لأي رسالة خالصة من مُرْسِل حكيم يجب أن يتعين ثلاثة أركان متمايزة: المُرسَل
إليه الصريح، ومتن الرسالة البيِّن المعنى، ولغة متاحة خالصة يُصاغ فيها المتن.
وأي خلط بين هذه الأركان الثلاثة يؤدي إلى تشويش الرسالة. وفي هذه الدراسة نُطبِّق هذه القاعدة
المتينة لـ "الفصل بين الأركان" على رسالة القرآن إلى الناس كافة. وقد
وجدنا أن تلك القاعدة لم تُطبق على القرآن في زمننا هذا كما ينبغي لها. والسبب أن
لغة الرسالة قد تشرَّبت في جنباتها بثقافة العرب القديمة، وحال ذلك دون خلوصها
كلسانٍ مجرد. وكانت النتيجة أن حملت لغة الرسالة ثقافة أهل اللغة، فتقيد بها عموم
الرسالة وعالميتها، وأصبحت رسالة ثقافية محلية للعرب في صدر الإسلام. وأشكل ذلك
على وجوب عالميتها بصريح النص. وكانت النتيجة أن ظهرت تبعات سلبية، تطورت إلى
سلسلة من التحديات المتعاظمة، وخاصة في هذا الزمن الأخير. وفي هذه الدراسة نقدم
منهجية مُفصَّلة أسميناها "تسامي المعاني القرآنية" وفيها نعيد ضبط آلية
عمل الرسالة – بحسب الأركان الثلاثة - كما ينبغي لها بضرورة العالَمية. وتقوم
الآلية المعروضة على تحويل الآيات الكونية المتشابهة، حيثما تتوفر شروط ذلك، إلى
آيات محكمات، وذلك عبر طريقةٍ استخلصناها وأسميناها "تمييز مدلولات الآيات
القرآنية عبر صفاتها الصريحة في القرآن". ويقوم ذلك على تحليل مفاده أن
الآيات المتشابهة هي الامتداد الخطابي القرآني للثقافات والأجيال المتعاقبة وراء الثقافة
العربية الأولى، والذي يتحقق بها عالمية القرآن. وفي النهاية، طبقنا هذه المنهجية
على تفسير آيات سورة العاديات (100 :1-5) ووصلنا إلى نتائج مغايرة عن موروث
التفسير في ذلك، وهو أن تفسير العاديات هو الظاهرة المعروفة في اللغات الأوربية
باسم "أورورا" Aurora ، والتي نُقلت إلى العربية بإسم "الشفق القطبي"، حيث لم
يكن للعرب علمٌ بها من قبل. وقدمنا من الأدلة ما يدعم هذه النتائج. وفي النهاية
أثبتنا أن المنهجية المستخدمة في الوصول إلى تلك النتائج وأمثالها قادرة على
التصدي للتحديات التي صدَّرنا بها الدراسة، ومن ثَمَّ قادرة على دحض حجج المعارضين
المتمسكين بالتأويل الثقافي القديم لآيات القرآن الكونية، والتي ينبغي لها أن تكون
متجاوزة للثقافات والحضارات.
كلمات مفتاحية: التفسير العلمي، التأويل العلمي، منهجيات التفسير،
الفرق بين اللسان والثقافة، سورة العاديات، عوائق النهضة الإسلامية.
المقدمة والمنهجية:
نقصد بـ " تسامي/ارتقاء المعاني القرآنية" الانتقال من نطاق
(أفق) تفسيري محدود إلى نطاق أرحب منه. ومنه إلى نطاقات أشد رحابة. وذلك استرشاداً
بما يتراكم من جديد المعلومات غير المنفكة عن موضوع الآيات. وتكون النتيجة المتوقعة
من ذلك إعادة مقايسة الأفاق التفسيرية. ويرجع السبب وراء هذا الإجراء إلى ضغوط المعارف
الجديدة المتقاطعة مع آيات الخلق المتشابهات، والحاثة على نقلها إلى جُملة الآيات
المُحْكَمات. وذلك توافقاً مع ضرورة أن تؤول المعاني القرآنية
جميعاً إلى الإحكام (تمام البيان)؛ كلاً في حينه.
أما المنظومة التي ندعو إلى إعادة مقايستها فهي ما نطمح إلى بنائه من
قاعدة معلومات للمعاني القرآنية المبثوثة في آياته، والتي يجب أن تكون طاهرة من أي
تدخل إنساني مُسبق، مهما كانت حَظوة
أصحابه، لِـ ألا يعوق ذلك اكتشاف الحق فيها. ولأننا واعون تماماً لعدم اعتبار
المعاني في هذه المنظومة على نحوٍ عشوائي، فسوف نلجأ إلى اقتفاء أثر القاعدة
الأصولية الفقهية التي تقايس الأحكام من أصولها في نطاق التطبيق الأضيق، وإلى
فروعها في النطاق الأرحب عبر وحدة العلة. وذلك في مَدِّها لآفاق التطبيق لدواعي الضرورة. أي
أننا سنعمد إلى نقل الحُكم إلى مسائل جديدة لم يكن معلوم تحقق العلة فيها، ولا أن
هذه العلة تستدعي ذلك الحكم، إلى أن يستبين ظهور ذلك. والقاعدة هي أن يدور الحكم
مع علته (منفردة أو مجتمعة) وجوداً وعدما. فحيثما تتحقق العلة يفرض الحكم نفسه. وبمنهجية
شبيهة بهذه القاعدة الأصيلة والراسخة في الفقه، فإننا نطبقها أيضاً ولكن في إطار
اللغة القرآنية، والتي نحتاج في آلية تطبيقها إلى تمييز مدلول الآية (الحكم)
اعتماداً على ورود صفاته (علله/أسبابه) الصريحة في نصوص الآيات. وذلك في مسعانا
للوصول إلى أقرب المعاني إلى الحق من تلك المعاني المتشابهة التي كانت محض وجوه لُغوية
ظنية، غير مدعومة فيما وراء اللغة. وليُلاحظ أن التماثل في هذه القاعدة بين الفقه
(في تمييز حكم بين الأحكام) واللغة (في تمييز مدلول لُغوي بين الوجوه الدلالية) هو
تفعيل الحكم الفقهي وتفعيل الدلالة، كُلاً في محله المُراد. وربما كان من المناسب
أن نُسمِّي طريقتنا بـ "قابلية الدِّلالة للإِحكام" من أن نسميها
"قابلية التفسير"، إلا أننا نفترض أن التفسير الصحيح يجب أن يتميز
بانفراد جلي كما الإحكام.
وتتلخص طريقتنا في إنشاء علاقة صريحة بين الثنائي (المدلول - صفاته) في الفضاء الطبيعي، كما هو الحال في الثنائي الفقهي (الحكم - علته) في الفضاء الفقهي. ثم نستخلص صفات صريحة في النص القرآني ونختبر تكافؤها مع صفات طبيعية مرصودة ومؤكدة. فإذا ما تأكد التكافؤ بين المجموعتين، فإننا نتعرف على (أو نُميز) المدلول القرآني صاحب تلك الصفات الصريحة والجاري البحث عنه، على أنه هو هو ذلك الموجود الطبيعي الذي يحمل تلك الصفات الطبيعية المرصودة والمؤكدة. ونتوقع لطريقتنا هذه أن تتصادم مع عدد من العقبات التي عَمَّرت طويلاً في التفاسير الإسلامية التقليدية. إلا أن القوة الإقناعية للطريقة الجديدة واعدة لحدٍّ بعيد، وليس فقط في التغلب على تلك العقبات، بل في تجاوز سلسلة من التحديات التي عجزت المنهجية التفسيرية التقليدية أن تتغلب عليها رغم طول صراعها معها حتى الآن. وسوف نأتي أولاً على هذه التحديات بشيء من التفصيل، حتى يتوفر لنا معيارٌ نتحاكم إليه في تقييم تحقق الأهداف المأمولة، ومدى الضرورة المُلحة في ذلك. ثم يلي ذلك تطبيق الطريقة على سورة "العاديات" باعتبارها نموذجاً. وعندها سيبرز لنا بوضوح أحد موجودات الخلق الطبيعي الذي يتحقق فيه أغلب الصفات الصريحة في الآيات (100: 1-5). وعلاوة على ذلك سنجد إمكانية كبيرة في تفكيك أغلب التحديات المشار إليها. والجديد كل الجدة أن يظهر هذا التحليل والمعالجة لنا فوائد لم تكن متوقعة؛ منها ظهور ارتباط دلالي جديدة بين بداية ونهاية سورة العاديات. وكما هو حال النظريات القوية سنحصل في النهاية على تنبؤ (تنبؤات) يمكن التحقق منها في العالم الطبيعي. بمعنى أن فحوى الطريقة الجديدة هي معالجة الآيات القرآنية الطبيعية على نسق معالجة الظواهر الطبيعية؛ ومستندنا في ذلك حاجتهما جميعاً (الآيات القرآنية والطبيعية) إلى اكتشاف جمعي يحقق الاتساق والترابط اليسير في كيان معرفي واحد.
أ
عوائق
الإحياء الحضاري الإسلامي:
لتحقيق هذه الغاية السابق بيانها، علينا أن نتجاوز عوائق؛ وضعها أمام الفكر
الإسلامي المعاصر نوعان من التحديات: تراثية وحداثية. وبالتراثية نقصد الخلافات
الدينية التاريخية بين علماء الإسلام أو مدارس الفكر فيه في تفسير الآيات
المتشابهات ذات المنحى الطبيعي. أما التحديات الحداثية فهي المجابهات الحضارية
والعلمية المعاصرة، والتي تدل عليها المساهمة المعدومة لأي فكر إسلامي معاصر في
الحضارة الحديثة، أللهم فيما خلا الاقتصاد الإسلامي.
وربما يبدو أن هذين النوعين من التحديات متمايزان بوضوح، إلا أنهما
غير منفصلين فعلياً على المستوي التأصيلي؛ باعتبار أرتدادهما إلى خلفية فكرية
إسلامية متجذرة. وربما كان عدم الانفصال هذا بين نوعي التحديات محط انتباه عددٍ من
المفكرين والنقاد، باعتباره السبب وراء قصور محاولات الإحياء الإسلامي الحضاري، أو
على الأقل المساهمة الجزئية في الركب الحضاري المتدافع دون فقدان الهوية
الإسلامية. إلا أن تحليلات هؤلاء المفكرين والنقاد قد غفلت عن فرق لطيف بين ما هو
إسلامي وما هو قرآني، وأدت المرادفة بينهما إلى خطئهما التحليلي. والحقيقة أن هناك
فرقاً بين لفظ: "إسلامي" ولفظ: "قرآني" ومدلولهما، لا ينبغي
إغفاله أبدا. وإذا ما أخذنا هذا الفرق بالاعتبار، فسوف يؤدي التحليل إلى التمييز
بين "القرآني" على أنه "الوحي الإسلامي" والذي يكافئ
"الإسلام القرآني"، وذلك مقابل "الإسلام التراثي" إذا اختُصر
إلى "إسلامي"، والذي هو المجموع الحشدي لإسقاطات عير خالصة للوحي
القرآني على جماعات بشرية مختلفة، والتي أصبحت تعرف منذئذ بـ "الثقافات
الإسلامية" أو ما في معناها. ثم اجتمعت هذه الثقافات تحت مظلة تاريخية واحدة
هي "التراث الإسلامي". لذلك فإن إغفال هذا الفرق لا بد أن يُفشل أي
تحليل نقدي مزعوم، كما أنه يضلل أي عملية إصلاحية أو إحيائية تنبني عليه. وهذه
النتيجة وحدها تعري هذا الإغفال وما
يستبطنه من تحليل معيب، وتكشفه على أنه تحدٍّ إضافي – علينا أن نواجهه كما سنرى –
بدلاَ من أن يكون مبعث علاج التحديات الأخرى المتراكمة كما زعم أصحابه؛ وهي مفارقة
صارخة.
ومن أغراض هذه الدراسة أن تكشف عن آثار الثقافات البشرية التي داخلت
الميراث الإسلامي، ثم بقيت كشوائب مختلطة في التفسير القرآني، ومن ثم شوهت
الإسلامي القرآني الخالص وذهبت بشيء من رونقه. وماذا كانت النتيجة؟! .. مهدت هذه
الشوائب السبيل لظهور معظم التحديات التي نواجهها اليوم. والحمد لله أن حفظ كلماته
الخالصة بذاته العلية، وإلا لكانت قد تشوهت أيضاً بالتدخلات الإنسانية لو أُوكلت
إلى أصحابها.
وعلينا الآن أن نستحضر السبب التاريخي الحقيقي وما أدى إليه من تشويه ولو جزئي للمعاني القرآنية الطبيعية، والذي انتقل إلينا في التراث الإسلامي مما كان شائعاً من تصورات ورؤى قديمة للعالم. ولم يكن هذا السبب فقط صاداً عن وعي المسلمين المعاصرين للمعاني القرآنية الطبيعية الحقيقية، والذي هو هدف قرآني دنيوي ضروري لامتلاك أزِمَّة هذا العالم، إلا أنه صدَّ أيضاً عن مقاصد قرآنية تتصدر المشهد الديني، أهمها ما يتعلق بمصداقية الوحي ذاته، ثم النقاء الدلالي للمتن مما قد يعتريه من أي تشويه لمعاني آيات القرآن بفعل الآثار التفسيرية العرضية لجماعات المؤمنين عبر تاريخهم، والتي أصبحت بالتبعية التاريخية التقديسية جزءأً لا يتجزأ من معاني كلمات الله سبحانه التي يتداولها الناس. هذا في وقت لا يعتمدها عدد غير قليل من علماء المسلمين على أنها من اليقين الدلالي لمعاني الآيات، وذلك في أقل الاعتبارات. فكانت النتيجة أن ورث المسلمون بعض المعاني القرآنية المشوهة ووَثَقُوا بها ثقة مطلقة، ثم التصقت بمعاني الآيات عبر التفاسير القرآنية الرسمية بكليتها، ثم تراجم معانيه. وبذلك أصبح الحفاظ على هذا المجموع التراثي بمجموعه ونشره على حاله التاريخي على أنه الإسلام الحق مكافئاً لبث نسخة مشوهة – ولو جزئياً - من "الإسلام الخالص"؛ أي: "الإسلام القرآني".
ب تحديات
استعادة "الإسلام القرآني":
تمثل المجموعة التالية من التحديات
ما استطعنا جمعه منها بعد طول مراجعة في أدبيات الفكر المَعْنِى بالإحياء الإسلامي
وإمكان مجاوزته للعوائق التي عرقلته في هذا السبيل:
1- تقول أولى دوجمائيات هذه التحديات أنه ما من
اكتشاف دلالي جديد يمكن أن يوجد في القرآن! لماذا؟ - يقول أصحاب هذه الدوجما: "لو
كان هناك شيء من ذلك لكان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وتابعوهم قد علموها
ونشروها! ولو أن
هناك شيئاً من ذلك، فإما أنه معنىً مُدوَّن وليس بكشف جديد. وإلا، فلابد وأن يكون كشفاً
زائفا.
نرد
على ذلك بأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنقل عنه تفسير كل آية في
القرآن. فإن قال الصحابة رضوان الله عليهم بتفسير، فيما يخص الآيات الكونية، فهو
من الرأي، لأن هذه الآيات ليست من قبيل آيات العبادات والمعاملات والسلوك والتي
يتقدمون في فهمها على من وراءهم لقرب عهدهم بالنبي. أما الآيات الكونية، فليست مما
يستقى بالسلوك، ولابد لها من نقل. وحيث لا نقل، فلا مصادرة على من بعدهم في الحديث
عن معناها: الأرجح فالأرجح. وأهم وسائل الترجيح معاينة موضوع الآيات. ويُصدِّق ذلك
قول الله تعالى "سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا"(النمل:93)
2- تقول دوجما ثانية: أنه ما من آية أو كلمة أو عبارة في القرآن إلا وقد تم تفسيرها، وخاصة خلال الثلاث أجيال الأولى في الإسلام. فإن لم يكن الأمر كذلك، لكان هناك مما أنزل في القرآن ما لن تنكشف معانيه أبدا. وحيث أنه لن يكون هناك أي كشف تفسيري فيما بعد في القرآن طبقاً لـ (1)، فلابد وأن شيئا في القرآن سيبقى أبداً غير مستبين المعنى، وهذا خلاف حكمة الوحي التي قضت بأن ما أنزل في القرآن للبشرية (وليس للقرون الأولى فقط) مُبينٌ كله.
نرد على ذلك بأن هذه النتيجة غير ضرورية إلا إذا كنا في المشهد الأخير للحياة على الأرض، ولكن هذا غير واقع. فما زال باب الزمن منفتحاً ليجيب القرآن على مطالب الأجيال القادمة من البشرية؛ مما يعني أن هناك إجابات في القرآن لم تنكشف بعد، وذلك لأن ما يستدعيها من أسئلة لم تُطرق بعد. ومما يؤسف له أن هذه الدوجما القائلة بانغلاق المدونة التفسيرية على ما فهمه العرب عند نزول القرآن قد غمر الفكر الإسلامي التراثي، وانتشر حتى في تراجم معاني القرآن. فنقرأ في ترجمة عبدالله يوسف[1] لقوله تعالى" هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ"(آل عمران:7) ما لو أعدنا ترجمته إلى العربية: [فيه آيات بينات (أي: بينة المعنى) هن أم الكتاب، وآيات أخرى أتت على المجاز].
نقول: هذه الترجمة غير مقبولة لعدة أسباب، ونضع هنا ترجمة
نراها الأصوب. نقول فيها: [فيه (أي: القرآن) آيات محكمات المعنى؛ هن أم الكتاب:
وآيات أخرى أتت مبهمة
المعنى"]. ونلاحظ أن كلمة (متشابهات) في الآية، والتي ترجمناها (مبهمة
المعنى) قد فهمها مروجوا هذه الدوجمة على أن معناها (على المجاز). والراجح عندنا
أن فهم هذه الكلمة على هذا النحو فهمٌ خاطئ. كما وأن هذا الفهم يتوافق مع دوجما
انغلاق المدونة التفسيرية، لأن المجاز لو جاء في القرآن فلن ينتقل إلى حقيقة.
وطبقاً لدعوانا في هذه الدراسة، فإن هذه الآيات المبهمات لم يأت بيانها بعد –
وحتماً سيأتي حتى يكتمل تمام البيان القرآني - رغم ما تؤكده التفاسير التراثية من أن
وجوه معاني منغلقة. ويمثل هذا النوع من الآيات نطاق عملنا، والذي نبحث فيه عن صفات
أتت الآيات على ذكرها ذكراً صريحا، بحيث يمكن لنا أن نجد فيما خلق الله تعالى من
أشياء تحمل جملة هذه الصفات، ويمكن التعرف عليها وتمييزها. ونفترض هنا أن هذه
الطريقة في كشف المعاني المبهمة في القرآن ستظل قائمة بقاءاً تقاربيا مع الزمن ما
بقيت البشرية على الأرض. (وسوف يُؤذِن تمام بيان معاني القرآن بانتهاء المهمة التي
من أجلها نزل، ومن ثم القرب الشديد لنهاية الحياة الدنيا).
3- بموجب الدوجما رقم (1)
تصبح كل التفاسير التراثية مكافئة للقرآن فيما حواه من معان. وكل ما على المسلم أن
يفعله ليعلم معاني القرآن هو أن يرجع فقط إلى تلك التفاسير، وألا يتجاوزها جميعاً،
وإلا يكون قد نالته البدعة بقدر ما تجاوَز. ويصبح من غير المسموح به دخول تفاسير
جديدة في رحاب الإسلام، مهما جاء أصحابها باستدلالات، ومهما تمثلت عليها من الصدق
أمارات. ولا بأس عند أصحاب هذه الدوجما أن تُعتبر جملة التفاسير التراثية جزء لا
يتجزأ من الإسلام، مهما حوت من محض خواطر غير مدعومة! ... ولا حرج عند أصحاب هذه
الدوجما من ذلك! .. فالحقيقة لا بد أن تكون كامنة فيما دوّنه التاريخ من أصوات
أصحابها. ويصبح الاجتهاد الوحيد المسموح به هو أن يستطيع المتدبر اقتناص تلك الأصوات،
دون أن يضيف صوتاً جديداً، وإلا كان صوتاً شاذا. وأي معاني جديدة حتما ستكون شاذة،
إلا أن تكون محض صياغة جديدة لمعاني قديمة. وعلى هذا المنوال يصوغ أصحاب الدوجما
حجتهم.
4- وهنا دوجما أخرى لا تقل جنوحاً عن سابقتها، ونجدها في ذلك الإهمال التام للكشوف العلمية الجديدة. فأصحاب هذه الدوجما على قناعة تامة بأن الإسلام مكتفٍ ذاتيا. ولا ينبغي التنقيب في معاني أي آية في القرآن إلا فيما ساد في ثقافة عرب القرن الأول الهجري، السابع الميلادي، والمتضمنة في التفاسير اللغوية الحاوية لتلك الثقافة. وكيف لا يكون الأمر كذلك، وأفضل من له أن يفهم القرآن هم العرب الأوائل الذين تلقوا الوحي غضَّا ندياً بحسب لسانهم الخالص. وليس للإسلام أن يُفهم استنادا لأي رؤى للعالم غير محتواة في ثقافة ذلك الجيل الأول. ومما يزيد الأمر سوءا – عند أصحاب هذه الدوجما - أن الكشوف العلمية الجديدة في الزمن الحديث، دائماً ما تأتي من غير المسلمين. لذا يقولون: كيف يكون هناك فهمٌ جديد لمعاني آيات القرآن ويعتمد على مساهمات من غير المسلمين (هكذا يفكر أصحاب هذه الدوجما)؟!
ويمكن إعادة صياغة العبارة السابقة كالآتي:
قام تفسير الآيات القرآنية بالأساس على تصور افتراضي سكوني للعالم، تمثل في تصورات
الناس في القرون الثلاثة الأولى بعد نزول الوحي. مع استبعاد صامت ومُطْبِق على أي
إمكانية لتعديل هذا التصور. ولكن، ومع تراكم المعارف عن الوجود والتي تطورت آليات
جمعها في القرون الأخيرة على وجه الخصوص، كان لا بد لها أن تُؤخذ بالاعتبار، وتدفع
دوماً وبشدة إلى إعادة النظر في كل التفاسير ذات الارتباط، وترصد التحديثات
اللازمة على موروث التفاسير الذي ظهر خطؤها، والتي سقطت مع سقوط ثقافاتها
اللادينية المصدر. إلا أن مثل هذا الإجراء مرفوض وبعنف من قِبَل كثير من المدارس
الأكاديمية الإسلامية الموروثة في بنيتها المنهجية، والتي ما زالت تدَّرس هذه
المنهجية على مدار 10 قرون أو يزيد، وبلا أي تحديث معرفي.
5- دوجما أخرى، نجد فيها أن "العمل
الصالح" مقصور على التعبد وإقامة الفروض والأنساك بحسب الأمر الإلهي العام
لكل مسلم. ولا تكاد تجد في الأغلب الأعم من التفاسير التراثية ذلك العمل الصالح
الذي وازعه النظر العملي في خلق الله تعالى، واستقصاء أسرار الخلق، وصناعة وسائل
تيسير أمور الحياة على الناس، حتى ولو كان تحت لواء مرضات الله تعالى. وكأن الله
تعالى لا يرضى عن عباده إلا إذا كانوا فقط عباداً في محاريبهم؟! وكأن الله تعالى
لم يهدنا سيرة ذي القرنين مدحا وقدوة للمؤمنين المستخلفين في الأرض ليسيروا على
منواله. وإذا كانت هذه الأعمال الصالحة – نقصد " النظر في الخلق واتباع
الأسباب" – نادرة في الماضي، إلا ممن كانوا في مستطاعهم تيسير الحياة على
أهليهم ومجتمعهم بالمألوف من الأسباب، مما يُعذر به المسلمون في الماضي بعض العذر،
إلا أنه لم يعد عذرا في العصور الأخيرة بعد انفتاح أبواب الأسباب والتمكن في
الأرض. والتصق ذلك المعنى التعبدي الطقوسي على أنه المعنى الوحيد والفريد للعمل
الصالح في الإسلام. ولا نكاد نجد دراسات أكاديمية إسلامية في هذا المنحى يُلتفت
إليها، دع عنك غياب السياسات الوطنية التعليمية التي تُضَمِّن مناهجها الأعمال
الصالحة الشاملة لاكتشاف الثروات وسبر أغوار الأرض، وطَرْق أبواب السماء سعياً
لامتلاك مقاليد الحياة، والإبداع في الصناعات المدنية والعسكرية .. إلخ. وإذا ما
حاورنا أصحاب هذه الدوجما في هذه المعاني، فإنهم سرعان ما يتهمونا بخلط الديني
بالدنيوي، وأن قول الله تعالى " قُلِ
انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .."(يونس
10: 101) وأمثالها (2: 164)، (3: 190) لا تؤخذ على محملها الظاهر (رغم أنهم أصحاب
الظاهر في الإلاهيات .. فإذا جاء الظاهر في الطبيعيات نُكسوا على رؤوسهم)، من حيث
أنها أوامر إلهية توجب امتثال المؤمنين لها بحسب القدرة عليها. والحاصل أنهم
يصنفون الأوامر القرآنية بحسب دوجمائيتهم، بدلاً من أن يصححوها بحسب القرآن. ولكن أنَّى
لهم، فمعاني القرآن هي ما فهموه، وليس وراءه من معاني مُرادة في القرآن! – فأي تحريف
للقرآن المحفوظ لفظه أشد من تحريف معانيه؟!
6- هذا وتمتلئ الكتب الدينية الإسلامية بالكثير من التفسيرات
الضعيفة المَحْمَل والخاطئة المعنى في أمور الخلق والأسباب الطبيعية، ناهيك عن
التفسيرات المغلوطة أو الفجة. والسبب أن هذه التفاسير قد دُونت عبر العصور الأقل
حظاً معرفياً في العلم بالخلق وأحواله. ومما يؤسف له أن هذه التفاسير مازالت
معتمدة بكل ما فيها من صواب وخطأ، سواء في الدراسات الجامعية، أو الدرجات العلمية الرفيعة،
وبدون أي تمييز علمي.
وربما يكمن الحرج من أي تهذيب لهذه التفاسير – مع وجوبه – في توقير
المفسرين السابقين لعظيم فضلهم، والخوف من اهتزاز الثقة بإنجازات تراثية محتفى
بها، أو النيل من مصداقية أصحابها المعرفية.
يُضاف إلى ذلك الهروب من أي تداعيات معقدة تنتج عن إجراءات التهذيب، وربما عدم
الاتفاق على مرجعيات تؤتمن على تلك المراجعة، وتحظى بالأهلية التامة، والإجماع
عليها، وخاصة في ظل غياب أي مشروعات معتبرة في مراجعة التراث، تصحح هذا الوضع غير
المقبول.
7- كان من المفترض أن تتميز ترجمة معاني آيات القرآن
باحتباك الصياغة وفصاحة العبارة وحرفية المعنى بمقاصدها الإلهية الخالصة. غير أنه
مما يؤسف له أن معظم الترجمات المنتشرة قد استندت إلى المعاني المتداولة في تفاسير
القرآن المختلفة، عبر العصور المتتابعة، صراحةً أو ضِمناً، وبما تحمله من ثقافات
المفسرين في أمور الخلق؛ والتي جمعت بين الاختلاف عن بعضها، والافتراق عن حقائق المخلوقات
التي ظهرت في العصر الأخير. وتُعد هذه التفاسير الثقافية - المتزمِّنة بزمنها - شديدة
الخطورة. والسبب ببساطة أنها غير معصومة من الخطأ على
العموم، وبعضها منكشف خطؤه، وكثيرٌ من تلك الأخطاء يمكن
تمييزها بيسر بواسطة المتخصصين في العلوم الحديثة بأدلتها. وكثيراً ما صادفتنا تلك
الأخطاء وساءنا تمريرها من المترجمين ولجان التحرير. وسوف يلاحظ القارئ بعضاً منها
في الصفحات التالية، وصوراً من اقتراحاتنا باستبدالها بمعاني مشهود لها بالصدق أو
الترجيح من واقع آيات الخلق المقصودة في الآيات، ثم ترجمتنا لتلك المعاني إلى ما
هو أقرب إلى الحق.
8- قامت أغلب مدارس الفقه والتفسير الإسلامية على
آراء العلماء الذين أسَّسوها، أو نُسبت إليهم؛ لِعُلو شأنهم وقوة حججهم. ويمكن
للتحليل المعرفي والمعلوماتي المعاصر أن يُسهِم في تفكيك كثير من الآراء المختلف
فيها بين تلك المدارس على أسس علمية. غير
أن الإيمان الدوجمائي لأتباع تلك المدارس يمنع أي إمكانية لقطع خطوات مأمولة في
هذا السبيل.
9- لا شك أن المواجهة واقعة – شئنا أن أبينا - بين القرآن
كمصدر معرفي، والعلم الحديث بصفته المُتحدث الرسمي الوحيد المسموع الكلمة عن
المعارف الحادثة وموضوعاتها. ولن يمكن لأحد تجنب أو إنكار هذه المواجهة سواء كانوا
علماء مسلمين يستشرفون آفاق العلم ومصادره المباشرة: القرآن والواقع الحسي، أو غير
مسلمين يتأملون النيل من مصداقية القرآن. غير أن المسلمين الذين نالوا قسطا وافراً
من العلوم الغربية ومنهجيتها لا يتصورون أي تدخل للقرآن في علومهم المُكتَسَبة المحتفى
بها، ناهيك أن يصل هذا التدخل إلى تصحيح القرآن لعقائدهم العلمية الغربية الجديدة
بشيء مقرر من قديم أو جديد تفسيراته. وعلى العكس من ذلك، نجدهم يقبلون تدخل العلم
الغربي وتقريراته العلمية على أفهامهم التي ورثوها عن القرآن، بافتراض أن لهم حظاً
في تقرير ذلك. وليس لهذا الوضع المختل منهم إلا أن يكون موقفاً متحيزا، ومواجهة
غير عادلة، تدفع بقوة مرة بعد مرة إلى مساواة العلم بـ "فلسفة الحياة"،
ومساواة الدين – وأي دين بما فيه الإسلام القرآني – بـ "فلسفة الموت". فيكونون
بذلك قد قضوا على الدين وهم لا يشعرون. ولا يتحمل هذه المسئولية إلا رعاة الدين
الذي نكصوا على أعقابهم في الدفاع عنه، وفروا من المعركة العلمية فراراً أشد جُرما
من الفرار يوم الزحف.
10- إن المتفحص الخبير بالأسس الإمبريقية (أي:
التجريبية) للعلوم الغربية لا بد وأن يُلاحظ أن قوة صدقها المعرفي ليست تامة، وغير قابلة للاستيفاء.
والنتيجة المتوقعة لذلك أن يتعاقب ظهور المعضلات والألغاز العلمية بين الفينة
والأخرى هنا وهناك. وما من ملجأ متوقع للخروج من هذا الوضع بسبب اعتماد المنهجية
العلمية الغربية الراهنة على تقليدين يُستخدمان بلا حرج؛ ألا وهما: التخمين – وإن
تجمَّل بأنه مدروسeducated guess أو أنه
ارتقى كحقيقة –، ثم مرامي
فكرية استهوت أصحابها. فإذا ما كشفنا عن الإفادات المعرفية في القرآن في هذا الشأن
العلمي الشائك أو ذاك، وزاوجنا تلك الإفادات بالأصول الإمبريقية التي نطقت بها
التجارب والأرصاد، لحصلنا من ذلك على حلول لتلك المعضلات والألغاز أو شارفنا. وليس
هناك من عائق أمام تحقيق مثل هذا الإنجاز إلا غياب مؤسسات أكاديمية وثيقة الصلة
بهذا الشأن، بحيث تكون قادرة وداعمة للجهود العلمية الفردية والجماعية، ورسم
وتنفيذ الاستراتيجيات البحثية والتعليمية.
11- انتشرت دعاوى "الإعجاز العلمي في القرآن" بين
غير المتخصصين، وإلا لكانوا أشد تحفظاً. وتكاد تكون أغلب تلك الدعاوى غير حاسمة،
ولا نهائية، وإن لم تكن، فقيمتها العلمية دون المعايير المقبولة. أما الخاطئ
والزائف فيهطل من كل حدبٍ وصوب. وهذا الوضع يستدعي إنشاء مؤسسة ذات مسئولية علمية وأهلية
تحكيمية لمراجعة وتقييم تلك
الدعاوى بأدلتها، وذلك قبل أي نشر إعلامي على مستوى التفسير العلمي المقبول،
ناهيكم عن الإعجاز العلمي. ويجب أن تمر عمليات استخلاص الآيات القرآنية ذات الطابع
الإعجازي بسلسلة من المقارنات والتقييمات والتمحيصات بين دلالاتها وتلك التي ترجحت
لها الأدلة في العلوم الحديثة في موضوعها. ثم إن هذه الإجراءات يجب أن تتم على أيدي
علماء جمعوا بين الخبرة في التفسير القرآني والخبرة في العلوم المتخصصة القائمة
على التجريب والرصد. ثم يصقلون ذلك بالخبرة المتنامية في آليات الجمع بين الجهتين
بمنهجية خاصة تراعي خصوصية كل جهة، ثم وحدة الموضوع وما يستدعيه من آليات جديدة
ندعو إلى مثلها في هذه الدراسة. ولكن، أين هي المؤسسات الأكاديمية التي تؤتمن على
هذا العمل العلمي الاجتهادي الذي لا مناص عنه؟!
12- إن التمحيص المتتابع أمر
لا مفر منه في المجالات المعرفية؛ الطبيعية أو الثقافية أو الاجتماعية، واعتماداً
على الثقافة السائدة؛ أين ومتى تحدث دوافعها. ويستلزم ذلك إعادة النظر في التفسير
القرآني والفتاوى العلمية المتفرعة عليها للوفاء بجديد المعلومات في كل مجال والبناء
المعرفي المستند إليها. ويجب الانتباه إلى أن المعرفة المتحصلة من أي مصدر كان
إنما هي معرفة إنسانية التصور، حتى ولو كانت لكتاب الإسلام المقدس؛ القرآن. أما
ثبات كلمة الله تعالى ودلالاتها الحقيقية فلا تقارن إلا مع ثبات قوانين الطبيعة،
وليس مع هذا الظرف الحضاري أو ذاك كما هو حال أفهامنا. بمعنى أنه ليس هناك من حرج
في تصحيح أفهامنا لمعاني آيات الله تعالى تباعاً، كما هو الحال مع تصحيح أفهامنا
لقوانين الكون الناتج عن مزيد من الرصد والإدراك والتنظير والتصحيح. ومما يؤسف أن أغلب
الباحثين في تفسير كلام الله تعالى عن موجودات الخلق لا يدركون ذلك، ويتمسكون
بالنظرة السكونية للحياة والعلم. وهذا هو السبب في تمنُّعهم ومقاومتهم لأي تعديل –
يستدعيه التطور العلمي المتلاحق - على تصوراتهم المفاهيمية لمعاني تلك الآيات.
فتكون نتيجة ذلك تأخرهم، ومعهم أتباعهم، عن ركب الحياة. ثم يجيء الأثر السلبي لذلك
بحجر القرآن عن آدائه لمهمته التي أنزل من أجلها. ثم ما يتبع ذلك من غير المسلمين من
نظر استنقاصي للإسلام على أنه دين تاريخي كغيره من الأديان، وأنه قد تجاوزه الزمن.
13- رغم أن الإسلام قد شارف على منتصف الألفية الثانية
منذ نزوله من السماء، إلا أن العديد من النزاعات الفكرية بين المدارس الإسلامية ما
زالت متقدة تحت الرماد منذ اندلاع شراراتها في القرون الأولى منه، أو متأججة هنا
وهناك بفعل انتشار المعلومات والمناكفات وتقاذف اتهامات أهل التقليد والأتباع عبر
وسائل الاتصال. والغريب أن كثيراً من هذه النزاعات يمكن أن تُسوَّى بسلام وتذوب مع
ارتقاء الأفهام لو استُحضر العلم الحديث – وفقط العلم الحديث - بأدلته وما تقرر
منه إلى حلقات النقاش. غير أن المعاصرين من أصحاب هذه النزاعات لا يؤمنون بأي دور
معرفي للعلم الحديث في مسائل الخلاف، لا فحواه ولا جدواه. وهنا تكمن المعضلة؛ فالمريض
لا يؤمن بالعلاج، فكيف له أن يشفى؟! .. هو ومن انتقل إليهم عدواه.
14- لا يخفى الهجوم الشامل الذي يتعرض له الإسلام والموجه
لخدش مصداقية القرآن[2]،
والمستند إلى معلومات مزعومة العلمية؛ إما منقوصة أو جدلية أو خاطئة، بالإضافة إلى
إحياء تفاسير تاريخية باطلة تخدم أغراض المهاجمين. ويحشد أصحاب هذا الهجوم في سبيلهم هذا عدتهم العلمية وعتادهم الفكري
وشبهاتهم المضلة لإيهام المعاصرين بأن القرآن غير إلهي المصدر. وموقف هذا شأنه من
الخطورة، يستدعي فوراً تأسيس مؤسسة علمية قرآنية تتحمل مسئولياتها تجاهه.
15- لا بد أن يلحظ المتتبع
لمشاريع التجديد الإسلامي عبر القرنين الأخيرين أن الفشل المتتابع لهذه المشروعات
يشير إلى غياب شيئٍ ما. فإذا ما جمعنا الخبرات التي تراكمت جراء فشل هذه
المحاولات، مع تحليلنا التشخيصي الوارد أعلى للأسباب الكامنة وراء الأزمة التي
نعانيها، إضافة إلى المنهجية التي نعرضها في الصفحات التالية، فإنه يترجح عندنا
أننا بصدد تشييد مشروع إحيائي واعد وناجح. ويجمع بين قابليته للتطوير وتجاوزه لما
تعثرت فيه المشاريع السابقة.
تمثل
التحديات السابقة الأسباب التي تعوق معرفة الناس بالإسلام الحقيقي اليوم. وهي ليست
جزءاً من الإسلام القرآني الخالص، ولكنها أُقحمت في البناء الإسلامي الشامخ أو
عليه إقحاما، أو ربما غفلةً وسهوا. وفيما يخص التحديات سالفة الذكر، فربما قَصُر المسؤولون عن إدراكها،
أو التأهل الضروري للتعامل معها. ولهاتين الصفتين عاقبة أليمة، ألا وهي وصم
"الإسلام القرآني الخالص" بما ينال منه. والحقيقة أن هؤلاء المسؤولين قد
ارتكبوا خطأً ثلاثيا؛ الأول تجاه الإسلام، والثاني تجاه المسلمين، والثالث تجاه
غير المسلمين. وكانت عاقبة تلك الخطايا حجب الناس عن الإسلام الخالص. وقد حذرنا
االله تعالى من الوقوع في مثل هذا الخطيئة عندا علمنا سبحانه أن نقول: "رَبَّنَا لَا
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ"(الممتحنة 60: 5)
ت تبعات سقوط مشاريع الإحياء الإسلامي المعاصر:
إن التبعات السلبية للتحديات السابق ذكرها، إذا ما أُهْمِلت ولم تلق ما تستحقه من العناية، أنتجت حالة من الإحباط العقلي الناتج عن انفصام الشخصية العلمية، والتي تتعاظم مع المتخصصين في العلوم الغربية، وتزداد مع ارتفاع نصيبهم منها، جنباً إلى جنب مع ثقافة إسلامية تقليدية. وتستقر هذه الحالة الانفصامية في العقل الجمعي للمعنيين بالفكر الإسلامي، وتكمن في نفوسهم منها أعراضٌ مرضية خفية[3]. ونقترح لهذه الحالة المرضية اسم "متلازمة التراث والحداثة".
ويأتي ضحايا
هذه المتلازمة في أربعة أصناف، اعتماداً على طبيعة ثقافتهم العلمية، ومن ثم تأتي
أيضاً أصناف معالجاتهم لأنفسهم لما ظهر عليهم من أعراض:
1- النخبة من المسلمين ذوي الثقافة الغربية[4]: وهؤلاء يندفعون للتخلص من معاني حقيقية لآيات القرآن حسبما فهمها المفسرون التراثيون، وينفون تبعاً لها أي معاني حقيقية حَرْفية مقصودة من الآيات، ثم لا يجدون لهم إلا ملجأً التفسيرات المجازية. وحقيقة الأمر أنهم يقتفون أثر الغربيين في التحفظ على معاني آيات التوراة والإنجيل، ويقيدونها فقط بالمعاني المجازية.
2- علماء الشريعة ذوي الثقافة التراثية الخالصة[5]: وهؤلاء يهربون من المنظور التنظيري الغربي، هكذا على الجملة، بحقه وباطله. ويجدون ملاذاً في إلحاقه بدواعي التطور التكنولوجي والتنظير له، ويحطون من قيمته التصديقية باعتباره محض اجتهادات دنيوية ظنية لا علاقة لها بالدين، في حين أن معاني القرآن التراثية جميعاً حقيقة مطلقة؛ ومن ثمَّ يباعدونه عن القرآن بلا أدنى تماس أو تقاطع، ويبررون عدم المواجهة بأنها تعود إلى خلل في طريقة تفكير المعاصرين؛ فلطالما آمن الناس بالقرآن عبر العصور دون الحاجة إلى التكلف إلي أي معاني علمية في القرآن [5] !!!. (لا بد وأن القارئ يرى بوضوح دعوى الجمود الصريحة، ومعاداة الفهم والتدبر التي حث عليها القرآن)
3- عوام المثقفين من المسلمين: وهؤلاء هم المتأرجحون بين الموروث التراثي والحداثة العلمية الغربية، ويغلب عليهم اختصار الطريق بين القرآن والعلم الغربي بالتصديق السطحى للمعاني جميعاً في صورة كوكتيل معرفي. وهذا هو ما يُروَّج له بإسم الإعجاز العلمي في القرآن، والذي التبس فيه الحق بالباطل[6]، وتَعَبَّد به أقوامٌ، واتهمه آخرون بالهرطقة.
4-
المُنَظِّرُون
في أسلمة العلوم[7]:
ويغلب على أبحاثهم العناية بالقيم، وإعادة الصياغة اللغوية والإعلامية للمنتج
العلمي الغربي في أهداف دينية غائية.
ولا نبالغ
إن قلنا أن كل هذه الأصناف قد فاتتهم الأسباب الحقيقية وراء الأَعْرَاض التي وقعوا
فيها جميعا من حيث لا يشعرون. ومن ثمَّ، خلت معالجاتهم لما هم فيه من محنة عقلية من
أي نجاحات مُجدية يمكن أن تُساعدهم في التغلب على محنتهم العقلية. هذا إن أوْلَوا
تلك المحن أهمية قصوى وحرصوا على معالجتها بما تستحقه من العناية، وخاصة الصنفين
الأوليين. ويأتي الصنف الثالث بالقليل جداً من النجاح، نظراً لخلو ساحتهم من أي
مشروع ذو معالم علمية حقيقية، أللهم إلا الدعاية الإعلامية العامة، الموجهة
بالدرجة الأولى للجمهور من الناس الذي نال قسطاً ضعيفاً أو متوسطاً من التعليم،
وخاصة الغربي. ورغم أن مُناصري هذا التيار أحياناً ما يأتون بآيات قرآنية علمية
حقيقية، إلا أنهم يعالجونها بأساليب كلامية خطابية شديدة السطحية إلى الدرجة التي
لا يستطيعون معها البرهنة على صحة دعاويهم، ولا القدرة على الدفاع عنها ضد أي نفخة
اعتراض. ثم تأتي أخطر مشاكلهم في الكم الكبير من السقطات العلمية التي يرتكبونها،
من حيث يظنون أنهم يحسنون صنعا. لذا، لم يحظ تيار الإعجاز العلمي بمصداقية تليق
برقي الرسالة، حتى ولو كانت المسألة التي تَصَدّوا لها في أعلى درجات القيمة
العلمية، فإذ بهم يهبطون بها من عليائها إلى دَرَكْ سطحية لُغوية ومعرفيات ركيكة. أما
الصنف الرابع، فنجد أنهم أقرب الأصناف نسبياً إلى النجاح، مع إنتاج علمي نظري ربما
يبشر بخير، غير أن مشكلتهم الأساسية أن أغلب أعمالهم نظرية عقلية وغير مدعومة
واقعيا – أللهم إلا ما كان في الجانب الاقتصادي والمالي الإسلامي والذي يُعد بحق
علماً إسلامياً تطبيقياً في حد ذاته، وناجحاً بامتياز.
ث
منهجية
جديدة للنظر والتطبيق، "التمييز الواقعي للمدلولات القرآنية":
ربما يبدو أن العلاج الواحد الذي
يفكك جميع التحديات التي عرضناها أعلى، مع كثرتها، يمثل تحدياً صعباً أو مستحيلَ
المنال في ذاته. ومع ذلك، سنقتحم لُجَّة المسألة بطرح آلية إجرائية نسميها
"منهجية التمييز الواقعي للمدلولات"، وتستهدف هذه الآلية التعرُّف على
المعاني المقصودة في كلام الله تعالى عن خلقه، وذلك بالمواجهة الصريحة مع الوقائع
العملية، وبمنهجية التحقيق العلمي (الذي أثبت جدارته في المسائل الطبيعية). وإذا
ما نجحنا في تطبيق هذه الآلية كما ينبغي، فمن المفترض أن تنفض الخلافات حول
التحديات السابق عرضها جميعا (بذهاب التحديات ذاتها).
وترتكز هذه المنهجية على التكامل
التام بين المصادر الموثوقة، ونقصرها على مصدرين لا ثالث لهما: القرآن والطبيعة.
ونقصد بالطبيعة: "وقائع الخلق" وبما يشمل كل ما هو مخلوق بما فيها
الاجتماعيات والإنسانيات. ويندرج الحديث النبوي الصحيح كمصدر ثانوي تابع للقرآن،
باعتبار الأمر الإلهي الصريح في القرآن باتباعه صلى الله عليه وسلم، والضمني بدوام
بقائه.
وربما يجادلنا أحدٌ بأن مصداقية
الطبيعة مدرجة ضمنياً أيضاً في القرآن مثلها مثل الحديث النبوي، ويستنكر فصلنا لها
وقيامها كمصدر مستقل. ورغم أن هذا الرأي صحيح، إلا أن السلطات الدينية الإسلامية
على تنوع مدارسها لا ترقى بالطبيعة إلى المستوى المصدري للمعرفة، وبعضها لا يعترف
بذلك، وربما يستنكر صحة أي آليات – لا يجد مثلها في التراث - للحصول على معلومات
من الطبيعة والواقع. ويضاف إلى ذلك سبب ثان ألا وهو أن الطبيعة تتميز عن القرآن
والحديث في أن إفادتها ليست لُغوية مثلهما، ومن ثم تفترق عنهما بما يستدعي تميزها
المعرفي بما يحفظ لها استقلالاً مصدرياً.
وهناك سبب ثالث شديد الأهمية، وهو أن
معظم المسائل التي سيتم التعامل معها هي من نوع الظواهر الطبيعية (أو الحقائق
الواقعية بصفة عامة) والمستقلة عن الانطباعات الإنسانية. ومما يؤسف له أن بعض
علماء الدين لا يعتبرون الطبيعة مصدراً موثوقاً للمعرفة من حيث المبدأ نظراً
لتصوراتهم الشخصية بأن المصدر المعرفي يجب أن يكون مصدراً لغوياً تبليغياً حرفياً
(نقل). وهذا التصور غير صحيح، لأن المعنى قابل دائماً للاستخلاص من الظواهر
الطبيعية والواقع العملي ومن ثمَّ يفي بغرضنا ويندرج في تعريف "المصدر
المعرفي" الموثوق، لأن الطبيعة لا يجوز عليها الكذب، من حيث كونها مُسَخَّرة،
وصادقة في لسانها عن حالها إذا استُنطِقَت.
ويجب
التنويه إلا أننا نقصد من "الطبيعة"، أو "الحقائق الواقعية" الأشياء
حيث خلقها الله تعالى وسن لها من السنن، باستقلال عن أي تدخل إنساني، وقبل أن يدلي
الإنسان بدلوه في فهم أحوالها بأي وسيلة كانت؛ لغوية أو رياضية أو نمذجة حوسبية أو
غير ذلك. ويمكن مقارنة هذا المصدر بـ "الحقائق الإمبريقية" في العلوم
الغربية. ولكننا نفضل الفصل بين المفهومين حرصاً على تجنب دخول أي فلسفة غربية
مستترة بالاصطلاح، أو تحميل أي تضمينات لمفهوم الإمبريقية الغربي في مفهوم الطبيعة
الخالص، فنضمن بذلك بقاء صفات الخلق وآليات عمله نقية صافية على ما قدرها الله
تعالى.
وفيما يخص معاني ألفاظ عنوان
المنهجية الذي اقترحناه " التمييز الواقعي للمدلولات القرآنية "،
فالمقصود من اصطلاح "التمييز" هو المعنى الحرفي لكلمة "يعرف"
والتي هي شديدة القرب الدلالي من "تحديد الشيء" أو "إفراده
بالدلالة". وهذا هو المعنى الذي نتوقعه من دمج مصدرين معرفيين تامَّي
الإفادة إذا اجتمعا: الطبيعة، التي هي فعل الله، والقرآن الذي هو
كلمة الله تعالى، وبإفادة تكاملية تستوفي النِّصَاب المعرفي. فمن المتوقع أن المزاوجة
بين القرآن والطبيعة واتخاذهما مصدرين معرفيين متناظرين يكمل كل منهما الآخر أن تثمر
ثمرة معرفية أبعد مدىً من الاستقلال بأي منهما على انفراد. والذي غالباً ما يكون
دون النصاب في الإفادة التامة، ومن ثم غير مُحكم (أي: متشابه) في دلالته للباحث
عنها. والحاصل بالفعل أننا نجد في القرآن حشداً من المؤشرات الصريحة على الظواهر
الطبيعية التي تستدعي معرفة وثيقة بعيون تلك الظواهر لفك ما يحوطها من غوامض
المعاني في الآيات المتشابهات المرتبطة بها، وهو الأمر الذي استدعى هذه المنهجية
الجامعة بين المصدرين، والباحث عن آلية لتمييز المدلولات بينهما؛ أي: " التمييز
الواقعي للمدلولات القرآنية ".
ج
مخطط
العمل المنهجي لتمييز المدلولات القرآنية:
بدايةً، الفعل: "يَعْرِف" -
والمتضمن بالضرورة لـ "آلية التَعرُّف" - يُعتبر مرتكزاً (معرفياً)
محورياً في منهجية "تمييز المدلولات في الآيات القرآنية" التي
ندعو لها. وبالرغم من ذلك، فكثيرٌ من المُنَظِّرين قد غفلوا عن تفرده في ذلك لوجود
فرق لطيف بينه وبين الفعل: "يعلم". ونقصد أن الفعل "يعرف"
والذي يعني "يُمَيِّز" الشيء المعلوم عن أشياء أخرى غير مرادة، والفعل
"يعلم" والذي يفيد محض العلم بذلك الشيء بعد الجهل به، أصبحا في كثير من
الأحوال ذا دلالة واحدة عند كثير من النُظَّار. وبسبب عدم الانتباه لهذا الفرق فقد
اشتبك الفعلان "يعرف" و "يعلم" عندهم حتى اعتُبرا مترادفين،
رغم أنهما ليسا كذلك.
ولتقريب المراد للقارئ نقول: لو أن
هناك شيئاً ما كشجرة التفاح وكان لها صفات كذا وكذا التي تكفي لتمييزها تمييزاً
كافيا. فالفعل "يعلم" هو أن يحيط المرء بأن هذا الشيء اسمه
"شجرة تفاح" وأن صفاته هي كذا وكذا. أما الفعل "يعرف"
فهو أن المرء إذا عُرض عليه شجرة وسُئل: ما هذا الشيء، وكان له صفات شجرة التفاح،
فإنه إن كان يعلم ذلك فقد عرفها، أي: تعرَّف عليها، وإلا فقد
أنكرها.
وعلى ذلك فإذا كان هناك شيئان: (س)،
(ص)، فيمكن التعبير عن الفرق بين "يعلم" و"يعرف" كالآتي
(بطريقة رمزية نحتاج إليها للمتابعة):
يعلم =: يحيط بأن الشيء (س) يحمل فئة (ث) من
الصفات: فث(س)
يعرف =: يحيط بأن الشيء (ص) له نفس الفئة (ث) من
الصفات: فث(ص)
وحيث أن فئة الصفات محققة في كل من
الشيئين: (س) و (ص)
فلا بد وأن:
ف ث(س)
= ف ث(ص)
والنتيجة اللازمة هي
أن:
الشيء
(س) == الشيء (ص) .... أي: هو هو عينه
أي
أن الشيئين (س) و (ص) هما في الحقيقة شيءٌ واحد. وهو هو ما تم التعرف عليه. وذلك
بعد أن كان هناك علمٌ مسبق بـ (س) قبل التعرض لـ (ص) والبحث عما إذا كان (ص) هو هو
حامل تلك الفئة من الصفات المميزة لـ (س) أم لا.
وبعبارة أخرى، فإن "التعرُّف"
على الشيء يحدث بعملية اقتران بينه وبين شيء سبق العلم به. فإذا ما تم مقابلة
الشيئين وتحققت في الثاني كل الصفات المعلومة مسبقاً للأول، تبين أن عين الشيء الثاني
هو هو عين الشيء الأول. أي أن الحديث إنما هو عن شيء واحد وليس اثنان، أو عن اثنين
ينتميان لنفس الجنس، وأن السؤال كان عن وحدة جنسهما أو اختلافه.
ولهذا الفرق بين "يعلم"
و"يعرف"، نجد أن لهما ضدين مختلفين. فالفعل "يعلم"
ضده هو "لا يعلم" أو "يجهل". أما الفعل "يعرف"،
فضده هو "يُنْكر".
هذا وقد انتقل الخلط بين الفعلين
"يعلم" و"يعرف" من المفسرين إلى مترجمي معاني
القرآن. وقد وجدنا في ترجمة (عبدالله يوسف علي) عدداً من الآيات (في جدول 1) تم
ترجمة الفعل "يعرف" الواردة فيها ترجمة تستدعي المراجعة والتصحيح،
وقد أرفقنا مقترحنا بالتصحيح المقترح، كما يلي:
|
|
Verse # |
Quran |
Translation (Abdullah Yusuf Ali) |
|
|
1 |
12:58 |
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ |
they entered his presence, and he knew
them, but they knew him not. |
|
|
|
ترجمة مقترحة |
they entered his presence, and he recognized
them, but they recognized him not. |
|
|
|
2 |
22:72 |
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ
فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ |
When Our Clear Signs are rehearsed to them,
thou wilt notice a denial on the faces of the Unbelievers! |
|
|
|
ترجمة مقترحة |
When Our Clear Signs are rehearsed to them,
thou wilt recognize the denial on the faces of the Unbelievers! |
|
|
|
3 |
47:30 |
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ
بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ |
We could have shown them up to thee, and
thou shouldst have known them by their marks, but surely thou
wilt know them by the tone of their speech! |
|
|
|
ترجمة مقترحة |
We could have shown them up to thee, and
thou shouldst have identified them by their marks, but surely thou
wilt identify them by the tone of their speech! |
|
|
|
4 |
2:273 |
يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ
بِسِيمَاهُمْ |
the ignorant man thinks, because of their
modesty, that they are free from want. Thou shalt know them by
their (Unfailing) mark |
|
|
|
ترجمة مقترحة |
the ignorant man thinks, because of their
modesty, that they are free from want. Thou shalt identify them
by their (Unfailing) mark |
|
|
|
5 |
27:93 |
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا |
And say: "Praise be to Allah, Who will
soon show you His Signs, so that ye shall know them" |
|
|
|
ترجمة مقترحة |
And say: "Praise be to Allah, Who will
soon show you His Signs, so that ye shall recognize them" |
|
|
|
6 |
2:146, 6:20 |
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا
يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ |
The people of the Book know
this as they know their own sons |
|
|
|
ترجمة مقترحة |
Those whom we have given the Book recognize
this (Book) as they recognize their own sons |
|
|
|
7 |
7:46 |
وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا
بِسِيمَاهُمْ |
and on the heights will be men who would know
every one by his marks |
|
|
|
ترجمة مقترحة |
and on the heights of Aa’raf are men who
would recognize every one by his marks |
|
|
|
9 |
12:62 |
اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا
إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ |
put their stock-in-trade into their
saddle-bags, so they should know it only when they returned to
their people |
|
|
|
ترجمة مقترحة |
make their stock-in-trade into their
saddle-bags, so they should recognize it only when they
returned to their people |
|
|
|
10 |
7:48 |
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ
بِسِيمَاهُمْ |
The men on the heights will call to certain
men whom they will know from their marks |
|
|
|
ترجمة مقترحة |
The men on the heights of Aa’raf will call
to certain men whom they will recognize from their marks |
|
|
|
11 |
55:41 |
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ |
the sinners will be known by their
marks |
|
|
|
ترجمة مقترحة |
the sinners will be recognized by
their marks |
|
|
|
12 |
33:59 |
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ |
that they should be known (as such)
and not molested |
|
|
|
ترجمة مقترحة |
that they should be recognized (as
such) and not molested |
|
|
جدول (1): الآيات التي ترجم (عبدالله يوسف علي) معانيها، ولم يفرِّق بين الفعلين (يعلم) و(يعرف)
ونلاحظ في كل هذه الحالات، أن كلمتي: know و notice
ينبغي أن يستبدل بهما كلمة recognize الصريحة في الربط بين معلومين، وهو الأمر
الحاضر في كل هذه الآيات. هذا مع ملاحظة أن مترجم هذه الآيات قد أصاب الترجمة في
آيات أخرى وأتى باللفظ recognize
كما نقترحه، وذلك في المواضع {(2:89), (5:83), (83:24), (23:69), (16:83)}.
وتعتبر خطة عملنا ببساطة امتداداً لهذه الفطرة الإنسانية التي تتعرف
على المعاني من خلال إفراد الأشياء محل النظر بصفاتها. وفي الحقيقة تُمَثّل هذه
الفطرة المعرفية الطريقة السارية بين البشر في اقتناص المعاني المقصودة من أي كلام
إنساني، وذلك في أي حوار بين متحدث يتكلم عن شيء ما، ومستمع يميز مدلول كلامه من
ذلك الشيء دون غيره من الأشياء. ولابد أن يسعى السامع إلى محاولة التعرف على
(= تعيين) ما الذي يتكلم عنه المتحدث من خلال الحد الأدنى من صفاته التي تكفي
لإفراده بالتعيين. وهذه هي الطريقة المستخدمة في طرق التواصل اللغوي البشري بوعي
أو بدون وعي. وقد استخدمها المفسرون بالطبع دون التصريح، ورجوعاً حتى صحابة النبي
صلى الله عليه وسلم. ونجد مثلاً أن التفسير الدارج لمعنى "العاديات" في
السورة التي تحمل نفس الاسم، على أنها الخيل أو الإبل، إنما قام على نفس هذه
المنهجية العقلية في تمييز الأشياء (في إطار جملة المعارف التي وفرتها قاعدة
البيانات العقلية وقتئذ). ويدلل ذلك على أننا لا نبتدع في هذه الدراسة منهجية شاذة
عن الفطرة المعرفية. وما نقدمه جديداً في هذه الدراسة إنما هو مد الأفق المعلوماتي
للأشياء، بصفاتها التي خلقها الله سبحانه عليها، والتي لا تكف عن الانزياح بسيل
المعارف الجديدة، ومن ثم توسيع دائرة تمييز الأشياء، عسى أن نحظى بتعيين ما قصده
القرآن كمدلولات لآياته المتشابهات، ومن ثم التسامي بمعانيه إلى حيث أراد الله
لها، فينكشف المتشابه ويصبح محكما.
ثم أن طريقتنا هذه هي ببساطة ليست إلا مقابلة بين إفادتين معرفيتين،
إما من مصدر واحد في زمنين، أو من مصدرين منفصلين. وحيث أن القرآن قد استوفى ما
أراد الله تعالى إعلامنا به كلاما، إلا ما ألحق به من كلام النبي صلى الله عليه
وسلم، فحتماً لا بد وأن أي كلمة أو عبارة قرآنية مشتبهة المعنى تستدعي مصدراً
معرفياً صادقاً آخر غير الوحي لتمييز مدلولها. وهذا المصدر هو ما تعرفنا عليه بأنه
الطبيعة الخالصة، المخلوقة لله تعالى دون سواه، البِكْر في صفاتها، النقية من أي
تدخل مفاهيمي إنساني يلونها بألوان ثقافية مرحلية.
وغني عن البيان أن النظريات العلمية عن الطبيعة ليست هي المحتوى
المفاهيمي البكر للطبيعة، لذلك فإننا لا نعتمد النظريات بصفة عامة على أنها مصدر
معلومات موثوق مؤتمن جدير بأن يحظى بالثقة التامة. لذلك، لن نستغني عن عملية تطهير
مفاهيمي مستمرة لاستخلاص المعلومات الخالصة عن الطبيعة، وذلك بطريقة مشابهة لعملية
التطهير التي أشرنا إليها للمعاني القرآنية الخالصة من طيات التراث الإسلامي وما
فيه من تدخلات إنسانية تشويشية، والتي يمكن اعتبارها هي الأخرى نظريات في التفسير
القرآني، فيها الحق وفيها غير ذلك.
أي أن ما نضيفه هنا ليس إلا طريقة علمية أكثر تمحيصاً لتمييز المعاني
المستخلصة من الطبيعة كمصدر معلوماتي نوعي ثاني، يحظى بالثقة والصدق بجانب القرآن.
ونقصد بالتمحيص أننا سنسبر غور الصفات الطبيعية ومعانيها لتمديد قاعدة بيانات
صفاتية تفصيلية للمخلوقات، والتي كانت موجودة دائماً في الذهن الإنساني ولو بصورة
محدودة أو باهتة، وبعد تعميقها وتمديدها ننقب فيها لعلنا نتعرف عم يتكلم القرآن
عنه. وأول المصادر لتأمين هذه القاعدة الخالصة من المعلومات الخام عن الخلق هو
الكشوف العلمية الحديثة. وليس في صيغتها التنظيرية، بل في صيغتها التجريبية الجنينية
المولودية من مصدرها الطبيعي والتي تسبق أي تنظير، أو حتى تسمية. أي أننا ننادي
لإنشاء قاعدة معلومات مفتوحة، وبلا أي قيود مكانية أو زمانية، وهنا تأتي المرحلة
التي نسميها "تسامي المعاني القرآنية" و"التَعَرُّف" عليها في
تلك القاعدة المعلوماتية المفتوحة عبر الصفات المشتركة مع صفات الأشياء الصريحة في
القرآن. وهذا الإجراء في مد قاعدة المعلومات المعرفية ليس إلا إعمال قول الله
تعالى " قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "(يونس 10: 101).
ونود أن نلفت الانتباه إلى الإشارة الصريحة في القرآن إلى مهمة
"تمييز مدلولات الكلام الإلهي" وكونها من مستقبلات الأحداث بعد التنزيل،
ونجدها في قول الله تعالى "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ
فَتَعْرِفُونَهَا"(النمل 27: 93). إلا أن الظاهر أنها قد أغفلت (أو ألحقت
إمّا بعصر النبوة، رغم أن "سوف" ليست للمستقبل القريب، أو بأحداث يوم
القيامة، رغم منافاة الأحداث وقتئذ لوصفها بأنها آيات). وللأسف، وكما أوردنا هذه
الآية في جدول (1)، فإنها قد ترجمت لتعني "سيريكم آياته فتعلمونها" في
حين أن المراد من "تعرفونها: هو تمييزها بعد غيابها. وهذا يزيد عن محض العلم
بعد عدمه. ويصح أن نوجز الغرض من كل هذه الدراسة بأنه وضع الآية (النمل 27: 93)
على مفترق الطرق. والطريق الذي ندعو لسلوكه لإعمال هذه الآية هو طريق "تمييز
مدلولات الآيات". وهذا يدعو وبإصرار إلى تأمين مصدر معلوماتي جديد. وهذا
المصدر هو ما نتعرف عليه على أنه "الطبيعة المخلوقة الخالصة المعنى".
ومن ينكر هذا المصدر، فعليه أن يأتينا بما هو أوثق، إن استطاع، وإلا ظلت الآيات
المتشابهات أبد الدهر متشابهات! وهو الأمر الذي لا يلتئم مع كون كتاب الله تعالى
كتاباً مُبيناً للبشرية جمعاء – وإن لم يفعل من يُنكر علينا ذلك، فلن يسعه إلا أن
يأتينا مُحمَّلاً بمعاني شاردة للآيات الكونية في القرآن، والتي وصلتنا عبر
القرون، بلا أصل معرفي رصين، أللهم إلا ما كان من قبيل "التخمينات
اللغوية" والمظان الثقافية!
ح
موجز إجراءات
"منهجية تمييز المدلولات":
أولى خطوات هذه الإجراءات هو اكتشاف وجمع المعلومات الخام عن موضوع الدراسة من المصدرين المستقلين والوحيدين: القرآن والطبيعة. ومن المفترض أن تكون معلومات كل من هذين المصدرين على حدى معلومات جزئية الدلالة على مدلولها، ومن ثمَّ جزئية الغموض الدلالي. وبالتالي تكون غير وافية بانفرادها لإشباع الكفاية المعرفية بالحد الأدنى من النِّصاب الدلالي. فإذا ما أجرينا مواجهة بين معلومات المصدرين عن نفس المدلول غير المتميز تمييزاً تاماً، أمكننا الوصول إلى حالة من التتام المعرفي، وعندها يظهر بوضوح مدلولٌ صريح ومتميز وحاد البؤرة وكامل الوفاء بمتطلبات كل مصدر من شروط البيان الخالي من أي اشتباه.
وفيما يلي نعرض مقصودنا من هذا
التتام وكيف له أن يتحقق.
خ الطريقة الشبيهة بـ "التكامل الجبري":
نسعى باستخدام هذه الطريقة لأن نجمع بين المعلومات المتاحة في كل من القرآن والطبيعة - في مسألةٍ ما – وذلك بطريقة تشبه الجمع بين معادلتين جبريتين. وفي كل معادلة يكون لدينا عدداً مما يشبه الحدود الجبرية المعلوم قِيَمِها بشكل جزئي، أو المعلوم بعضها فقط. ونقصد بالتشابه مع المعادلة الجبرية أن نقرأ عبارة قرآنية – سواء كانت جزءاً من آية أو آية أو عدد منها – بحيث يكون رأس المسألة؛ أي عين الشيء المشتبه المعنى، هو مجهول المعادلة المطلوب كشف النقاب عنه، ويقع في أحد طرفي المعادلة، وتكون صفات ذلك المجهول ممثلة بعدد من الحدود المعروف أغلبها على الطرف الآخر من المعادلة. ثم نصنع معادلة شبيهة للظاهرة الطبيعية المرشَّحة بين موضوعها وموضوع القرآن. فنضع موضوعها على طرفها، وصفاتها على الطرف الآخر . ثم نواجه بين طرفي المعادلتين الممثِّلِين للصفات القرآنية والصفات الطبيعية، صِفَةً صِفَة. والحالة العامة لهذه المواجهة هي أن نجريها على عدد من الظواهر الطبيعية المرشَّحة، ويؤول الرجحان لأحد تلك الظواهر من واقع اتفاق صفاتها أحسن اتفاق مع الصفات القرآنية للشئ المشتبه عينه. وعلى إثر ذلك تُقدَّم تلك الظاهرة على أنها التفسير الراجح للشيء المشتبه في العبارة القرآنية، ومن ثم يتم التعرف عليها، أي تمييزها، على أنها المستهدفة بالذكر، وهذه هي "منهجية تمييز المدلول". وقد تكون هذه الظاهرة الراجحة يقينية الرجحان، أو ربما تكون فقط ظنية الترجيح، وذلك حتى يقدمها أو يؤخرها مزيد من اكتشاف الصفات الطبيعية، أو مزيد من بيان الصفات القرآنية. ولا يمتنع أن تسقط ويتقدم عليها غيرها أوفى بالرجحان.
وجدير بالملاحظة أن عملية تمييز
المدلول القرآني والتي شرحناها لتوّنا على أنها منهجية الكشف القرآني تأخذنا من
الصفات القرآنية الصريحة الذكر إلى التعرف على الظاهرة الطبيعية المستدل عليها.
وهذه الانتقال من الصفات إلى الظاهرة الطبيعية عملية عكسية لما يحدث في الكشوف
الطبيعية؛ حيث ننظر في ظاهرةٍ ما بعد تسميتها، ثم نتبع ذلك بالكشف عما عساها أن تتصف
به هذه الظاهرة من صفات.
وهاتان الطريقتان في الكشف المعرفي:
القرآني والطبيعية والمنعكستان كما بيَّنَّا، تتكاملان فيما بينهما، وتمثل الصفات
المشتركة مراكز هذا التكامل أو مراكز الارتباط. حيث ترتبط الصفات المعلومة بين
الطرفين والتأكد التام من تطابقها على الطرفين، ومن ثمَّ نستدل "نتعرف"
على وحدة الموضوع. ثم نربط كل صفة غير معلومة بنظيرها المعلوم في الطرف الآخر، ومن
ثم ينكشف معناها ويزول عنها الغموض السابق. وبهذه المقابلة نحصل على المزيد من
المعرفة عن الظاهرة في الجانب الطبيعي إن كان الغموض في جانبه، والمزيد من البيان في الجانب القرآني إن كان
الاشتباه سابقاً على المقابلة. كما نحصل أيضاً على المزيد من سد ثغرات الفهم، وقبل
هذا وذاك، مزيد من الثقة في صدق الارتباط بين المصدرين في موضوع الظاهرة إذا كانت
الصفات المتقابلات ظاهرة أو بينة قبل المواجهة، وصادقة عندها. ونخرج من مثل هذه
التجربة بمفهوم وحدوي لفهم العطاء الإلهي كلاماً وخَلْقاً، وكيف أنه يتجلى
بالتصديق المتبادل بين الطرفين.
ونسعى الآن إلى تمثيل هذه الآلية
المنهجية عملياً: حيث نقدم ظاهرة طبيعية تحمل اسم [الشفق القطبي][8]
– وهو اسم عربي مُشْتَبِه في الحقيقة، ولا علاقة له بمعنى الشفق – (أنظر مربع: 1).
شكل 1: حشرات الحُباحب التي كان
يعرفها العرب، ونقل ابن منظور في لسان العرب عنها: [ذُباب يَطِيرُ بالليل، كأَنه نارٌ، له
شُعاع كالسِّراجِ] ونقل أيضاً: [الحُباحِبَ طائر أَطْوَلُ مِن
الذُّباب، في دِقَّةٍ، يطير فيما بين المغرب والعشاء، كأَنه شَرارةٌ]
وفي (شكل 2) نرى رحلة الجسيمات التي
تهب مع الرياح الشمسية ناحية الأرض، وكيف أنها تعدو (في حركة لولبية) لتهطل في
المناطق القطبية، مُحدثة ذلك الموران الضوئي، وتلك الأصوات، وإثارة النقع الجوي،
والتحلق حول جمع الخطوط المغناطيسية، فيما يسمى القطب المغناطيسي.
شكل 2: رسم تصويري للآلية الطبيعية
التي تنتج عنها ظاهرة الشفق القطبي (الأورورا)[9]
ونرى بوضوح أن الصفات المتقابلة في (شكل 3) تصل إلى سبع صفات. ويتحقق منها ست صفات على التمام. وتدعم المقابلة على أوضح ما يكون رؤيتنا للأضواء الوهاجة من هذه الظاهرة (الموريات) وسماعنا للأصوات (الضبح) التي سجلتها المناطيد الهوائية، وكون أن زمن وقوع هذه الظاهرة يكون دوماً في الصباح، وأن سببها هو دفقات الجسيمات الهاطلة على الأرض، وبفعل احتكاكها بذرات الهواء (قدحا)، وأنها تتحلق قرب وصولها للأرض حلقة مضيئة واضحة تحيط بجمع الخطوط المغناطيسية (فوسطن به جمعا) في القطب المغناطيسي من كلٍّ من جهتي الأرض. وزيادة على ذلك يصرح القرآن بصفة لم تكن معلومة بوضوح في فيزياء هذه الظاهرة! ألا وهي إثارة النقع: أي استثارة ذرات الغلاف الجوي. وهذا التصريح القرآني يحل كثيراً من ألغاز مصدر هذه الاستثارة في المناطق القطبية والتي حيرت الفيزيائيين كما سنرى لاحقا.
وتتجلَّى صلاحية المنهجية التي ندعو
إليها مع ازدهار حصيلتنا المعرفية من العلوم التجريبية وظواهرها الطبيعية، لأننا
بدونها لم نكن لنعرف ما يكفي من معلومات لتمييز ظاهرة ما وطرحها للمقابلة مع
المعطيات القرآنية. وعلى الجانب القرآني، فتُثبت المنهجية أن القرآن يقف باستقلاله وانفراده ككيان معرفي متكامل،
غير أن لغته هي كلمات الله تعالى. وبالرغم من أن القرآن محدود العدد ألفاظاً
وحروفا، إلا أنه نسبياً لا نهائي من حيث مكنونه من الكنوز المعرفية، وبما يغمر
نطاق الحياة الإنسانية الذي أُنزل لها. مثلما هو حال العالم الطبيعي، حيث نجد أن مُكوناته
الأساسية محدودة العدد والحجم، إلا أنه ثمراتها لا نهائية في نطاق عمر الكون. غير
أن القرآن لا يؤدي غرضه باستقلال عن معرفتنا بالكون، مثلما لا تنفع كتب تعلم
اللغات إلا بممارسة عين اللغات، وكذلك لا يمكن أن يُفهم كلام الخالق سبحانه عما خلق
إلا بمعاينة خلقه ومدارسته.
د تطبيق
الآلية الرياضية لتمييز المدلولات على سورة (العاديات 100: 1-5):
لتكن Q(s)
العبارة القرآنية عن الشيء (s).
وإذا كان الشيء (s) له عدد
(i) من الصفات q1(s)، q2(s)، ...، qi(s)
فيمكننا التعبير الرياضي
عن العبارة القرآنية على الصورة:
(1) Q(s) = q1(s) + q2(s)
+ .. + qi(s)
والتي تعني أن الشيء ليس
إلا (أي: يُكَافأ مَعرفياً بـ) مجموع صفاته.
وبالمثل، لتكن N(t) هي
العبارة الطبيعية عن الشيء (t).
وصفاته هي n1(t)، n2(t)، .....، nj(t)
فتكون العبارة الطبيعية
هي:
(2) N(T) = n1(t) + n2(t)
+ .. + nj(t)
(ويُلاحَظ أن الرموز
تختلف من كل وجه لأننا لا نعلم بعد أهي هي نفس الظاهرة التي يتكلم عنها القرآن
والطبيعة أم لا)
والآن، نواجه فئتي
الحدود الجبرية الممثلة للصفات في كلا المعادلتين (1) و (2), باحثين لكل صفة واحدة
واحدة، عما يكافئها.
q1
(s) =؟ n1 (t) ، q2 (s) =؟ n
2 (t)، q3 (s) =؟ n3 (t)،
...
وفي الحالة المثالية التي تتحول معها
علامات الاستفسار (=؟) إلى علامات تَسَاوِي (=)
يتكافأ الطرف الأيمن في كل معادلة مع
الآخر، وينتج بالضرورة أن يتكافأ الطرف الأيسر منهما، ونحصل على:
Q(S)
= N(T)
ومنه يصح مساواة الظاهرة المحكي عنها
قرآنياً بالظاهرة المحكي عنها طبيعيا، أي:
S = T
وإذا لم
تتكافاً كل الحدود الجبرية الممثلة للصفات، أي لا نحصل على علامات تساوي (=) فسيتبقى
ولو حد واحد مثل:
q6 (s)
=؟ n6 (t)
وعندها نصل
إلى نتيجة مزدوجة، ولا بد أن تتحقق كل المعادلتين الآتيين سوياً أو ينتفيان سويا.
(3) S
= T ó q6 (s) = n6
(t)
[وكل ما سبق صحيح، بافتراض أن كل من
الفئتين {qi(s)} و {ni(t)}
منغلقتين؛ أي ليس هناك من صفات إضافية غائبة؛ قرآنياً أو طبيعيا، وإلا لتعلقت
النتيجة الأهم (S = T) على
صحة تساوي كل صفة قرآنية بنظير طبيعي لها (العكس غير ملزم لأن الطبيعة لها من صفات
ما ربما لا ينغلق بخلاف النص القرآني المنغلق على ألفاظ التنزيل)]
والآن، بتطبيق النتيجة المزدوجة في
(3) على المسألة التي نحن بصددها في سورة العاديات (شكل 3)، نحصل على:
S = العاديات (المحكي عنها بصفاتها) T = الجسيمات
المسببة للشفق القطبي
q6 (s)
= مثيرات للنقع ومن
ثم: n6 (t) = إثارة الغبار (النقع)
أي أنه إذا كانت S=T فحتماً لا بد
أن يتحقق n6 (t) = إثارة الغبار
والتي تعني أنه إذا كانت
"العاديات" هي الأشعة المسببة لظاهرة الأورورا، فلا بد وأن يصاحب هذه
الظاهرة حيثما تحل أن تكون مصدراً لإثارة الغبار.
وعند هذا الحد، وإذا
تحققت هذه النتيجة الأخيرة، فيجب أن نحصل على ظاهرة أعم (معرفياً) من كل من
الظاهرة القرآنية - بحسب فهم الألفاظ اللغوية - على حدى، والظاهرة الطبيعية –
المعلومة قبل المواجهة - على حدى، ألا وهي ما يمكن أن نسميه الظاهرة الجامعة. أي التي تجمع بين ما أنزله
الله وما خلق الله، وأتت به التحقيقات الطبيعية، وانطباقها على الظاهرة القرآنية
بعد رجحان أنها هي المحكي عنها. والإضافة التي نعنيها هي أن تاويل الظاهرة
القرآنية يصبح محكماً ومفصَّلا، كما يعني أن الظاهرة الطبيعة قد انكشفت لها معاني
لم تكن معلومة علماً مكتملاً من محض النظر والرصد والتجريب. وذلك باعتبار أن
الصفات المشتركة بين الظاهرتين قد أصبحت أكثر انكشافا بما انضاف من التوصيف من كلا
الجانبين فأصبحا توصيفاً متكاملا.
ذ التنبؤ في طريقة "تمييز المدلولات القرآنية":
تعد النتيجة [n6
(t) = إثارة الغبار] تنبؤ
لطريقة "تمييز المدلولات القرآنية". وتعني أنه في ظاهرة الشفق القطبي/الأورورا
لابد وأن يحدث استثارة للغبار الجوي، ويمكن فهم ذلك على أن مسار حركة الأشعة
المسببة للشفق القطبي هو مصدر هذه الاستثارة للغبار/الهباء/ الضباب الترابي، وذلك
عبر عدد من المُحَفِّزات: مثل تأثير الدينامو[10]،
أو التأثير الحراري[11]،
أو تأثير التآين[12].
وتفعل كل هذه التأثيرات فعلها في الأغلفة الجوية للكواكب بشكل عام[13]
بما في ذلك كوكب الأرض. ويعد هذا المجال البحثي فيما يخص الغلاف الجوي الأرضي مجال
بحث واسع[14].
وتوجد أدلة عديدة على تأثير الرياح الشمسية المسببة للشفق القطبي/الأورورا على
نظام الرياح على الأرض وظاهرة الضباب القطبي الغامض[15]
الأسباب. إلا أن البرهنة على ذلك لا يمكن أن تتأتى إلا في إطار برنامج بحثي جاد
يربط بين تأثيرات ظاهرة الشفق القطبي/الأورورا الواسعة الطيف، وذلك في علاقاتها مع
النظام المناخي. وندعو في هذا الإطار إلى تأسيس مشروع بحثي يمدد من نطاق تطبيق
آيات سورة العاديات ونقله إلى مشروع بحثي علمي قرآني. وليس هذا إلا إشارة واحدة
لما يمكن أن يقدمه القرآن للأجيال القادمة. وبخلاف ذلك فهناك العديد من البرامج
البحثية التي تنتظر الباحثين الجادين، والتي نطمح إلى أن تشبع شهيتهم العلمية، بل
وتفيض ما يكتنزه الإسلام القرآني من ثراء معرفي.
ر تمييز مدلول الآيات:
كما ذكرنا سابقاً، فالمنهجية التي
اتبعناها، ما هي إلا تمديد للعادة الإنسانية الفطرية في التمييز المفهومي للأشياء،
من واقع صفاتها الظاهرة. فالتعرف على شخص أو شيء ما إنما يكون بتمييز المعلوم منه
من صفات، مع ما سبق والتقينا به أو عَلِمناه من صفات شبيهة، وجمعها كيان واحد
بعَلَم مُمَيَّز. وفي اللغة العربية يوجد فعلان "يعلم" و
"يعرف" يتم ترجمهتما إلى فعل واحد في اللغة الإنجليزية هو know.
إلا أن الترجمة الخبيرة لابد وأن تراعي ما بين هذين الفعلين من فرق لطيف، والتي
تجنح بترجمة الفعل "يعرف" إلى الفعل recognize
بالإنجليزية، والذي يعني "يميز" أو "يتعرف على".
وبهذا المعنى تصبح عملية التمييز أو التعرُّف هذه – وهو ما يتم على ما سبق العلم
به نظراً أو خبراً – هو ما نفهمه من الآية الكريمة “وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا”(النمل 27: 93)، وذلك إذا كان الأمر متعلق بالآيات المحكي عنها.
ولو نظرنا إلى ترجمة (عبدالله يوسف
علي) لهذه الآية، لوجدناها:
‘And
say: "Praise be to Allah, Who will soon show you His Signs, so that ye
shall know them"’،
وطبقاً لتحليلنا، فإن هذه
الترجمة قد جانبها الصواب. وبما يستدعي أن تتعدل إلى:
‘And
say: "Praise be to Allah, Who will show you His Signs, and ye will recognize
them"’.
ويؤول الفرق بين هاتين
الترجمتين إلى الإقرار المسبق بأن النص القرآن مكتفٍ ذاتياً بنصه في العلم بالمخبر
عنه (ترجمة يوسف علي) أو غير مكتفي (ترجمتنا). وما ندافع عنه هنا في هذه الدراسة
أن الاكتفاء الذاتي إنما هو للمجموع [القرآن+الكون]، وليس لأيٍّ منهما بانفراده
للوصول إلى درجة الإحكام/البيان التام. بمعنى أننا ما لم ندمج الكون مع القرآن
دمجاً معرفيا باستخدام أدوات الحس المميزة للصفات المخبر عنها، فإننا لن نستطيع أن
نعرف ما الذي يتكلم عنه القرآن من أشياء الكون. ولنلاحظ أن أدنى درجة
معرفية في الإنسان هي أن يفقد حواسه المعرفية، فيكون غير مدرك؛ ومن ثم غير عاقل
لما حوله، وهذه هي حالة المرفوع عنه القلم حتى يعقل. وفي هاته الحالة لا يستفيد
صاحبها من القرآن لعدم قدرته على التمييز، ومن ثم لم يعد القرآن ذي فائدة له،
ولهذا أخرجه الإسلام من التكليف. وفي الطرف الآخر حيث أعلى درجات التمييز
الظاهري لما حواه الكون من أشياء وما بينها من علاقات، فعندئذ، يصبح القرآن
مفهوماً فهماً جيداً بلا أي غموض في الإسقاطات الواقعية لمدلولات آياته. وما بين
هذين الحدين يقع التمييز الظاهري الجزئي، والذي يعني الفهم الجزئي لمدلولات
القرآن، وتصبح الآيات المعنية بذلك مشتبهة المعنى بدرجةٍ ما من درجات الاشتباه. والنتيجة
الضرورية لذلك التحليل أن مزيداً من التحصيل المعرفي للكون يؤدي إلى مزيدٍ من فهم
الآيات القرآنية والرسائل المبثوثة فيها للإنسان. ويعني هذا أن فهم القرآن من حيث
إتمام إحكام آياته المشتبهات يصبح دالة في كَمٍ التحصيل المعرفي، وهذا بدوره دالة
في زمن الإنسانية الباقي بعد نزول القرآن. وهذا هو ما نفهمه من قول الله تعالى
"هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ
يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ ..."(الأعراف 7: 53) بمعنى أن " يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ " هو يوم يكتمل تأويل كل ما كان
من معانيه مشتبها. وطبقاً للتحليل الذي نحن بصدده، أن ذلك لن يكون إلا مع اكتمال
نصيب الإنسان المقدر له من العلم بالكون. وهذا لن يكون إلا في نهاية الزمن الجاري،
والذي يشارف نهاية البشرية. غير أن ترجمة (عبدالله يوسف علي) مختلفة، وتتفق مع أن
القرآن مكتفٍ ذاتياً – كما سبق وذكرنا أعلى – لذلك جاءت على النحو التالي:
“Do
they just wait for the final fulfillment of the event? On the day the event is
finally fulfilled, those who disregarded it before will say …”
وهنا يختلف معنى التأويل
بين ترجمة (عبدالله يوسف علي) وترجمتنا، حيث أراد (يوسف علي) في تبنيه لنظام
القرآن المكتفي ذاتياً – طبقاً للعرف الموروث - أن معنى التأويل هو وقوع حوادث
الآخرة بعينها والتي توعَّد القرآن بها المُعرضين عنه. بينما أتى معنى التأويل في
تحليلنا بمعنى فك غوامض آياته المشتبهات بدلائل العلم بالخلق، والذي جعل الإنسان
يميز مراد الله من آياته، ومن ثمّ دوام صدق الآيات المتتالية التي بها تقوم الحجة
على كل ذي ثقافة إنسانية وعلى كل مستوياتها مهما ارتقت. فالعبرة ليست بوقوع حوادث
الآخرة، وإنما بأن اكتمال بيان القرآن لمجموع البشرية إيذانٌ بانغلاق فرصة
الإيمان، لانتهاء الجدول الزمني لبيان آياته.
وهذا الفرق بين
المنظورين؛ في بيان معنيي كلمة "التأويل"، نجده أيضاً في آية سورة يوسف
عليه السلام حين قال " يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ
جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا .. "(يوسف 12: 100)،
وقد ترجمها (عبدالله يوسف علي) على النحو التالي: "“O my father! this
is the fulfilment of my vision of old! Allah hath made it come true!"، وجعل المترجم معنى "تأويل رؤياي" هو وقوع
الرؤية، والصحيح عندنا أن معنى "التأويل" هنا أيضاً هو (بيان معنى
الرؤية) الذي لم يظهر بتمامه إلا عند وقوعها، وليس أنه هو هو عين الوقوع. ومما
يعضد ذلك أن يوسف عليه السلام في كلامه قد عطف على قوله " هَٰذَا تَأْوِيلُ
رُؤْيَايَ " بـ " قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي
حَقًّا " ولو كان التأويل معناه وقوع
التأويل، والذي يعني أصبحت حقاً لكان عطف بمعنى على مثله! ومعلوم أن العطف يفيد
افتراق المعطوف عن المعطوف عليه. فالأول (أي: التأويل) يعني (معنى الرؤية) والثاني
هو وقوعها وكونها أصبحت حقيقة. أي أن معنى كلام يوسف عليه السلام : [هذا الذي حصل (سجود
أبوه وأمه وإخوته) هو معنى الرؤية التي رأيتها من قبل (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ
عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)، وقد أصبحت الآن واقعا]. والخلاصة أن كلمة تأويل في تحليلنا تفيد
"المعنى المفهومي" دائما، حتى ولو لم يظهر إلا مع (وقوع
المأوَّل)، ولا تفيد عين (وقوع المأوَّل) على نحو ما يشيع في المعنى التراثي لمعنى
التأويل.
ز "تمييز المدلولات القرآنية" باعتبارها منهجية إجرائية لإعمال التأويل:
في تفسير الآيات المحكمات، يكون
المعنى معلوماً للعلماء الراسخين في العلم بالضرورة. أما الآيات المتشابهات
فالمعنى لا يكون معلوماً لأحد على الإطلاق (إلى أجلٍ أجَّله الله تعالى). ويرجع ذلك
إلى أن كل متطلبات التفسير كانت مستوفاة للآيات المحكمات، أما المتشابهات فلم
تستوف شرائط بيان المعنى بعد، حتى يحين ذلك الأجل، ولهذا كانت هذه الآيات متشابهات،
ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت محكمات.
وهذا يعني أن التأويل (الصحيح) لا
يمكن الوصول إليه أبدأً إلَّا مع الوفاء بكل ضرورياته، ومع انقضاء اجل بيان المعني
وانكشافه. وعند حدوث ذلك يصبح التأويل الصحيح تفسيراً مثل أي تفسير سابق للآيات
المحكمات، وينتهي اشتباه تلك الآيات وتصبح من المحكمات. وهذا الأجل هو أجل ظهور
معاني ضرورية من خارج النص القرآني للوفاء بتمام معنى الآيات، وإلا لكان قد استبان
المعنى للمسلمين الأوائل. وهنا تأتي مهمة كشف المعاني الضرورية المفقودة (المؤجلة
قدراً من الله تعالى) والتي لا نرى في الأفق ما يمكن أن يقوم بها إلا إجراء "تمييز
المدلولات القرآنية" الذي ندعو إليه. ولا يكون ذلك إلا من مصدر ثقة متجدد.
ونقصد بالتجدد هنا الحدوث بعد انقطاع الوحي. ولم نرى غير الطبيعة البكر مصدراً
مؤهلاً لذلك، فتنطق بما خلقها الله تعالى عليه إذا استُنطقت بالرصد والتجريب. وهذه
المهمة ما يكون لها أن تتحقق إلا بمكتشفات كونية جديدة لظواهر أو أشياء أو حوادث
لم تكن معلومة للبشرية من قبل.
ويتضمن هذا التحليل أنّ كلّ تأويل لا
يجعل المتشابه محكما، فهو ليس بتأويل صحيح. ولن يزيد في أهميته ولا جدواه عن رتبة
المحاولة غير الناجحة. وتظل محاولات التأويل قائمة – أي محاولات الوصول
إلى تفسير- حتى يأتي الأجل ويصيب أحدها الهدف. فيصبح ذلك التأويل عندئذ تفسيراً
للآيات. وتصبح الآيات محكمات بعد أن كانت قبلها مشتبهات. أي: يزول الاشتباه عنها ولا
يعد هناك حاجة إلى تأويل آخر. لأن المُحْكَمات لا تُأوًّل، وهذا هو معنى "لا
تأويل مع النص" – حيث النص هنا هو (ما تجلّى معناه وظهر للعيان). ويحدث ذلك
فقط في حالة تحقق معيار حاسم تنتقل به الآية أو العبارة أو الكلمة القرآنية عبر
برزخ المعاني من الاشتباه إلى الإحكام مع الاستيفاء الضروري للمعاني التي كانت
غائبة، ووجب اكتمال نصابها. ويصبح دور العلماء في إعمال هذا المعيار هو كشف وتنظيم
وتنقية المعاني، - أو لنقل باصطلاحات أصول الفقه: السبر والتقسيم وتخريج المناط
وتنقيحه – وكل هذا لا يضمن الوصول إلى المعنى المحكم بالضرورة، إلا إذا أتى
أجله، وأظهر الله تعالى وحده من المعاني ما يعلم به المجتهدون أنه التأويل الحق؛
أي التفسير. وهذا مصداق قول الله تعالى " ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ "(القيامة
75: 19).
س مناقشة:
والآن،
وبعد الكشف عن معاني آيات سورة العاديات (1-5)، يصبح من الضروري التحقق مما
اتبعناه من طريقة "تمييز المدلولات القرآنية"، وهل أنجزت ما سعينا إليه
من التغلب على التحديات التي عرضناها ابتداءا؟! وبأي درجة؟. لذلك، سنقوم بسرد تلك
التحديات مرة أخرى وبنفس الترتيب، مع ختم كل منهما بعبارة توجز النتيجة.
1- الدوجما القائلة بأنه ليس هناك من اكتشاف معاني
جديدة في القرآن: (تم تخطئتها).
2- الدوجما القائلة بأن كل آيات القرآن وكلماته
وعباراته قد فسرت تفسيراً صحيحاً: (تم تخطئتها).
3- النظر إلى التفاسير الموروثة على أنها في مجموعها
مكافئة في الدلالة للقرآن: (تم تخطئتها).
4- ما جرت عليه العادة من التجاهل التام لفئة من
الشرعيين للكشوف العلمية الحديثة: (تم تخطئتها).
5- الفصل التام بين ما هو شرعي وقصره على العبادات،
وما هو دنيوي وأنه ليس ديني: (تم تخطئته).
6- احتواء الكتب التراثية على الكثير من الأقوال
الضعيفة والتفاسير المثيرة للجدل، وذلك إذا خضعت للمعايير العلمية الحديثة، هذا
إذا أهملنا ما هو ظاهر الخطأ أو فاسد أو مردود المعنى. (تم تأكيده).
7- ترجمات معاني القرآن، وكيف أنها عززت من التفاسير
التراثية أفهاماً ثقافية قد اندرست مع الزمن (تم تأكيده).
وفي هذا السياق نعيد ترجمة معاني أيات سورة العاديات (1-5) بعد تخليصها من أي تضمينات ثقافية؛ سواء كانت هذه التضمينات تاريخية تراثية، أو حتى تفسيراتنا الجديدة التي عرضناها أعلى. وذلك حتى يشهد لها الزمن بأنه ليست ثقافية هي الأخرى. ولكي تكون المقارنة صريحة، نواجه بين تلك الترجمة الحرفية الخالصة (يسار) وترجمة "عبدالله يوسف علي" (يمين).
|
ترجمة عبدالله يوسف
علي |
الترجمة (الحرفية) الخالصة |
|
|
The Courser*, The Chargers ,1By the (Steeds) that
run, with panting (breath) ,2And strike sparks of fire 3And push home the charge in the morning 4And raise the dust in
clouds the while 5And penetrate
forthwith into the midst (of the foe) en masse |
Al-’adiyat (The Runners) 1By the sprinters, in panting 2Glowing moiré, of ignition 3Onrushing at dawn 4Thereby We stir hazy dust [16] 5And therein We centralize a host |
|
سورة خيل الحرب/ الجياد
1- أقسم
بالخيل الجاريات الضابحات (في أنفاسها).
2- التي
تضرب فتقدح شرر النار.
3- والتي
تأتي بالإغارة على مقصدها صبحا.
4- والتي
تثير النقع سحبا.
5- والتي تمرق الجمع (من العدو) وتصبح
وسطه.
لذلك ندعو إلى تخليص ترجمة معاني القرآن من هذه الإسقاطات، سواء القديمة التراثية أو الجديدة التي اقترحناها أو اقترحها غيرنا. ونقترح أن تُترجم كل كلمة مشتبهة ترجمةٌ لُغوية حرفية وليست دلالية. ومع أن المعاني تستبين مع شروحات المفسرين، إلا أنه في الآيات المشتبهات ينبغي أن يُترك اللفظ المشتبه على ما هو عليه، ويضاف التأويل (الذي هو دائماً تأويلاً ثقافياً) في الحواشي فقط مهما كان مصدره، حتى لو تَرجَّح رجحانا قاطعاً وأصبح تفسيراً بإجماعٍ معتبر. وبذلك تظل هناك نسخة انجليزية أقرب ما تكون إلى النص القرآني، بما في ذلك اشتباه آلفاظه إذا أخذت بانفرادها دون تفسير أو تأويل. [وقد سعينا في إنتاج هذه الترجمة لمعاني آيات القرآن، وجاري نشرها إلكترونيا هذا العام 2023 على هذا الرابط]
8- يمكن للتحليلات القائمة على المعرفة الحديثة أن تُفكِّك
كثيراً من الخلافات التراثية (تم تأكيده) – فالعاديات قد ورثت تأويلين: الخيل
والإبل. وبعد التحليل تبين لنا أن كلا المقترحين كانا على غير الصواب، وأن مقترحاً
ثالثاً هو ظاهرة الشفق القطبي/الأورورا هو الأرجح تفسيراً لما وصفته الآيات. ولا
نزعم في ذلك اليقين، وإنما الرجحان. وغني عن البيان أن مثل هذه الظاهرة لم يكن في
علم العرب منها شيء! والأكثر إثارة أن مجموع صفات هذه الظاهرة لم يُكشف عنه النقاب
إلا حديثا.
9- المواجهة بين القرآن والعلم الحديث واقعة لا محالة – (تم تأكيدها) وأنها في صالح إثبات مصداقية القرآن. وهذا على خلاف ما يتمناه بعض من غير المسلمين، أو متلقوا الثقافة الغربية من المسلمين الذين سعوا لإثبات لا موضوعية الصفة العلمية في القرآن[17].
10- العلوم الغربية الإمبريقية صحيحة جزئياً في
قيمتها المعرفية – (عدنا إلى بعض المصادر التي اكدت غموض ظاهرة الضباب القطبي وما
وراءها من أسباب. ويمكن لهذا الغموض أن ينحل باستخدام الآية "فأثرن به نقعا").
11- يُمارَس الإعجاز العلمي في القرآن في أغلبه من
جهة غير المتخصصين – (نعتبر تحليلنا في هذه الدراسة لظاهرة الشفق القطبي وعلاقتها
بسورة العاديات نموذجاً للبرهنة على صدق الإعجاز العلمي في القرآن، ومنهجه الأَوْلَى
بالتطوير، وليس على أنه هدف في حد ذاته، وإنما على أنه مُنْتَج ثانوي لعمليات
تحقيق علمية جادة).
12- وجوب ضبط التفاسير والفتاوى الإسلامية لملاءمة
الحقائق حديثة الاكتشاف – (تم تأكيده)
13- بقاء العديد من الخلافات الإسلامية المعرفية،
والتي يمكن لكثير منها التفكيك والذوبان بالتحقيقات العلمية الحديثة .. – (تم
دعمه).
14- الهجوم الواسع من الملحدين على مصداقية القرآن،
بالإضافة إلى استعانة المهاجمين بالآثار التراثية التاريخية للمفسرين على التشكيك
في صلاحية الآيات القرآنية في العصر الحديث – (تم دحضه بنبذ التأويل الثقافي الذي
تجلى في الخطأ البشري، وأن الأصل صاف خالص، فيما سميناه بالإسلام القرآني).
15- إجهاض كثير من مشاريع الإحياء الإسلامي وإلقائه
الضوء على فقدان عنصر هام ومحوري من عناصر النجاح. (نتوقع أن يكون هذا العنصر
المفقود هو طريقة "تمييز المدلولات القرآنية" والتي جعلناها أقرب منالاً
بدراستنا هذه).
ش مزيد من البيان لسورة العاديات في ضوء التفسير بظاهرة الشفق القطبي:
بعد تفسير آيات سورة العاديات بظاهرة
الرياح الشمسية ذات الجسيمات المشحونة والتي تضرب الأرض، وتتوجه بفعل خطوط المجال
المغناطيسي الأرضي فتتجمع في المناطق القطبية وتتحلق حول الأقطاب المغناطيسية
للأرض، لاحظنا رابطاً ملفتا للانتباه بين ابتداء السورة بالقسم الإلهي بهذه
الظاهرة الرائعة والآيات الخاتمة للسورة.
ويعلم أهل التفسير، والبلاغة العربية
القاعدة القائلة: "رد الأعجاز على الصدور" والتي تعني أن عبارةً ما إذا
انقسمت بين صدر في مطلعها وعجز في خاتمتها، فينبغي عندئذ أن يُرد عجزها على صدرها
على سبيل التعليل أو التوجيه أو الإحالة. أو أنها تعني ببساطة أن عجز العبارة رد
فعل لصدرها أو أن هناك بيان متبادل بين الصدر والعجز.
وطبقاً لما قدمنا من تفسير مطلع سورة
العاديات في الآيات (1-5) في أن القسم إنما كان بظاهرة الشفق القطبي/الأورورا. وإذا
نظرنا إلى عجز السورة فسنجد الآيات " أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي
الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ "(9-10).
وإذا علمنا أن الفاعل السببي لظاهرة
الأورورا هو المجال المفناطيسي للأرض، وأنه ينبعث من أحد الأقطاب (الجنوبي
بالمواضعة) ويعود ليتجمع في القطب الشمالي، لوجب علينا عندئذ أن ننتبه إلى
الكلمتين " بُعْثِرَ
" و " حُصِّلَ "
الواردتين في عجز السورة، وهما تصفان بدقة حَدَثَي الانبعاث والتجميع. وكأن السورة
تقول أن العليم بما خلق من بعث وتحصيل المجال المغناطيسي والذي بسببه تحدث تلك
الظاهرة التي أقسم الله تعالى بها، عليم أيضاً ببعثكم من القبور، وتحصيل ما في
صدوركم الذي ظننتموه قد اندثر. بمعنى أن المقابلة بين قسم السورة في مطلعها
وخاتمتها في تأكيد حدوث البعث وتحصيل ما في الصدور، ظاهر بوضوح لمن علم الظاهرة
(أنظر شكل 4)، وهذا الربط بين بداية ونهاية السورة ما كان لِيُعلم قبل ما قدمنا من
تفسير لمعنى العاديات.
تنويه هام:
ننوه إلى أن مسعانا في هذه الدراسة
ينحصر في الآيات المتشابهات فقط، والتي بدى أنها مرتبطة بالخلق وما ينكشف من
أسراره مع الزمن. وتأتي هذه الآيات في حدود بضع مئات من الآيات في القرآن،
وموضوعها من مثل موضوع آيات سورة العاديات (1-5) من حيث أن واقع موضوعاتها يمكن
مراجعته وتمييزه في الواقع والخلق. أي أن الآيات المُحْكَمَات تخرج عن موضوعنا،
لأن المحكم لا يُأوَّل. أي أن المُحكم حتماً يكون مفسراً تفسيراً صحيحاً عبر
القرون، وذلك بما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فهمه وتركه لنا الصحابة
رضي الله تعالى عنهم، وأكابر المفسرين رضوان الله عليهم أجمعين.
شكل (4):
التشبيه في سورة العاديات بين [بعث وتجميع المجال المغناطيسي] المسؤول عن ظاهرة
الشفق القطبي - والتي أسميناها ظاهرة (الموريات) – و[بعث من في القبور وتحصيل ما
في الصدور] في خاتمة السورة، وأن العليم بالحدث الأول على ما نرى بأعيينا ونسمع ونتحقق من صدق الآيات
في وصفه، عليم بالحدث الثاني فيما هو آت.
http://www.islam101.com/quran/yusufAli/QURAN/3.htm [1]
[3] Schizophrenic’ as described by one of these thinkers: Nidhal Guessoum
[4] أمثال د.نضال قسوم، و د. رنا الدجاني
[5] مثال ذلك د. مساعد الطيار
[6] ومثال ذلك معظم إنتاج د. زغلول النجار في الإعجاز العلمي
[7] مثل ما ينشره المعهد العالمي للفكر الإسلامي
[10] Blanc, M., and A. Richmond (1980), The ionospheric disturbance dynamo, J. Geophys. Res., 85(A4), 1669–1686, doi:10.1029/JA085iA04p01669.
- Xiong, C., H. Lühr, and B. G. Fejer (2015), Global features of the disturbance winds during storm time deduced from CHAMP observations. J. Geophys. Res. Space Physics, 120, 5137–5150. doi: 10.1002/2015JA021302.
[11] Kurihara, J., et al. (2009), Temperature enhancements and vertical winds in the lower thermosphere associated with auroral heating during the DELTA campaign, J. Geophys. Res., 114, A12306, doi:10.1029/2009JA014392.
[12] - Hosokawa, K., and Y. Ogawa (2015), Ionospheric variation during pulsating aurora, J. Geophys. Res. Space Physics, 120, 5943–5957, doi:10.1002/2015JA021401.
http://adsabs.harvard.edu/abs/2015JGRA..120.5943H.
- Sojka, J.J. Space Sci Rev (2017) 212: 1041. https://doi.org/10.1007/s11214-017-0379-z
http://adsabs.harvard.edu/abs/2017SSRv..212.1041S .
- Takahashi, T., et al. (2017), Depletion of mesospheric sodium during extended period of pulsating aurora, J. Geophys. Res. Space Physics, 122, 1212–1220, doi:10.1002/2016JA023472.
[13] - Gérard, J. C.; Dols, V.; Grodent, D.; Waite, J. H.; Gladstone, G. R.; Prangé, R. (1995), Simultaneous observations of the Saturnian aurora and polar haze with the HST/FOC. Geophysical Research Letters, Volume 22, Issue 20, p. 2685-2688.
http://adsabs.harvard.edu/abs/1995GeoRL..22.2685G.
- Bhardwaj, Anil; Gladstone, G. Randall, (2000), Auroras on Saturn, Uranus, and Neptune. Advances in Space Research, Volume 26, Issue 10, p. 1551-1558. 10.1016/S0273-1177(00)00096-X .
[14] See for instance:
https://en.wikipedia.org/wiki/High_Frequency_Active_Auroral_Research_Program
[15] - Glenn E. Shaw (1995), The Arctic Haze Phenomenon, Geophysical Institute, University of Alaska, Fairbanks, Alaska. 10.1175/1520-0477(1995)076<2403:TAHP>2.0.CO;2
- Marvin S. Soroos, (010), The Odyssey of Arctic Haze toward a Global Atmospheric Regime. https://doi.org/10.1080/00139157.1992.9930938
[16] See:
Science News Volume 187 issue 8 2015 [doi 10.1002/scin.2015.187008018] Crockett, Christopher -- Atom & cosmos- Martian aurora, high-altitude dust surprise scientists. http://www.arcticobservingsummit.org/sites/arcticobservingsummit.org/files/Bullard_AOS16_ShortStatement.pdf