النحل:8).
وإذا كانت رؤية الخالق وهو يخلق هو الدليل على أنه يخلق، فكيف بنا نرى المصانع تلد السيارات والحواسيب والهواتف، وإذا تفحصناها لم نرى من فاعل بها إلا روبوتات تتلوى، وسيور تجري، وأجهزة تُقذف، ولم نرى وراءها فاعل عاقل كما يمليه النظر القاصر، والوهم المستكبر؟! ... فكما أن الإنسان يقف وراء هذا الفعل، فكذلك الله سبحانه – وله المثل الأعلى – هو الفاعل الحقيقي لكل ما نرى من إبداع الكون، ... بل حتى فيما يخرج من مصانعنا، ونتفاخر بأننا من يخلقه، بدليل قوله تعالى "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ"(الصافات:96). .... فالخالق الحق هو الله، ولسنا نحن، وإلا لكانت الروبوتات هي التي تخلق السيارات والحواسيب والهواتف ولا نقف نحن وراءها نصنعها ونبرمجها ونوجهها. ... ففعلنا فيما في أيدينا ... دليل على فعل الله تعالى فينا وما في أيدينا، مهما طالت سلسلة الخلق والعلل والأسباب والأدوات.
ومن ظن أن استخدام الأدوات والأسباب ينتقص من الإبداع، فقد انتقص من الإنسان أنه اخترع الأدوات، وذلك خلاف الشاهد ... فإذا كان اختراع الإنسان الأدوات والأسباب محمدة، رغم أنه وجدها حوله دون جهد منه، فخلق الله تعالى للأسباب – من العدم - والتي بها يخلق، ويخلق بما يخلق خلقاً آخر ، ... ومهما طالت سلسلة الخلق، لأدل على القدرة والحكمة ونهاية لا تدانيها نهاية مما لا نعلم من أوصاف الجلال والتسامي والإبداع. فسبحان الله "بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"(البقرة:117).

هذا والله تعالى أعلم.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------

السؤال الثالث:

من نصدق .... العلم الذي يقول إن الإيمان والكفر قناعات شخصية أم الدين الذي يقول إنهما بسبب قبول الحق أو الإعراض عنه؟


الإجابة:

أولاً: نوافق على ما نُسب إلى الدين من قوله أن الإيمان والكفر بسبب قبول الحق أو الإعراض عنه.
ثانياً: سنفترض جدلاً مع السائل أن مسألة الإيمان والكفر – مثلها مثل أي مسألة فكرية - قناعات شخصية من حيث المبدأ، أي أحكام يطلقها الإنسان تبعاً لما وصله من أدلة قد صدَّقها، ... وسوف نصل – وكما يريد منا السائل أن نصل- إلى أنه لا غبار على الإنسان فيما يصل إليه من تلك القناعات، من إيمان أو كفر! ... أي أن الإنسان مبرأٌ فيما ينتهي إليه من تلك القناعات أياً كانت: إيمان أو كفر... ومن ثم .. فالمسألة ليست حق وباطل ... بل غلبة أدلة الإيجاب على أدلة النفي لكل صاحب قناعة.
ولكن، هل هذا هو الحاصل دائماً من الإنسان؟!
بمعنى: هل كل المسائل الفكرية التي يتعرض الإنسان لها يسلك فيها هذا المسلك؟!
إذا كان ذلك كذلك، فأين نُصنِّف من يقترف المغالطات المنطقية ويبرر بها كل أشكال النصب والخيانة والاحتيال والسرقة والقتل والجريمة والغدر واستعمار الشعوب، واستعباد الفقراء، والتلبيس على الناس ... إلخ؟
فكل هذه السلوكيات يَعدُّها أصحابُها قناعات شخصية! وعندهم لها تبريرات منطقية!

والسؤال هو: كيف نميز بين القناعات الشخصية الصادقة من الكاذبة؟
أي: كيف نميز بين البناءات المنطقية الصادقة من المغالطات المنطقية؟

وبلغة العلم : كيف نميز بين (العلم) و(اللا علم)؟
وبلغة الدين : كيف نميز بين (الحق) و (الباطل)؟

وتسمّى هذه المسألة في العلم بـ (demarcation) وفي الدين بـ (الفرقان)
والمعنى واحد، وهو: التفريق بين الاستدلالات الصادقة من الاستدلالات الكاذبة، وفي الدعاوى المعرفية جميعاً.

فالدين يطلب من الإنسان أن يُعمل عقله في الاستدلال ويصل بقناعات منطقية لنتائج صادقة، وإن سلمت المقدمات التي يبني عليها استدلالاته، وسلمت آليات الاستدلال، سلمت النتائج، وهذا هو الحق، وقبول النتائج الصادقة قبول للحق، وهذا هو الإيمان بما في المسألة من حق.
أما إن أخطأ الإنسان متعمداً في مقدماته، أو آليات استدلاله، أو كليهما، ليبرر نتائج خاصة يهواها –بسبب سوء طويته - غير النتائج الصحيحة، أي غير الحق. فهذا هو الباطل، وهذا هو الكفر بالحق في المسألة. والكفر هنا بمعنى النية والتعمد والقصد، في إخفاء أو طمس أو حجب أو تغطية الحق. ومعلوم في المنطق أن النتائج تلزم عن صدق المقدمات وصدق الاستدلال، وتُسمّى النتائج عندئذ ضرورية؛ أي مُلزمة لأي إنسان، ولا تعتمد على رضاه أو غضبه، أو جنسه أو طوله أو قصره.


ومن ثم، يكون ما لاح للسائل من تعارض بين مقولة العلم (وسماها بالقناعات الشخصية) ومقولة الدين (قبول الحق أو الإعراض عنه) غير وارد، وذلك مثلما أنه لا تعارض بين مقولتي (حرية التعلم) و(نجاح المتعلم وفشل الجاهل). ورغم أن المقولة الأولى في المثالين أسبق منطقياً من الثانية، لأن الأولى تمثل مبدأ الحرية والثانية تمثل الاختيار الناتج عن الحرية، إلا أن ذلك لا يبرر للفاشل في الاختيار أن يبرر فشله بأنه كان حراً. وإلا كان مغالطاً، أي مدلساً، أي مزوراً، أي كاذباً في ادعاءاته بقناعاته المزعومة.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
السؤال الرابع:
من نصدق .... العلم الذي يقول إن السبب فيما نقدم عليه من أفعال خاطئة هو تفكيرنا أم الدين الذي يقول إن السبب في ذلك هو الشيطان؟

الإجابة:
صيغة السؤال تستلزم أن العلم يقول أن (السبب فيما نقدم عليه من أفعال خاطئة هو تفكيرنا) وليس إلا تفكيرنا، وأن الدين يقول أن (السبب في ذلك هو الشيطان) وليس إلا الشيطان. !!!
ولكن هذا غير صحيح. ولا أدري من أين جاء السائل بهذه المعلومات؟!

ففي القرآن:
 نقرأ عن ابن آدم الذي قتل أخيه "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ"(المائدة:30)، فلم يأت ذكر للشيطان، وكان المحرض على خطإ ابن آدم هو نفسه – أي سوء تفكيره من تلبيس للأمور وتزيين للباطل- وليس الشيطان.
وعن أخوة يوسف، وقول أبيهم لهم، نقرأ: "وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا"(يوسف:18)، ولم يُتهم بها الشيطان، بل كانت أنفسهم هي المحرضة على هذا الفعل. يحققون بأنفسهم رغبة التخلص من أخيهم فأضلهم هواهم وأخطأت حساباتهم.
وعن السامري الذي صنع عجلاً لبني إسرائيل يعبدونه من دون الله، قال الله تعالى لموسى "فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ"(طه:85)، فكان الشيطان هنا من شياطين الإنس، أي السامري، وقال السامري نفسه بعد أن حكى ما فعل: "وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي"(طه:96)، وما كان لإبليس من ذنب مباشر في إضلال السامري لبني إسرائيل، وقبولهم لهذا الإضلال.
وفي هذه الأمثلة ما يكفي للدلالة على أن الخطأ سوء تفكير، يُحرض عليه محرضٌ ما؛ إما أن يكون النفس ذاتها، أو نفسٌ أخرى كصاحب السوء. وليس هناك من صاحب سوء أسوأ من الشيطان (إبليس وذريته). ودائماً يتصنع صاحب/قرين السوء – كذباً - أنه من المحبين الناصحين، كما قال إبليس لآدم وحواء: "وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ "(الأعراف:21).
وإذا راجعنا العلم الذي يشير إليه صاحب هذا الموضوع: (TTC Video - Steven Novella - Your Deceptive Mind المحاضرة الأولى، الدقيقة 9)، نسمع من أهله قولهم:

أن أخطاء التفكير تعود إلى أربع أنواع من الأسباب، فرادى أو مجتمِعات:
1- المغالطات المنطقية Logical Fallacies.
2- الافتراضات الخاطئة False Assumptions.
3- النسيان Unreliable Memories.
4- القوالب الفكرية المضللة Heuristics Lead Astray.

وأتساءل، ... ألا يتدخل صاحب/قرين السوء (شيطان الجن أو الإنس أو النفس التي بين جنبي الإنسان) في كل نوع من هذه الأنواع الأربعة، فيُشَوّش الفكر - على صاحبه البريء في الأصل - في الأمثلة الأربعة الآتية على الترتيب؟!
1- بتلبيس الأمور مرة ("بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ"(ق:15))،
2- أو بطرح فكري فاسد مرة ("هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى"(طه:120))،
3- أو بإلهاء مرة ("فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ"(يوسف:42))،
4- أو بالإنقياد لقالب تصوري فاسد مرة ("وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ "(فصلت:25).

والخلاصة أن التعارض بين خطأ التفكير، ووجود قرين السوء من جنِّ أو إنسان، تعارض موهوم. فالشيطان فاعل متربص بالإنسان، وأشد خطراً عليه من نفسه، ومن بني جنسه. وقد كشف عن خطته "لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا"(النساء:118-119).
وإذا ما تكالب على الإنسان كل هؤلاء المضلين من أصحاب/قرناء السوء وعلى رأسهم إبليس وقبيله، فانخدع بمكرهم به واستجاب لهم، فلا بد أن أخطاءه الفكرية ستتفاقم، وتصبح من ثم حركته في الحياة أسوأ ما يمكن تصوره، وهذا هو ما تصفه لنا الآية الكريمة " أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"(الملك:22).

والنتيجة أنه لا تعارض، على نحو ما ظن السائل، بين أخطاء التفكير والشيطان.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------

السؤال الخامس:

من نصدق ... العلم الذي يقول إن السبب في الكوارث والمصائب هو الطبيعة أم الدين الذي يقول إنه ابتلاء من الله؟


الإجابة:

الأصل أن يوثق صاحب السؤال كلامه، فيقول أين قال العلم ما نُسب إليه، وما هو مصداقيته/تحقيقه، وأين قال الدين ما نُسب إليه، ومصداقية نسبته إليه وتحقيقه.
أما قولك: ... العلم .. يقول إن السبب في الكوارث والمصائب هو الطبيعة .. فغير محقق،
والمحقق أن تقول: العلم .. يقول إن السبب (الظاهر) في الكوارث والمصائب هو الطبيعة.
وتحقيق القول يعني تعيينه بمعرفة عامِّه من خاصِّه، ومطلقه من مقيده.
وما أضفناه من كلمة (الظاهر) هو ما يُسمِّي في المناهج البحثية وفلسفة العلوم المعاصرة بـ الظاهراتية Phenomenology العلمية، وذلك لأنها تتعدد بتعدد مجالات تطبيقها في العلم التجريبي وفي غيره. وخلاصتها: أنها تتناول ما يظهر في التجارب والملاحظات المبنية عليها، دون التفات معتبر إلى الأصول المستورة Hidden Foundations عن الملاحظة والتي تعود إليها أسباب الظواهر. ومن ثم ألحقت (الظاهراتية) بجانب استقبال معلومات الظاهرة، أي الجانب الإنساني الشخصاني Subjective Point of View في فهم وتوصيف للظاهرة، أكثر من التحاقها بالجانب الموضوعي Objective للظاهرة في ذاتها وجوهرها.
وفائدة الفكر الظاهراتي أنه يقطع الطريق على أي افتراضات ما ورائية يختلقها أو يخمنها الفكر الإنساني دون سند تحقيقي، وإن وجد ذلك السند كان بمثابة ظهور طبقة أعمق من المسألة وعندئذ تلتحق هذه الطبقة الجديدة بظاهراتية المسألة، فإن لم نجد ذلك السند، لم يُؤبه بذلك التخمين، وتعتبره الظاهراتية خارج دائرتها العلمية. غير أنها لا تنفي مثلما أنها لا تثبت تلك التخمينات. وتعتبرها أقوالاً معلقة بلا دليل من التجربة والملاحظة عليها. وأمثلة هذا النوع المعلق كثيرة؛ .. ومنها .. كل النظريات التي تُخمِّن - بعلل طبيعية - ما عساه أن يكون قد حدث للكون ونتج عنه الإنفجار العظيم Big Bang والذي نشأ على إثره الكون المرئي.
فإن تناول الدين غيبيات لا يمكن الوقوف عليها بالملاحظة، (وإلا لكانت قد انتقلت إلى الشاهد)، وأخبر عن عللها الما ورائية، فمصداقية هذه الأخبار تستند إلى المصداقية الدينية ذاتها، فتثبت بثبوتها، أو تنتفي بنفيها.
وينتمي (تعليل الكوارث والمصائب بعلل طبيعية) إلى ظاهراتية العلم، أما (تعليل الكوارث والمصائب بإرادة الله) فينتمي إلى غائية الخلق، والتي ليس لها مصدر إلا الدين. وهما طبقتان متمايزتان، مثلما أن تعليل رفع صوت الهاتف بواسطة خفض مقاومة التيار الكهربي (تعليل ظاهراتي طبيعي) وتعليله نفس الحدث بإرادة من يصنعه وضغطه على زر خاص بذلك (تعليل غائي). ومثلما أنه لا تعارض في هذا المثال الأخير، فكذلك لا تعارض في العبارة: [العلم .. يقول إن السبب في الكوارث والمصائب هو الطبيعة ... والدين .. يقول إنه ابتلاء من الله].
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------

السؤال السادس:

من نصدق ... العلم الذي يقول إن السبب في الشهب سبب طبيعي أم الدين الذي يقول رجم الشياطين؟


الإجابة:

معنى "الشهب" عند العوام، ومعناها في اللغة:
لا يُلتقط العلم من ألسنة العوام، ودارج الكلام، وسقط الأفهام، وإلا لما تأهل للعلم أناسٌ، استبصروا فأبصروا، وجلّوا المعاني، وحرروا المباني. فأنشأوا المعاجم، ومَحَّصوا متشابه اللفظ والمعنى، من وجوه، ونظائر، وفروق، وترادف ... وقائمة طويلة، لا يدريها ولا يحصيها إلا ذوي الألباب وقويم الأفهام.
وإذا تعجل المشوشون على الحق، بحرصهم، على بث الشبهات، بأفهام قاصرة، ولقطات من المعاني خاسرة، كانوا لأنفسهم ظالمين، ولحدود علمهم أو جهلهم فاضحين.
فمن يلتقط لمعنى (الشهاب) في القرآن من دارج الكلام، كلَّ جارٍ في السماء مُضِيء، فقد أخطأ. وكان كمن يلتقط لدوريات الشرطة كل دابّة في طريقها جارية. لا يميز بين سيارة وقطار، وسفينة وحمار.
ويطلق العوام على [كل خط ضوئي، في السماء يجري، قبل أن يزول ويهوي]، إسم "شهاب". وليس هذا بمستغرب في اللغة، إلا أنه إسمُ عَلَم مأخوذ من صفة. والصفة هي ("ومضٌ حادٌّ مستطير، خاطف الحركة قاصد الجهة). وما لا يعلمه العوام أن كل ما يحمل هذه الصفات يمكن تسميته بـ (شهاب) على العموم. وأمثلة ذلك قائمة في بعض المقذوفات الحربية، والتي يمكن تسميتها عندئذ بسلاح الشهاب لو أردنا. ولن يمنع أهل اللغة هذه التسمية، ويقولون أن الشهاب هو فقط ما يسقط من السماء. ... ألا ترى أن اسم "القطار" إنما نُقل إلى المركبات الجارية على قضبان الحديد من قافلة الإبل التي تتعاقب وراء بعضها على مسار الطريق، أي للاشتراك في علة التسمية ، ... ألا ترى أن اسم "سيارة" هي (كل جمعٌ سائرٌ في طريقه راحل قاصد غايته)، كما في قوله تعالى في قصة يوسف – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - "وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ .."(يوسف:19)، فأني نطلق اليوم على مركبات الطريق سيارات، إلا لكون الصفة قد تحققت، فتحقق عموم الاسم، أما التخصيص، والاصطلاح، فهذا مواضعة، وقال علماؤنا منذ القديم: "لا مشاحة في الاصطلاح، إذا فُهمت المعاني" ... ولن أراك أخي السائل – بعد أن علمت ذلك – أن تضيف سؤالاً آخر إلى قائمة أسئلتك تقول فيه: (من نصدق: الواقع الذي يقول أن السيارة هي الجارية بالبنزين والكفرات، والدين الذي يقول أن سيارة مرت على يوسف وهو في الجُب قبل أن تُخترع السيارات) [وهو سؤال حقيقي وقد طرح مثله طفل على أبيه (المصدر: إبراهيم أنيس، "دلالة الألفاظ"،دار المعارف، الطبعة السادسة، 1986، 147)]
فالأصل في الأسماء عللها، وحين البحث عن مقاصد المعاني في كتاب الله تعالى، نبحث أولاً عن علل تلك الأسماء، وحيثما نجدها يتحقق لحاملها عموم الاسم من حيث المبدأ، ثم تأتي القرائن التي تخصص الإسم لفئة دون غيرها، ثم لتقييد الاسم لعيّنة من هذه الفئة بقيدٍ ما دون غيرها. أما المواضعات في الأسماء، كالسيارة، والقُطْر (الهندسي) [راجع مقالة: “خطيئة لغوية وانتكاسة علمية” على مدونة Kazaaber.blogspot.com] وما جاء على شاكلتها، فلا يجوز تحكيمها في معاني القرآن، لأنها قد تخصصت بالاصطلاح، وألفاظ القرآن لا تتخصص بالمواضعات البشرية اللاحقة، بل بما يتعين بعلل الأسماء وسياق الآيات، وقرائن الدلالات.
معنى (شهاب) في القرآن:
والآن: إذا كان كل ما يحمل صفة ("ومضٌ حادٌّ مستطير، خاطف الحركة قاصد الجهة) قابل لأن يُسمّى (شهاب)، فأي منها هو ما قصدته آيات القرآن في مسألة رجم الشياطين؟
نقول: مثلما أن الرسل – عليهم السلام - فئة من البشر، اصطفاها الله تعالى لمهمة بعينها، واستدعى ذلك أنهم متصفون بصفات مخصوصة تؤهلهم لذلك، فكذلك الشهب التي هي رجوم الشياطين، فئة خاصة تتصف بصفات الشهب، ومن هنا حملت الإسم، غير أنها تتميز بخصوصية لا تنطبق على ما سواها مما يمكن أن يحمل اسم "شهاب".

فإذا قرأنا في كتاب ربنا عز وجل:
- "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ"(الملك:5)
-" إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) "(الصافات)
- "وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)"(الحجر)
-" وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) "(الجن)

فسوف نلاحظ:
1- أن مصادر الشهب الراجمة للشياطين (التي تسترق السمع) هي مصابيح السماء (الملك:67). ولا أراها إلاّ النجوم.
2- أن تلك الشهب الراجمة لا تنطلق بشكل عفوي في كل جهة، بل إنها تترصد - شِهَابًا رَصَدًا - (من قبل ملائكة مخصوصة في الغالب) وأن أهدافها هي (المسترقون للسمع من الشياطين).
3- أنها شهب ذات كفاءة عالية (شِهَابٌ مُبِينٌ)، (شِهَابٌ ثَاقِبٌ) في تحقيق أهداف الرجم.

خلاصة معنى الشهب الراجمة للشياطين في القرآن في إيجاز:
(1) أنها وامضة، وهي الصفة الأساسية للشهاب ("شِهَابٍ قَبَس") ويتبع التسمية بالضرورة.
(2) أن مصدرها النجوم، كالشمس ("مَصَابِيحَ")، ومن ثم لا بد أن تكون نارية التركيب كالتي تنبعث في العواصف الشمسية (أي أنها أشعة Radiation من نوع ما)، ويتبع ذلك أنها ليست ذات طبيعة حجرية كالتي تشتعل بدخولها طبقة الميزوسفير في الغلاف الجوي.
(3) أن لها قدرة على ثَقْب أهدافها كالرصاص النافذ ("شِهَابٌ ثَاقِبٌ")، مع ملاحظة أن الثَّقْب يزيد على النفاذ. فمن الآشعة الكونية cosmic rays ما ينفذ من أجسامنا، ولكنه لا يثقبها، كالنيوترينوهات neutrinos. ومن الأشعة ما ينفذ ويثقب كأشعة جاما، لأنها تتلف الخلايا التي تقابلها. وكلما زادت طاقة الأشعة زادت قدرتها على الثقب. وأشد ما نعلم في ذلك الليزر، وتزداد قدرته على الثقب بزيادة تردده.
(4) أنها شديدة القوة والفعالية (شِهَابٌ مُبِينٌ)، وإذا اجتمع الثقب مع القوة، كان التدمير؟
(5) أنها تترصد أهدافها (رَصَدًا).

ومن أمثلة ما يجري إعداده من أسلحة أشعة الليزر التي هي من هذا النوع:
http://www.youtube.com/watch?feature...9TrQTseHA&NR=1
http://www.youtube.com/watch?v=3pO2A5oJyX0&NR=1
والتالي، ما تقول شركته لوكهيد أنه تدمير لصاروخ شبيه بصاروخ (القسام) (في شهر إبريل 2013) بشعاع ليزر.
http://www.youtube.com/watch?v=kgUnDeED9MM
(ملاحظة للتوضيح: أوردنا أمثلة الليزر لبيان معاني النفاذ وشدة طاقة الأشعة والتدمير، وليس لأي إشارة بأن تكون طبيعة الشهب راجمات الشياطين من نوع الليزر)
ونقول: إن القرآن يُحدثنا إذاً عن حرب كونية معلنة على شياطين الجن المسترقة للسمع، والتي لها قدرة على السباحة في الفضاء بحكم خلقتها، وهي حرب قائمة لا تفتر، وتدور رحاها في السماء، ونحن عنها غافلون. وهذا في وقت يظن فيه الإنسان أنه العاقل المتفرد في الكون، ...حقاً يقول الله تعالى "إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ"(الملك:20)
فإذا كانت هذه هي الشهب المقصودة في القرآن، أي راجمات شياطين الجن - التي تسترق السمع في السماء؛ وهو استراق لأصوات بين الملائكة يسمعها الجن ويفهمها، ولا علاقة لها بهواء الأرض، ولا تشترطه كما تشترطه الأصوات التي نسمعها - فما هي "الشهب الأرضية" التي تتكلم عنها علوم الإنسان الحديثة؟
معنى "الشهب" في العلم:
الشهاب meteor أو shooting star هو الشعاع المرئي الناتج عن اختراق نيزك meteoroid أو حصى نيزكية micrometeoroid للغلاف الجوي للأرض. وتتكون الشهب في طبقة الميزوسفير mesosphere ومعظمها يتراوح ارتفاعه ما بين 75 كيلومتر و100. ويحدث الوميض نتيجة احتكاك النيزك بالهواء، والذي يتولد عنه ارتفاع درجة حرارة النيزك، الأمر الذي يجعل النيزك يتوهج وينشأ عنه ذيل مضيء من الغازات وجسيمات النيزك المنصهرة.
والسؤال هو: هل هذه الشهب التي يراها الناس وقرأنا تعريفها وطبيعتها للتو، هي هي ما قصده القرآن من راجمات الشياطين التي تسترق السمع؟
الإجابة لا! لأن الشهب التي تكلم القرآن عنها – كما سبق ورأينا – مصدرها مصابيح السماء. وهذه الشهب النيزكية لا هي مصابيح، ولا تصدر عن مصابيح في السماء. والمعنى الراجح عندنا هو ما وصلنا إليه أعلى من أن القرآن يتكلم عن أشعة مصدرها النجوم، مُبِينة، ثاقبة، يترصد بها جنود لله تعالى من يسترق السمع إلى الملائكة من شياطين الجن.
والنتيجة: أن الخلط بين ما يراه الناس من شهب وتعرف العلم الحديث عليه، وما تكلم القرآن عنه بإسم (شهاب) وبيّنا الراجح عندنا في معناه، هو السبب في توهم التعارض الذي ظنّه السائل وقال مستوضحاً، أو متهكماً:
(من نصدق .. العلم الذي يقول إن السبب في الشهب سبب طبيعي أم الدين الذي يقول رجم الشياطين؟)


هذا والله تعالى أعلم

----------------------------------------------------------------------------------------------------------------

السؤال السابع:

   من نصدق ... العلم الذي يقول إن السبب في الرعد سبب طبيعي أم الدين الذي يقول الملائكة؟

الإجابة:

هب أن هناك كائنات عاقلة ترصد الأرض وما عليها – مثلما يرصد الإنسان الكواكب البعيدة – وأن هذه الكائنات تستقبل بمراصدها فقط بعض خطوط الطيف (أي: ترددات كهرومغناطيسية - بحسب الفهم العلمي المعاصر - بعينها) دون غيرها. وأن هذا الطيف الذي تستقبله ليس مما يصدر عن جسم الإنسان، ومن ثم لا تراه، غير أنه يصدر من مصابيح السيارات التي تجري على الأرض. وعندئذ، سترى هذه الكائنات صورة شبيهة بالصورة التالية:

شكل (1)
وبتحليل هذه الصور الملتقطة على نحو متصل وجدت هذه الكائنات الفضائية (شكل 1) أن الملامح الغالبة على هذه البقع الضوئية أن ذوات الأضواء الحمراء تبتعد عن الراصد (خلفية السيارات)، وأن البيضاء تقترب من الراصد (مقدمة السيارات)، وأنها تجري بسرعات متفاوتة، غير أنها ذات حد أقصى، وأنها تجري على مسارات وراء بعضها، وانها تتبع نظاماً لا تصادمياً إذا اعترض منها مساران، وعندئذ تسير في صورة دفعات متقطعة (أنظمة الإشارات) .... إلخ، وخلصوا من ذلك إلى اكتشاف النظام المروري على الأرض (دون أن يدروا معناه الحقيقي) .. ووجدوا أنه مبرمج على نحو طبيعي صارم. وقامت هذه الكائنات بإصدار تقرير أن هذه الأضواء تتبع نظاماً طبيعياً يمكن كتابته في قانون ونمذجته في معادلات رياضية (كما نفعل نحن مع قوانين الكون)!

ثم حدث أن حلَّل أحد الباحثين من هذه الكائنات الفضائية، المعلومات المرصودة على نحو أدق من خلال بيانات وصلته من مركبة فضائية صورت الأرض بصور أكثر وضوحاً (شكل 2)، وجاءت تحليلاته لتقول أنه اكتشف في النظام الضوئي المرصود، ظواهر تخرق القوانين التي اكتشفوها من قبل؛ ومنها أن مسارات الأضواء المتحركة تتعطل عن بعض البقع المكانية، ولا يمكن أن تخترقها (إصلاحات في الطرق)، وأن أزمنة دفعات الأضواء المنضبطة تختل أحياناً إذا تزاحمت، ولا تتبع ذات النظام (عندما يتدخل رجال المرور في تسيير الإشارات)، ثم تعود إلى ما كانت عليه بعد زوال الزحام. ... واستنتج من ذلك أن هناك كائنات عاقلة تتدخل بين الفينة والأخرى لتعطل النظام الطبيعي، وتسيره على نحو خارق للقانون!

شكل (2)
فلما نشر هذا الباحث نتائج أبحاثه: هاجت وماجت هيئات البحث العلمي هناك واتهمته بالهرطقة العلمية، وراحت تتهمه بتجاوز مناهج البحث العلمي والرصانة العلمية، وعمدت إلى تسخيف منطقه العلمي، وأخرجته من دائرة الباحثين الجادين، بتهمة زعمه أن النظام الطبيعي لهذه الأضواء الطبيعية على كوكب الأرض يجري اختراقه من قبل كائنات عاقلة.
وسخر أحد أذكياءهم منه، وقال:
من نصدق! العلم الذي يقول إن السبب في (النظام الضوئي المرصود على كوكب الأرض وما قد يعتريه من تشويش) سبب طبيعي أم البدعة التي أتى بها هذا الباحث، ويقول فيها أنها تعود لكائنات عاقلة تتدخل أحياناً لخرق السنة الطبيعية؟
ونقول: أليس هذا هو نفس السؤال الذي نحن بصدده دون أعيان الأسماء؟!
من نصدق .. العلم الذي يقول إن السبب في الرعد سبب طبيعي أم الدين الذي يقول الملائكة؟

فنقول:
أن رتابة النظام الطبيعي لا تقتضي عدم خرقه ممن صنعه، بوسائل يعلمها هو. مثلما أن النظام المروري يمكن خرقه ممن صنعه (أي: الإنسان) في المثال السابق إذا استدعت الضرورة ذلك. بمعنى أن الله تعالى صنع نظام السحب والبرق والرعد ...، فإذا أراد سبحانه أن ينزل المطر على أرض أو قوم دعوه بذلك، وشاء أن يستجيب لهم، وكانت الأجواء المناخية الرتيبة لا توافق دعاؤهم، فما الذي يمنعه سبحانه – حسبما يطلعنا من وحيٍ أو رسول - أن يرسل ملائكة تختص بهذه المهمة من زج للسحب برياح مخصوصة أو غير ذلك مما نجهله، فتجعله ركاماً، وأن يكون مع هذه الملائكة أدوات لا نعلمها كالمخاريق، تستحث بها السحب، فترعد وتبرق، ويهطل منها المطر الذي طلبه الناس، أو اقتضاه قدر الله في ذلك الموقع؟!
إذا كان ذلك مبرراً، وكانت الشواهد عليه وافرة من تأويل للوحي والسنة الصحيحة والمنطق العقلي المتسق، فلا يبقى للاعتراض الذي ساقه صاحب السؤال محل. ويزول التعارض الموهوم الذي طرحه.
تحليل اعتراضي على الاعتراض:
وعلينا أن نتساءل: ما الذي جعل اكتشاف وجود كائنات على كوكب الأرض في المثال الذي ركَّبناه أعلى، اكتشافاً مرفوضا، بل منبوذا من قبل دوائر البحث العلمي لتلك الكائنات الفضائية المفترضة – رغم أننا نعلم – نحن أهل الأرض - أن ذلك الباحث الفضائي - المأسوف على مستقبله العلمي عندهم - قد صدق في استدلاله؟!
1- السبب الرئيسي في اعتراضهم: أنهم قد تحيزوا في تصورهم لما سموه نظاماً طبيعياً لا يمكن خرقه، فكان الزعم بانكساره كبيرة من كبائر البحث العلمي التي لا تُعذر ولا تُغفر عندهم. بمعنى أن كل رتابة في تسلسل من الأحداث المتتابعة، تبعث في نفس راصدها قناعة بأن الأمر ينبغي دوماً أن يكون على هذا النحو، وأن انكسار هذا الاطراد ممتنع، إلا إذا كان هناك (من/ما) هو فوق هذا النظام. فإذا كان هناك إصرار وعناد على (انعدام/غياب) لـ (من /ما) هو فوق النظام، فالنتيجة الحاسمة أن انكسار النظام ممتنع أبداً. ومن هنا نرى أن الكفر العنادي بالله تعالى عند الباحثين في العلم، يضللهم عن الوصول إلى الحق، فلا يصلون إليه حتى لو وصلتهم أدلته، لأنهم سيعترضون عليها ابتداءا، فكيف يهتدون به، والمثال السابق في حق الكائنات الفضائية المفترضة دليل على ذلك. وهذا المنحى يشكك في نزاهة مناهج وآليات البحث العلمي المعاصر، ويضع الباحث العلمي المؤمن بالله تعالى في مفترق طرق مع الباحث الملحد المنكر المعاند. وهذا يؤدي بنا إلى أن مناهج البحث العلمي المعاصر كاذبة في ادعائها أنه محايدة في مسألة الأديان. بل نراها أنها متحيزة ضد الحق إذا ترافق مع أي إيمان بالخالق، مهما كانت أدلة صحيحة.
2- وهناك سبب ثانوي نرى أن له تأثيراً شديداً على الفكر العلمي المعاصر في نبذ فكرة الإله ابتداءاً، ونعُد هذا السبب الذي سنعرضه الآن، من أمراض الفكر العلمي الغربي الحديث، ونقصد به [رد الفعل النفسي، والذي نسميه: الرُّهاب من أخطاء الماضي]. ونقصد بذلك أن الفكر الإنساني قد مر بمرحلة فاسدة شوشت عليه تفكيره، وفيها كان الناس، لابتعادهم عن صحيح الدين، يؤلهون كل ما يبعث الرهبة في نفوسهم، من أجرام سماوية، وظواهر طبيعية. (يراجع في ذلك آلهة اليونان والرومان وغيرهم مما يلحق الآن بعلم الأساطير mythology)، فكانت النتيجة أن أضفت هذه التوهمات على الظواهر الطبيعية مظاهر الحياة، لأن هذه الآلهة المفتراة الملحقة بها أحياء، أو كانوا أحياء بزعم أصحابها. وفي هذا المعنى نقرأ عن أرسطو يصف هذا الوضع فيما يُنقل عنه (محمد على أبو ريان، تاريخ الفكر الفلسفي، 1972، الجزء الثاني، ص205)، فيقول عن أسباب الحركة المنظورة للنجوم والشمس والكواكب:
[أشار القدماء إلى الجواهر المحركة الثابتة، ولكنهم قالوا بأنها ذات طبيعة إلهية من حيث أنها عقول مفارقة، والواقع أنها ذات طبيعة إلهية من حيث أنها عقول مفارقة، إلا أننا يجب أن نرفض ما ألحقه بها القدماء من أساطير وصور بشرية وحيوانية لإرضاء العامة ولمصلحة الدولة.]
ونلاحظ أن أرسطو نجح في التخلص من تصورها ككائنات حية كما كان الحال عند القدماء الذين سبقوه، ولكنه أبقى على أنها عقول فاعلة في غيرها!!!
ولم يتخلص الفكر العلمي الإنساني من أوهام الكذب على السنن الكونية إلا بمجئ الإسلام، وأشد ما نرى من ذلك فكان يوم [انكسفت الشمس على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال رسول الله: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإن رأيتموها فادعوا الله وصَلُّوا حتى تنجلي]
ولما وصل الفكر العلمي المتجرد عن غياهب تأليه السنن إلى أوربا، ونُزعت عنه صفات الأحياء، صَاحَبَهُ عُقدة نفسية من أن يعود الإنسان إلى إلحاق أي صفة حياة للسنن الطبيعية، وبعد أن كانت السنن الكونية حيوانية خالصة animate عند القدماء، وصل الأمر إلى أن تكون عديمة الحياة inanimate على نحو خالص في القرن العشرين. بل إن أهل الإلحاد من العلماء، وهم أغلبهم للأسف، أصبحوا يعدون الإيمان بخالق الكون من توابع تلك النظرة القديمة للكون الحي، فتفاقمت الرهبة من أي إلحاق لحياة روحية mystic في الكون، وإلا اعتُبر ذلك ردة عن الفكر العلمي الرصين.
ويتبع ذلك أيضاً الإيمان بالملائكة والجن. فالإيمان بشيء من ذلك في نظر الفكر العلمي عودة لأوهام الماضي. ولكي يظل نقياً من أساطير الماضي، بقيت هذه العقدة النفسية في أوهام العلماء الماديين المعاصرين، حتى ارتدوا من نقيض فاسد (animate) مناطه الشرك بالله، إلى نقيض لا يقل عنه فساداً (inanimate) مناطه الكفر، وأصبحت معارضة وجود الخالق الواحد سبحانه، والملائكة، أصل في مناهج العلم المعاصر، وإلا سقطت عن حامل هذه الأفكار أي قيمة علمية.
بل إن صفة الحياة في الإنسان نفسه أصبحت محل شك. وسعت دوائر العلم المنكر للإله – والرصين بزعمهم – وما زالت تسعى، إلى اعتبار الحياة التي نعيشها، ظاهرة طبيعية بزغت emerged على نحو طبيعي، من المادة الجامدة (التطور الدارويني بالانتخاب الطبيعي). بل إن إحساس الإنسان بذاته، وكيانه ووعيه أصبح مسألة شديدة الإلغاز، ومجال واسع للتنظير، وقد خرجت عل إثر ذلك مزاعم خرقاء، تتزين بأردية العلم، لتبرر الكيفية التي بزغ بها الوعي consciousness من اللا-وعي unconsciousness، والحياة animate من الموت inanimate من بضعة قوانين مادية ميكانيكية فيزيائية، حدث أن بزغت هي الأخرى من لا شيء! (أنظر في ذلك كتاب: A Universe from Nothing: Why There Is Something Rather than Nothing, Lawrence M. Krauss, )
وآل الأمر – على نحو ما رأينا – إلى أن يستنكر علينا سائل من هؤلاء المصابين بالرهاب العلمي من معنى الحياة، بسؤالهم الاستنكاري لنا:
من نصدق .. العلم الذي يقول إن السبب في الرعد سبب طبيعي أم الدين الذي يقول الملائكة؟!!!
وكأن السنن الإلهية في الكون لا تلتقي مع ملائكته! ... ونسى السائل أنه هو نفسه كائن حي، له إرادة، ومشيئة – في إطار مشيئة الله سبحانه - فيما سُخِّر الله له من سنن. ... وحقاً ... قال الله تعالى "نَسُوا اللَّـهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ "(الحشر:19).


*********************

إضافة بتاريخ 10 /2 /2016:

 هذا السؤال الذي أجبنا عنه - والذي يستنكر تدخل الملائكة بأمرالله تعالى في أعمال كونية ، وقد فندنا منطق السؤال على العموم - يختلف (جزئياً) عن إفادة نصوص حديثية مثل:  
[حدثنا أبو أحمد حدثنا عبد الله بن الوليد العِجْلي، .. عن بُكَير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: }أقبلتْ يهود إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقالوا: يا أبا القاسم، إنَّا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفْنا أنك نبي واتبعناك، فأَخذ عليهم ما أخذ إسرائيلُ على بنيه إذ قالوا {اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} قال: "هاتوا"، ... (وفي المسألة الرابعة) قالوا: أخبرْنا ما هذا الرَّعد؟، قال: "مَلَك من ملائكة الله عزِ وجل مُوَكَّل بالسحاب، بيَده أو في يده مِخْرَاق من نار، يزجر به السحاب يسوقه حيثُ أمر الله"، قالوا: في هذا الصوت الذي يُسمع، قال: "صوتُه" ...{](رواه الترمذي في سننه، ج5، ص294، برقم 3117، وأحمد في "المسند" ج3، ص129، برقم 2483)
والذي يفيد أن (الرعد) مَلَكْ من الملائكة، وأن صوت الرعد الذي نسمعه إنما هو صوت الـمَلَك.
هذا وقد أجرى الباحث (جميل فريد أبو سارة) دراسة تفصيلية لهذا الحديث (في أطروحته للدكتوراة، والمنشورة سنة 2016 تحت عنوان: [أثر العلم التجريبي في كشف نقد الحديث النبوي]، دار نماء للبحوث والدراسات، ص 186-194)، ورجح (ص 194) بأن الحديث ضعيف بسبب خطأ الراوي: [بُكَير بن شهاب] بعد مراجعة كتب الجرح والتعديل، وترجمة كل من البخاري والذهبي له.  
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------

السؤال الثامن:

   من نصدق ... العلم الذي يقول إننا نستطيع أن نحقق كثيرا مما نريد بدون الدعاء أم الدين الذي يقول إننا نستطيع أن نحققه بالدعاء؟

الإجابة:

إذا افترضنا في السائل البراءة وحسن الطوية، فإن ظاهر السؤال مما يُرثى له، ويدعو إلى الشفقة على طارحه! – فمن السؤال تُعرف فطنة السائل، أو خلافها! ... والسبب أن أي عاقل يعلم أن ما يحققه الإنسان بقدراته، يستغني فيه عن الدعاء. وأنه لا يلجأ إلى الدعاء إلاً فيما يخرج عن طاقته، فيلجأ إلى من يملك تحقيقها له فيدعوه ... فأين التعارض إذاً؟!
إلا أننا سنفترض في سائلنا الفطنة، وربما المكر، وأنه يرمي بسؤاله إلى أعمق من هذا الظاهر الساذج! .. كأن يريد مثلاً أن يقول: أنتم المسلمون، تركنون إلى الدعاء، فما فلحتم في هذا العصر، لا في الحضارة، ولا في العلم، ولا في الانتصارات العسكرية، .... فماذا أنجزتم بأدعيتكم إذاً؟! ... ألا يحقق الآخرون كل شيء بالعلم الحديث والتكنولوجيا .. دون هذا الدعاء .. وأنتم راكنون إليه ... وقد تجاوزوكم على ما لا يختلف عليه اثنان! ... أوليس هذا بدليل على عدم جدوى الدعاء، أو الدين الذي شرّعه، أو الإله الذي تدعونه بظنكم؟ّ! ... (سبحان الله العظيم، سبحان العلي القدير، ذو جلال والإكرام)
هكذا أُثمِّن في السؤال مكره، وأراه حرياً بالرد .... وهكذا أتجهز للتصدي له .. والإجهاز عليه!!! .. إذا أن جمال الرد وفتوته، مهما كان مفحماً، لا يقاسا، إلا من قوة السؤال، لا من هوانه!

نقول:
إن قضية الدعاء بهذا الاعتبار يندرج تحتها مسائل:
1- عدم التمييز بين الإسلام والمسلمين: من حيث أن الدعاء تشريع إسلامي، أما أهلية الداعي لاستجابة الدعاء فمسألة لأتباع الدين، تتحقق فيهم أو لا تتحقق، بما لا يمس مشروعيتها. ومن يتذرع بنكوص الدعاء – بزعمه - عن أتباع الدين الغير مؤهلين له، في النيل من الدين، كان كمن يتذرع بنكوص الشفاء للمريض العابث عن نظام الدواء في النيل من جدوى الدواء. وهذا إما جهل أو مكرٌ سيء، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
2- الدعاء اعتراف من الداعي بحدود علمه، أو طاقته، أو ضمانه لنتائج الأسباب التي اتخذها:
فهذا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، بحث عن الله تعالى في زخم حضارة فلكية بابلية رائجة، بالنظر مع أهلها إلى السماء، وبما ظهر له ولهم من عظيم هيبة أجرامها، فلما فرغ وسعه، وعاد بلا جواب، توجه إلى الذي فطر السموات والأرض، وهو لم يعلمه بعد، يدعوه أن يهديه "قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ"(الأنعام:77)، "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ"(الأنعام:79)، ودعا الخالق أن يُعرّفه بنفسه ودينه الذي يحب، فاستجاب الله له، "وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ"(الأنبياء:51)، فكانت "صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ"(19)، وكانت الجائزة الكبرى "وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا"(النساء:125). ودعاه بعد ذلك أن يهبه من الصالحين، فاستجاب له "رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)"(الصافات) .. وذلك إلى آخر وقائع التاريخ الصادق الذي يقصّه علينا الله تعالى بعلم وشهود "فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ"(الأعراف:7) ..
فأي من هذه الوقائع المشحونة بالدعاء يُنكرها علينا السائل الغافل؟ ... أم ينكر جدوى الدعاء؟ .... ومن يدعو هو إذا ألمت به مصائب الدنيا فلا يجد له منها مخرج "وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)"(الإسراء:67)
3- العلم الحديث باعتباره ديناً، ينجز كل أماني الإنسان وأحلامه:
ربما يظن السائل أن العلم الحديث قد تقلد منصب الإله، وحل البحث العلمي محل الدعاء، وحلت التكنولوجيا محل الإجابة؟! ... فجاء يسخر من الدين القديم بدينه الجديد؟! .... ألا يعلم أن الله يفتن الناس بهذه التقنيات الجديدة ويختبرهم "وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ"(العنكبوت:3).
وإن صدق صاحب السؤال، والذي يبشر من خلال سؤاله بدين العلم الحديث، عن جوابات هذا الدين الجديد المُفترى، عن أسئلة الإنسان المصيرية! واستغناء كُهَّانه (علمائه) به عن الله (تبارك وتعالى)، فليقل لنا إذاً، بماذا أجابنا العلم الحديث حتى الآن عندما سألناه عن سبب وجودنا، ومآلنا ....؟! ... ولَئِن أجاب (ولا يجيب منهم في هذا الشأن إلاّ عالم دجال لا يختلف عن المسيح الدجال) لقال: [جئنا من عدم، ومآلنا إلى عدم. وبين هذا وذاك إما ألم أو نتنعم كما النعم]. ... ولقلنا له: ما أكذبك، وأكذب دينك.
وإن أردف قائلاً: إن ديننا الجديد (العلم الحديث) حقق لنا من الاكتشافات والقدرات ما لم يحققه لكم دينكم من دعائكم ربكم! ... فكلما أردنا شيئاً، لا نتوجه بدعاء أحد، فقط نتبع أسباب هذا الدين، التي لا صلاة ولا دعاء فيها، .. فيلبي ديننا الجديد دعوتنا ويبارك سعينا بما يقدمه لنا من تكنولوجيا ... ألا يغني إذاً من يجيب عمن لا يجيب؟!
قلنا له: أنت واهم، ... أما عن الأسباب، فنحن فيها سواء، ... وأما عن وهم الثقة في العلم الحديث من دون الله، فلْتعلم أن العلم الحديث ما هو إلا فعل لله تعالى، أجراه على أيدي الناس "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ"(الصافات:96)، وأن أغلبه – لو أنك راجعت تاريخ الاكتشافات – قد تم عن غير قصد ممن اكتشفه، ولا انتباه لما عساه أن يخرج له من أسرار الكون. فما هم إلا وسائط يحقق الله تعالى بهم قضاءه على الناس وفتنته بهم "وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ "(الزخرف:33)، ولا يظنن أصحاب الدين الجديد أنهم أصبحوا بهذا العلم المادي آلهة في السماء والأرض قد سبقوا الوجود كله "ولَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ"(الأنفال:59) ... وليمضين الأمر على ما قدر وأراد الله من ذلك... حتى .. "حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا " ... وهم في أوج سكرتهم من الغرور العلمي .. فعندئذ يقع ما لم يكونوا يحتسبون ... "أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ"(يونس:24). ... وفقط ... في غمرة الهلاك... يعودون ومعهم سائلهم يدعون .... بنفس الدعاء الذي سخروا منه من قبل!!! – ياللسخرية - .. ولكن ... هيهات ... فساعتها يكون الأوان قد فات. ... ولماذا حل بهم وأتاهم هذا الآت؟ ... لأنهم استكبروا عن دعائه، .... لأن من آمن بالله دعاه، .... ومن لم يدعوه لم يكن من عباده وإن زعم أنه مؤمنا ... "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ"(غافر:60).

فهذا هو الدعاء: .. طَرْقُ الباب ..
ومن لم يطرق .. لم يفتح له .. ولم يأته جواب ..

وليس أمامه إلا حساب .... يعقبه على استكباره عذاب ..
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------