الخميس، 22 يناير 2015

افتراءات (إرنست رينان) على الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي والرد عليها

افتراءات (إرنست رينان) على الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي والرد عليها

بقلم: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
افترى (جوزيف إرنست رينان (رينو))الذي شُيِّد له تمثال في لبنان عام 2007م - إفتراءات مخزية، سافرة، أفرغ فيها شحنة من الحقد الدفين، والضغينة المستحكمة، على الأسلام وعقلانيته، ولُطف آثاره، المشهودة على الناس، منذ نزول الوحي على النبي r، وذلك في محاضرة ألقاها في السربون في باريس سنة 1883م، وقد خصصنا لكشف زيفه وتخرصاته فيها، دراسة خاصة موسَّعة. وفي خِضَم ترنحاته العلمية الفاضحة في تلك المحاضرة، افترى أيضاً على المصلح الفذ، "الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي"، الذي بزغ نجمه في إحدى كالحات ليال المسلمين، التي عم بلاد العُرْب فيها ذهولٌ عن أمر الإله، جل في علاه، وغياب عن الحياة،  تحت حكم الترك البهيم، ولعدة مئات من السنين.
وهنا – في هذه المقالة - نذُود عن رفاعة بك الطهطاوي، ضد هذا الأفّاك الأثيم.
قال "رينان الحاقد": (في تأجيجه لحرب صليبية فكرية على المسلمين، والإسلام من ورائهم، قياساً على "بطرس الناسك" الذي أجج الحرب الصليبة العسكرية ضد المسلمين)
[إنّ ما يميّز المسلم في الواقع، وبشكل جوهري، هو كونه يحمل ضدّ العلم حقداً دفيناً وقناعة صلبة بأن البحث (العلمي) غير مجدٍ، بل هو عنده مدعاة إلى الخطأ، ويشبه أن يكون كُفرا. والمسلم ينأى بنفسه عن العلوم الطبيعية، لأنه يراها منافسة للعلم الإلهي، ويعادي العلوم التاريخية لأنّها تحتفظ بذكرى ضلالات الماضي. ولعلّ أفضل شاهد على ما نقول هو الشيخ رفاعة (الطهطاوي)؛ فقد أقام بباريس سنوات عديدة واعظا للبعثة المصرية، ثم عاد إلى مصر. وكتب رحلة تتضمن معاينات عن المجتمع الفرنسي شديدة الغرابة (شديدة العَجَبْ). كانت فكرته الرئيسية أن العلوم الأوروبية، القائمة على مبدأ ثبات قوانين الطبيعة، كلها ضلالة، ولا بدّ من الاعتراف بأنّ وجهة نظره تتناسب (تتفق) والرؤية الإسلامية][1].
نقول: إن أي قارئ مُنصف لهذه العبارة؛ وهو يعلم الإسلام والعرب الذين حملوا لواءه، ويعلم سيرة الشيخ الطهطاوي رحمه الله تعالى، ورحلته الموثقة، والمشهودة، إلى فرنسا، ضمن البعثة العلمية في الفترة 1826م-1831؛ ليس فقط واعظاً كما هو مشهور، بل وأيضاً متخصصاً بفن الترجمة بين الفرنسية والعربية، إلا ويقطع بأن قائلها إما جاهل عابث، أو مُدّعِ العلم أخرق، أو حاقد لم يُفِده عِلمه. وأياً كان من هؤلاء، فهو حامل بين جنبيه إرثاً صليبياً لم يبرأ منه فيسلم، أو يستر عِلَّته فلا يُعلم. وهذا ما ذهب إليه غوستاف لوبون، رفيقه في الوطنية الفرنسية، في تحليله لفعلته، وكشفه عن مخبوئه[2].
أما كتاب الطهطاوي الـمُشار إليه، والذي ضَمَّن فيه تفصيل رحلته ضمن البعثة المصرية إلى باريس، ووصفه ومعايناته للمجتمع الفرنسي، فهو الكتاب الغني عن التعريف، والمشهور بعنوانه الزاهي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". ولسوء حظ رينان، فالكتاب محفوظ ومشهود ومقروء، من عرب وعجم. ويشهد عليه بكذبه وافترائه، وافتضاح أمره، وسوء طويته.
وأيما قارئٍ للكتاب، باحثٍ فيه عن عثراته التي زعمها رينان، فلن يجد لها أثراً. وقد فعلنا ذلك؛ مدققين منقبين، ولم نجد ما يشتبه في صدقه مع ما قيل، ولو في أسوأ حالاته. ولم يكن ما وجدناه، مما قد يحمله سيء الظن الغشيم، محمل السوء اللئيم، إلا ما سنفسح له هنا المجال، من فقرات قصارٍ كانت أو طوال.
(1) قال الشيخ رفاعة الطهطاوي في مطلع كتابه[3]، مُعرّفاً القارئ بنفسه بأنه فلان ابن فلان، ثم نسبه ومذهبه، ثم ما منَّ الله سبحانه تعالى عليه بنعمة طلب العلم بالجامع الأزهر، والمحل الأنور، الذي هو جنة دانية الثمار، وروضة فهم يانعة الأزهار .. ثم ذهب يمدح الأزهر بإيجاز، بما هو أهله، ووحشته وحاله في اغترابه عنه، وقال:
ومن يغترب عن "أزهر" العلم فليَنُح    على بُعد دار العلم والعلماء
ففيـه بحــور طاميــــات، وغيــــــــــــره       بحـور عروض لا تجـود بمـاء]
فهل فهم رينان من هذا أن الشيخ رفاعة يزدري باريس وما أتاها الله من علم بالدنيا في الطبيعيات والعقليات وغيرها، مقارنة بما في الأزهر من علم وعلماء؟
لو فهم ذلك، فهو حتماً سقيمُ الفهم، أو حريصٌ على عثرات طامسات! لأن الشيخ رفاعة قد بيّن – في عين كتابه- بجلاء، ما بين "علم" الأزهر و"علمائه" في الاصطلاح، و"علم" الفرنسيس و"علمائهم" في أمر الخلق وسنن الله فيه، بما يتميز هذا عن هذا، وميز بين معنى العلم والعلماء في ديار الفرنسيين عنها في ديار الإسلام، وبما تنفك عنه أي مفاضلة أو مفاخرة. وجاء بيانه ذلك حين قال[4]:
[وأما علماؤهم فإنهم منزع آخر لتعلمهم تعلمًا تامًا عدة أمور، واعتنائهم زيادة على ذلك بفرع مخصوص، وكشفهم كثيرًا من الأشياء، وتجديدهم فوائد غير مسبوقين بها، فإن هذه عندهم هي أوصاف العالم، وليس عندهم كل مدرس عالماً، ولا كل مؤلف علامة، بل لا بد من كونه بتلك الأوصاف، ولا بد له من درجات معلومة، فلا يُطلق عليه ذلك الاسم إلا بعد استيفائها والارتقاء، ولا تتوهم أن علماء الفرنسيس هم القسوس (جمع قسيس)؛ لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضًا، وأما من يطلق عليه اسم العالم فهو من له معرفة في العلوم العقلية التي من جملتها علم الأحكام والسياسات. ومعرفة العلماء في فروع الديانة النصرانية هينة جدًا، فإذا قيل في فرنسا: هذا الإنسان عالم لا يفهم منه أنه عالم في دينه، بل إنه يعرف علمًا من العلوم الأخرى، ويظهر لك فضل هؤلاء النصارى في العلوم عمن عداهم، وبذلك تعرف خلو بلادنا، عن كثير منها، وأن الجامع الأزهر المعمور بمصر القاهرة، وجامع بني أمية بالشام، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بفأس، ومدارس بخارى ونحو ذلك كلها زاهرة بالعلوم النقلية، وبعض العقلية كعلوم العربية والمنطق، ونحوه من العلوم الآلية، والعلوم في مدينة باريس تتقدم كل يوم، فهي دائمًا في الزيادة فإنها لا تمضي سنة إلا ويكشفون شيئًا جديدًا، فإنهم قد يكشفون في السنة عدة فنون جديدة، أو صناعات جديدة، أو وسائط، أو تكميلات، وستعرف بعض هذا إن شاء لله تعالى.]
ولا يحتاج البيان إلى بيان، .. وعليه فلا إشكال ..
بل لو تابع رينان بعد بيتي الشعر – اللذين ربما أزعجاه- بأسطر، لوجد الشيخ رفاعة يقول مادحاً ما عند الفرنسيين[5]: [عن العلوم البرّانية (يقصد الأجنبية أو الغربية) والفنون والصنائع، فإن كمال ذلك ببلاد الإفرنج أمر ثابت شائع، والحق أحق أن يتبع، ولعمر الله إنني، مدة إقامتي بهذه البلاد، في حسرة على تمتعها بذلك وخلو ممالك الإسلام منه.]
فهل هذا خُلُق من يزدري العلم الطبيعي، وما يخرج من أكمامه من ثمرات يانعات؟! - هل هذا خُلُق من قال رينان في شأنه (:يحمل ضدّ العلم حقدا دفينا وقناعة صلبة بأن البحث (العلمي) غير مجدٍ، بل هو عنده مدعاة إلى الخطأ، ويشبه أن يكون كُفرا) ؟! – هل هذا خُلق من قال في شأنه (:ينأى بنفسه عن العلوم الطبيعية، لأنه يراها منافسة للعلم الإلهي) ؟! .. هل يتحسر أحد على شيء ويأمله لأهله وبلاده، ثم يعُده في نفس الوقت كفراً؟! ... ليس لنا أن نقول: أللهم اجعلنا مع الصدق والصادقين، ولا تجعلنا مع الكذب والكذابين.
(2) ويزيد الشيخ رفاعة الأمر وضوحاً، ويعطي كل ذي حقِّ حقه في شأن العلم – المعروف عنده- وقيمته، ويقول[6]:
[البلاد الإفرنجية قد بلغت أقصى مراتب البراعة في العلوم الرياضية، والطبيعة، وما وراء الطبيعة أصولها وفروعها، ولبعضهم نوع مشاركة في بعض العلوم العربية، وتوصلوا إلى فهم دقائقها وأسرارها، كما سنذكره، غير أنهم لم يهتدوا إلى الطريق المستقيم، ولم يسلُكوا سبيل النجاة، ولم يرشدوا إلى الدين الحق، ومنهج الصدق. كما أن البلاد الإسلامية قد برعت في العلوم الشرعية والعمل بها، وفي العلوم العقلية، وأهملت العلوم الحكمية بجملتها (يقصد في زمنه، من طبيعيات ورياضيات وفلسفيات)، فلذلك احتاجت إلى البلاد الغربية في كسب ما لا تعرفه، وجلب ما تجهل صنعه].
وقد يكون رينان قد استاء من قول الشيخ رفاعة [غير أنهم لم يهتدوا إلى الطريق المستقيم، ولم يسلُكوا سبيل النجاة، ولم يرشدوا إلى الدين الحق، ومنهج الصدق]. ظناً من نفسه - غروراً- أنه على حقٍّ في أمر الدين والدنيا جميعاً. وإن فعل، فليكن، وأولى به أن يراجع الحق من أطرافه، ويعرف بفضله فيما برع قومه فيه، وفضل غيره عليه فيما افتقر إليه. وليكن – إن ارتقى ليكون من مصاف العلماء الحقيقيين- مثل الشيخ رفاعة في الاعتراف بالوجهين، والتواضع على الحالين. وليقرأ له – ليتعلم منه - وهو يقول: [إن علماءها (أي: تلك البلاد) أعظم من غيرهم في العلوم الحكمية. .. قال بطليموس الثاني: "خذوا الدر من البحر، والسمك من الفأرة، والذهب من الحجر، والحكمة ممن قالها". وفي الحديث: "اطلب العلم ولو بالصين". ومن المعلوم أن أهل الصين وثنيون. وإن كان المقصود من الحديث السفر إلى طلب العلم، وبالجملة حيثما أمن الإنسان على دينه، فلا ضرر في السفر، خصوصًا لمصلحة مثل هذه المصلحة] ولكن هيهات أن يطلب رينان شيئاً من العرب، ولو فيها حياته، "إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ" ، فمن هو بجانب أصحاب الفضل وحقيق الديانات؟! .. وإن رأى أنه استغنى عما عند العرب من دينٍ حق، فقد تولى ما تولى. ولله الأمر من قبل ومن بعد. أما الطهطاوي فذم من يتكبر على مثل ذلك وقال[7]: [من جهل شيئًا فهو مفتقر لمن أتقن ذلك الشيء، وكلما تكبر الإنسان عن تعلمه شيئًا مات بحسرته، فالحمد لله الذي أنقذنا من ظلمات جهل هذه الأشياء الموجودة عند غيرنا، وأظن أن من له ذوق سليم، وطبع مستقيم يقول كما أقول]. بل إن الأمر لينقلب بالعاقل – مثل الطهطاوي- الذي يقول بذلك، من حسرة أن يأخذ الحكمة من خصومه، فتصبح فرحا بها، وافتخاراً بكسبها، فيقول: [لاحت تباشير بدور العلوم، وتلاشت عن المعارف غياهب الأحلاك والغيوم]. .. لماذا؟ .. لأنه من بني قوم؛ ذوي نفوسٍ رضية، وقلوبٍ ندية، وصراحةٍ وفيَّة.
*******
(3) وربما أن رينان قد قرأ أبيات شعر؛ سردها الطهطاوي لـ (بهاء الدين أبو حسين العاملي) يُحذر منها، فظن أنه يقول بها، أو يدعو إليها، وقد جاء فيها:
على كتب العلوم صرفت مالك ... وفي تصحيحها أتعبت بالك
وأنفقت البياض مع السواد ......... على ما ليس ينفع في المعاد
تظل من المساء إلى الصباح .......... تطالعها وقلبك غير صاح
وتصبح مولعاً من غير طائل .......... لتحرير المقاصد والدلائل
وتوضيح الخفا في كل باب .......... وتوجيه السؤال مع الجواب
لعمري قد أضلتك الهداية .............. ضلالاً ما له أبداً نهاية
وبالمحصول حاصلك الندامة ............ وحرمان إلى يوم القيمة
وتذكرة المواقف والمراصد ............ تسد عليك أبواب المقاصد
فلا تنجي النجاة من الضلالة ..... ولا يشفي الشفاء من الجهالة
وبالإرشاد لم يحصل رشاد .............. وبالتبيان ما بان السداد
وبالإيضاح أشكلت المدارك ......... وبالمصباح أظلمت المسالك
وبالتلويح ما لاح الدليل ............ وبالتوضيح ما اتضح السبيل
صرفت خلاصة العمر العزيز ........... على تنقيح أبحاث الوجيز
بهذا النحو صرف العمر جهل .... فقم واجهد فما في الوقت مهل
ودع عنك الشروح مع الحواشي ...... فهن على البصاير كالغواشي
.........
أيها القوم الذين في المدرسة ......... . كل ما حصلتموه وسوسة
 فكركم إن كان في غير الحبيب .. ما لكم في النشأة الأخرى نصيب
فاغسلوا بالراح عن لوح الفؤاد ....... كل علم ليس ينجي في المعاد
ولو أحسن رينان القراءة لوجد أن الطهطاوي يحذر مما فيها، ويقول: [ينبغي لأهل العلم حث جميع الناس على الاشتغال بالعلوم والفنون والصنائع النافعة، وليس هذا الزمان قابلاً لأن يقال فيه كما قال بهاء الدين أبو حسين (أعلى)، لأن هذا (أي شعره)  مقال من تجرد عن الدنيا، وانهمك على الآخرة، أو من اشترى العلوم بأغلى ثمن، فبخس صفقتها حادث الزمن][8]. مما يعني أن الطهطاوي أدرك فوراً خطورة سوء فهم مقاصد هذه الأبيات على الأغرار من طلاب العلم، فأراد تحذيرهم من ذلك، فهل وقع رينان فيما حذر منه الطهطاوي الأغرار؟! .. ربما! .. والغريب أن يتهم رينان الطهطاوي، بما حذر منه الطهطاوي، .. عجبي!
(4) وربما نكون قد أتينا بيت القصيد، أو ما ظنه رينان مراده، الذي به يحتج، وعليه يرمي سهامه، وذلك في قول الطهطاوي[9]: [الفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين، وأقول هنا إنهم ينكرون خوارق العادات، ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلاً، ... ومن عقائدهم القبيحة قولهم: إن عقول حكمائهم وطبائعييهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها.].
ولنقارن هذا القول مع مزاعم رينان، حين قال:
[ما يميّز المسلم جوهريا هو كونه يحمل ضدّ العلم حقدا دفينا وقناعة صلبة بأن البحث غير مجد بل هو مدعاة إلى الخطأ ويشبه أن يكون كفرا. والمسلم ينأى بنفسه عن العلوم الطبيعية لأنه يراها منافسة للعلم الإلهي]
ويبدو أن رينان يقصد عبارة الطهطاوي هذه بعينها. وإن كان الأمر كذلك، وهو الراجح، فحتماً أن الفرق بين مراد الطهطاوي من عبارته، وما قاله رينان، كان أخفى عليه من أن يفهمه. أو أنه فهمه وتصيَّده، ليخدع سامعيه من أعضاء الأكاديمية/(المجمع العلمي) الفرنسي؛ المنافحين عن قيمة العلوم العربية التي أحيت أوربا.
فالعلوم الطبيعية هي دراسة السنن الطبيعية والعلم بها، وتسخيرها. وهذه لا إشكال فيها، ومثلها مثل ما يحكم به القاضي من أن المرأة التي تحمل مولوداً لا بد حتماً وأن له أباً. فإن أنكرت وقالت أن الله على كل شيء قدير، تقصد أن ما تحمله ليس له أباً، تؤخذ بجريرتها، تبعاً للسنن الطبيعية. إلا أن تأتي بآية تدلل على انكسار السنن الطبيعية، فتبرهن بها على مشيئة إلهية حقيقية. لأن الذي خلق السنن، قادر على كسرها بسنن أخرى أعلى مقاماً لا نعلمها بالضرورة، وإلا كنا آلهة!. فإن وضعت الطفل ونطق لتوِّه بكلام الناس، وصدَّق على كلام أمه، هنا تكون خوارق العادات التي ذكرها الطهطاوي. وهنا يأتي ما يُنكره رينان، متذرعاً بأن هذا عند المسلمين منافسة بين العلم الطبيعي والعلم الإلهي. وما هو كذلك. إن هو إلا تلبيس من رينان ليضرب به خوارق العادات التي جاءت بها الأنبياء من جهة، والمسمين الذين يؤمنون بها من جهة أخرى، ضربة واحدة. وإن كان رينان كافراً بخوارق العادات على أيدي الأنبياء، وكافراً بأن العلم الإلهي أرحب من العلم الطبيعي، فهذا شأنه، وليلقى عليه جزاءه يوم العرض الأكبر، الذي هو أكبر من عرضه محاضرته أمام أصحابه الفرنسيين. أما أن يتهم المسلمين بأن إيمانهم بهذا الخوارق، كما جاءت بها رسالات الله إلى الناس، من العداء للعلم الطبيعي، وأن مثل هذا العلم عند المسلم خطأٌ وكفر ويوجب الحقد الدفين عليه، فهذا إفلاس حقيقي في الاتهام. ولا يَخِيل إلا على الغافلين الجهلة، أو ذوي القلوب المريضة.
وهذا هو مقصد الطهطاوي حين قال: [من عقائدهم القبيحة قولهم: إن عقول حكمائهم وطبائعييهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها] .. أي أن علماء فرنسا هم الذين يُقحمون الأنبياء في غير موضوع يخصهم، وينافسوهم، ويعظمون علماءهم عليهم. والطهطاوي في هذا معه كل الحق. ولكن رينان لا يتحمل أن يُخطأه الطهطاوي هو وقومه، وهم يظنون أنهم راية العلم الخفاق، ومن دونهم حثالة دهماء، فيجب أن يرد للطهطاوي وقومه الصاع صاعين. وهنا جاءت محاضرته الخبيثة، ولا يهم أن تحمل المحاضرة الحق أو لا تحمله، وأن تفتري على المسلمين أو لا تفتري، بل المهم عند رينان هو شرف فرنسا والفرنسيين.
اما التحسين والتقبيح العقليين اللذين ذكرهما الطهطاوي، عدما قال [الفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين] فيقصد بهما أن العقل إذا استقل بالحكم على الأشياء – وهو ما يسلك فيه الفرنسيين مسلكهم العلمي في الغالب- بلا مستند له من آية في كتاب موحى به من الله تعالى، أو حديثٍ صادق لنبي من أنبيائه، أو شاهد من الواقع الصريح البين، فشهادة العقل المجرد لا يُعتد بها، لما يخالط العقل من أوهام وأهواء. وهذا القول منه لا شيء فيه، بل هو الحق. وما صح من أعمال الفرنسيين العلمية كان مستنده من الواقع، وما لم يحقق هذا الشرط، كان مردوداً، ومثاله الذي يأتي في كلام الطهطاوي بالتبعية، إنكارهم لخوارق العادات ومن ثم، تكذيب أغلب علمائهم للأنبياء، لأن دليلهم على ذلك لم يكن إلا تقبيح عقولهم لخوارق العادات. ومن هنا كان (التحسين والتقبيح العقليين) منهج فاسد، ومن هنا كانت إدانة الطهطاوي لما جاء على منواله من أحكام الفرنسيين.
ومثل ذلك ما ذكره الطهطاوي حين قال[10]: [أغلب العلوم والفنون النظرية معروفة لهم غاية المعرفة، ولكن لهم بعض اعتقادات فلسفية، خارجة عن قانون العقل، بالنسبة لغيرهم من الأمم، غير أنهم يموهونها، ويقوونها، حتى يظهر للإنسان صدقها وصحتها، كما في علم الهيئة مثلاً، فإنهم محققون فيه، وأعلم ممن عداهم بسبب معرفتهم بأسرار الآلات المعروفة من قديم الزمان، والمخترعة له. ومن المعلوم أن المعرفة بأسرار الآلات أقوى معين على الصناعات. غير أن لهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية، ويقيمون على ذلك أدلة يعسر على الإنسان ردها، وسيأتي لنا كثير من بدعهم، وننبه عليها في محالها إن شاء لله تعالى.
وإنما نقول هنا: إن كتب الفلسفة بأسرها محشوة بكثير من هذه البدع، فسائر كتب الفلسفة يجري فيها الحكم الثالث، من الخلاف الذي ذكره صاحب متن السُّلم، في الاشتغال بعلم المنطق (يقصد: نظم السُّلم المرونق في المنطق، تأليف الشيخ عبد الرحمن الأخضري – والذي شرحه الشيخ أحمد الدمنهوري (ت: 1198هـ) في كتابه: إيضاح المبهم في معاني السلم. والخلاف الذي يقصده، يدور حول جواز الاشتغال بعلم المنطق، والحكم الثالث الذي يقصده هو ما قال فيه الشيخ الدمنهوري: [هو المشهور الصحيح، والتفصيل: إن كان المشتغل (بعلم المنطق) ذكيّ القريحة قويّ الفطنة ممارساً للكتاب والسنّة، جاز الاشتغال به، وإلاّ فلا] – وجاء هذا الحكم في نص "متن السُّلم" كالآتي:(والقولة المشهورة الصحيحة .. جوازه لكامل القريحة)[11]). فحينئذ يجب على من أراد الخوض في لغة الفرنساوية المشتملة على شيء من الفلسفة أن يتمكن من الكتاب والسنة، حتى لا يغتر بذلك، ولا يفتر عن اعتقاده، وإلا ضاع يقينه، وقد قلت جامعًا بين مدح هذه المدينة وذمها:
أيوجد مثل باريس ديـــــــــــــار             شموس العلم فيها لا تغيب
وليل الكفر ليس له صباح              أما هذا وحقكم عجيـــــــب!]
 فالأمر بيِّن إذاً. هناك الدليل، المستخرج من آلات القياس والرصد، وما يُبنى عليه من علم، وهذا ممدوح، ومندوب إليه بقوة. أما الحشوات الفلسفية التي تخالف العقائد الإيمانية الصريحة في الكتاب والسنة، فهذه مدعاة لأن يغتر بها الغافلون، فتفتر عقائدهم، وتأخذ بأيديهم إلى المهالك؛ لذا وجب أن يتأهلوا بالعلم بصحيح العقائد، وأصول الدين، والحديث، ثم تنقيح قريحتهم بالمنطق الصحيح. فإن كان هذا الكلام مما يجرح مسيو رينان، فهو وشأنه، لأن كتاب الطهطاوي لم يُكتب له، ولم يتهم الفرنسيس بغير ما فيهم، حكاية عما شاهده وقرأه لهم، واستناداً إلى عقائد المؤمنين الموجه إليهم الكتاب. فإن تأذي رينان بما يقرأ في كتبنا بما لا يرضاه، فلا يستدعي ذلك منه أن يدَّعي الكذب على المسلم منّا – متمثلاً بالشيخ الطهطاوي – بأنه [يحمل ضدّ العلم حقدا دفينا وقناعة صلبة بأن البحث (العلمي) غير مجدٍ بل هو مدعاة إلى الخطأ ويشبه أن يكون كفرا .. (وأن) فكرته الرئيسية أن العلوم الأوروبية القائمة على مبدأ ثبات قوانين الطبيعة هي كلها ضلالة، (وأن فكرته هذه) تتفق والرؤية الإسلامية.] وإلا جاء كلامه افتراءاً، وخبط عشواء، وناطقاً نطق بهماء.
ولسائل أن يسأل: كيف يُنكر رينان المعجزات، وخوارق العادات، وهو من النصارني الذين يؤمنون بذلك في أصل دينهم، وميلاد نبيهم عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؟
وهنا يجيبنا الطهطاوي نفسه، وفي كتابه أيضاً الذي تهكم عليه رينان، قال الطهطاوي[12]: [الفرنساوية على الإطلاق ليس لهم من دين النصرانية غير الاسم، فهم يدخلون في اسم الكتابيين، فلا يعتنون بما حرمه دينهم، أو أوجبه، أو نحو ذلك؛ ففي أيام الصيام في باريس لا ينقطع أكل اللحم في سائر البيوت إلا ما ندر، كبعض القسس، وبيت ملك الفرنسيس القديم، وأما باقي أهل المدينة فإنهم يستهزئون بذلك ولا يفعلونه أبدًا، ويقولون: إن سائر تعبدات الأديان التي لا نعرف حكمتها من البدع والأوهام. ولا تُعظَّم القسس في هذه البلاد إلا في الكنائس عند من يذهب إليهم، ولا يسأل عنهم أبدًا، فكأنهم (أي هؤلاء القُسس) ليسوا إلا أعداء للأنوار في مادة الأديان والمعارف،(وللقسيسين بدع لا تحصى. وأهل باريس يعرفون بطلانها، ويهزءون بها) [13]ويقال: إن غالب ممالك الإفرنج مثل "باريس" في مادة الأديان][14]. ومن هذا يُفهم أن مسار العلم في أوربا في القرن التاسع عشر – زمن رينان – كان قد انحرف عن مقولات الدين، وخاصة في المعجزات، وازدراه، وازدرى من سلك سبيله في حضرة العلم الجديد، من نصارى كانوا أو مسلمين. واتخذ رينان هذا المبدأ العلمي الأوربي الجديد، مُتكأ يهاجم به المسلمين، المتمسكين بوحي السماء، الذي لا يقوى بظنه ووهمه على مواجهة العلم الحديث.
(5) ثقافة الطهطاوي الفرنسة، وافتراء رينان عليها:
ومن الجدير بالذكر أن أحكام الطهطاوي على الثقافة الفرنسية ما بين مَشْهود له، ومُحَذَّر منه، لم تأت من سطحية معرفية، ومما قد يُفهم مما اشتهر به بأنه واعط البعثة ومرافق لها إماما، بل إنه اشترط قبل سفره أن يكون أحد أعضائها الدارسين[15] – بدرجة مبعوث[16] بصحبة الأفندية المبعوثين البالغ عددهم 34 طالبا، نصفهم من أصل مصري – لتعلمُّ العلوم والفنون بالمدينة البهيّة باريس، واختار لنفسه تخصص الترجمة بين اللغتين الفرنسية والعربية. وفي خمس سنوات تقريباً كانت حصيلة ترجماته – بخلاف الدراسة وما يلزمها من اختبارات - ما أخبر به وقال[17]: [ترجمت مدة إقامتي في فرنسا اثني عشر كتابًا وشذرة يأتي ذكرها في آخر هذا الكتاب، يعني اثني عشر مترجمًا بعضها كتب كاملة، وبعضها نبذات صغيرة الحجم].
وقد ذكر الطهطاوي[18] مما درسه في فرنسا أمثلة عديدة، منها: في الحساب، كتاب "بزوت"  Etienne Bezout: Traité d’arithmétique، وفي الهندسة المقالات الأربع الأول من كتاب لوجندره Legendre: Eléments de Géometrie، وفي الجغرافيا درس من عدة مصادر منها كتاب "ملتبرن" Malte-Brun. وفي المنطق درس من كتاب "لابورترويال" La Porte-Royale، وكتاب "كوندلياك" Condilliac. وفي التاريخ بدأ بكتاب " سير فلاسفة اليونان" ثم تاريخ قدماء المصريين والعراق القديم، والشام (السريان)، وقدماء العجم، والرومان، والهنود، ثم جاهلية اليونان وخرافاتهم "علم الميثولوجي"  Mythologie، وكتاب "لطائف التاريخ" Les Agrements de L’histoire، وكتاب " سير أخلاق الأمم وعوائدهم وآدابهم " Les Moeurs des Peuples Leurs habitudes et leur Savoir Vivre par Dipping، وكتاب "سبب عظم دولة قياصرة الروم وانقراضها" L’Histoir de la Cause de La grandeur et de La Décadence de L’Empire des Césars ، .Romains, Par montetesquieu، وكتاب "رحلة الخرسي الأصغر إلى بلاد اليونان" Voyage du trés Jeune Anacharsis en Grèce، وكتاب " سيغر " Ségur في التاريخ العام، وكتاب سيرة نابليون، وعلم التواريخ والأنساب، وكتاب "بانوراما العالم" Panorama du Monde. ثم تصنيفاً في رحلة إلى البلاد العثمانية، ورحلة إلى الجزائر.
ومن الكتب التي قرأها أيضاً: "مجموعة نويل" Noel، وقرأ في كتاب ديوان "فولتير" Votaire، وديوان "راسين" Racin، وديوان "روسو" Rousseau: Les Lettres Persanes، خصوصًا مراسلاته الفارسية التي يعرف بها الفرق بين آداب الإفرنج والعجم، وهي أشبه بميزان بين الآداب المغربية والمشرقية، وقرأ أيضًا مراسلات إنكليزية صنفها "الكومت شوستر فيدل" Le Comte Chesterfield، وكثيرًا من المقامات الفرنساوية. وبالجملة فقد اطلع في آداب الفرنساوية على كثير من مؤلفاتها الشهيرة.
وفي الحقوق، درس كتاب "برلماكي" وترجمه، ودرس كتاب "روح الشرائع" L’esprit des Lois الشهير لمونتسكو، ووصفه قائلاً: [هو أشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية، ومبني على التحسين والتقبيح العقليين، ويلقب عندهم بابن خلدون الإفرنجي، كما أن ابن خلدون يقال له عندهم أيضاً مونتسكو الشرق، أي مونتسكو الإسلام.]، وقرأ كتاب "عقد التأنس والاجتماع الإنساني" Le Contral Social، لروسو، ووصفه بأنه عظيم في معناه.
وفي الفلسفة وتاريخ الفلاسفة قرأ لفولتير مواضع عديدة في "معجم الفلسفة"، وفي كتاب "كوندلياك" Condiliac.
وقرأ في فن العسكرية من كتاب " عمليات ضابطان عظام "، وترجم منه مائة صفحة.
هذا بخلاف الجازيتات العلمية اليومية والشهرية، والجرائد السياسية اليومية التي منها أتقن اللغة الفرنسية وأولع بها، وخاصة ما كانت تنقله من الحرب العثمانية الروسية آنذاك.
كانت هذه نبذة عن ثقافة "رفاعة بك الطهطاوي" الفرنسية، التي قال فيها "إرنست رينان": [أقام الشيخ رفاعة بباريس عدة سنوات واعظا للبعثة المصرية ثم عاد إلى مصر وكتب رحلة تتضمن معاينات عن المجتمع الفرنسي شديدة الغرابة (شديدة العجب).] وقال: [يعادي العلوم التاريخية لأنّها تحتفظ بذكرى ضلالات الماضي].
نقول: ليس أخزى على المرء من أن يفضحه لسانه، وتكشف مخبوء قلبه الأيام.
ولنطلع الآن على شهادات عدد من العلماء المستشارين الفرنسيين فيما أنجزه الطهطاوي:
1- مكاتبات (البارون سلفستري دي ساسي Silvestre de Sacy)[19] وتعليقاته على كتاب (تلخيص الإبريز)، قال باللغة العربية[20]:
[إلى حبيبنا الشيخ رفاعة الطهطاوي، حفظه لله، وأبقاه. أما بعدك فإنه سيصلك مع هذا ما طلبته منا من الشهادة بأننا قرأنا الكتاب المشتمل على حوادث سفرك (تخليص الإبريز)، وكل ما أمعنت فيه النظر من أخلاق الفرنساوية وعوائدهم وسياساتهم وقواعد دينهم وعلومهم وآدابهم وجدناه مليحًا مفيدًا يروق الناظر فيه، ويعجب من وقف عليه]
وبصحبة هذا المكتوب، مكتوب آخر بالفرنسية – مرسل إلى مسيو جومار (المشرف الفرنسي على البعثة المصرية)- قال فيه (دو ساسي) ما ترجمته: [لما أراد مسيو رفاعة أن أطلع على كتاب سفره باللغة العربية قرأت هذا التاريخ (يقصد كتاب الإبريز) إلا اليسير منه، فحق لي أن أقول: إنه يظهر لي أن صناعة ترتيبه عظيمة، وأن منه يفهم إخوانه من أهل بلاده فهمًا صحيحًا عوائدنا وأمورنا الدينية والسياسية والعلمية، ولكنه يشتمل على بعض أوهام إسلامية ومن هذا الكتاب يعرف علم هيئة العالم وبه يستدل على أن المؤلف جيد النقد، سليم الفهم، غير أنه ربما حكم على سائر أهل فرنسا بما لا يحكم به إلا على أهل باريس والمدن الكبيرة، ولكن هذه نتيجة متولدة ضرورة من حالته التي هو عليها، حيث لم يطلع على غير باريس وبعض المدن.
وقد حرص (في) باب العلوم على ذكر المعلومات توطئة للتوصل إلى المجهولات خصوصًا في نبذته المتعلقة بعلم الحساب، وبهيئة الدنيا. وعبارة هذا الكتاب، في الغالب وضاحة غير متكلف فيها التنسيق، كما يليق بمسائل هذا الكتاب، وليست دائمًا صحيحة بالنسبة لقواعد العربية، ولعل سبب ذلك أنه استعجل في تسويده، وأنه سيصلحه عند تبيضه. وفي التكلم على علم الشعر ذكر استطرادًا بعض أشعار عربية أجنبية من موضوع هذا الكتاب، على ما يظهر لي، لكنه ربما أعجب ذلك إخوانه من أهل بلاده، وفي الكلام على تفضيل الصورة المدورة على غيرها من الأشكال، ذكر بعض أشياء قليلة الجدوى فينبغي له حذفها، وما ذكرت هذه الأشياء وبينتها هذا التبيين إلا للإعلام بأني دققت النظر في قراءاتي هذا الكتاب.
وبالجملة فقد بان لي أن مسيو رفاعة أحسن صرف زمنه مدة إقامته في فرنسا، وأنه اكتسب فيها معارف عظيمة، وتمكن منها كل التمكن؛ حتى تأهل لأن يكون نافعًا في بلاده، وقد شهدت له بذلك عن طيب نفس، وله عندي منزلة عظيمة، ومحبة جسيمة.
البارون سلفستر دو ساسي
(باريس في شهر فبريه سنة  1831) – (١٩ في شعبان سنة ١٢٤٦ )]
وإذا استثنيا العبارة التي تحتها خط (أي قوله: ولكنه يشتمل على بعض أوهام إسلامية) أدركنا أن كلام رينان كان كذباً وافتراءاً حين قال: [كتب (الشيخ رفاعة) رحلة تتضمن معاينات عن المجتمع الفرنسي شديدة الغرابة (العجب).]
وأما عبارة (ولكنه يشتمل على بعض أوهام إسلامية) فهي في الغالب عين ما أدار رينان افتراءه على الطهطاوي، أي، قوله:[ الفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين، وأقول هنا إنهم ينكرون خوارق العادات، ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلاً، ... ومن عقائدهم القبيحة قولهم: إن عقول حكمائهم وطبائعييهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها] وهذا القول لا بأس به أبداً لأنه محور التمييز بين الإيمان بالوحي الذي أنزله الله تعالى والكفر به. فلا غرابة أن تكون خوارق العادات. وربما كان مقصد صاحب عبارة (أوهام إسلامية) ما قرأه للطهطاوي في كتابه من ذكره "كتاب الله وسنة رسوله"[21] واعتبرها من الأوهام لأنه كافر بها. .. ولو كان يقصد من أوهام إسلامية رأي الطهطاوي وموقفه من العلوم، لما سكت عن دحض هذا الرأي، ولكنه لم ينسب الأوهام إلى الطهطاوي ومن ورائه الإسلام كما فعل رينان، بل نسبها للإسلام مباشرة، مما يدلل على ارتباطها المباشر عنده بالإسلام، سواء مرت عبر الطهطاوي أو لم تمر. وإن استشكل علينا أحد بأن (سلفستر دو ساسي) متدين (أنظر هامش (14))، بدفاعه عن تدين فئة من الفرنسيين، وإيعاز الطهطاوي تعظيمه عددهم بأنه يدافع عن قلة قليلة، وفقط لأنه متدين، ولا حكم للقلة، وأن تدين دو ساسي لا يجعله يضع (وصف أوهام إسلامية)، قلنا: أن ربما يكون متديناً ربوبياً، ولا يعتقد في خوارق العادات، أو أنه يفسرها طبيعياً، مثل كثير من المتدينيين المعاصرين لنا الآن، الذين تلبسوا بالمنحي الطبيعاني المجرد عن فعل الإله!. أو أنه يعني بأوهام إسلامية تشكيكات في أصول الإسلام من كون القرآن كتاب الله، وأن محمداً رسولاً لله تعالى. .. والغرض أن عبارة (أوهام إسلامية) لا تفيد إلا موقف قائلها من صحة الإسلام، وليس موقف الطهطاوي من العلم الطبيعي والعقلي، وتمثله بذلك وتعميمه على موقف الإسلام كما فعل رينان.
2- مكاتبات (مسيو كوسين دي برسفال Armand-Pierre Caussin de Perceval[22])[23]:
[حضرة المحب العزيز الأكرم، الفصيح اللسان والقلم، جناب الشيخ رفاعة المحترم، حفظه لله آمين.
بعد إهدائكم جزيل السلام، ومزيد التحية والإكرام، فقد ورد علينا عزيز مكتوبكم البارحة، فبادرنا بقضاء حاجتكم، فواصل لكم طيَّة تحرير تحتوي على رأينا في كتاب حوادث سفركم (كتاب تخليص الإبريز) الذي تفضلتم علينا باطلاعنا عليه، وبالحقيقة قلنا مثل ما هو اعتقادنا وشرحنا ما وجدنا فيه من المحاسن، وأما بخصوص المذام فما لقينا من ذلك شيئًا. وحيث أنكم عازمون على السفر في آخر هذا الشهر، فالمأمول من حسن محبتكم أنكم بعد وصولكم بالسلامة إلى بلادكم لا تحرمونا من خاطركم، وتواصلونا بالإعلام بصحتكم، ونترجاكم أيضًا أنه إذا طبع كتابكم تبعثوا لنا منه نسخة، وبذلك تصيرونا ممنونين، ولأفضالكم شاكرين، ولله تعالى يحفظكم والسلام.
محبكم كوسين دي برسفال
٢٤ شباط سنة ١٨٣١]
والمراد بطيه التحرير ورقة شهادته بأنه اطلع على هذا الكتاب، وقال رأيه فيه، وصورة ترجمة هذه الطية التي كتبها لمسيو جومار – المشرف الفرنسي على البعثة المصرية- باللغة الفرنساوية ليخبره برأيه في هذه الرحلة (جاءت كالآتي):
[قرأت بالتأمل مؤلَّف الشيخ رفاعة الملقب بتخليص الإبريز في تلخيص باريز، فوجدته يتضمن حكاية صغيرة في سفر المصريين المبعوثين إلى فرنسا من طرف وزير مصر الحاج محمد علي باشا، وتشتمل على تخطيط مدينة باريز، وعلى نبذات موجزة في جملة فروع من العلوم المطلوبة التعليم من هؤلاء التلامذة، وقد ظهر لي أن هذا التأليف يستحق كثيرًا من المدح وأنه مصنوع على وجه يكون به نفع عظيم لأهالي بلد المؤلف، فإنه أهدى لهم نبذات صحيحة من فنون فرنسا، وعوائدها، وأخلاق أهلها، وسياسة دولتها، ولما رأى أن وطنه أدنى من بلاد أوروبا في العلوم البشرية والفنون النافعة أظهر التأسف على ذلك، وأراد أن يوقظ بكتابه أهل الإسلام، ويدخل عندهم الرغبة في المعارف المفيدة، ويولد عندهم محبة تعلم التمدن الإفرنجي، والترقي في صنائع المعاش، وما تكلم عليه من المباني السلطانية والتعليمات وغيرها، أراد أن يذكر به لأهالي بلده أنه ينبغي لهم تقليد ذلك، وما نظر فيه في بعض العبارات يدل في الغالب على سلامة عقله، وخلوّه من التعسف والتحامل.
وعبارة هذا الكتاب بسيطة أي غير متكلف فيها التنميق، ومع ذلك فهي لطيفة، وحين كان نسخة هذا الكتاب بيدي كان الجزء الذي يتعلق بالعلوم والفنون غير تام، فما رأيت منه إلا نبذة في الرياضيات، وعلم هيئة الدنيا، ومبادئ أصول الهندسة، والجغرافيا الطبيعية، فهذه النبذات وإن كان موجزة إلا أنها مشبعة.
فيترجى أن المؤلف يدوم على تأليف النبذات الباقية بهذه المثابة، وإذا اجتمعت هذه النبذات في الكتاب هذا فإنها تكون كتاب علوم مستقل، مفتاحًا لغيره من العلوم نافعًا لأهل العربية، وإذا فرغ الكتاب بهذه الطريقة فإنه يستدل به على رفعة عقل مؤلفه، واتساع دائرة معرفته.
كوسين دي برسفال]
هذه هي شهادات المستشارين الفرنسيين على ما كتبه الطهطاوي في كتاب رحلته، خلا ما ترجمه إلى العربية وطبع بعد انقضاء رحلته، فهل رأى فيها مسيو إرنست رينان بعد 52 سنة (أي سنة 1883م)، من عودة الطهطاوي سنة 1831م، ما يزكي قوله: [أقام بباريس سنوات عديدة واعظا للبعثة المصرية ثم عاد إلى مصر وكتب رحلة تتضمن معاينات عن المجتمع الفرنسي شديدة الغرابة (شديدة العجب)]، أم أن فيه ما يجعل رينان من الكذابين المشهود عليهم بالكذب البواح.
وإذا كذب رينان على الطهطاوي – وباعتباره مثالاً للمسلمين حين قال:
[إنّ ما يميّز المسلم جوهريا هو كونه يحمل ضدّ العلم حقدا دفينا وقناعة صلبة بأن البحث غير مجد بل هو مدعاة إلى الخطأ ويشبه أن يكون كفرا. والمسلم ينأى بنفسه عن العلوم الطبيعية لأنه يراها منافسة للعلم الإلهي ويعادي العلوم التاريخية لأنّها تحتفظ بذكرى ضلالات الماضي. ولعلّ أفضل شاهد على ما نقول هو الشيخ رفاعة (الطهطاوي) ....]
أفلا يكون رينان كذاباً في كامل عبارته على كل مسلم تمثل له بالطهطاوي؟!
بلى إنه كذلك .. كما أثبتنا بالتحقيق التفصيلي لمحتوى هذه العبارة، فيما يخص الشيخ الوقور "رفاعة بك الطهطاوي"، تغمده الله برحمته، وقبله من المصلحين الصالحين، ونفض عنه غبار الأفاكين الكذابين، .. وما يُغبِّرون إلا أنفسهم وما يشعرون، .. آمين.



[1] خلاصة الترجمة جاءت (بتصرف) من مصدرين:
  (1) محمد الحداد على الرابط.
  (2) مجدي عبدالحافظ في كتابه (الإسلام والعلم، مناظرة رينان والأفغاني)، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005، ص47).
وذلك لمحاضرة المدعو إرنست رينان Ernest Renan؛
Ernest Renan, l’Islamisme et la Science, almann Levy, Paris, 1883. 1-24.
[2] غوستاف لوبون، "حضارة العرب"، ترجمة: عادل زعيتر، مطابع عيسى اللحلبي وشركاه، 1969، ص 577- 579.
[3] تخليص الإبريز – ص 9-10.
[4] السابق، ص 180.
[5] السابق، ص 11.
[6] السابق، ص 15.
[7] السابق، ص 21.
[8] السابق، ص 18-19.
[9] السابق، ص 89.
[10] السابق، ص 177-178.
[11] الشيخ أحمد الدمنهوري، "رسالة في المنطق، إيضاح المبهم في معاني السلم"، حققه وقدم له: عمر فاروق الطباع، مكتبة المعارف، بيروت، ط2، 2006م، ص30.
[12] تخليص الإبريز، ص 173-174.
[13] السابق، ص 175.
[14] تكملة: [ثم إن " مسيو دساسي " لما اطلع على ذلك كتب عليه ما نصه: ( قولك أن لهم دين ألبتة، وإنهم ليسوا إلا بالاسم فيه نظر، نعم إن كثيرًا من الفرنساوية، خصوصاً من سكان "باريس"، ليسوا نصارى إلا بالاسم فقط لا يعتقدون اعتقادات تدينهم، ولا يتعبدون بعبادات النصرانية، بل هم في أعمالهم لا يتبعون إلا أهواءهم، تشغلهم أمور الدنيا عن ذكر الآخرة، تراهم ما دامت حياتهم لا يهتمون إلا باكتساب الأموال بأي وجه كان، وإذا حضرهم الموت ماتوا كالبهائم، ولكن فيهم أيضًا من يقيم على دين آبائه يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعمل الصالحات، وهم طائفة لا تحصى من الرجال والنساء، ومن العوام والخواص. بل ومن المشهورين بفضل العلم والأدب، غير أنهم في ورعهم وتقاهم على مراتب شتى: منهم من يشارك عامة الناس تصرفاتهم، ويحضر معهم في محافل اللذات أعني " السبكتاكل " و " والبال "،  ومجامع الأغاني، ومنهم المتقشفون المعرضون عن كل ما تشتهيه الأنفس، وهؤلاء أقل عددًا، وإن دخلت كنائسنا أيام الأعياد المعظمة ظهر لك صحة قولي). هكذا انتهت عبارته والحامل له على ذلك: كونه من أرباب الديانة، وعددهم نادر ولا حكم له.]
[15] تخليص الإبريز، ص 324.
[16] السابق، ص 10.
[17] السابق، ص 221.
[18] السابق، ص 221-223.
[20] تخليص الإبريز، ص 212.
[21] تخليص الإبريز، ص 105.
[22] http://ar.wikipedia.org/wiki/ أرماند_بيير_كوسان_دي_برسفال
[23] تخليص الإبريز، ص 214-215.