الثلاثاء، 13 أكتوبر 2015

حديث: (اشتكت النار إلى ربها .. ) ومعناه!

حديث: (اشتكت النار إلى ربها .. فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ؛ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ .. ) ومعناه!
كتبه: عزالدين كزابر
تصوير حقيقي لسطح الشمس في الفترة (14-30) أكتوبر 2014
ويظهر فيه أكبر البقع الشمسة، ويمكننا تسمية تلك البقع: المنافس الشمسية، لأنها تتنفس منها



بسم الله الرحمن الرحيم

سألني سائل:
[هناك حديث مشكل عليّ، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ أَيْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ؛ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ وَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ).
وموضع الإشكال: أن الرسول عليه الصلاة والسلام جعل أشد ما يحس الناس به من الحر في الصيف بسبب نفس جهنم، وأشد ما يحس الناس به من البرد في الشتاء بسبب نفس جهنم الآخر.
وسبب الإشكال: أن الأرض يكون فيها أكثر من شتاء واحد وأكثر صيف واحد بحسب اختلاف الأمكنة، والحديث يفهم منه أنه أُذن للنار بنفَسَين خلال السنة الواحدة، فكيف يستقيم ذلك؟
آمل أن يكون .. لديكم حل لهذا الإشكال يريح البال ويُطمئِن النَفْس. ]
وبعد التأكد من صحة الحديث، والذي ظهر أنه متفق عليه (أي: رواه كل من البخاري ومسلم)، ومن ثمَّ يكون في أعلى درجات الصحة، تأتي إجابتي على السؤال السالف كالآتي:
هب أن مدينة – من المدن المعاصرة – المكتظة بالسكان، والتي يزيد عدد سكانها في العادة عن 10 مليون نسمة، قد اشتكت لملك البلاد أن يجد لها حلولاً لمشاكل زيادة كثافة السكان؛ من مرور السيارات، وتلوث الهواء، وصعوبة السكن، وارتفاع الأسعار، وتعطل بعض الخدمات ....إلخ، وهو ما نعهده بوضوح في هذا الزمن.
ومن الطبيعي أن يجد ملك البلاد لها مخرجين من هذا الإشكال، الأول: أن يصنع في محيطها الخارجي – الريف والضواحي - عناصر جذب للناس بمزايا جيدة فيتركوا المدينة ويذهبوا للعمل والسكن في تلك الأماكن الجديدة، فتتخفف المدينة من الازدحام، والثاني أن يُضيف للمدينة مساحات جديدة للتوسعة، فيُنشئ أنفاق، وكباري، ويسمح بارتفاع الأبنية .. إلخ. وكأن هذه المساحات قد أتتها من الخارج بعد أن لم تكن.
والآن: لننظر إلى الشمس، .... وهي بالفعل الشيء الوحيد الممكن أن يُطلق عليها ("النار") – في متن الحدث - والتي ترتبط بحياتنا من صيف وشتاء. ... أليست مثل المدينة المكتظة بـ (النار التي يأكل بعضها بعضا)؟ ... بلى إنها كذلك.
والآن، كيف تتخفف الشمس من الحرارة الزائدة، (التي تأكل بعضها بعضا)؟!
بأمرين اثنين: (مثلها مثل المدينة في المثال أعلاه):
1- أن تتخلص الشمس من الحرارة الزائدة بنفثها إلى الخارج (أنظر الفيدو أعلاه)، فتلاقي هذه الحرارة الزائدة في طريقها الكواكب، والتي منها الأرض، (وهذا هو أشد ما نجد من الحر) ... ويشعر به الناس الأقرب إلى الشمس (في الجهة القريبة لمحور دوران الأرض من الشمس-أنظر الشكل التالي) ... وهذا هو الصيف عند من يكونون فيه، (وهذا هو نَفَس الصَّيف). [يلاحظ أن بعض أجرام السماء لا يُتاح لها خروج حرارتها، وهذه هي الـمُسمَّاء بالثقوب السوداء.]
2- أن ينضاف إلى الشمس برودة من خارجها تسحبها الشمس لتتخفف بها من الحرارة كما يستنشق أحدنا الهواء البارد – وذلك مثلما يُضاف للمدينة مساحات لم تكن متاحة فيها فتتخفف بها من الازدحام – وهذه البرودة هي برودة الفضاء الذي تجري فيه الشمس. والناس الأقرب إلى الخارج (مع الجهة البعيدة لمحور دوران الأرض عن الشمس) هم من يكونون في الشتاء، وهذا هو أشد ما يجد الناس من الزمهرير، (وهذا هو نَفَس الشتاء).

ومعنى هذا أن الصيف والشتاء المذكورين في الحديث ضمناً (في لفظي الحر والزمهرير) ليسا صيف وشتاء قوم بعينهم، أو بقعة معينة من الأرض، بل صيف الأرض وشتائها، وهما متلازمان دائماً، وتتبادل عليهما بقاع الأرض على مدار السنة الشمسية، مثلما أن الليل والنهار متلازمان دائماً، وتتبادل عليهما بقاع الأرض جميعاً على مدار اليوم والليلة.

أي أن نَفَسَيْ "النار" - أي الشمس - يجريان في آن واحد، وليس أن أولهما في موسم الصيف عند العرب وثانيهما في موسم الشتاء. وهذا الظن الأخير، والمتضمن في السؤال، كان مَرَدُّه إلى عدم علم الناس قبل عدة قرون بأن الصيف والشتاء متلازمان، مثلما أنهم لم يكونوا يعلمون أن الليل والنهار متلازمان، بدليل تصحيح القرآن لظنونهم في قول الله تعالى "وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ"، أي أن الليل والنهار متلازمان، وكذلك الصيف والشتاء متلازمان. ويلاحظ أن متن الحديث (اشتكت النار..) يخلو تماماً من أي إشارة إلى هذا التعاقب المظنون، والذي وجَّهَتْه الثقافة الجغرافية القديمة وِجْهَة شَوَّشَت معنى الحديث![1]،[2].

وبهذا التفسير، أرى - والله أعلم- أن ("النار") المقصودة في الحديث هي (الشمس). وأن هذا التفسير على نحو ما شرحته (بإيجاز) يريح البال وتطمئن إليه النفس.
---------

أمثلة أخرى:

- إذا زادت حرارة الإنسان فأمامه طريقتان مجتمعان للتخفف من الحرارة؛ الأول: أن يسمح لها بالخروج، فلا يلتحف، ويتخفف من ملابسه، والثاني: أن يعرض جسمه لتبريد خارجي مثل الماء البارد.
- إذا زادت حرارة الحاسوب المحمول، فعلى صاحبه أن يفعل أمرين، الأول: (أن يصلح مروحة خروج الحرارة وينظفها مما يحبس الحرارة فيها وأن يضعه على سطح أملس لا يحبس الحرارة)، والثاني: (أن يعرضه للتبريد الخارجي، بمروحة سفلية خارجية تُدخل الهواء البارد، وأن يضعه في غرفة باردة). 

ويجمع هذه الأمثلة مع مثال المدينة المكتظة بالسكان، خاصية طبيعية واحدة، (والتي هي كمية الحرارة في الحديث الشريف)، والتي يمكن أن تتقلص بطريقتين؛ الأولى أن تتخفف مما تحمله إن استطاعت، والثانية أن تكتسب من نقيض ما تحمله من تلك الكمية. فالحار إن أراد أن يَتَبَرَّد، يتخلص من الحرارة (بالزفير)، أو يكتسب من البرودة (بالشهيق)، وهذان هما النَفَسَان المذكوران في الحديث. ونظراً لأن كلا النفسين للشمس يمران بالأرض (وأيضاً باقي الكواكب)، فأهل الأرض يشعران بهما، الأول حار لأنه زفير الشمس، كما بالفيدو أعلى، لأن اتجاهه من الشمس إلى خارج المجموعة الشمسية، وعبر كل ما تمر به، والثاني شهيق الشمس للبرودة الكونية، أي من خارج المجموعة الشمسية إلى الداخل، وهذا هو الزمهرير الذي جهته مقابل جهة الشمس وراء الأرض، وأقرب أهل الأرض له من كانوا في شتاء.

والحق يقال: أن هذين النَفَسين لهما أيضاً نفس الوظيفة في الإنسان، وليس فقط لكمية الحرارة، بل لها ولكمية ثاني أكسيد الكربون والذي نقيضه الأكسجين في وظيفة التنفس، وفي آن واحد. فالزفير يتخلص به الجسم من ثاني أكسيد الكربون، ومن الحرارة، والشهيق يكتسب به الجسم نقيضيهما؛ الأكسجين والبرودة.
---------
هذا والله تعالى أعلم.

-----------
[1] مركز الفتوى: أقوال أهل العلم في تفسير نفسي جهنم في الصيف والشتاء:
http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=125881
[2] الشيخ/ محمد صالح المنجد: حديث (نفسي جهنم) والرد على من كذبه: 
http://islamqa.info/ar/128705

الاثنين، 31 أغسطس 2015

السنوات الأولى للنظرية النسبية ولماذا يؤمن بها الفيزيائيون

من كتاب: فتاوى شرعية في النظرية النسبية
الفصل الثالث: لماذا وكيف أنشأ أينشتاين النظرية النسبية

الجزء الثاني: عندما تكلم ديراك عن السنوات الأولى للنسبية ولماذا يؤمن بها الفيزيائيون
ترجمة: عزالدين كزابر

مؤتمر سولفاي 1927 - ويجلس (بول ديراك P. Dirac) خلف أينشتاين عن يمينه
وقد حصل ديراك على جائزة نوبل سنة 1933 بالاشتراك مع شرودنجر(بالصف الأخير في الصورة)
المحاضرة الأولى[1]:
قال ديراك (سنة 1979)[أسعدني للغاية أن أُمنح هذه الفرصة للحديث في ندوة أينشتاين، وخاصة أني من المعجبين جداً به.
وقد سمعنا في هذه الندوة العديد من المحاضرات التاريخية، حيث جمع المؤرخون جميع الوثائق التي وقعت بين أيديهم فيما يخص موضوعات اهتمامهم، ثم قاموا بتقييمها، ووازنوا بينها، ثم أعطونا وصفاً تفصيلياً لما حدث. ولن تكون محاضرتي من هذا النمط، لأني لست مؤرِّخاً. وما سوف أعرضه عليكم فهو ظهور النظرية النسبية كما بدت لأحد الأشخاص الذي عاشوا وعاصروا هذا الظهور (يشير هنا إلى شخصه هو).
كنت في إنجلترا في تلك الأيام، وسوف يكون كلامي في أغلبه عن ظروف وصول النظرية النسبية إلى انجلترا، رغم ظني أن وقائع تلك الأحداث كانت متماثلة جداً في الدول الغربية الأخرى مثلها مثل انجلترا. وما أود تسليط الضوء عليه فهو الوطأة الشديدة للنظرية النسبية على عامة الناس. وهو ما لا أظن أن المؤرخين قد أعطوه حقه في حديثهم عن تاريخ النسبية.
ويجب أولاً أن أصف خلفيات الأحداث وقتها. كانت الحرب العالمية الأولى في نهايتها. وكانت حرباً طويلة وفظيعة. وكانت حرباً لم يتحقق فيها الكثير من وجهة النظر العسكرية. فقد ظلت خطوط المواجهة ساكنة تقريباً سنة بعد سنة. إلا أن الخسائر كانت مُروِّعة، ومتواصلة، حتى أنه ما من أحدٍ إلا وقد فقد أقرباء له أو أصدقاء. ثم جاءت نهاية الحرب في نوفمبر 1918، بشكل مفاجئ، وعلى غير توقع. وشعر الناس فوراً باسترخاء شديد. فقد كانت شيئاً فظيعاً انزاح عن صدورهم. وأراد الناس أن ينسوا ذكريات تلك الحرب البغيضة، .. أرادوا شيئاً جديداً. ... وكان ذلك الشيء هو النظرية النسبية التي فجَّرها الإعلام أمامهم.
وليس أمامي من وصف أصف به ظهور النظرية النسبية وقتها، إلا أنها انفجرت في وجهنا. .. فقد كانت فكرة جديدة .. نوع جديد من الفلسفة  .. وما من شخص إلا وقد أثارت فيه الاهتمام والحماس. وقد حملت الجرائد والمجلات العامة والمتخصصة على الدوام مقالات عنها. وكانت هذه المقالات قد كُتبت من وجهة نظر فلسفية بالدرجة الأولى. فكل شيء يجب أن يُنظر إليه من وجهة نظر نسبية لشيء آخر. وأن فكرة المطلق لم تكن إلا فكرة سيئة إلى الدرجة التي يجب أن نتخلص منها. ولم يكن هناك بَعْد إذاعة على الراديو؛ لذلك لم يكن هناك آليات الدعاية الإعلامية التهويلية (البروباجانده)، إلا أن المادة المكتوبة التي كانت متاحة قد خُصصت لإبراز هذه الفكرة الجديدة للنسبية. ولم يكن هناك فيزياء حقيقية في أغلب ما كتبه الناس، لأن الكُتَّاب وقتها لم يكونوا يفهمون الفيزياء.
وكنت في ذلك الوقت في السادسة عشر من عمري، طالباً في الهندسة في جامعة بريستول. وربما تظنون أني كنت طالباً متميزاً حتى أكون طالباً بالجامعة في ذلك العمر! ولكن إذا علمتم السبب فستعلمون أن ذلك كان طبيعياً في ذلك الوقت. فقد أُخذ أغلب الشباب من الجامعات للخدمة العسكرية. ولم يتبقَّ إلا كبار السن من الأساتذة الذين لا يستطيعون الخدمة في الجيش، أو غير المؤهلين بدنياً. وأصبحت الفصول الدراسية فارغة. فكان ذلك سبباً إلى دفع صغار السن من الطلاب إلى السنوات المتقدمة في تلك الفصول الفارغة، وخاصة إذا أظهروا قدرة على هضم المادة التعليمية. وهذا هو سبب وصولي إلى تلك المرحلة الدراسية في ذلك العمر المبكر.
وقد أصابتني وأمثالي من الطلاب "رياح النسبية" والحماسة لها، والإثارة المشحونة بها. وكنا ندرس الهندسة، وكانت أغلب دراستنا تقوم على ميكانيكا نيوتن. وكانت لنا في نيوتن ثقة عمياء، ثم جاء من يقول لنا بصورة غامضة أن نيوتن كان مُخطئا، فكان أمراً مُربكاً للغاية. ولم يستطع أساتذتنا أن يساعدونا، لأنهم كانوا يفتقرون إلى المعلومات الدقيقة المطلوبة لتفهيمنا الأمور على حقيقتها، ... أللهم إلا من رجل واحد؛ ... وكان هذا الرجل هو: (أرثر إدنيجتون Arthur Edington).
كان إدنجتون فلكياً. وكان على اتصال بصديق له هو (وليام دي سيتتر de Sitter)، وكان (دي سيتتر) فلكياً أيضاً من هولندا. وكانت هولندا بلداً محايدا في الحرب في ذلك الوقت. لذلك تواصلت المراسلات بينهما. وكان (دي سيتتر) على اتصال أيضاً بأينشتاين. فكانت النتيجة أن كان إدنجتون على اتصال بأينشتاين بشكل غير مباشر، وكان هذا المسار هو الذي علم من خلاله إدنجتون بكل ما طرأ على النظرية النسبية من تطورات.
وفي نهاية سنة 1918، وقتما انتهت الحرب، لم تكن النسبية في الحقيقة فكرة حادثة للتوّ، لأنها كانت قد نُشرت في الحقيقة سنة 1905، أي قبل بداية الحرب بسنوات غير قليلة. إلا أنه لم يكن أحد قد سمع بأينشتاين أو النسبية من قبل، إلا من عدد قليل من المتخصصين في الجامعات. ولم يكن أحد من كلية الهندسة في جامعة بريستول قد سمع أي شيء عنها، وكانت الأخبار جديدة علينا جميعاً. ولم يكن أمامنا إلا (إدنجتون) ليشرح لنا ما هذا الذي نسمع عنه!
كان إدنجتون بارعاً جداً في تثقيف الناس، وذو موهبة فريدة في ذلك. وقد استثمر هذه البراعة في شرح أساسيات النظرية النسبية للعوام من الناس. (وجاء ذلك على النحو التالي:) أخبرنا أننا بحاجة (ضرورية) إلى أن نهتم بالاتصال الآني بمن كان بعيداً عنا. ولكننا ليس بوسعنا أن نتصل بهم إلا بوسيلة الإشارات الضوئية، وليس أمامنا إلا أن نُسجل متى أرسلنا الإشارة ومتى استقبلنا الرد عليها. وهذه هي المعلومات التي يجب أن نبني علينا معرفتنا. وأخبرنا إدنجتون أيضاً عن تجربة (مايكلسون ومورلي). وقد كانت تجربة قديمة نسبياً (1887). إلا أنها كانت تجربة هامة، وأنه لم يُعِرْها أحدٌ من قبل، الأهمية التي كانت تستحقها. وفيها حاول الرجلان (ألبرت مايكلسون A. Michelson) و (إدوارد مورلي E. Morley) تعيين السرعة التي تسبح بها الأرض في الأثير. وكانت المفاجأة أن تجربتهم تلك لم تنجح في الوصول إلى أي نتيجة محددة في ذلك. وكان التبرير الوحيد لفشل النظرية هو افتراض أن سلوكاً غريباً جداً يحدث للأشياء المادية في أطوالها ووتيرتها الزمنية إذا هي تحركت بسرعة، وبما يتناسب مع تلك السرعة. فالأطوال تنكمش، بما تم تسميته (انكماش فيتزجيرالد-لورنس Lorentz-FitzGerald Contraction)، والوتيرة الزمنية لما يرافقها من آلات زمنية دقاقة (ساعات) تُبطئ (بما تم تسميته انكماش الزمن Time-Dilation).
وكانت هذه الأمور شديدة الصعوبة على أفهام العوام من الناس، ومع ذلك، فقد كتب إدنجتون – وأناس آخرون – العديد من المقالات عنها، وبأفضل ما عندهم من براعة في الكتابة والتبسيط. ولم يكن طلاب كليات الهندسة أفضل حالاً من ذلك كثيراً. وقد قيل لنا أن العلاقات المطلقة التي كنا نستخدمها في الدراسات الهندسية يجب أن تتعدل، ولكن لم يكن هناك من طريقة محددة حاسمة لإجراء هذه التعديلات. بمعنى أننا لم نُعطَ معادلات واضحة قابلة للتطبيق.
وكان إدنجتون فلكياً، وكان محور اهتمامه الأول هو النظرية النسبية العامة، وخاصة، تبعاتها الفلكية. وكانت النظرية قد تنبأت بـ تَرَنُّح مدار كوكب عطارد (في دورانه حول الشمس). وكان في الإمكان انجاز هذا التنبؤ الحسابي ومقارنته بالأرصاد، وكان التوافق بين الحسابات والرصد أول نجاح كبير لنظرية أينشتاين (النسبية العامة).
  ثم جاء التنبؤ الثاني، والذي فيه أكدت النظرية على ضرورة حيود أشعة الضوء الآتية من النجوم البعيدة عند مرورها قريبة من الشمس. وثار سؤال اختبار هذا الحيود، ولم يكن إلا من وجوب رصده فقط في حالة كسوف كلي للشمس. وكان إدنجتون على علم بهذه التنبؤآت منذ العام 1916، وقد سعى من وقتها لتقدير فرصة قريبة لوقوع كسوف كلي ومواتي للشمس. فوجد أنه سيقع في مايو سنة 1919 كسوفاً مواتياً تماماً، والسبب أن زمن الكسوف سيكون طويلاً بما يكفي (للتصوير الفوتوغرافي)، وأن الشمس ستكون فيه في موقع غني بالنجوم في خلفيتهان ومن ثّمَّ وجود إمكانية أفضل لرصد عدد أكبر من النجوم. وعلى الفور، سعى إدنجتون إلى ترتيب رحلة استكشافية لإجراء هذا الرصد. وبالطبع كان يعلم تماماً أنه ليس هناك من فرصة لإجراء هذا الرصد في ظروف الحرب، لو أنها استمرت حتى ذلك التاريخ، إلا أنه كان على أمل أن تكون الحرب قد انتهت بحلول ذلك التاريخ. وقد انتهت الحرب بالفعل في نوفمبر 1918، وكان الظرف مناسب، وتم إرسال رحلات رصد الكسوف الشمسي. وبعد عودتهم، واستحضارهم ألواح التصوير الفوتوغرافي، وإجراء القياسات عليها، كانت النتائج على اتفاق مع نظرية أينشتاين. وعندها ثار الناس وجُنُّوا بالفعل. وثبتت النظرية الجديدة، واستثار الناس كلهم بها وازدادت حماستهم لها.
وهنا أذكر مثالاً واحداً فقط يبين درجة الحماس التي سادت وقتها. ففي قصة بوليسية بعنوان "جريمة مقتل الأسقف" The Bishop Murder Case، حيث كان مفتاح حل القضية مكتوباً على قصاصة ورق، وعليها كان مكتوباً بعض من معادلات أينشتاين. بمعنى أن النظرية النسبية تم نسجها في حبكة القصة، وكانت النتيجة أن حققت القصة مبيعات كبيرة. وأضحى كل الشباب يقرؤونها. وهو ما يكشف عن حجم الإثارة الهائل بالنظرية النسبية في كل المجالات الفكرية. ولم يحدث أبداً في تاريخ العلم، لا قبل ولا بعد، أن تعلق الناس بفكرة علمية تعلقاً مثل هذا، وإلى الدرجة التي ينتج عنها إثارة وحماس منقطع النظير كالذي رأيناه.
ومع ذلك، ورغم كل الذي كُتب عن النسبية، لم نحظ بمعلومات عن النظرية النسبية إلا أقل القليل. وقد أعطى مثلاً الأستاذ (برود Broad) – في جامعة بريستول – سلسلة من المحاضرات عن النسبية، وقد حضرتها، إلا أنها كانت ذات طابع فلسفي في الغالب. وقد أعطى مع ذلك بعض المعلومات عن هندسة النسبية الخاصة، وخاصة "فضاء منكوفسكي"، وقد بدأت بالفعل الحصول على بعض المعلومات المحددة من محاضراته تلك.
والحقيقة أنه لم يكن أمامنا من فرصة لفهم النظرية على وجهها الصحيح حتى العام 1923، عندما نشر إدنجتون كتابه "النظرية النسبية في قالبها الرياضي" The Mathematical Theory of Relativity  (هنا نسخة من هذا الكتاب)، والذي احتوى على كل المعلومات المطلوبة لفهم صحيح لأسس النظرية. وقد تخلل المعلوماتَ الرياضية في الكتاب الكثيرُ من التفلسف، حيث كان لإدنجتون رؤآه الفلسفية الخاصة، والتي أظن أنها تختلف بدرجة ما مع رؤى أينشتاين، وإن كانت قد تطورت إنطلاقاً منها.
وهكذا كان الأمر، وأصبح في إمكان الناس الذين لهم إلمام بالتفاضل والتكامل، مثل طلبة الكليات الهندسية، أن يراجعوا مثل هذا العمل، ويدرسوه بالتفصيل. وكانت المهمة عسيرة بالفعل، وكانت الرياضيات أعلى مستوى من تلك التي تعودنا عليها في دراساتنا الهندسية، إلا أنه كان بإمكاننا أن نملك زمام النظرية. وكان هذا هو الطريق الذي تَعَرَّفت أنا منه على النظرية النسبية معرفةً دقيقة.
ولم يعطِ كتاب إدنجتون أي معلومات يكشف بها عن معاناة أينشتاين نفسه في المخاض المفاهيمي، الذي أدَّى به إلى نظريته، وأعطانا فقط النتائج الكلية في صورتها النهائية. ولقد كنت شديد الاهتمام بالمحاضرات التي كان يُلقيها المؤرخون في الندوات المختلفة عن أينشتاين، والتي مكنتني من فهم أفضل لكل من معاناة أينشتاين في كفاحه للوصول إلى النظرية، ثم تقييم مدى الحاجة لأصول الجماليات الرياضية. وقد بدى لي أن أينشتاين كان يستشعر أن الجمال في الأصول الرياضية أكثر أهمية عنده، بصورة تأصيلية ما، من اهتمامه بالتوافق بين التنظير والنتائج التجريبية.
وقد برز هذا بوضوح شديد في الأعمال المبكرة حول نظرية الإلكترون. حيث أن (هندريك لورنس Hendrik Lorentz)كان قد أعد نظرية عن حركة الإكترونات، وكانت هذه النظرية متفقة مع مبدئي أينشتاين (في النسبية الخاصة)، وأيضاً مع تجارب أجراها (وُالتر كاوفمان Walter Kaufmann) التي أراد بها اختبار نظرية لورنس. فما كان من نتائج الملاحظات التجريبية لكاوفمان إلا أنها لم تتفق مع أي من النظريتين، وبدلاً من ذلك، فإنها أيدت نظرية أقدم عن الإلكترون، كان قد أعدها (ماكس أبراهام Max Abraham). وأدت هذه النتيجة بـ (لورنس) إلى أن أقصى نفسه جملة واحدة، وأخذ يندب حظه، وما بذله فيها من جهد ذهب أدراج الرياح، وفي المقابل، لم يظهر من أينشتاين رد فعل مشابه، ولا حتى قريب منه. ولا أعلم حتى ما الذي قاله وقتها، ولنترك الأمر للمؤرخين لِيُقَرّروا ما الذي حدث. وأتصور أنه قال: "حسناً؛ لدي هذه النظرية الجميلة، ولن أتنازل عنها مهما كانت نتائج التجارب، ولننتظر ونرى كيف ستصير الأمور."!
وكان أينشتاين على صواب، فبعد ثلاث سنوات من هذه التجارب، أُعيد أجراء التجارب من قِبل شخص آخر، وأيدت التجارب الجديدة رؤية (أينشتاين-لورنس) للإلكترون. ثم بعد ذلك بسنوات عُثر على خطأ بالأجهزة التجريبية التي كان (كاوفمان) قد استخدمها. لذلك، يبدو لي أن الشخص منا سيكون على صواب إذا أَوْلى أهمية أكبر إلى جمال النظرية، وألا يقلق نفسه كثيراً بالتجربة والرصد، والذي يمكن جداً أن يكون مصحوباً بقياسات فاسدة.
ولنعد الآن إلى النظرية النسبية العامة، حيث أيدت أرصاد كسوف الشمس الكلي في رحلة أدنجتون النظرية. وكان الاتفاق واضحاً من البداية. وأصبح لدينا منذئذ أساس مُرضي لتطوير النظرية. وكنت في ذلك الوقت طالباً باحثاً (دراسات عليا)، وكنت مستمتعاً جداً بمجال العمل الجديد الذي افتتحته النظرية النسبية. وجرى نمط العمل في ذلك بأن يأخذ الباحث أحد النتائج المنتهية بلغة الفيزياء القديمة قبل حلول النظرية النسبية، ويقوم بإعادة صياغتها كما تتطلب النسبية الخاصة، فيصل إلى فهم أفضل لها، وربما يدعم حله بمزيد من المادة العلمية، ثم ينشرها كبحث جديد.
وحدث في ذلك الوقت، وأظنه العام 1924، أن زار (كومتون A. H. Compton) كمبريدج وألقى محاضرة في معمل (كافندش Cavendish) عن تجاربه عما أصبح يُعرف بـ (تأثير كومتون Compton Effect) ، واستدعت هذه التجارب كل من فرضية الكم الضوئي، وبعض العلاقات الأساسية في النظرية النسبية الخاصة. وما زلت أستحضر بجلاء ما حدث من نقاشات في تلك المناسبة، وقد رأيت أن نتائج كومتون التجريبية التي عرضها، كانت مقنعة للغاية، وأظن أن معظم الحاضرين قد اقتنعوا أيضاً بها، رغم أن قلة قليلة من الحاضرين ظلوا متمسكين بمواقفهم المعارضة لفرضية الكم الضوئي.
ثم تغير الحال تماماً في العام التالي، أي 1925، عندما أدخل (فيرنر هايزنبرج V. Heisenberg) نظريته الجديدة في "ميكانيكا الكم". وفي هذه النظرية تم سريعاً تمييز فكرتها الأساسية؛ والتي تقوم على أن المتغيرات الديناميكية لا تخضع للتبديل في علمليات الضرب. بمعنى أن القيمتين (أ ب) و (ب أ) لا تتساويان. وهي فكرة ثورية، ومع ذلك، أثبتت أن لها نجاحات باهرة.
والآن، وبالرغم من تلك النجاحات، كان أينشتاين دائماً معادياً لميكانيكا الكم. كيف يمكن لنا أن نفهم هذا العداء؟! – أظن أنه من اليسير علينا أن نفهم ذلك، لأن أينشتاين كان يسير عبر عدد من المسارات المختلفة، المسارات الهندسية البحتة. فقد كان يُطور نظريات هندسية، وكان يحقق نجاحات هائلة. وكان من الطبيعي أن يتصور انحسار النجاح في جوابات مسائل الفيزياء فقط عبر الأفكار الهندسية. وإذا نظرنا إلى العلاقات (أxب) و (بxأ) وأنهما غير متساويان، فلا بد وأن يُزعج ذلك أينشتاين لتعارض ذلك مع الأفكار الهندسية التي تستدعي تساويهما؛ ومن هنا كان عداء أينشتاين لميكانيكا الكم.
قابلت أينشتاين لأول مرة سنة 1927 في مؤتمر (سولفاي Solvay)[أنظر الصورة أعلى]. وهناك تفجر النقاش الكبير بين (نيلز بور N. Bohr) وأينشتاين، والذي تركز حول تأويل ميكانيكا الكم. هذا وقد تحصن بور بعدد غير قليل من الفيزيائيين الآخرين، وأصر على أننا يكفينا استخدام التأويل الإحصائي الاحتمالي، فنحصل على درجات الاحتمال من النظرية ثم نقارنها مع النتائج التجريبية. وأصر أينشتاين على أن الطبيعة لا تجري على هذا المنوال، وأنه لا بد من وجود حتمية طبيعية تجري رحاها في الخلفية. فمَنْ منهما كان على صواب؟
 وفي وقت الراهن هذا (يقصد: 1979) يجب أن نقول أن علينا أن نقبل تأويل (نيلز بور) لما أصبح يعرف بميكانيكا الكم التي جاء بها هايزنبرج. وعلى أي طالب يجتهد للمرور من الاختبارات أن يتبنى هذا التأويل في اختباراته إذا أراد أن ينجح فيها. وبمجرد أن يجتاز تلك الاختبارات، يمكنه أن يفكر في الأمر بحرية أكثر، وعندها فقط، يمكنه أن يستشعر وطأة حجج أينشتاين.
ولم يحدث أني شاركت في النقاشات التي دارت بين أينشتاين و(نيلز بور) في مؤتمر سولفاي. وكل ما فعلته أني استمعت لحجج كل منهما، ولم أشارك أحداً رأيه، وخاصة أني كنت غير مهتما. وانصبَّ اهتمامي الحقيقي على الحصول على المعادلات الصحيحة. وقد بدى لي أن أساس عمل الفيزيائي الرياضي هو الحصول على المعادلات الصحيحة، أما تأويل تلك المعادلات فمن الدرجة الثانية في الأهمية.
ومنذ الوهلة الأولى لبدايات ميكانيكا الكم، كنت معنياً بالدرجة الأولى بمسألة توفيقها مع النظرية النسبية. وظهر لي أن الأمر شديد الصعوبة. أللهم إلا في حالة واحدة، وهي أن تنحصر المسألة مع جسيم واحد فقط، حيث أمكن إنجاز بعض النجاح (سيتكلم الآن عن المعادلة التي حملت اسمه: "معادلة ديراك Dirac Equation"). ويمكننا بالفعل الحصول على المعادلات التي تصف هذا الجسيم الواحد بما يتطابق مع ميكانيكا الكم، وبما يتفق مع مبدأ النسبية الخاصة. والذي ظهر لي أن هذه النظرية تُنتج تفسيراً للحركة المغزلية Spin للإلكترون. كما يمكن أن تُطوَّر النظرية أكثر وينتج عنها فكرة المادة المضادة anti-matter. نعم، بالفعل تنبثق فكرة المادة المضادة من النظرية النسبية لأينشتاين إذا جُمعت مع ميكانيكا الكم لهايزنبرج، وما من مهرب من الخلوص إلى هذه النتيجة. وكل ما نحتاج إليه في ذلك؛ ليس إلا استدلالاً واحداً مباشراً؛ يقودنا من النسبية الخاصة وإلى المادة المضادة.
كان هذا يبعث بالفعل على الرِّضى التام، ولكن بشرط أن نتعامل فقط مع جسيم واحد فقط. ولكن، كان علينا أن ننتقل إلى اثنين من الجسيمات - أو أكثر - يتفاعلان سوياً. وهنا وجدنا سريعاً أننا نواجه مصاعب جَمّة. بمعنى أننا لما قمنا بتطبيق ما نعرفه من القواعد المعيارية المعروفة وقتها، وجدنا أنها لم تفلح في علاج المسألة. وسمحت النظرية فقط بتنصيب معادلات محددة، وعندما حاولنا تأويل هذه المعادلات، وجدنا أن كميات بعينها في تلك المعادلات تصل في قِيَمِها إلا المالانهاية، رغم أن الحدس العقلي يستلزم أن تكون القيم نهائية. وكانت هذه هي الصعوبة البالغة في النظرية، وهي صعوبة ما زالت لم تُحل حلاً تاماً حتى الآن (1979).
وقد نجح فيزيائيون بارعون للغاية في الوصول إلى وسائل إلى لفت الانتباه إلى كميات، فضَّلوا غض الطرف عنها في المعادلة. وربما أنهم بذلك حصلوا على نتائج مفيدة (يتكلم عن سِفنجر وفاينمان وتوموناجا ودايسون Schwinger, Tomonaga, Feynman, and Dyson، وقد حصل الثلاثة الأول على جائزة نوبل سنة 1965 عن عملها الذي يشير إليه، والذي يُسمّى "إعادة ضبط القيم"renormalization ، واستقل بعملهم هذا – وتفاصيل أخرى - عِلماً متفرداً حمل اسم "الكهروديناميكا الكمومية"، ويمكن الوقوف على تفاصيل عملهم في كتاب: "الكهروديناميكا الكمومية والرجال الذين صنعوها" QED and the Men Who Made It، ويستكمل ديراك ..)، ولكن هذا الإجراء منهم كان بالطبع بعيداً جداً عن الطريقة التي كان أينشتاين يفكر أن الطبيعة تجري على منوالها.
من الواضح أن ميكانيكا الكم بوضعها الحالي ليست في قالبها النهائي. فما زال هناك بعض التعديلات المطلوبة، وهي تعديلات قد تكون جذرية كتلك التي نقلتنا من نظرية المدارات لـ (نيلز بور)، ووصولاً إلى ميكانيكا الكم. وسوف تُكتشف في يوم من الأيام ميكانيكا جديدة للكم، ونسبوية (أي تلتزم بمعادلات النسبية) في آنٍ واحد، وعندها لن نواجه هذه اللانهايات. وربما تحتوي ميكانيكا الكم الجديدة هذه أيضاً على الحتمية التي أرادها أينشتاين. وسوف تدخل هذه الحتمية على حساب التخلص من بعض الأفكار المسبقة التي يتبناها الفيزيائيون المعاصرون. وفي هذا الإطار، وتحت هذه الشروط، أظن أنه من المحتمل بشدة أن نصل في المدى البعيد إلى استصواب رأي أينشتاين، بالرغم من أن الفيزيائيين المعاصرين عليهم أن يقبلوا برأي (نيلز بور) في تأويلاته الاحتمالية، وخاصة إذا كانوا مقبلين على اختبارات يحرصون على اجتيازها.
(ثم ينتقل ديراك للحديث عن النظرية النسبية العامة والجاذبية بشكل خالص) .... ]

مقاطع فيديو من مؤتمر سولفاي سنة 1927، والذي حضر فيه جمع الفيزيائيين بالصورة التي على صدر الصفحة
___ 
المحاضرة الثانية[2]: 
قال ديراك (فيما يخص النظرية النسبية الخاصة) في ندوة عُقدت بمناسبة مرور مائة عام على مولد أينشتاين:
[ إنه لمن بالغ سعادتي أن أدعى إلى مدينة (كاربونديل Carbondale) ولأغتنم هذه الفرصة للتعبير عما يستحقه أينشتاين من ثناء. والحق يُقال: أن تأثير أينشتاين على الفيزياء الحديثة بِرُمتها تأثيرٌ هائل، وربما أن تأثيره لم ينل حتى الآن ما يستحقه من تقدير؛ لذا نويت اليوم أن أحاول إعطائكم فهماً أفضل لهذا التأثير.
إن النظرية النسبية لم تُعرض على العالم إلا في سنة 1918، ومباشرةً بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. والحاصل، أن النظرية النسبية الخاصة في ذلك الوقت كانت نظرية قديمة، حيث أنها قد أكتشفت عام 1905، إلا أنها كانت مجهولة لحدٍّ كبير، ولم يكن يعلم بها إلا قلة قليلة من المتخصصين في الجامعات. كما أنه لم يكن هناك من سبب ليُعرف به أينشتاين باستقلال عن تلك النظرية. ثم حدث مع نهاية الحرب العالمية الأولى، أن انفجرت أخبار النظرية النسبية فجأة على العالم، وبوطأة هائلة.
ويرجع السبب في ذلك إلى توقيت التأثير النفسي للناس، المنعتق من حرب فظيعة، وقد وضعت للتو أوزارها، ولأنه ما من فرد إلا وقد نالت الحرب منه، أياً كان تأييده للأطراف المتحاربة، ولِسَعْي الناس إلى شيءٍ جديد يُخرجهم مما كانوا فيه، شيئاً يجعلهم ينسون كل ما تعلق بالحرب، وليبدأوا بداية جديدة، وبخط فكري جديد منفك عن الماضي الفكري الذي كانوا يسعون لنسيانه. ... فما كان من النظرية النسبية إلا أنها وفَّرت هذا الشيء الذي كانوا يتوقون إليه.
وكنت في ذلك الوقت طالباً أدرس الهندسة في جامعة (بريستول) في إنجلترا، ولم أكن إلا واحداً من الطلبة الذين يتأهلون للتخرجُّ. وما كان من تلك العاصفة المدوّية عن النظرية النسبية إلا أن أخذتنا نحن الطلبة في طريقها. ولم يكن من أحد إلا ويتكلم عن النظرية النسبية. والحقيقة أنه لم يكن للناس عنها أي معلومات واضحة يبنون عليه كلامهم. وكان الطلبة والأساتذة يتناقشون حولها فقط من منطق القيل والقال. وكانت الجرائد تُوالي عنها المقالات، والمجلات ملأى بأخبارها ولا تكف الحديث عنها. وكان أصحاب تلك المقالات لا يفهمون عنها أيضًا إلا أقل القليل، وما دفعهم إلى الكتابة إلا أنه ليسوا بأقل قدرة على منافسة الآراء الساعية لشرحها للناس.
وباعتبار أننا طلبة هندسة، كانت دراستنا طوال الوقت قائمة على ميكانيكا نيوتن. فقد كان نيوتن هو إلاهُنا، وكان كل شيء في الدراسات الهندسية يقوم على أعمال نيوتن. ثم جاء من يقول لنا – وبشكل غامض - أن نيوتن كان مُخطئاً، وأن علينا أن نُعيد ضبط أنفسنا على أفكار جديدة.
ولكن، لماذا كان ينبغي علينا أن نُصدِّق هذه النظرية الجديدة؟ - اشتهر للإجابة على هذا السؤال سببان. السبب الأول، هو أن هذه النظرية قد تأيدت بالأدلة التجريبية. وكان السبب الثاني – والذي تزعَّمه الفلاسفة – أن الفلسفة استدعت هذه النظرية. بمعنى أنهم دافعوا عن أن الحجج الفلسفية العامة قد قالت بضرورة إحلال الفكر النسبوي محل الفكر المطلق الذي يجب التخلص منه. وما أود فعله (في كلمتي أمامكم)، هو أن أناقش هذه الأفكار بتفصيل أكثر، لأنه لم يكن أي من هذين القولين في الحقيقة سبباً حقيقياً وراء التصديق بما جاء به أينشتاين وتثمين أفكاره العظيمة بما تستحقه.
النسبية الخاصة:
عندما يفكر أحدنا في موضوع السُّرعات، فمن الواضح جداً أن سرعة أي جسم متحرك لن يكون لها معنى إلا بالنسبة إلى سرعة شيء آخر. لأننا نعني بوضوح أن الفرق بين سرعتين اثنتين فكرة جلية في أذهاننا. ولكن السؤال الآتي يفرض نفسه: هل هناك صفر مطلق (مرجع مطلق) تتحرك بالنسبة إليه كل الأجسام، ويعطينا ذلك سرعاتها المطلقة؟ - هذا السؤال لا تستطيع الفلسفة أن تجيب عنه. ويمكن فقط أن تجيب عنه التجربة، أي الملاحظة التجريبية. وفقط عن طريقها يجب أن نعلم إن كان حقاً هناك سرعة مطلقة، أم لا.  
هذا وقد أجريت التجارب بالفعل، بواسطة (مايكلسون) و (مورلي) لترى إن كان هناك حقاً هناك ما يمكننا أن نُسميه صفراً مطلقاً (أي: مرجعاً مُطلقاً) للسرعات. وكانت كل الرؤى النظرية في ذلك الوقت تنصب على الفكرة القائلة بوجود أثير مطلق، وأنه هو ما يجب أن يُعتمد كمرجع إحداثي. وبهذه الرؤية كان للمرء أن يتكلم عن سرعة محددة للضوء خلال هذا الأثير – ثم ثار سؤال: هل يمكننا تعيين سرعة هذا الأثير؟ - وبمزيد من التحديد؛ هل يمكننا تعيين السرعة التي تتحرك بها الأرض خلال هذا الأثير؟ - وكان هذا السؤال بالتمام هو ما سعى إلى الإجابة عنه مايكلسون ومورلي.
وقد أجريا بالفعل - أي: القائمين بالتجربة - عدداً من التجارب الدقيقة التي تتضمن إرسال واستقبال  الضوء، ورصدا تأثير التداخل بين أمواجه رصداً مرهفا. وكانت النتيجة أنهما لم يعثرا على أي سرعة يمكن أن تُعتبر سرعة مطلقة للأرض. ولم يستطيعا أن يُعيِّنا أي سرعة للأرض خلال الأثير. وقد أجريا التجربة في أوقات مختلفة من السنة، وذلك عندما تختلف سرعة الأرض بسبب دورانها حول الشمس، وكانت النتائج التي خرجوا بها دوماً سلبية. كيف يمكن لنا أن نفهم ذلك؟
كان هذا الوضع شديد الغموض للعلماء في ذلك الوقت. وقد درس هذه الأمر على الخصوص (لورنس) و(فيتزجيرالد) وافترضا أنه يجب طرح أفكارٍ جديدة عن كيفية سلوك الأجسام الصلبة. وتصورا أنه يجب أن تعاني الأجسام الصلبة من انكماشات ذات طبيعة غريبة يمكن ضبطها بحيث يختفي معها تلك التأثيرات التي كانت متوقع رصدها في تجاربهما، والتي كان يجب أن تظهر لو كانت الأرض تبحر في ذلك الأثير مع انعدام تلك الانكماشات. 
كان أفضل ما في أيدينا من نظريات فيزيائية في ذلك الوقت هو النظرية الكهرومغناطيسية، والقائمة على معادلات ماكسويل. وقد بذل (لورنس) جهداً شاقاً على هذه المعادلات وخرج باكتشاف غير عادي؛ وذلك أنه وجد أن هذه المعادلات لا تتغير صياغتها إذا وصفت التأثيرات الكهرومغناطيسية لأجسام تتحرك بسرعات متفاوتة، شريطة أن تتقيد تلك الأجسام بتقيدات شكلية ترتبط بسرعة حركتها. بمعنى أننا يمكننا تركيب مراجع قياس إحداثية (قصورية) في المكان والزمان، بحيث يجري كل مرجع منها بسرعة من تلك السرعات، وتظل معادلات الكهرومغناطيسية هي هي في أي مرجع من تلك المراجع الإحداثية (مع التقييدات الـمُشار إليها).
وباستخدام هذا الاكتشاف لـ (لورنس)، نصل مباشرةً إلى أن النتيجة التي خرجت بها تجارب (مايكلسون) و(مورلي) كان يجب أن تكون سلبية. فالذي حصل هو أن الأرض بحركتها المتغيرة السرعات، يجب أن تتنقل من مرجع إحداثي إلى مرجع آخر، (ولأن المعادلات لن تتأثر)، فلن ينعكس تغير سرعة الأرض في الأوقات المختلفة على أي ظاهرة يمكن رصدها. وما وجده (لورنس) كان هذه الإطارات المرجعية الإحداثية، وكيف يمكن التنقل أو التحويل بين هذه الإطارات، وهذا التنقل عبارة عن معادلات تحويلية بين الإطارات المختلفة التي لها سرعات منتظمة. وقد سُـمِّيت هذه المعادلات التحويلية بـ (تحويلات لورنس). والنتيجة الواضحة لذلك أنه باستخدام أي تجارب ترتبط بالظواهر الكهرومغناطيسية، لا يمكن لنا أن نستخرج منها سرعة الأثير بأي صورة ممكنة. وسوف تكون النتائج التي نحصل عليها دائماً أبداً هي هي (مهما كانت سرعة الأرض). وسبب ذلك أن الأرض تتنقل من إطار إحداثي لورنسي إلى آخر، (وحيث أنها جميعاً متكافئة في وصف أي ظاهرة كهرومغناطيسية، فما من فرق يمكن لنا أن نلاحظه مع هذه التنقلات مهما افترقت).
كانت هذه هي الأجواء العلمية قبل أن يظهر أينشتاين على مسرح الأحداث. ثم جاء أينشتاين، واقتحم قلب المسألة فجأة، وطرح طرحه الذي كان شديد الجرأة: .. قال أن كل هذه الإطارات الإحداثية اللورنسية تقع على نفس المستوى من الجودة، وأن علينا أن نتبنى تصوراً جديداً للمكان والزمان، وفي هذا التصور تُعالج كل هذه الإطارات معالجة متماثلة symmetrical. وإذا فعلنا ذلك، فلن نستطيع أن نجد أي سرعة لذلك الأثير، لأنه بكل بساطة شيئا لا وجود له. ومع هذا الطرح الجريء من أينشتاين كانت بداية النظرية النسبية.
وفي ذلك الوقت، لم يقبل لورنس طرح أينشتاين. وكان قد أنجز بالفعل الشق الرياضي الصعب من المسألة. نعم، اكتشف لورنس المعادلات التحويلية التي حملت بعد ذلك اسمه، إلا أنه لم يقبل بتلك الرؤية الجديدة التي تسوي بين كل الإطارات الإحداثية في الصلاحية. وكانت رؤية لورنس أن واحداً فقط من هذه الإطارات هو الإطار الفيزيائي الصحيح، وأن كل ما عداه من إطارات إحداثية ليست إلا إطارات رياضية تخيلية. وكانت هذه هي وجهة نظر لورنس التي تمسك بها، والتي كانت على اختلاف قاطع مع رؤية أينشتاين. وظل هذا الخلاف واستمر لعدة سنوات. هذا وقد عمل بوانكاريه أيضاً على نفس المسألة، وتمسك أيضاً برؤيته التي كانت تجاري رؤية لورنس.
 ثم تبين بالفعل أنه من المستحيل عملياً العثور على أي إطار من تلك الإطارات الإحداثية ليكون هو الإطار الصحيح. وفي ظروف كهذه، كان على المرء منا أن يكف بالطبع عن دعم فكرة أن هناك إطار إحداثي واحد صحيح، وأن عليه عندئذ أن يتجاوز ذلك ويتبنى الفكرة الأخرى التي تسوي بين كل الإطارات في صلاحية العمل، والتي لم تكن إلا فكرة أينشتاين.
ولكي يُقَدِّر القارئ قيمة ما تضمنه فرض أينشتاين، عليه أن يعلم أنه قد ذهب في الحقيقة بعيداً وتجاوز النتائج التي كان قد حققها لورنس. وما كان قد وصل إليه لورنس أنه إذا التزمنا بالقوى الكهرومغناطيسية، فمن المستحيل أن نجد مرجع ساكن ومطلق تقاس السرعات بالنسبة إليه. أما ما ذهب إليه أينشتاين، فكان أنه من المستحيل أن نجد مرجع ساكن مطلق السكون، أي أنه من المستحيل وجود ظواهر فيزيائية أخرى يظهر فيها السكون المطلق عن الحركة. وأن هذه الاستحالة الإطلاقية شيئٌ مكنون وعائد إلى طبيعة المكان والزمن، وأنه من ثم علينا أن نتبنى تصوراً جديداً للمكان والزمن.
وما حصل بعد ذلك أن استُحضر هذا التصور الجديد إلى الصدارة بفعل (منكوفسكي) عالم الرياضيات الهندسية الكبير في ذلك الوقت. وقد بنى له أساساً هندسياً متيناً، وفي هذا الأساس الهندسي علينا أن نصف الحوادث الفيزيائية في عالَم رُباعي الأبعاد، ولا يمكن أن نجد في هذا العالَم أي إطارات إحداثية لورنسية بحيث يكون أحدها أولى وأكثر أساسية من غيره. وقد سُمِّي هذا الفضاء الهندسي الرباعي: "فضاء منكوفسكي". ويمكن باختصار القول بأن فرضية أو طرح أينشتاين ، والذي سُمِّي لاحقاً بـ "النظرية النسبية" ليس إلا وضع الفيزياء كلها؛ بقضها وقضيضها، في "فضاء منكوفسكي"
[خارج المحاضرة: علّق أحد المعاصرين على هذا المعنى وقال: يريد ديراك هنا أن يلفت انتباهنا بكل وضوح إلى أن أينشتاين قد أخذ نموذج لورنس والذي كان مقيداً بوصف الإلكترونات فقط، وقام بتعميمه على كل الظواهر الطبيعية. وبهذا الفعل استطاع أينشتاين أن يتنبأ بمدى ممتد من التأثيرات الطبيعية التي لم تكن قد شوهدت، والتي لم تكن لتخطر على بال أحد حتى ليبحث عنها. ويُعد هذا الإنجاز من أينشتاين جرأة فكرية فريدة في تاريخ العلم.[5]. ... ولنتابع كلام ديراك ...]
الإشعاع المايكروويفي:
ولكن، وبمعنى من المعاني، كان لورنس على حق، وكان أينشتاين على خطأ. لأنه كل ما كان على أينشتاين أن يقوله أنه في ضوء إمكانيات الفيزياء المتاحة في ذلك الوقت، كان من المستحيل أن يظهر ذلك المرجع الصفري المطلق الذي يمكن أن تُقاس بالنسبة إله السرعات جميعا. ولكن أن يقول أينشتاين ما قاله من استحالة ذلك في المستقبل، كان استطراداً تجاوز الحد بعض الشيء. لأن ما حدث أن ذلك المرجع الصفري المطلق قد ظهر بالفعل مع مزيد من التطور التكنولوجي الذي هو متاح لنا في هذه الأيام [1979]. ونقصد بذلك إشعاع خلفية المايكروويف الطبيعية.
فإذا كان لدى المرء منّا تلسكوبات مناسبة، قادرة على رصد أشعة المايكروويف، والتي لها أطوال موجية في حدود بضعة سنتيمترات، ثم وجهها إلى السماء في اتجاهات مختلفة، فسوف يرصد بها إشعاعاً ضعيفاً هاطلاً علينا (من جميع الجهات). وهذه الإشعاع - والذي يُسمَّى [إشعاع المايكروويف الطبيعي]- ليس آتياً من الشمس، ولا من المجرة التي ننتمي إليها، بل يأتينا من من كل حَدَبٍ وصوب في السماء. ولا بد أن يكون له مغزى كوني ما. وقد فُسّر بأنه بقايا الإشعاع الذي كان موجوداً في زمن قريب من، ولاحق، للزمن الذي تخلّق فيه الكون. فقد كان هناك الكثير من الإشعاع الحار، والذي بَرَدَ مع الوقت وترك وراءه بعضاً من الأشعة الباردة - وهذه هي التي نرصدها الآن بالتلسكوبات المجهزة لرصدها، وهذا هو الخلفية الإشعاعية المايكروفية.
وتنزل هذه الأشعة بالتساوق من جميع الجهات لراصد معين. فإذا رصدها راصد آخر يتحرك بالنسبة للراصد الأول، فسوف يجد أنها تأتيه بقوة أكبر من الجهة التي يتقدم هو إليها بسرعته، وتأتيه بقوة أقل من وراء ظهره. لذلك، سوف تكون هذه الأشعة منتظمة فقط بالنسبة لراصد واحد فقط. وبناءاً عليه، سوف يكون هناك راصد واحد بعينه مُفضَّل ومتميز تنزل عليه أشعة الخلفية المايكروويفية بصورة متساوقة من جميع الجهات. ويمكننا القول عندئذ أن هذا الراصد هو الراصد الساكن المطلق بمعنى من المعاني، وقد يكون هو الراصد الساكن بالنسبة لأثير ما. وهذه النتيجة تتعارض تماماً مع رؤية أينشتاين التي أتى بها في النسبية الخاصة.
ومن الممكن أن نرصد سرعة الأرض بالنسبة إلى هذا الأثير الذي عرَّفناه بدلالة أشعة الخلفية المايكرويفية. ولما فعلنا ذلك وجدنا بالفعل أن الأرض، بل والمجموعة الشمسية جميعاً، تتحرك حركة سريعة جدا، بل بسرعة يمكن تعيينها. وأن السبب الوحيد الذي جعل مايكلسون ومورلي يحصلان على نتيجة سلبية، ويفشلان في قياس سرعة الأرض بالمعنى المطلق، هو أن التكنولوجيا التي استخدماها كان غير كافية. أما التقنية المعاصرة فيمكنها أن تقدم لنا أكثر كثيراً مما كان متاحاً في تلك الأيام، أي منذ حوالي مائة عام خلت (يقصد مائة عام قبل سنة 1979 يوم ألقى المحاضرة). أي أنه باستخدام التقنية المعاصرة، يوجد بالفعل إطار إحداثي ساكن مطلق، بحيث يمكن أن تُقاس بالنسبة إليه باقي السرعات.
ويمكن للقارئ أن يقول: أظهرت إذاً الأشعة الميكروويفية أن أينشتاين كان مُخطئاً، وأن هذه النتيجة - من ثمَّ - تدمر النظرية النسبية. غير أن الحاصل أنها لم تدمر أهمية عمل أينشتاين. لأن الأهمية في عمله كانت تقع في جانب آخر. ولا ينبغي أن تقول أن نظرية أينشتاين كانت ترتكز فقط على اتفاقها مع الملاحظات التجريبية. حيث كان هناك اتفاق بالفعل مع الملاحظة التجريبية شريطة عدم استخدام تقنية متطورة بما يكفي. ولكن بالمعنى المطلق لم يعد الاتفاق قائم مع الملاحظة التجريبية. أما الأهمية الحقيقية في عمل أينشتاين فهي أنه قدم تحويلات لورنس باعتبارها ركناً أساسياً من أركان الفيزياء. وأصبح لِزاماً أن تُصاغ الفيزياء جميعاً في فضاء منكوفسكي، وهو الفضاء الخاضع لتحويلات لورنس. هذا هو الشيء البالغ الأهمية في الأفكار الجديدة التي قدمها أينشتاين والذي ينبغي أن أُصرّح به. بل إن لهذه الأهمية من المكانة العالية ما يعصمها من أثر التكنولوجيا المتقدمة والتي قطعت الطريق على الأساس الذي بنى أينشتاين نظريته عليه.
وينبغي عليَّ الآن محاولة إعطائكم فكرة عن الأهمية الهائلة التي تَفرض علينا صياغة كل النظريات الفيزيائية في فضاء منكوفسكي، والذي يخضع في تعريفه لمعادلات تحويل لورنس. وأمامي عددٌ كبير من الأمثلة يمكنني استخدامه في ذلك، ويتعلق أحدها بالفيزيائي الفرنسي (دو برولي). فعندما درس فقط العلاقة بين الجسيمات والأمواج، وباستخدام معادلات تحويل لورنس، وجد أنه يمكن صياغة علاقة بين الصفات الجسيمية والموجية بحيث تظل قائمة (أي: غير متغايرة) تحت كل التحويلات الممكنة لمعادلات تحويل لورنس. وقاده ذلك إلى افتراض وجود أمواج مصاحبة دوماً للجسيمات. وأصبح هذا التصور مبدءاً أساسياً في الفيزياء الذرية، حيث التقطه شرودنجر وطوره (يقصد: ما اشتهر بـ "معادلة شرودنجر" والتي أصبحت أساس نظرية الكم الموجية). وثبت هذا المبدأ بما لا يدع مجالاً للشك، وأصبح أساساً قامت عليه كل النظرية الذرية الحديثة.
وقادنا المزيد من تطوير نظرية تحويلات لورنس (يقصد ما طوَّره ديراك نفسه شخصياً، وأصبح يُسمي بـ "معادلة ديراك" وأصبحت من ركبها هو سنة 1928 حجر الزاوية فيما أصبح يعرف بالكموميات النسبوية) إلى إظهار أنه إذا حاولنا بناء معادلة تصف حركة الإلكترونات بما يتفق مع تحولات لورنس جنباً إلى جنب مع القوانين الأساسية لميكانيكا الكم، فإننا نحصل على نظرية تفسر لنا الحركة المغزلية للإلكترونات. وإذا ذهبنا أبعد من ذلك، فسوف تقودنا الدراسات إلى كشف الغطاء عن وجود المادة المضادة (يقصد ما تنبأت به معادلته من وجود البوزيترون، وهو الجسيم المضاد للإلكترون). .. وكل هذه النتائج ليست إلا تداعيات تحويلات لورنس، وتنتج بسلاسة من فرض أينشتاين بأن تحويلات لورنس تهيمن على الفيزياء. وهذه الهيمنة التي حظيت بها هذه المعادلات التحويلية، شيءٌ بالغ الأهمية، لدرجة أنها أثَّرت على الفيزياء منذ أن ظهرت، وأدخلها لورنس مع بداية القرن العشرين.
وينبغي عليَّ أن أعيد عرض ما قلته، وإن كان بصورة مختلفة نوعاً ما، وأقول: أن تحويلات لورنس معادلات تحويلية جميلة من وجهة النظر الرياضية. وقد أدخل أينشتاين الفكرة القائلة بأن شيئاً ما إذا كان جميلاً رياضياً فأغلب الظن أنه سيكون ذو قيمة في وصف الفيزياء الأساسية. وهذه الفكرة في الحقيقة أكثر عمقاً وتجذراً من أي فكرة أسبق منها. وأظن أننا نُدين بها إلى أينشتاين أكثر من أن ندين بها لغيره. ومفاد هذه الفكرة أن علينا أن نحرص على جمال المعادلات الرياضية التي تصف نظريات الفيزيائية الأساسية.
هذا هو الموقف بكل تأكيد فيما يخص النظرية النسبية الخاصة. وإذا سُئِلت عن السبب الذي من أجله نؤمن نحن الفيزيائيين بالنظرية النسبية الخاصة، فسوف أجيب بأنها تولي تحويلات لورنس الأهمية التي تستحقها، وخاصة أنها التحويلات التي تفيض بالجمال الرياضي. وبالتأكيد، فإنه لا يوجد أساس فلسفي عام للنظرية النسبية، ولا يمكننا أن نقول أن التجارب هي التي تدعم إيماننا بها، وخاصة إذا سمحنا للتجارب المستندة إلى أعلى مستويات التقنية الحديثة. وما يمكننا من قول، فهو أن النسبية الخاصة تهيمن على النظرية الذرية الحديثة، أما الأمثلة التي يظهر فيها وجود مرجع إحداثي مطلق فإنها ترجع إلى مسائل كونية كوزمولوجية، وهي مسائل ينبغي أن تظل بعيدة عن اعتباراتنا في ثنايا تطويرنا للنظرية الذرية.
ثم يستكمل ديراك المحاضرة ويتكلم عن النسبية العامة ...]
___ 
ونضيف هنا عبارتين من الجزء الذي لم نترجمه في هذه المحاضرة الأخيرة، وقد تعلقتا بالنسبية الخاصة وجاءتا في ثنايا الحديث عن النسبية العامة، في سياق المقارنة بين النظريتين:
1 - عندما تكلم ديراك عن ممانعة النظرية "النسبية العامة" ودرجة استعصائها على السقوط، طرح سؤالاً عن إمكانية ظهور تعارض بين النسبية العامة وجديد الظواهر الكونية، وعن ماذا سيكون التصرف وقتها؟! . فأجاب بما ينفي ضرورة سقوط النظرية النسبية العامة بهذه الظواهر الجديدة، وإنما يكمن التصرف عندئذ في محاولة استيعاب ذلك الطارئ الجديد من الظواهر، ولو بتطوير النظرية، ثم عَرَّج على النظرية النسبية الخاصة وقال[3]:
[أشعر وكأن الموقف هنا (يقصد في حالة النظرية النسبية العامة) شبيه جداً بما حصل مع النظرية النسبية الخاصة. عندما ظهر وجود مرجع إحداثي مطلق بتطبيق التقنية الحديثة في رصد إشعاع الخلفية المايكرووفية. و(كما رأينا) فإن هذا لم يفسد نظرية أينشتاين، وكل ما كشف ذلك عنه، .. أنه بيَّن أنها غير وافية. .... ]
2 - أقر ديراك بأن رياضيات النسبية الخاصة كانت قد أعدت قبل حلول أينشتاين على المسألة، مثلما هو الحال بعدها في حالة رياضيات النسبية العامة. وذلك حين قال[4]:
[كان ريمان قد أنجز الأساس الرياضي الذي استخدمه أينشتاين في نظرية النسبية العامة، تماماً مثلما كان لورنتس قد أنجز الأساس الرياضي للنظرية النسبية الخاصة.]. 
ولهذه الإشارات من (بول ديراك) أهميتها البالغة، عندما نتناول كلامه بالتحليل لاحقاً.
بول ديراك (1979)، .. سنة إلقاء المحاضرات أعلاه، وقد تُوُفي سنة 1984.
   المؤلف      
عودة إلى فهرس الكتاب: فتاوى شرعية في النظرية النسبية 
 -عندما تكلم أينشتاين وقال: هكذا اخْتَرَعْت النظرية النسبية



[1]  محاضرة بعنوان "السنوات الأولى للنسبية" The Early Years of Relativity، مٌدرجة في كتاب:
- M. Noz, Young Suh Kim, (eds.), “Special Relativity and Quantum Theory: A Collection of Papers on the ... “,Kluwer Academic Publishers, (1988).
وهي طبعة معادة للمحاضرة من طبعة أسبق منها في كتاب:
- G. Holton, Y. Elkana, (eds.), “Albert Einstein: Historical and Cultural Perspectives: The Centennial Symposium in Jerusalem”, , Prinston University Press, (1982).

[2] Bruno Gruber, Richard S. Millman (eds.), “Symmetries in Science”, Springer US (1980), p:1-6.
وهي محاضرة ألقاها في ندوة الاحتفال المئوي بمولد ألبرت أينشتاين، بتاريخ 2/مارس/ 1979، بمدينة (كاربونديل Carondale, USA)  والتي عُقدت في الفترة (23 فبراير – 2 مارس) سنة 1979. ويمكن سماع المحاضرة على الرابط الآتي:
digitool.fcla.edu/dtl_publish/39/2181358.html
[3] Ibid, p.9.
[4] Ibid. p.10.
[5] "In Memoriam Einstein The Einstein Centennial Symposium at the Institute for Advanced Study March 14-18,1979" - Roy Lisker, p. 46.