الأربعاء، 26 فبراير 2014

الفصل (ب1) – أبو عبد المعز - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (ب1) أبو عبد المعز
بقلم: عزالدين كزابر


بسم الله الرحمن الرحيم
أثار أبو عبد المعز[1] عدداً من الاستشكالات الكبرى حول التفسير والإعجاز العلمي، منها قوله:
1- العلوم العصرية من الكلام البشري، والقول بموافقة القرآن لها فجورٌ وكفر.
2- خطاب التفسير العلمي خطاب تمجيدي.
3- العلم المعاصر من باب "الإنشاء"، أي أنه مختلق!
4- لا فرح بما يُسمّى التفسير العلمي، لأنه نسبي إحتمالي، لا يقين فيه!
5- الآية القرآنية و"الحقيقة" العلمية. هل الجمع ممكن؟  
6- خلط أهل التفسير العلمي بين التقانة والعلم، رغم أن التقانة تحاسب بمعيار"النفع والضرر".. أما العلم فيحاسب بمعيار "الحق والباطل"!
7- "التفسير العلمي" خطاب تأويلي، أما "الإعجاز العلمي" فخطاب حجاجي! .. وعليه، فلا يُقبل من الإعجازيين إلا القطع.
8- العلوم العصرية من جنس الإسرائيليات.
وقد وجدنا أنه لزاماً علينا الرد، بما علمناه من ضعف هذه الشبهات، وكيف أنها قابلة للتفكيك والتحليل، .. ثم التفنيد، .. وبما نأمل معه أن نُقنع صاحبها – الذي تبهجنا كتاباته دوماً، رغم اختلافنا مع كثير منها- بتعديل آرائه حولها:
1- العلوم العصرية من الكلام البشري، والقول بموافقة القرآن لها فجورٌ وكفر:
قال أبو عبد المعز[2]: [(توصل علماء المسلمين إلى) تقرير قاعدة عامة في المنهج مفادها رسم حدود واضحة بين الكلام الإلهي والكلام البشري...وتحاشِي كل ما من شأنه أن يخلط بين الكلامَين ولو على سبيل الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه!
لكن بعض الناس قديماً، وجمهرة منهم حديثاً، سعوا إلى إهمال هذا القاعدة أو على الأقل إلى إدخال استثناء فيها، فجعلوا "الخطاب العلمي" ذا حظوة عن بقية الخطابات وأجازوا له ما لم يجيزوا لغيره ،فلو قيل إن القرآن وافق "الشعر" في هذا الموضع لردوا هذا القول في فم القائل بكل استنكار وتنديد، ولكن لو قيل وافقت الآية "العلم الحديث" لاسْتُقبل القول بكل بشاشة وترحيب، ولَعَدُّوه انتصارا للقرآن ..
أفيكون القول بموافقة القرآن لامريء القيس الجاهلي طعنا في التنزيل،ويكون القول بموافقة القرآن لأينشتاين اليهودي نصراً للفرقان!!
قد لا يَعْدِمون الجواب من أن القول بالموافقة الأولى قول أبطله القرآن نفسه وأن الشعراء - الهائمين الذين يقولون ما لا يفعلون والذين يحترفون الكذب والتملق وتزوير المقال المستمد من الشياطين - يؤسسون خطاباً هو نقيض القرآن المنزل الذي لا ياتيه الباطل .. فلا يكون الجمع بين الشعر والقرآن إلا جمعا بين الحق والباطل، وهو محال..
أما ما يقوله العلم الحديث فهو حق، ونحن إذ نفسر "الحبك" بـ "الأوتار الفائقة" فهذا ليس تداخلا للخطابات، ولا حملا للقرآن على غيره، وما فعلنا شيئا غير تفسير كلمة بأخرى كما تفعلون أنتم - معاشر اللغويين - عندما تفسرون "القسورة" بالأسد .. وليس في هذا كله إلا حملاً للقرآن على نفسه لأنه حمل للحق على الحق!!
هذا الجواب - كما ترى - مبني كله على دعوى لم يقيموا عليها دليلا، وهي دعوى تماهي العلم الحديث مع الحقيقة.. فإذا ما انهارت هذه الدعوى بات "العلم" كغيره من الشعر والسحر، وعاد القول بموافقة القرآن لها أو لبعضها فجورا وكفرا..
( وقد نقول لك كلمة عن فايربند فيلسوف العلم الأسترالي الذي شغب على العلماء وطالبهم بسندهم في تفضيل الخطاب العلمي على الخطاب السحري مثلا)]
نقول: لا نُخفي إعجابنا بفطنة ورصانه كلام صاحب العبارة السابقة، رغم أننا نختلف معه. إذ أن عمق الفكرة، وسبرها لغور المسألة إلى هذا العمق، إمتاع للعقل، ومناورة رائعة للوصول إلى الحق، قلَّما نجد مثلها، غير أن الفكرة قد يخدشها خادش، لم ينتبه له صحابها، فتكون النتيجة أنها لن تؤدي وظيفتها في النيل ممن خاصمت.
وقد جمع صاحب العبارة حجَّته، وخلص بها إلى مناطٍ فريد؛ هو أن: ["تماهي العلم الحديث مع الحقيقة"، دعوى لا دليل عليها، وإذا انهارت، يصبح العلم الحديث كغيره من أعمال البشر كالشعر والسحر، ومن زعم موافقة القرآن لهذه الأعمال (شعر أو سحر أو علم حديث)، فهو فاجر كافر.]!!!
وهنا لنا وقفات:
في الوقفة الأولى نسأل: هل التفسير العلمي للقرآن حقاً يستهدف العلم الحديث، البشري الغربي، أو أنه يستهدف ما يفصح عنه هذا العلم - الجاري تدوينه وتنقيحه مع كل لحظة زمنية- من حقيقة طبيعية، يسعى العلم الحديث إلى كشف النقاب عنها، ولم يتوفر سواه للقيام بهذا الدور – مع كامل الاعتراف بأن نجاحاته جزئية –؟!
الإجابة التي نعلمها عن خبرتنا بهذا العلم من جهة، والتفسير العلمي للقرآن من جهة ثانية، أن العلم الغربي الحديث، والصياغات المتتابعة له، غير مستهدف لعين صياغاته ومشهور مدوناته، ولا مع أسماء أصحابه، بل المستهدف هو الحقيقة الطبيعية القابعة وراءه، ويسعى حثيثاً للكشف عنها.
الوقفة الثانية: أن التماهي المذكور – لمن يزعمه صراحةً أو ضمناً- يجعل من هذا العلم وثن رمزي، مقدس الكلمات. ولكن الأمر الواقع ليس كذلك عند أهله والمدركين لحدوده البشرية. فالمعلوم جيداً عند أهل هذا العلم، غرباً كانوا أو عرباً، أن هذا العلم ليس إلا اجتهاد، لا يختلف عن الاجتهاد الفقهي في العلوم الشرعية. وفيه ما فيه من اتفاقات واختلافات بين المشتغلين به. ولم يدّع أحدٌ من أهله أنه يتماهي مع الحقيقة الطبيعية تمام التماهي، كما أن خصومهم يعترفون في نفس الوقت أنه أفضل متكلم عن هذه الحقيقة المجهولة، وما يؤبه لغيره إن تكلم عنها إن صمت هو عنها، حتى وإن كان يسعى دوماً لتحسين وصفه لها، ويحقق دوماً إنجازات باهرة، يشهد بها أعداؤه قبل أصحابه.
كما وأن حجة التماهي هذه – عند من يدَّعيها – يمكن حملها أيضاً على العلوم الدينية لمن أراد بها مكراً ، سواء كانت العلّة شيئا في نفس المحتج بها تجاهها، أو غياب الألفة وتنامي الجفوة بينه وبينها، وعندها سيقول: [إن تماهي العلوم الدينية مع الحقيقة دعوة مُدَمِّرة]، وهذا ليس افتراضاً لا أصل له بل إننا سمعنا وقرأنا مرادف لهذه العبارة من العلمانيين، حيث وصفوا أصحاب العلم الديني بأنهم [أصحاب الحقيقة المطلقة][3]، ..ولا نرى افتراقاً بين من يعتقد في [تماهي علمٍ ما مع الحقيقة]، ومن يعتقد أن أصحابه هم [أصحاب الحقيقة المطلقة]!!! .. فكل من العبارتين رديفة للأخرى، وتستلزمها... والنتيجة الضرورية لهذا التحليل أن اتهام أبو عبد المعز في تماهي العلم الغربي مع الحقيقة عند المؤمنين بقضية التفسير العلمي اتهام في غير محله، حتى وإن اشتبه الأمر على الأغرار منهم، مثلما أن اتهام العلمانيين أن أصحاب العلوم الدينية هم أصحاب الحقيقة المطلقة اتهام واهم. ... فالعلم الحديث فيه الحقائق والغامضات، مثلما أن العلوم الدينية فيها المحكم والمتشابهات. ... وتظل عجلتي البحث العلمي والاجتهاد الديني دائرتين، بُغية إحقاق الحقائق والمحكمات، وإزالة اللبس والتشويش عن الغامضات والمتشابهات.
أما الوقفة الثالثة: فتقول أن القرآن حق وصدق مطلق، عن كل ما أخبر به، ولا بد أنه يتماهى مع الحقائق المطلقة فيما يُخبر عنه من طبيعيات، ... ومعلوم أننا لن نعرف الحقيقة الطبيعية التي يتماهى معها القرآن إلا من خلال مُفسِّريه ... ويقال نفس الشيء عن الظواهر الطبيعة الناطقة بالتجريب والرصد، من حيث أن منطوقها الذاتي - من رسائل تتمثل في بيانات ونتائج تجريبية ورصدية وتحليلية- تتماهى مع حقيقة الظواهر. ونصل إلى نتيجة لا مفر منها وهي أنه لا مناص من الاستماع لمفسري الطبيعة حتى نعرف رسائل تلك الظواهر حتى وإن أخطأوا فيما يفسرون، وذلك لأن خطأهم قابل للتدارك، مثلما أن أخطاء مفسري القرآن قابل للتدارك. وعليه تكون رتبة التماهى الحقيقي للقرآن – ليس مع التفسير العلمي – بل مع الطبيعة التي يحكي عنها، أما رتبة العلم الغربي الذي هو صناعة بشرية فتُقارن مع مثيلها في قوة المصدر، أي العلم البشري التفسيري للقرآن في عيون المسائل الطبيعية. ويصبح الإشكال إذاً أن صاحب حجة التماهي المردود - أبو عبد المعز - قد جَاوز وصف ظواهر الطبيعة الناطقة إلى واصفيها، ونسى أن يجاوز القرآن إلى مُفسريه، ولو فعل، لعلم أن التفسير العلمي هو [تماهِي القرآن مع الطبيعة، وتماهِي التفسير القرآني مع التفسير الطبيعي، أي العلم الحديث] وعندها تستوي النسبة، ... وإذا تبين ذلك ... ما كان ليصل – صاحب العبارة - إلى اتهام أحد بفجر ولا كُفر.
أما الوقفة الرابعة: ففيها أننا إذا افترضنا أن سلوكيات بعض المشتغلين بالتفسير والإعجاز العلمي قد توهم اعتقاده الفاسد في تماهي العلم الحديث مع الحقيقة، فحمل هذه السلوكيات على عين قضية التفسير الطبيعي للآيات الكونية في القرآن، وتحميلها جريرته، لن يختلف عن تحميل الإسلام جريرة سوء سلوكيات بعض المسلمين. ... والعدالة تقتضي أن يحمل الواهم وهمه، والزالل زللـه. وكما أن الإسلام برئ من سلوكيات متبعيه الشاذة عن الحق فيه، فكذلك، غير ممتنع أن يكون التفسير العلمي برئ من سلوكيات بعض مفسريه المتوهمين تمام التماهي بين العلم الغربي والحقيقة.
******
2- خطاب التفسير العلمي خطاب تمجيدي:
يقول أبو عبد المعز[4]: [يخلط كثير من الناس بين "الخطاب العلمي"و "الخطاب التمجيدي للعلم"، مع ملاحظة أن أكثر من اصطنع التفسير العلمي وتحمس له هم أصحاب الخطاب "التمجيدي". والفرق بين الخطابين واضح جداً بحيث لا يمكن للمرء أن يلتبس عليه هوية المشتغلين بكل خطاب أو يخلط بين ذرائعهم ومقاصدهم المتباينة أو بين أساليبهم واصطلاحهم في نسج الخطاب:
- فالخطاب الأول يصنعه العلماء، والخطاب الثاني يصنعه الأدباء.
- أسلوب الخطاب العلمي يتحرى الدقة ويستعمل جملاً عند حدود درجة الصفر في الكتابة .
أما أسلوب التمجيد فيزخر بالاستعارات والصور المجازية ويتجه نحو التضخيم واستعمال صيغ التفضيل (ومازلنا نذكر تلك العبارات التي كانوا يلقنونها لنا في الصفوف الأولى من التعليم الابتدائي: "بالعلم غزونا الفضاء"،"بالعلم أجرينا الماء في الصحراء")
- الخطاب العلمي علمي محايد..
الخطاب التمجيدي إيديولوجي ذو مآرب. ومن مآربه الخطيرة الاصطياد للثقافة الغربية باستخدام طعم العلم ..وقد وقع بالفعل ما كان أبو حامد الغزالي  يحذر منه في سياق يكاد يكون شبيها ..قال في المنقذ من الضلال بعد أن قسم علوم الفلاسفة: (أما الرياضية: فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم، وليس يتعلق منه شيء بالأمور الدينية نفياً وإثباتاً، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتهم بعد فهمها ومعرفتها. وقد تولدت منها آفتان: الأولى: من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها، فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة، فيحسب أن جميع علومهم في الوضوح وفي وثاقة البرهان كهذا العلم. ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتهاونهم بالشرع ما تناولته الألسنة فيكفر بالتقليد المحض ويقول: لو كان الدين حقاً لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم! فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجورهم استدل على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين، وكم رأيت من يضل عن الحق بهذا العذر ولا مستند له سواه).]
نقول: نعم، لو قرأنا هذه الفقرات على انفرادها، لقلنا ما أجملها، وأعدلها، ولكن! .. أنّى لصاحبها مدح الخطاب العلمي، وهو الذي قال فيه قبل قليل: أن قيمته من قيمة الشعر والسحر؟! .. وسيقول بعد قليل: أنه لا بأس أن يحمل من الإسرائيليات ما يحمل؟!
وإذا كان هناك من مدح في العلم النافع من قبيل ("بالعلم غزونا الفضاء"،"بالعلم أجرينا الماء في الصحراء")، بغرض شحذ همم الناشئة عسى أن يقتفوا أثره ويسعوا في طريق امتلاك مقاليده، ويبلغوا به شأواً يحققون به آمال الأمة، فما الحرج، والمتأخر يتطلب دوماً التحريض وتزيين الهدف ليتقدم؟! .. وكيف يكون كل مُمَجّد مرذول، أوليس تمجيد الحق من الممدوحات، كما في قوله تعالى "وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ"(الحج:32)، وقوله تعالى "وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ"(الحجرات:7) ... أوليس تمجيد الباطل من المردودات، بل المرذولات، كما قال تعالى "وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ"(النمل:27) (العنكبوت:38). ... إن الجسد الذي اشتكى الهزال والجفاف، يُحفَّز على التغذي، ويمجد له التَقَوّي حفظاً للحياة، ... أما المسرفين، الذين أثقلتهم أجسامهم من البطر والإفراط، فيُهَذَّبون بما يصرفهم عن الإفراط، وكان هذا الإسراف الأخير في مادية العلم سبب نشوء (مذاهب أدبية معادية للعلم وأكثر إنسانية وعاطفية كالرومنتيكية والرمزية والسوريالية) في الغرب – على نحو ما سيقوله أبو عبد المعز بعد قليل. .. ولا يتوهمن أحدٌ أن هذا من حياد العلم، بل من جفافه وقسوته وماديته، وهو ردة فعل عن الإفراط، ولم يكن عن عدالة أو حيادية، ولا ينبغي أن يُصاحب بالمدح الذي قصده من سيورده علينا بعد قليل. ومثل المادح فيه كالمادح في الضعيف هزيل الجسد أن يفرط في الطعام والتغذي. إنه نقيض الحكمة والبلاغة، بل رفيق الالتباس والارتباك.
ويتبع ذلك أن الحكم الذي قرأناه لتوّنا (الخطاب التمجيدي إيديولوجي ذو مآرب) ليس حكماً عادلاً. فالخطاب التمجيدي للحق لا ذم فيه، إنما يُذم ما كان تمجيداً آثم المآرب. ... وما نرى في العلم، وامتلاك ناصية ما سخَّره الله تعالى لنا به، أي أيديولوجيا تُذم، بل ينبغي أن يبالغ في المدح وإظهار القيمة حتى نصل منه إلى الكفاف، لا أن نُبخِّس به ونحن إليه فقراء، وفيه عالة على غيرنا.
أما ما يُفتتن به العامة من إصابة العلم الحديث في إنجازاته، وأغلب أهله كفار بالإسلام، وما أيد مقالته به من كلام أبي حامد الغزالي، فهذا ليس بدليل على أن كل خطاب تمجيدي أيديولوجي ذو مآرب، إنما هو فتنة تَسَبَّب فيها من أهملوا امتلاك ناصية العلم وأخرجوه من دائرة وجوب الكفاية في الدين، ومما كان لو كان، لدرأ عن الأمة فتنة علمية كالتي يضعها صاحب العبارة في غير موضعها. وما لم ينتبه إليه أبو عبد المعز أن هذه الفتنة لم تكن في العلم، بل كانت في صناع العلم، وتصحيحها أن يُنتج المسلمون العلم، لا أن يُبخس العلم في أعينهم. .... وهذا حُكْم من أبي عبد المعز لم نرى أعجب منه. .. ومثله مثل الذي يعجز عن شيء ... فيُلمم آلام الحرمان النفسية منه ... فيَزْهَدَهُ عامداً – لا حيلة له غيرها- ثم يزدريه ... وكأن العيب فيما حُرم هو منه وليس هو في نفسه!!!
ويستكمل في مسألة تمجيد العلم ويقول: [وهذا ما حدث فعلا في نهضتنا (المزعومة أو المجهضة..) فلتلميع صورة الغرب كان يوظف العلم، ولكنهم لا يأخذون منهم العلم، بل يأخذون غيره من الأخلاق والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ... فها هو العلم للاستدراج ...
وهنا تلحظ بالضبط الفرق بين اليابانيين والعرب فقد ذهبت البعثات الطلابية من الفريقين إلى أوروبا في وقت واحد فعاد اليابانيون بالعلم وعاد العرب بالتمجيد!!
عاد الطالب الياباني بشهادة في صناعة السفن، وعاد الطالب المصري بدكتوراه في الحقوق أو في الأدب العربي !! ... والناتج كما ترى!! ..
وقد صاغ هذا الخطاب التمجيدي طائفة من الصحفيين والكتاب، أغلبهم من نصارى الشام ومصر، مثل فرح أنطون وسلامة موسى وجرجي زيدان وغيرهم..فأسسوا صحفا ومجلات يُعلِّمون النشأ تمجيد العلم دون أن يعلموه حرفا واحدا من أبجدية العلم..
ثم امتدت عدوى تمجيد العلم إلى الشعراء أنفسهم -وهم أبعد الناس عن الخطاب العلمي- فكنت ترى شاعرا من حجم أحمد شوقي أومعروف الرصافي أو فوزي المعلوف ...يدبَّجون قصائد -لا حس فيها- ويعتقدون أن دخولهم العصر رهين بوصف القاطرة والطائرة والباخرة فجاؤوا بكلام غث أحسن منه بكثير وصف الأعشى لناقته والفرزدق لذئبه..!
ولعلك تستغرب إذا قارنت بين شعراء الغرب وشعراء العرب..فالغربيون كانوا يتوجسون من العلم ومن مصنوعاته وكان رد فعلهم مذاهب أدبية معادية للعلم وأكثر إنسانية وعاطفية كالرومنتيكية والرمزية والسوريالية، أما العرب فاستقبلوا ما أخاف الغربيين بكل ابتهاج وحبور..فكان الشاعر منهم يصف القاطرة بفرح يكاد يكون صبيانيا..! .. والسر في هذا الاختلاف هو المناخ الثقافي الذي يتنفس فيه كل فريق:
فالغربيون يتنفسون خطاب العلم، والشرقيون يتنفسون خطاب تمجيد العلم ...، ومن هذا المناخ هبت رياح، وكانت وجهتها القرآن!]
نقول: لماذا نُقصر الصورة على جانب سلبي، ونحن في حاجة ماسة إلى جانبها الإيجابي، مع القدرة على الفصل بين الجانبين؟! .. لماذا ننظر إلى العلم الحديث ونقول [لتلميع صورة الغرب كان يوظف العلم،  ... فها هو العلم للاستدراج]!!! .. وهب أن هناك من يفعل ذلك من أنماط العلمانيين، أفيمنعنا ذلك من أخذ الحق وترك الباطل؟!
فإن قيل قصرناها، أي صورة العلم، وقارنا بين العرب واليابانيين، وقلنا: [عاد الطالب الياباني بشهادة في صناعة السفن، وعاد الطالب المصري بدكتوراه في الحقوق أو في الأدب العربي]
ونستغرب! .. هل هذه حجة خطابية أم علمية؟! ... هل أحصينا الذاهبين فوجدنا الصورة على هذا النحو، أم أننا نأخذ معلوماتنا من مشهور الأسماء؟! .... وأين مصطفى مشرفة، وأين وأحمد زكي، وغيرهما؟ وقد حصل كلاهما على دكتوراة العلوم بعد دكتوراة الفلسفة في الفيزياء والكيمياء على التوالي في نهايات عشرينيات القرن الميلادي العشرين، وأبحاثهما ما زالت منشورة لمن أراد الاطلاع عليها. وكانا أول عربيين يحصلان على هذه الشهادات. وأنشأ الأول مركز البحوث العلمية في عهد المك فاروق بعد معاناة مع السياسة، والثاني كان رئيس مصلحة الكيمياء. وقد أغتيلت تلميذة الأول بعد حصولها على الدكتوراة في الفيزياء الرياضية قبل رجوعها إلى مصر، وهاجر أحمد زكي سنة 1957 – اعتراضاً على قبضة العسكريين على السياسة وإفشالهم لمشاريع الأمة- ليؤسس مجلة العربي الكويتية ليبث في شباب الأمة قيمة العلم، وليس تمجيده ذو المآرب. ومن المواقف الطريفة المبكية، أن أحمد زكي كان يثقف طلاب الأزهر – في الثلاثينيات - في مواد العلوم الحديثة لترقية ثقافتهم، فهاجو وماجوا عليه يوم شرح لهم تشريح جسم الإنسان، وأن عدد أضلاع القفص الصدري لا يختلف بين الرجل والمرأة، وكان اعتراضهم، بل تشنيعهم على الرجل، أنهم يؤمنون بأن الرجل أقل ضلعاً من المرأة، لفقدانه الضلع الذي خُلقت المرأة منه!!! 
وإذا كان على العلم من مآخذ، حتى يُذم تمجيده، فالأوْلى تعيين هذه المآخذ وتفنيدها، لا محاكمة النوايا، ولمز الـمُحفِّزون لِـهمم شباب الأمة، شعراء أو أدباء، لا حيلة لهم إلا آدابهم وشعرهم. وكم من كلمة طيبة أحيت أمة، وكم من كلمة قاتلة لم يفلح قائلها في محوها ولا بلعها، وأنّى له وقد طارت عنه. وإذا كان من عِتابات وتوبيخات فلْتُوجّه إلى السياسة العلمية والتعليمية، لا إلى العلم الذي هو مُسخر للخير والشر، ولا إلى تمجيده الذي فيه كثير من الخير إذا دافع عن الحق، بل تُوَجَّه إلى الذي فيه شر لما يؤدي إليه من فتنة باطلة به، دون الله تعالى ودينه.
********
3- العلم المعاصر من باب "الإنشاء" أي أنه مختلق!
ويتوجه أبو عبد المعز إلى القارئ مستفزاً إياه، ويقول[5]:
[من المفيد إزعاج القاريء قليلا..ونرى المطلبين التاليين يفيان بهذا المقصد:
1- هل تعتقد أن العالِم الطبيعي يصف الظاهرة الطبيعية كما هي في الخارج، أم أنه ينشيء لها نموذجا تصوريا في الذهن؟
2- هل ترى المفاهيم التي يعتمدها العالِم في خطابه مفاهيم حقيقية لها ما يطابقها في الخارج، أم أنها محض أدوات من ابتكار العقل تساعده على التفسير والتنظيم، أو لنقل باصطلاح البيانيين: "هل هي من باب الخبر أم من باب الإنشاء؟"]
نقول: من الواضح أن إزعاج القارئ بهذين السؤالين، وأنها يفيان مقصد السائل – بتعبير صاحبهما- يرميان إلى أن مقصده هو تهوين تصور عالِم الطبيعيات للعالم. وتهوين ما في هذا التصور من مفاهيم وتوصيف، وأن حديث عالِم الطبيعيات عن العالم الطبيعي هو من باب "الإنشاء"؛ أي الاختلاق، أو التوهم العقلي، لا من باب "الخبر"؛ أي "النطق بلسان الحقائق الطبيعية"، ومن ثم تهبط إلى الحضيض إذا قابلها أحدٌ من الناس – المفسر العلمي – بـ "النقل عن الله ورسوله"؟!
وللرد على السؤالين السابقين، سنصيغ الآن العبارة التالية، لنرد بها الحُجَّة في ملعب السائل، ونقول:
[من المفيد إزعاج السائل – أبو عبد المعز- قليلا..ونرى المطلبين التاليين يفيان بهذا المقصد:
1- هل تعتقد أن عالِم التفسير التراثي يصيغ دلالات الآيات القرآنية كما هي في الحقيقة القرآنية، أم أنه ينشيء لها نموذجاً تصورياً في الذهن؟!
2- هل ترى المفاهيم التي يعتمدها عالِم التفسير في خِطابه، كالأصل والفرع، والعلة والحكم، والقياس والإجماع، والتفسير والتأويل، والحقيقة والمجاز ..إلخ، مفاهيم حقيقية لها ما يطابقها في الحقيقة القرآنية، أم أنها محض أدوات من ابتكار العقل التفسيري تساعده على التفسير والتنظيم ،أو لنقل باصطلاح البيانيين هل هي من باب الخبر أم من باب الإنشاء؟!]
وتجلية لموضوع الأسئلة من الطرفين، نقول أن هناك في الطبيعة والقرآن، ما يستغني بنفسه عن التفسير، أي عن التدخل البشري في التعبير عنه، لأنه ظاهر المعنى دون الحاجة إلى تدخل المفسر بتأليف صياغة لغوية تفسيرية. ففي جانب الطبيعة، هناك من المعاني الطبيعية الظاهرة ما ينطق بنفسه، وأسماءه ومعانيه جلية لا خلاف عليها بين المسمى والاسم، مثل النور، والظلمة، والواحد والاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء .. وهكذا، ... ونفس الشيء يقال عن القرآن في المفردات والمعاني الظاهرة، مثل: "فاعلم أنه لا إله إلا الله"، و"قل هو الله أحد"، و "لم يلد ولم يولد ولو يكن له كفوا أحد"، ... وهكذا. ويمكن أن نعتبر أن هذا هو ما سمّاه العلماء (النص) الذي لا اجتهاد فيه. ولنسمي مقابله من حيث الظهور في الطبيعة (النص الطبيعي، أي ما ظهر منها وأصبح بادياً لكل ناظر). ونُقر في هذا أو ذاك - ونفترض أن أبا عبد المعز سيقبل أن يقر معنا - أن هذا النوع (أي النص؛ طبيعياً كان أو وحياً) لا دخل للمفسر الطبيعي (عالِم الطبيعيات) والمفسر القرآني في التأثير على معناه، لوضوحه. وهذا الذي قال فيه علماء الشرعيات: [لا اجتهاد مع النص]. ومن ثم سيخرج عن أسئلته وأسئلتنا التي نتواجه فيها أعلى.
ولو نشاء لتركنا المسئول بأسئلتنا ليجيب عنها بما يصل به إلى مقصدنا! ... ولسوف يخفف ذلك من ظنه بأنه وصل إلى مقصده من أسئلته التي تركنا نجيب عنها. .. ولعلمنا بفطنته، لن نطيل بأكثر من تلميحات مفيدة، نُذَكِّره بها، بأن أسئلتنا وجيهة بما لا يقل وجاهة عن أسئلته، بل إن جميع الأسئلة لتصب في مجرى واحد، وهو أن التدخل البشري في التفسير لما هو أقل من رتبة (النص القرآني أو النص الطبيعي)، لا يبرأ من قدرٍ ما من "الإنشاء" في تفسيره. ويتشوش به "الخبر" بنسبة ما داخله من "إنشاء". غير أن المراجعات بين المفسرين والسجالات التنظيرية، تمحو نصيباً من هذا التشويش. ويقاس على ذلك المراجعات بين المفسرين الطبيعيين. إما إذا التقى النهرين: وأقصد السجالات بين مفسري الطبيعة من جهة ومفسري القرآن من الجهة الثانية، في عيون مسائل الطبيعيات - التي يشترك القرآن والطبيعة باعتبارهما مصادر المعلومات الصادقة عنها – فلا شك أن هذا سيساهم بقدر كبير في محو كثير من التشويش – أو بلفظٍ أدق "الاشتباه" – على كلا الجهتين، والذي مرجعه إلى تفاوت تصورات المفسرين البيِّن؛ ما بين تراثيين لغويين و طبيعيين تجريبيين، وخاصة مع تنامي الرصيد المعرفي الذي يُنقِّح تصور كلا المفسرَين اللُّغوي والطبيعي ... هذا التلاقح بين المفسرين من كلا الطرفين لا يمكن أن ينشأ إلا في بيئة التفسير العلمي!!!
ونأمل ألا نكون قد أزعجنا أبا عبد المعز، ... رغم رغبته في إزعاجنا بأسئلته!
******
4- لا فرح بما يُسمّى التفسير العلمي، لأنه نسبي إحتمالي لا يقين فيه!
قال أبو عبد المعز[6]: [ثلاث حقائق جلية:
- فأما الأولى فعن الوضع الابستملوجي للعلم الطبيعي..حيث يترسم العلم غير قابل للانفصال عن"النسبية" أو"الاحتمال" أو"اللاتعين"...وهذه الحالات الثلاث هي أكثر من صفات، هي مقومات العلم وحدوده..فادعاء العلم الحقيقة المطلقة -مثلا -يرفع عنه صبغة العلم ليصبح دينا أو ميتافزيقا..وهذا الشرط لا يفرضه المناوؤن للعلم من الخارج، وإنما عليه إجماع المشتغلين بالعلم أنفسهم من داخل مختبراتهم.
- وأما الثانية فعن القرآن الذي لا يأتيه الباطل، المنزل من لدن من لا يبدل عنده القول..وهذه لا تحتاج إلى ذكر أو تذكير...
- وأما الثالثة فهي بديهية ،فلا يمكن ربط النسبي بالمطلق ولا تفسير الثابت بالمتحرك..لما يترتب عن ذلك من تناقض وانقلاب في الطبائع..فلو زعمت أن هذا "الكشف" العلمي يفسر تلك الآية القرآنية فإن اللازم هو انهيار الحقيقتين، الأولى والثانية:
- لأن الكشف العلمي حينئذ سيضحى حقيقة مطلقة ثابتة إلى الأبد (فهو الآن معنى الآية)..وهذا لا يدعيه أحد حتى أصحاب الغلو في تقدير العلم..
- لأن التطور العلمي، الذي هو ضربة لازب، سينشأ عنه تعاقب التفسيرات المختلفة والمتضادة على الموضع الواحد في القرآن، فيأتي الباطل حتما!
وحاصل هذه الحقائق الثلاث أنه لا فرح بما يسمى التفسير العلمي...!!]
نقول: يجري سياق هذه الحجة على تأكيد ظنية العلوم الحديثة (كونه نسبي)، ثم يقينية القرآن (كونه مطلق)، ثم عبثية المقابلة بما يهبط بالقرآن إلى باطل احتمالي، أو يعلو بالعلوم الطبيعية إلى يقين ديني!
هذه المقايسة مليئة بالتلبيسات!، وبيان ذلك كالآتي:
1- في إفادة قائلها بأن كل العلوم الطبيعية – من حيث إبستمولوجيتها، أي نظريتها المعرفية - "نسبية" أو"احتمالية" أو"لاتعينية"، وأن هذه الأسماء مقومات (مرتكزات) وليست محض صفات، وأنها مجمع عليها من قبل أهلها.
فالنسبية، سواء كان المقصود منها التقدير المتفاوت للأشياء تبعاً لزوايا النظر المختلفة، فلا خوف منها حيث تتآلف الحقيقة بتأليف جميع زوايا النظر، أو كان المقصود منها نظرية النسبية الخاصة في ادعائها حقيقة كل منظور، رغم تفاوت المنظورات، ومن ثم ضياع الحقيقة، فليس أمرها بمستقر، وكانت تسميتها على غير معناها باعتراف النسبويين أنفسهم وعلى رأسهم صاحب النظرية، كما وأن تأويلها مازال ينتظر ثورة أو تعديل. .. وكل هذا لا يخدش وجود حقائق تترسخ كلما اختُبرت، ويتفق عليها المتناسبون، مثل القيم الفيزيائية، وصياغات عدد غير قليل من القوانين، ومعاني الكميات والظواهر الفيزيائية.
أما الاحتمالية، سواء حملت المعنى الإحصائي الذي يؤكد أن الحقيقة كامنة في مجموع المحتملات، أو سواء كانت في فئتها مُنغلقة أم مُنفتحة، وأن الاحتمال راجع إلى جهل جزئي لمن يصدر حكم الاحتمال، وهذه لا غبار عليها، بل هي قسمة عقلية تقرها البديهة والقرآن، أو كان معناها الاحتمال المتأصل الذي أتت به النظرية الكمومية، والذي حملته مدرسة كوبنهاجن، باعتبارها الحكومة الفيزيائية العالمية، فهذه أيضاً تجد معارضة شديدة من مدارس منافسة، تبحث في ثنيات المادة والمجالات عن متغيرات خبيئة ترجع هذه الاحتمالية المتأصلة إلى كونها من نوع الاحتمالية الإحصائية العائدة إلى الجهل الجزئي. وهذا الأمر الأخير مازال تحت مطارق البحث، ولم تصبح اللا يقينية المتأصلة يقيناً ،كي يتذرع به من يمدحون في العلم لايقينيته، أو يتخذونه مطية لتهوين شأن العلم ومقارباته المتواصلة مع الحقيقة!
أما اللاتعيين، المنسوب لهايزنبرج، وهي أصل ومرجع الاحتمال المتأصل السابق الإشارة إليه، فهو القلب المتوتر في ميكانيكا الكم، ويمكن – لكاتب هذه السطور - وبصفته فيزيائي مُخّضْرَم، قريباً من أربعة عقود، أن يصف اللاتعيين لمن شاء فهم معناه، بأنه محاولة للإشارة إلى الإنسان – على سبيل المثال – تجاه نقطة ما في جسده، فمهما تنقَّل المؤشر بين نقاط الجسد، صدق في إشارته عليه، وحيث أنه لا توجد نقطة أولى من نقطة، فظن الأذكياء أن بقعة الجسد منطقة غير متعين uncerta فيها موضع الإنسان. غير أن الأمر يتعلق بالدقائق المادية، وليس الإنسان. .... وأتساءل، ... هل هذه الخصيصة لطبيعة المادة تُسقط حقائقها الطبيعية؟! ... أللهم لا، إلا عند من تشوَّشت معانيها عندهم، وظنوا أن التشويش ذاته أصبح من مقومات العلوم، وما هو إلا في أذهان الـمُنَظِّرين المختلفين. ... ولطالما اختلف أهل النظر في علوم الشريعة، .. فهل أسقط اختلافُهم – وتشوُّش الإشكالات في أذهانهم - من الشريعة حقيقة؟! ... أللهم لا.
أما قول القائل بـ "إجماع المشتغلين بالعلم أنفسهم من داخل مختبراتهم" على تأصل الظنية/التشويش/.. في العلوم الطبيعية، فليس صحيحاً. وإن كانت مدرسة كوبنهاجن، التي تبنَّت هذا التأويل منذ أيام بور هي صاحبة الصوت الأعلى، إلا أن معارضيها من المدرسة السببية، والتي ينتسب إليها أينشتاين ودو برولي، والباحثون عن المتغيرات الخبيئة، ومدرسة ديفيد بوم اللاحقة، فجميعاً يخالفون تلك المدرسة، ولا حديث في الطبيعيات عن "إجماع" كالذي عند المسلمين حتى يُستشهد به أو له.
فإذا كانت الصورة على هذا النحو، فالقول بظنية العلوم الطبيعية، قول بظنية القوانين التي تحكمها، وهو قول فاسد لأن القانون لا يصبح قانون مع الظنية به، وهذا يختلف عن القول بأن القانون يعين احتمالية القياسات بالمعنى الإحصائي، وهذا لا ضير معه، ولا يشكك في حقيقة ما يجري قياسه، حتى في غياب يقين التنبؤ بتحقق عيون أفراده.
وعند هذا الحد نكون قد فندنا ودحضنا أي ظنية متأصلة في العلوم الطبيعية، ونكون قد دعمنا أن هناك اليقيني وهناك الظني، مع الإقرار بأن المزيد من البحث يكشف عن المزيد من الحقائق التي كانت غائبة، سواء عن الغائب الكلي، أي المجهول أو الغائبة بعض معلوماته، أي الظني، وهذا لا علاقة له بظنية تُسقط المصداقية كما أراد أبو عبد المعز.
أما يقينية القرآن، أو حسبما قال صاحب العبارة، من أن [القرآن لا يأتيه الباطل، المنزل من لدن من لا يبدل عنده القول] فهذا لا يشكك فيه إلا كافر. !!! ولكن لا علاقة بهذه العبارة بالتفسير العلمي! .. وهذا الاستشهاد مثار استغراب ... يتبعه ارتياب .. من التباس المعاني. فصاحب هذه السطور يؤمن بأن القرآن يقيني الثبوت، ويقيني الإحكام في نفسه، أي عند من يُنسب إليه القرآن سبحانه، أما دلالة القرآن– عند النُّظَار- وهذا هو بيت القصيد، فهي بين محكم يقيني الدلالة، ومتشابه ظني الدلالة. ... وتقع أغلب آيات القرآن ذات العلاقة بالطبيعيات في المتشابه ظني الدلالة اللغوية. ... وعليه يكون الاستشهاد بيقينية القرآن – هكذا إجمالاً- رغم أنها تؤول إلى معانيه عند الخالق جل وعلا، في التفسير العلمي المتعلق أغلبه بالمتشابه، استشهاد ملتبس. .. ومن ثمَّ .. مردود.
وإذا كنا قد أسقطنا الحجج الـمُساقة بظنِّيَة مُجْمَلة في بحر العلوم الطبيعية، ويقينية مجملة في بحر الدلالات القرآنية، وفصّلنا القول في وقوع مجمع هذين البحرين، في منطقة عمل مشتركة هي "التفسير العلمي"، نكون قد أجهضنا مقصد أبي عبد المعز من أن التفسير العلمي سيؤدي إلى [مقابلة تهبط بالقرآن إلى باطل احتمالي، أو يعلو بالعلوم الطبيعية إلى يقين ديني] .... وإذا سقطت هذه الشبهة، فقد سقطت معها حجة من أراد إضاعة فرحتنا وحماسنا بالتفسير العلمي ... الذي هو وسيلتنا الموثوقة والوحيدة لتدبر وفهم شطر هام من قرآن ربنا، يرتبط مباشرة بحياتنا الفكرية الراهنة. ولم يكن سعينا في إسقاط تلك الحجة مسوقاً بذلك الحماس والفرح على غير أرض الواقع، اختلاقاً وافتراءاً، بل كان ثقةٌ في قوة حجتنا، وبقائنا على العهد في الدفاع عنها.
ثم عقَّب أبو عبد المعز وقال: [فإن كان لا بد فليكن على سبيل الاستئناس والتحديث عن "بني إسرائيل" الذي لا حرج فيه.. أما جعل المعنى العلمي تعيينا للدلالة القرآنية، أو ترجيحا لها، أو تأسيسا لها، فهذا تصديق أو تكذيب لتلك الروايات، وقد نهينا شرعا عن ذلك!!
نقول: هذا القول يجوز فقط إذا كانت المقولات المحققة من العلوم الطبيعية من قبيل الإسرائيليات، ولكن التحقيق المصاحب لها يعني ارتكانه إلى أدلة تجريبية وبراهين حسابية غير منكسرة، وبما يُبرئ هذه المقولات من الزعم بأنها إسرائيليات، ... وإذا بَرِأت من كونها من جنس معنى الإسرائليات، جاز لها – بما حملت من قوة الدليل – أن تعيِّن دلالة قرآنية لم تكن مُتَعيَّنة، أو تُرجِّحها أو تُأسِّس لها، ... ولم يعد هناك من حرج في تصديق معرفة من هذا النوع ما قام عليه الدليل والبرهان. ... ولم ينهانا الشرع عن ما كان رتبته المعرفية بهذه القوة، بل حثّنا عليه في إطار ما خلق الله من شيء، يُنْبئ عن مكنونات الخلق، بما يحمل من شواهد الحق.
ثم قال أبو عبد المعز: [هذا والأمر يتعلق فقط بـ"التفسير العلمي" ، أما "الإعجاز العلمي " فهو كما ترى!!!] يريد من ذلك أن يقول أنه إذا ثبت فساد منطق "التفسير العلمي"، فما هو أعلى حِرَفِيّة منه في متطلبات اليقين؛ أي: "الإعجاز العلمي" أبعد منالاً، ودونه خرطُ القَتَاد.
وبإثباتنا أن حجج دحض قيمة "التفسير العلمي" قد زالت أو تقوَّضت، نقول في الإعجاز العلمي أنه منطقة العمل التي تَظْهَر لمن اجتاز متعددات الظن الراجح بين معاني آيات القرآن والظواهر الطبيعية ذات العلاقة. بمعنى أن ائتلاف الظنين المتوازيين يُقوّي درجة الظن والترجيح، فإذا تراكمت الترجيحات، أصبح التفلت من ائتلافها مُستعصي أو ممتنع. ويصبح الإلزام أشد، والتشكيك أو الإنكار فيها جحود. ورغم أن المسائل المختلفة تتفاوت في درجات الترجيح، ومن ثم درجات الاقتراب من اليقين، إلا أن مثالاً رياضياً – على مستوى المدارس المتوسطة - يُجلّي المسألة تجلية رائعة. ...
معلوم أن المعادلة الرياضية الواحدة ذات المجهولين لا تفيد في تعيين أي يقين في قيمة أي من المجهولين، ومثال ذلك قولنا أن عدد حبات من تفاح ورُمَّان في صندوق ما هو 15. وغني عن البيان أنه لا يقين البتة في كم عدد حبات التفاح، ولا كم عدد حبات الرمان.
فإذا عثرنا على معادلة ثانية لنفس محتوى الصندوق تقول مثلاً أن عدد حبات التفاح فيه يساوي ضعف عدد حبات الرمان، ... نكون قد حصلنا على فائدة تصل بنا إلى يقين بعدد التفاح والرمان بشكل حاسم لا يعاند فيه إلا جاحد. والنتيجة لمن أدركها هي أن عدد حبات التفاح هو 10 حبات، وعددحبات الرمان هو 5 حبات.
ومدار هذا المثال على أن كل إفادة من الإفادتين كانت ظنية بانفرادها، ولا تفيد يقيناً في كم هو عدد حبات كل من التفاح والرمان، ولكن اجتماع الظنين ارتقى إلى نِصاب اليقين.
وكذلك الجمع بين ظنيات مشتركة بين آيات القرآن والظواهر الطبيعية، يمكن – بعد تحليلها بما يكفيها من معلومات (نُسمِّيه النِّصَاب المعرفي) – إقامة الأدلة والبراهين على يقين ظهور المعنى وأنه إعجاز علمي. ... وتسقط أيضاً حجة أبو عبد المعز – المتضمنة في تعريضه به في قوله ( أما "الإعجاز العلمي " فهو كما ترى )- والتي يقصد منه انعدام أي قيمة في ما يُسمّى "الإعجاز العلمي في القرآن"، إذا كان ما هو أقرب منه (التفسير العلمي) ليس إلا وهما، أو ما هو أسوأ من ذلك مما ذكر.
*******
5- الآية القرآنية و"الحقيقة" العلمية.هل الجمع ممكن؟     
قال أبو عبد المعز[7]: [...  العلم هنا يراد به العلم الطبيعي فقط أو قل العلم الحق كما يسمى عند فقهاء العلم؛ أعني ذلك العلم" المكمم" القابل للاختبار مثل الكيمياء والفزياء وعلوم الحياة وعلوم الفضاء... وأضيف وصفا آخر:القادم من الغرب ..
... الآية القرآنية والحقيقة العلمية الموضوعية الغربية هل تلتقيان؟
... من عجيب المفارقات أن يكون المسلمون هنا "ملكيين أكثر من الملك نفسه" فتراهم يتهافتون على بريق زائف.....فما أن يصدر عن عالم غربي خاطر أو فرضية حتى يتلقفها المفسر ويبحث لها عن آية ويتخيل لهما تطابقا....ثم يُستَدعى صاحب الخاطرة لمؤتمر على نفقة أموال المسلمين.....سبحان الله!! ألا يملك المصحف أن يصل إلى الناس إلا بتوصية: دمغة أينشتاين أو شهادة ايزنبرغ أو إسلام ياباني!!!! ... 
وما يقوله ذلك العالم في مؤتمر الإعجاز تحت تصفيق المشدوهين قد لا يجرؤ على طرحه في المؤتمرات العلمية الغريية نفسها....وإن زعم – عندهم- أنه توصل إلى الحقيقة المطلقة فسيُطرد من المجلس لا محالة ويُنسب إلى الهرطقة والتجديف ......لأنه قد تقرر عندهم أن العلم – الحقيقي الموضوعي- لا يمكن أن يكون إلا ديناميا نسبيا....والنزعة الوثوقية-الدوغمائية- عندهم من شيم رجال الدين والاديولوجيين ولا شأن لها برجال العلم....
.. يهمنا هنا (شرط أصحاب التفسير العلمي على أنفسهم: أن يكون المعنى حقيقة علمية ثابتة)......
ما رأيكم أن من أخذتم عنهم المعنى العلمي يعترفون سرا وعلانية أن الحقائق العلمية كلها نسبية.....
قال فقهاؤهم في العلم: تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم...
قال فقهاؤهم: تاريخ العلم مُشَكَّل من قطيعات ابستملوجية....ناتجة عن أزمات في العلم.
يعنون بذلك أن علما من العلوم-الفزياء مثلا- يقترح تفسيرا معينا للظواهر الطبيعية فيستمر يحقق نجاحات ظاهرة وباهرة، حتى إذا فشل جزئياً في التفسير المقنع وبدأت المشاكل تتراكم، والظواهر الجديدة تبقى بدون تفسير، اضطر العلماء إلى هجر مسلمات ومنطلقات علمهم القديم، واستحدثوا مفاهيم ومنطلقات جديدة؛ هذه هي القطيعة الابستملوجية ....؛ ومثالها قطيعة كوبرنيك مع فزياء أرسطو، وقطيعة اينشتاين مع نيوتن....
لكن المصيبة أن العلم القديم المقطوع عنه لا يعني فقدان المصداقية مطلقا، والتخلي عنه نهائيا! .....(تذكر دائما أن المطلق لا معنى له عند العلماء)
فقد يظهر العلم الفاشل بمظهر آخر، فيزيح العلم الجديد! ..... ومن مشهور مفردات علم الفزياء تخبط ؛الفزياويين في طبيعة الضوء:
قيل إنه مويجات......وأثبتوا ذلك بتجارب.
وقيل إنه حبيبات.....واثبتوا ذلك بتجارب مضادة حتى قيل ماتت النظرية السابقة...
لكنها لم تمت وعادت من جديد....
وقيل الضوء يجمع بين الطبيعتين أخذا بمنطق التجارب.....لكن المنطق الأرسطي يرفض ذلك حسب مبدأ الثالث المرفوع.....توشك المسألة أن تخلق أزمة وقد تكون النتيجة قطيعة أخرى...
وعلى كل حال لا بد من قطيعة في المستقبل، سواء بسبب طبيعة الكهرباء، أو بسبب أمر آخر، لأن العلم عندهم هو الدينامي المتغير، فإذا ثبت أصبح دينا .... وموقف الغربيين من الدين معروف.
(أذكر هنا أن الشاعر الفرنسي سان جون بيرس عندما تسلم جائزة نوبل للآداب ألقى في المجمع خطابا عقد فيه مقارنة بين الشعر والفزياء!!!)
نعم، التجريب الذي كان فخر العلم الوضعي أصبح غير ممكن....وحتى لو أمكن فهو مشكوك في مصداقيته ..... ومن يطلع على هجاء برتراند راسل للتجريب، يُدرك حجم فقدان التجربة للمعانها القديم .....
وفقهاء العلم من أمثال كارل بوبر ولا كتوش وغيرهما، يصرون على أن العلم ينبغي أن يستند إلى "نماذج" لا على تجارب ...... لأن التجربة –عمليا- محال في المتناهي في الصغر...وهي أشد استحالة في ماوراء السماء الدنيا ... ، .. فليس في وسع العالم إلا أن يتخيل نموذجا منطقيا رياضيا لتفسير الظواهر (تذكروا مثلا ان نيل بور تخيل النواة على شكل المنظومة الشمسية)....، .. ثم يحاول غيره تدمير ذلك النموذج بالكشف عن عيوبه ....، وفي الوقت ذاته يقوم صاحب النموذج بالدفاع والتصحيح .... إلى أن يتسع الخرق على الراقع ...،.. فينصرف عن نموذجه إلى نموذج آخر لن يكون مصيره أحسن.....
ولعل مفهوم "تخيل نموذج" هو الذي جرأ الشاعر الفرنسي على مقارنته الشعر بالفزياء .... فعالم الفزيائي القائم على مفردات: انفجار عظيم وأوتار صوتية وثقوب سوداء وبيضاء كثقوب الدودة وتوسع او انكماش شبيه بآلة العزف الاكورديون.... ليست أكثر مصداقية من عالم ابن الرومي الذي يرى الأرض امراة متبرجة، بعد خفر تتعرض للمطر تعرض الأنثى للذكر.....
الخلاصة....ليس العلم الحديث إلا نماذج.....
والنمذجة افتراض عقلي مشروط بالانسجام الداخلي والقدرة على التفسير الخارجي....
ليس ثمة نموذج واحد أو دائم.......لأن العلم لا يقف......
وقوف العلم معناه كهنوت ...
...
من يضمن لنا الحقيقة العلمية وهي نسبية عند أهلها بإجماعهم...
وكيف نجمعها مع الآية القرآنية وهي حقيقة مطلقة لا يأتيها الباطل من أي جهة من الجهات عند المسلمين بإجماعهم-إلا من لا يعتد به-
ونرجو ممن يسير في نهج التفسير العلمي، أن يدخل في متاهة العلم الغربي، ويدرك نظريات أصحابها وتقييمهم، ويطلع على مذاهبهم الابستملوجية ..... لعل التفكر يقوم مقام الانبهار ...... ولعلهم يقدرون القرآن كما ينبغي: صدق محض لا اختلاف فيه، وكلام غيره فيه اختلاف وفيه باطل -ولو سُمِّي علما –واعتبروا ببعض المفسرين الذين سبقوكم عندما انبهروا بأرسطو وفلك بطليموس ...،.. فتحدثوا في تفاسيرهم عن الفلك أطلس، وعن الفلكات العشر، وعن عالم الكون والفساد ..،.. وظنوا انهم ينصرون القرآن ... (لم يحدث أنهم انتصروا للقرآن بهذا !! - المؤلف)
فهل تدرون ما موقف العلماء المعاصرين من الفلك أطلس؟
وما يدريكم أن نظرية الانفجار العظيم التي فسرتم بها آية الفتق والرتق......قد يضحك منها أحفاد الأحفاد...؟]
نقول: اضطررنا إلى استيراد كثير من المادة المصاحبة للشبهة المثارة في السؤال: ويرجع السبب حرصنا على عدم فقدان القارئ للسياق الأصلي، .... والآن، سنتناول فقرات مما قرأنا لنرى وجاهتها وقوة حجتها:
حول قول أبي عبد المعز: [من عجيب المفارقات أن يكون المسلمون هنا "ملكيين أكثر من الملك نفسه" فتراهم يتهافتون على بريق زائف.....فما أن يصدر عن عالم غربي خاطر أو فرضية حتى يتلقفها المفسر ويبحث لها عن آية ويتخيل لهما تطابقا....]
نقول: هذا الكلام يؤول فقط إلى مجتمع أهل التفسير والإعجاز العلمي، وليس إلى عين "التفسير والإعجاز العلمي"! .. وكم الفرق كبير أن نتكلم مثلاً عن مجتمع الفقهاء (طبقة من طبقاتهم في زمن ما) أو نتكلم عن علم الفقه. ومثلما يُخطئ من يحمل سلوكيات الفقهاء في زمن خاص بعينه، وينشره ويظلل به علم الفقه، فكذلك، يخطئ من يفعل نفس الشيء بين التفسير العلمي، وسلوكيات أهله في عدد من المشاهد في معرض الزمن. .. والمعنى: أن هذا السلوك لا يمس التفسير والإعجاز العلمي في نفسه؛ من حيث الصدق والموضوعية.
وحول قوله: [يُستَدعى صاحب الخاطرة (الغربي) لمؤتمر على نفقة أموال المسلمين...  وما يقوله ذلك العالم في مؤتمر الإعجاز تحت تصفيق المشدوهين، قد لا يجرؤ على طرحه في المؤتمرات العلمية الغريية نفسها ..،.. وإن زعم – عندهم- أنه توصل إلى الحقيقة المطلقة، فسيطرد من المجلس لا محالة، وينسب إلى الهرطقة والتجديف]!
إذا افترضنا أن هذا الموقف واقع على ما تم تصويره، وأن هذا الغربي قد وضع يده على سر علمي بمعية القرآن وما فيه من إفادة معرفية، وقد أيَّد كلامه بما لا مجال للطعن فيه، من واقع مُختبر، أو منطق مُعتبر، فهو في معيار الإسلام: [علمٌ] يجب الإقرار له بالموضوعية والجدية وطرحه للتداول. .. ولا علينا من الغربين، بطردهم إياه من مجلسهم إن فعل ذلك عندهم، .. وكيف نطرده وهو يقول الحق الذي نعرف أماراته؟! .. وكيف نتوجس من طردهم له إن فعل ذلك عندهم، .. بل إن هذا هو المتوقع منهم، .. ولو فيهم خيراً لأقروا بالأدلة والبراهين وما تؤدي إليه بلا تحيز ضد القرآن .. وما هم من قوم إبراهيم بأميز، وقد حرّقوا أبا الأنبياء إذا فعل مثل الذي نحن بصدده. .. وحتى لو طرق أولئك الغربيين طرائق النجوم، وعادوا بآثارها، فما كانوا ليؤمنوا إلا إذا كانوا أهلاً للإيمان. .. والغرض أنهم لا يُتوقع منهم غير هذا الجحود .. وما وسمهم إدخال القرآن وما فيه من مطلقات معرفية في مسالك العلم الغربي بالتجديف والهرطقة، وكأنه مثل كتاب بوذا أو كونفوشيوس إلا العناد والمكابرة كما قال تعالى "فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ"(الأنعام:33) ... أما إن كان المقصد أن هذا الغربي يضحك علينا بما لا يستطيع فعله مع علماء قومه، فليس الاستشهاد بالقرآن بالذي يُضحك به على الناس، ولو فعل ذلك فاعل، لفضحه الله، وأعز كتابه ودينه، وهو أعلم بالسرائر، وما لنا إلا الحكمة فيما نسمع ونعقل. .. أما إن سَخر الساخِرون، وتعلمن الـمُتعلمِنون، فليس لنا إلا أن نقول كما قال ربنا عز وجل: "سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"(التوبة:79).
أما أن يُسوِّغ أبو عبد المعز طردهم لابن جلدتهم إذا تكلم مستصحباً كتاب ربنا، بشيء من مطلقاته في معانيه المعرفية، قائلاً: [لأنه قد تقرر عندهم أن العلم – الحقيقي الموضوعي- لا يمكن أن يكون إلا ديناميا نسبيا....والنزعة الوثوقية-الدوغمائية- عندهم من شيم رجال الدين والاديولوجيين ولا شأن لها برجال العلم....] .. فأراه قد صدَّقهم في نسبياتهم، أو أقرُّهم عليها، ونسى مطلقاتهم التي هم عليها أحرص من الدوغمائيين الوثوقيين الأيديولوجيين على عتيق أساطيرهم. أوليس إنكار العلم – عند هؤلاء -لخالق مريد حكيم مطلق من مطلقاتهم؟! ... أوليس التكذيب بالقرآن مهما كان محتواه المعرفي على قيمة من القيم العلمية مطلق من مطلقاتهم؟! .. أوليست عبثية الكون، وضياعه في مسيرة مجهولة مطلق من مطلقاتهم؟! .. أوليس أن آدم عند هؤلاء – باعتباره أباً للناس – ما هو إلا حالة من الهمجية والتلعثم والجهالة، وفي الحضيض المعرفي، وأن هذه الصورة مطلق من مطلقاتهم؟! .. وماذا يفعل هؤلاء بمن يمس هذه المطلقات وأمثالها بتشكيك أو تعديل، إنهم يطردونه من مؤتمراتهم .. ويتهمونه بالهرطقة والتجديف .. وبإسم العلم! ... أين الدينامية النسبية التي يتشدقون بها كما يتشدقون بحقوق الإنسان، إلا إذا كان المسلم عندهم غير إنسان، وأين الموضوعية والحيادية إذاً ؟! .. إن نسبيتهم مشروطة بشروط مطلقاتهم لا غير .. ومن فهم عنهم غير ذلك، فهو مخدوع بهم .. أو بعيد عن آلياتهم ... أو متفرج مُصدِّق زيفهم .. في سياستهم العلمية الإعلامية .. والويل ثم الويل لمن حاد عن مسار كنيستهم العلمية. .. فمحاكم التفتيش (العلمية) ما زالت قائمة ... وعلى مُخرجات الأبحاث والمؤتمرات والمؤلفات مُصنِّفة مقرِّبة ومُبعِدة. تنشر البركات والترقيات والجوائز النادرات على السالكين في رضا باب العلم النسبوي إسماً، الدوغمائي قالباً .. وتمنع وتحجر مِنَح الدراسات، والوظائف، والألقاب عن المخالفين الشاردين المتهرطقين في عرفانهم!!! .. وليذهب عالم واحد وليفترض فرضاً واحداً – كما يفترضون آلاف الفروض كل يوم – ويقول: ماذا لو كان أول أب بيولوجي للناس عارفاً ناطقاً؟ ... ولن يكون مآله إلا الطرد من وظيفته في صبيحة اليوم التالي، ووقف نشر أبحاثه، وتجميد رصيد منحه البحثية. ... وليذهب العلم إلى الجحيم .. إلا أن تظل مطلقاتهم مقدسة في سر أقداس العلم - المحايد النسبوي بزعمهم !!!
أما قول أبي عبد المعز: [... سبحان الله!! ألا يملك المصحف أن يصل إلى الناس إلا بتوصية: دمغة أينشتاين أو شهادة هايزنبرغ أو إسلام ياباني!!!! ...  ]
فنقول: أرأيت إن أتاهم أينشتاين بما قدَّر الله على يديه من تخريج سر من أسرار الخلق في هذا الكون، .. ثم عثروا على هذا السر والحكمة من ورائه في كتاب الله العزيز، ثم رأوا أن وراء هذا السر أسرار لا يعلم بها لا أينشتاين، ولا أبو عبد المعز ولا البشر جميعا، ... أيعاب أنه جاء مفتاحه على لسان يهودي،.. ومعلوم حنقهم على ديننا، ... إن هذا ليس شهادة لأينشتاين وقد عزّره قومه وأجلُّوه، ونال حقه، بلا بخس ولا هضم، .. بل شهادة للقرآن ومُنزل القرآن سبحانه .. الذي يُسخِّر لأجل نصرة الحق، الذي أنزله في كتابه، من يشاء، كما قال تعالى "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ"(المدثر:31)، أو كما قال تعالى في نُصرة نبيه يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ .."(يوسف:26)، وليس بالضرورة أن الشاهد كان مؤمنا، وكونه (مِنْ أَهْلِهَا) أقرع بالحجة، أو كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : [إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر](رواه البخاري) ..
ولأجل هذه المسألة بعينها، ومن جاء ذكره فيها على التخصيص: ألبرت أينشتاين، سنُعقِّب وراء هذه المقالة،  إن شاء الله، بدراسة تشير صراحةً إلى سر قد كشفه أينشتاين، وختم عليه ختمه الذي شهد له الناس به حتى أبعد الناس عن الفيزياء ومعانيها وأسرارها ...- ودون الالتفات إلى تهكم - الفاضل - أبي عبد المعز- ... ثم سنرى كيف تفتقت معاني هذا السر في كتاب الله تعالى .. وعلى نحو لم يكن يعلمه حتى أينشتاين نفسه ... وذلك بما رجح عندنا من بِنْية علمية رصينة في تعقب هذا السر، وقد مر على ذلك أكثر من عِقْدين من الزمان، في طيات المكتوبات عند صاحبها، ويبدوا أن أمر إذاعته قد حانت. وسنضع عنوانه بإذن الله تعالي: [كتاب: القرآن الكريم والنظرية النسبية: (الفصل الأول: سرعة الضوء)]
أما قول أبي عبد المعز: [قال فقهاؤهم في العلم: تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم...
قال فقهاؤهم: تاريخ العلم مُشَكَّل من قطيعات ابستملوجية....ناتجة عن أزمات في العلم.
يعنون بذلك أن علما من العلوم-الفزياء مثلا- يقترح تفسيرا معينا للظواهر الطبيعية، فيستمر يحقق نجاحات ظاهرة وباهرة، حتى إذا فشل جزئيا في التفسير المقنع، وبدأت المشاكل تتراكم والظواهر الجديدة تبقى بدون تفسير، اضطر العلماء إلى هجر مسلمات ومنطلقات علمهم القديم، واستحدثوا مفاهيم ومنطلقات جديدة، هذه هي القطيعة الابستملوجية .... ومثالها قطيعة كوبرنيك مع فزياء أرسطو، وقطيعة اينشتاين مع نيوتن....]
فنقارنه بالفقرة التالية:
[تاريخ الفقه الإسلامي هو تاريخ أزمات الفقه، وما ينتج عنها من ظهور مدارس فقهية جديدة.
فتاريخ الفقه مُشكَّل من قطعيات إبستمولوجية .. ناتجة عن أزمات في الفقه. ففقه مالك في المدينة لما أنتقل المسلمون إلى العراق، واجه مناخاً فكرياً مختلفاً، وملتقى لذوي التوجهات الفارسية والصابئة واليونانية وغيرها، وبقايا عديدة من حضارات غابت عنها الشمس، فانكسرت رتابة الفقه المديني البسيط وتبنَّى الفقهاء إبستمولوجيا جديدة تتوافق ومعمعة التناطحات المذهبية والعقدية، فكان فقه أبو حنيفة والأرأيتيين (أصحاب: أرأيت لو كان كذا ..) .. وقل مثل ذلك في ظهور المدارس الفقهية أخرى، واجه أصحابها مناخات فكرية، ومسائل جديدة، غير ما كانوا يألفون، فلزمهم تغيير إبستمولوجيتهم القديمة والرد على أسئلة لم يألفوها.]
نقول: هل نرى تغيُّر في الآليات الفاعلة في تغير مسارات العلم عن مسارات الفقه. إن القوى الفاعلة واحدة، وهي ظهور دواعي جديدة بأسئلة جديدة .. فظهور قطيعة (كيبلر-نيوتن) مع فيزياء أرسطو [وليست كما يروج لها كوبرنيك مع أرسطو، حيث أن ما فعله كوبرنيك لم يقدم ولم يؤخر، ولم يوظف إلا في إعلام علمي أجوف] كانت نتيجة لمعارف جديدة (أن مدارات الكواكب إهليجية – أرصاد كبلر وما ورثه عن تيكون براهي، أو سرقه منه – وأن مسارات حركة الكواكب تتبع معادلات تحليلية analytical– قوانين نيوتن - وليس إمبريقية  empirical– دوائر متراكبة في فيزياء أرسطو). أما قطيعة أينشتاين مع نيوتن، ففيها ظهرت حدود عظمى للسرعة تقاربها المتحركات مهما تسارعت، ولا يمكن أن تجتازها. وهذا كان أمر تجريبي مجهول في فيزياء نيوتن.
فالعقبة الناشئة عن الفهم الطارئ أو المغاير تُنشيء تغيراً أو تفرعاً في مسار العلم أو الفقه على السواء. فالمسألة إذاً ليست نسبية علم وطلاقة دين، بل مسألة إنسان يتعلم أو يتفقه، في العلم أو في الدين، أي في الخلق أو في خالق الخلق سبحانه، وكتابه الذي أنزله يتكلم فيه عن الخلق.
.. فالصورة إذا مختلفة عما ظنه أبو عبد المعز وأراد إيصاله إلى قارئه!
أما قوله: [المصيبة أن العلم القديم المقطوع عنه لا يعني فقدان المصداقية مطلقا والتخلي عنه نهائيا.....(تذكر دائما أن المطلق لا معنى له عند العلماء)
فقد يظهر العلم الفاشل بمظهر آخر فيزيح العلم الجديد.....ومن مشهور مفردات علم الفزياء تخبط الفزياويين في طبيعة الضوء:
قيل إنه مويجات......وأثبتوا ذلك بتجارب.
وقيل إنه حبيبات.....واثبتوا ذلك بتجارب مضادة حتى قيل ماتت النظرية السابقة...
لكنها لم تمت وعادت من جديد....
وقيل الضوء يجمع بين الطبيعتين أخذا بمنطق التجارب.....لكن المنطق الأرسطي يرفض ذلك حسب مبدأ الثالث المرفوع.....توشك المسألة أن تخلق أزمة وقد تكون النتيجة قطيعة أخرى...
وعلى كل حال لا بد من قطيعة في المستقبل سواء بسبب طبيعة الكهرباء أو بسبب أمر آخر لان العلم عندهم هو الدينامي المتغير فإذا ثبت أصبح دينا ....وموقف الغربيين من الدين معروف.]
وفي هذه الفقرة أيضاً نجد الصورة على خلاف حقيقتها.
فالثالث المرفوع في المنطق، والذي شكك فيه أبو حامد الغزالي، والذي مفاده أن الأمر إما كذا أو كذا، من بين أمرين لا ثالث لهما، قانون فلسفي تأملي، أخطأ من عممه. فكان تطبيقه عن طبيعة الضوء، والقول بأن الضوء إما جسيمات أو حبيبات ولا سبيل إلى احتمال ثالث، تطبيقاً خاطئا.
وأما الضوء فقد تحير الفلاسفة الطبيعيون القدامى في أمره، وليست تصوراتهم غير المستندة إلى دليل بالتي تعد من العلم، حتى يقال أن ما قالوه عن الضوء من (العلم الفاشل)، ثم أثبتت التجارب أن له طبيعة موجية على يد (فوكولت سنة 1850)، واستبعد من ثم – المصدقون بقانون الثالث المرفوع - أن يكون الضوء جسيمات. ثم ظهر في القرن العشرين (على يد بلانك 1900-أينشتاين 1905- كومتون 1923) بتجارب جديدة (ولا يقال بتجارب مضادة) أن للضوء أيضاً صفة الجسيمات. فأصبح للضوء كلا الصفتين، على نحو جديد لم يكن معروفاً من قبل لأي شيء اطَّلع عليه البشر من قبل. والجمع بين هاتين الصفتين يشبه الجمع بين حديثين للنبي صلى الله عليه وسلم، يظن قليلو الخبرة أنهما متعارضان، ... ويعلم علماء الحديث أن الحكمة تكمن في جمع ما يُشتبه فيه التعارض، وليس في محض اختيار أحدهما ونبذ الآخر، الذي هو فعل يقدر عليه كل متسكع في العلم.
الأمر إذاً ليس نسبية أو مطلقية، ولا علم قديم فقد مصداقية أو لم يفقدها، الأمر هو أن دائرة العلم تتسع وتتنقح فيها المعارف، حتى لو اتسعت دائرة الجهل لدخول مناطق معرفية جديدة لم تكن مُدركة الوجود.
ولأن هاتين الدائرتين تتسعان على الدوام، تتنقح المعارف المشوشة، وتطرأ مسائل جديدة. وما يظنه الظان أن العلم نسبي غير صحيح، والصحيح أنه يتراكم بمزيد من النظر والتحليل، فيتهذب المعلوم، ويقترب من الحق المطلق أكثر وأكثر، حتى يكون أشبه ما يكون به في مدارك العلماء الراسخين.
وعلى ذلك يكون القول [إذا ثبت (العلم) أصبح دينا ....وموقف الغربيين من الدين معروف.] فغير صحيحة من وجهين.
الوجه الأول: أن الدين (المتمثل عندنا في الحصيلة المعرفية في القرآن) أيضاً يتطور، فتتنقح معاني آيات كانت مشتبهة، وتتكشف معاني آيات كانت مجهولة. ومَنْ يُحاكم الدين بأنه فقط العقيدة ومحكمات الآيات، ويجعل – من ثمَّ- المتشابهات محكمات، فقد عمم الخاص، وأطلق المقيد بلا مستند. وتكون النتيجة أنه عطَّل معناها عند ظهوره.
أما الوجه الثاني: وهو القول بأن [موقف الغربيين من الدين معروف]، فهو قول لا يقدم ولا يؤخر بأي إفادة في المسألة. ...وإذا أريد به أنهم يُطوِّرون العلم لأنهم يؤمنون بالنسبي، ولذلك فهم لا يؤمنون بالدين، فلا أراه إلا مدحاً في النسبي، ولو على حساب محكمات الدين!!! .. وفي هذا تسويغ لاستبعاد المطلقات في إطار العلم، هكذا على الإجمال، مع ما رأينا من كذب الغربيين في دعواهم تلك، ... وإن اقتصر المطلق على الدين، ففي القلب والوجدان، ولا يقرب مناطق العلم!! .. فإنه عليه مُحرًمة، أو لنقل تلطيفاً للمعاني، بلسان غيرنا: حتى لا ينخدش بنسبيتها!!!
فنقول: ما هذا؟! ... هذا إماتة لديننا الذي داننا الله به!! .. إن قرآننا حيُ مستوعب لما يطرأ على الناس الذي أُنزل إليهم، أي للبشر حتى قيام الساعة. .. وتكمن رحابته في منطقة اشتباه آياته على الأوَّلين. وما هذه المنطقة المشتبهة من المحكمة، إلا كمنطقة العلم المنكشف على التتابع- بعد انغلاق - من الظاهر الجلي. .. ومن غاب عنه هذا المعنى فقد حجر على الناس شطر القرآن، عطَّله أو حَجَبَه. 
وعن قول أبي عبد المعز: [أذكر هنا أن الشاعر الفرنسي سان جون بيرس عندما تسلم جائزة نوبل للآداب ألقى في المجمع خطابا عقد فيه مقارنة بين الشعر والفزياء!!!]
فيبدو للقارئ من ذلك وكأن الفيزياء قد فقدت رصانتها وتميعت حتى أصبح الخوض فيها مثل الخوض في الشعر، وما فيه من الخيال، الذي لا يملك صاحبه عليه دليلاً. ولو انتبهنا لوجدنا أن غرض أبو عبد المعز من ذلك التهوين من شأن الفيزياء في زعم أصحابها بأي حقيقة طبيعية. ومَنْ مِن أصحاب الخيال يدعي أن الخيال حقيقة وأن تجارب الشاعر النفسية من الحقائق التي تتعدى صاحبها؟! .... وإذا راجعنا ما الذي قاله (سان بيرس) في خطبته المشار إليها لوجدناه يقول[8]:
[إن الفكر المجرد المنزه عن الغرض لدى كل من العالم والشاعر، ليدعو إلى الاحتفاء بهما معاً، وذلك من حيث أنهما لم يعودا خصمين وإن تآخا. فكلاهما يستكشف نفس المجهول، ولا يختلفا إلا في مزاجهما البحثي.(من حيث الدرجة وليس النوع)
وعندما نرى ما آلت إليه دراما العلوم الحديثة فيما تكشف لها من حدود المنطق العلمي في الرياضيات البحتة، وعندما نرى في الفيزياء ركنين رئيسيين من النظريات الأساسية، هم النسبية العامة والنظرية الكمومية، قد كشفتا عن عدم اليقين وغياب الحتمية، وبما يحد حتى من صرامة القياسات التجريبية إلى الأبد، وعندما نسمع عن أعظم المكتشفين العلميين في القرن العشرين، والذي يُعزى إليه تدشين علم الكونيات الحديث، الذي أحال أرحب التوليفات العلمية سعة في الكون إلى مجرد معادلة. عندما نرى كل هذا، يُستدعي الحدس الإنساني لنجدة العقل، والإعلان عن أن الخيال الإنساني هو الغذاء الرئيسي للعلم، بل الوصول لأبعد من ذلك والتصريح بضرورة تمتع العالم برؤية فنية جمالية حقيقية، .. وعندئذ نقول: أفلا تبرر هذه المآلات اعتبار ما للشعر من شرعية لا تقل عن تلك التي للمنطق؟!
وإذا أردنا الحقيقة، فسوف نجد أن أي عمل خلاق يقوم به العقل هو بالأساس عمل "شعري" بالمعنى الصريح للفظ، وبقدر ما نجد من تكافؤآت بين المزاجات الحسية والعقلية، فسنجد أنها تجربة واحدة يشرع في خوضها كل من الشاعر والعالم.](ترجمتنا المتواضعة)
وبتحليل هذا الكلام، نجد أن الشاعر (سان جون بيرس) يبحث للشعر عن موطئ قدم بين شوامخ القوى الفكرية المحركة للحداثة العلمية، الرياضيات، والفيزياء، ولم الكونيات. ويستغل الأزمات الناتجة عن الطفرات العلمية في هذه المجالات، فيما تستكشفه من بحار علمية جديدة، وما استتبعها من قصور بادي للعيان في السيطرة على سفينة المعرفة الهادرة، وحدّة الرؤية لمفردات هذه العلوم، التي تداخلت معالمها.
إن (سان جون بيرس) يستغل هذه الأزمة ليقول: لم يعد الفرق كبير بين ضبابية الرؤية الشعرية وضبابية الرؤى الرياضية والفيزيائية والكونية ... أصبحنا جميعاً في الخيال هائمون! .. هذه هي الرسالة .. أو لنقل: هذه هي الفرصة التي سنحت له، ليرفع رأسه ويتنفس الصعداء.
ومهما استغل بيرس هذه الأزمات ووظفها ليرتقي بالشعراء على حساب أزمات العلماء، فتظل أقواله شعرية، هائمة، ولا نقول أنها تجرح العلم، بل إنها لا تشد حتى انتباهه. ... فكيف بعد ذلك يكون بيرس مما يُستشهد به على اجتراح العلم وفقدانه شيء من صرامته؟!
وأما قول أبي عبد المعز: [التجريب الذي كان فخر العلم الوضعي أصبح غير ممكن....وحتى لو أمكن، فهو مشكوك في مصداقيته.....ومن يطلع على هجاء برتراند راسل للتجريب يدرك حجم فقدان التجربة للمعانها القديم.]
نقول: لا قيمة لرأي برتراند راسل، فهو ليس ممن يُستشهد بآرائهم في الفيزياء، واقرأ له إن شئت كتابه (ألف باء النسبية) وإن كان القارئ من أهل الرسوخ في الفيزياء فسيعلم حجم المأساة التي يكشف عنها ضحالة فهمه لها. حتى أنه سوي بين نظام بطليموس في دوران الكون حول الأرض، ودوران الأرض حول الشمس! ..وبإسم ماذا .. بإسم النظرية النسبية ..[9] !!
أما عن التجريب، فلا نماري في ازدياد التعقيد التجريبي، حتى أن اكتشاف جسيم الكوارك السادس والأخير (والذي حمل إسم "توب" Top)[11]،[10] في عام 1995، تطلب فريق عمل من الباحثين المتمرسين وصل عدده إلى 440 باحث، ينتسبون إلى 35 مؤسسة علمية مختلفة، ومن عدد من الدول يزيد عن 12 دولة. نعم هذا ليس مجلس نيابي لدولة من الدول، بل فريق عمل لإدارة تجربة واحدة استهدفت اكتشاف جسيم واحد بعينه، لا تراه العين، بل ولا تراه حتى الأجهزة نفسها رؤية مباشرة. .. وقد تطلَّب الأمر أن يصل مستوى الطاقة في معجل فيرميلاب – الذي أُجريَت فيه التجربة - إلى 1.8 ترليون فولتإلكتروني، وخاض الباحثون مسيرة البحث عن هذا الكوارك لزمن وصل إلى اثنتى عشرة سنة، وتوجب عليهم خلال هذه المسيرة أن يختبروا ما مجموعه 16 مليون حادث تصادم بين الجسيمات، حتى أمكنهم تمييز عدد محدود للغاية من التصادمات التي رُشِّحت لتأييد وجود الكوارك السادس. ويُلاحظ أن الإعلان عن اكتشاف الكوارك السادس كان سنة 1995، إلا أن البيانات المعملية للتصادمات كان قد تم رصدها وتجميعها قبل ذلك بسنوات، أي أن الأمر استغرق عدة سنوات فقط لمعالجة البيانات المرصودة مسبقاً.
نعم، لا نماري في تعقيد التجارب الذي وصل إلى هذا الحد، .. ولكن، أيعيب هذا صرامة التجارب، وجدية العمل، ومصداقية القائمين عليه، حتى ولو أخطأوا ؟!!! ... لا .. لا يعيبهم، ولا يعيب العلم الذي ينتمي إليه سعيهم التجريبي، إلا كما يعيب علماء النحو العربي ما وصل إليه علمهم من تعقيد تحليل للقواعد النحوية العربية - حتى سمعنا وقرأنا الشكاوى المرة من تعقيدات النحو العربي- إذا ما قورنت بما كان عند العربي الصحابي من سليقة عربية غضة.
قال أبوعبد المعز: [فقهاء العلم من أمثال كارل بوبر ولا كتوش وغيرهما، يُصِرُّون على أن العلم ينبغي أن يستند إلى "نماذج" لا على تجارب......لأن التجربة –عمليا- مُحال في المتناهي في الصغر...وهي أشد استحالة في ماوراء السماء الدنيا.....فليس في وسع العالم إلا أن يتخيل نموذجا منطقيا رياضيا لتفسير الظواهر (تذكروا مثلا ان نيل بور تخيل النواة على شكل المنظومة الشمسية)....ثم يحاول غيره تدمير ذلك النموذج بالكشف عن عيوبه ....وفي الوقت ذاته يقوم صاحب النموذج بالدفاع والتصحيح ....إلى أن يتسع الخرق على الراقع .....فينصرف عن نموذجه إلى نموذج آخر لن يكون مصيره أحسن.....
ولعل مفهوم "تخيل نموذج" هو الذي جرأ الشاعر الفرنسي على مقارنته الشعر بالفزياء....فعالم الفزيائي القائم على مفردات : انفجار عظيم وأوتار صوتية وثقوب سوداء وبيضاء كثقوب الدودة وتوسع او انكماش شبيه بآلة العزف الاكورديون.... ليست أكثر مصداقية من عالَم ابن الرومي الذي يرى الأرض امراة متبرجة بعد خفر تتعرض للمطر تعرض الأنثى للذكر.....
الخلاصة....ليس العلم الحديث إلا نماذج.....
والنمذجة افتراض عقلي مشروط بالانسجام الداخلي والقدرة على التفسير الخارجي....
ليس ثمة نموذج واحد أو دائم.......لأن العلم لا يقف...... وقوف العلم معناه كهنوت...  من يضمن لنا الحقيقة العلمية وهي نسبية عند أهلها بإجماعهم...
وكيف نجمعها مع الآية القرآنية وهي حقيقة مطلقة لا يأتيها الباطل من أي جهة من الجهات عند المسلمين بإجماعهم-إلا من لا يعتد به-]
نقول: إن أخذ العلم من فلاسفة قابعين في أبراجهم العاجية، لا يختلف كثيراً عن أخذ مهارات كرة القدم من متفرجين مخضرمين على مشاهدة المباريات جالسين في مقصورات مكيفة، .. ولم يحدث أن تصببوا قطرة عرق واحدة في تسجيل هدف واحد في مرماه. إلا إذا كان الآخذ منهم، ينتقي من يأخذ عنه معنى العلم!.. فيوافق مأخذه مذهبه.
أما عن أيهما أسبق أو أغنى في البحث العلمي: التجربة أم النموذج!!! فلا نراه إلا كمن يختار بين النظر العيني لشيء، والتصور الذهني له في المخيلة!!! ... ونقول: هل يمكن لكائن مَن كان، أن يتصور شيئاً قبل أن ينظر إليه أو إلى مِثله؟! ... الإجابة .. لا .. لا يمكن ... وهل يمكن أن يختار إما هذا أو ذاك؟! .. لا .. لا يمكن .. إلا كما يمكن أن يختار الجائع بين الطعام والشبع!! .. هذا بافتراض أنه يملك جهازاً هاضما! .. فإن لم يكن، .. فليغلق عليه داره وينتظر أجله المحتوم.
والنتيجة الحاسمة، أنه لا بد من مدخلات معلوماتية، تمثل أو تشير إلى جزء ولو قليل من صورة النموذج المأمول من الواقع الناطق بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن القرآن - إن كان الباحث من المسلمين الذين يصدقون ربهم فيما يخبر عن خلقه - . ثم تُستكمل صورة النموذج بالأفكار وآليات التحليل اللغوي والرياضي، وذلك كمن يُركِّب صورة كاملة من بعض قصاصاتها القليلة puzzle. وبقدر ما في المدخلات التجريبية من صدق، وبقدر ما في التحليل الـمُستكمِل للنموذج من رصانة، بقدر ما ينتج النموذج الأشبه بالحق، الذي يسعى الباحث إلى تصوره.
ثم نقول: هل القالب النحوي (فعل فاعل مفعول) شيء غير نموذج تصوري لعلماء اللغة يتمثل بالإنسان ويسقطونه على كل شيء تعبر عنه اللغة. .. ثم أليس (المسند إليه والمسند) نموذج آخر أكثر تجريداً يفارق الأول في خلوه من إرادة الفعل، أو أن يُنظر إلى الأول باعتباره نموذج حركي، والثاني باعتباره نموذج سكوني؟! ... هكذا إذا يكون نحونا العربي، الذي نضبط به لساننا، ونفهم به القرآن، قائماً على نموذج مفهوم،ي قولبنا في إطاره علاقات الكلمات المرصوفة في اللسان العربي!
ثم أليس ما يخبرنا الله تعالى عنه من جنة أو نار إلاّ حقائق نعيها عبر نماذج نتصورها من واقع تجاربنا. فإن خلا وعيُنا من تجارب عن لذة النعيم، وتجارب عن ألم العذاب، ما كان لنا أن نتصور الحق الذي أبلغنا الله تعالى به، ...
 وبناءاً على ذلك نقول: هل لنا غير النماذج الوسيطة لتنتقل إلينا المعرفة الغائبة على متنه؟!   
وعلى ذلك يكون القول بأن [العلم الحديث ليس إلا نماذج] قول مبتسر، يفصم الواقع المعرفي للإنسان، .. ألا وهو أن العلم  الإنساني كله نماذج؛ ... قديماً كان العلم أو حديثا. وأن أصدق هذه النماذج أشبهها بالحق.
أما القول بأنه: [ليس ثمة نموذج واحد أو دائم.......لأن العلم لا يقف...... وقوف العلم معناه كهنوت...  من يضمن لنا الحقيقة العلمية وهي نسبية عند أهلها بإجماعهم(؟!)..
وكيف نجمعها مع الآية القرآنية وهي حقيقة مطلقة لا يأتيها الباطل من أي جهة من الجهات عند المسلمين بإجماعهم-إلا من لا يعتد به-]
فنقول فيه: أنه، ولا حتى الآيات المتشابهات في كتاب ربنا واقفة المعنى إلا أن تكون محجورة بفعل بشري. أما حقيقتها المطلقة فهي حقيقة تقاربية asymptotic نصل إليها بتنقيح النماذج، وتهذيبها، وتغذيتها بما يكشفه الله من علم، يبزغ مع تتالي أيام الكشوف، وظهور المعاني بعد انغلاقها.
أما الضمان المسأول عنه في [من يضمن لنا الحقيقة العلمية وهي نسبية عند أهلها بإجماعهم(؟!)] فجوابه أنه لا بد له من رجال يتأهلون، ويتفقهون في أحكام الـمُسخَّرات، كما تفقه أجدادهم في أحكام المكلَّفين وتأصيلها.
وأما عن السؤال الإقصائي: [وكيف نجمعها مع الآية القرآنية وهي حقيقة مطلقة لا يأتيها الباطل من أي جهة من الجهات عند المسلمين بإجماعهم]؟! .. فالأمر يسير، ولكن فقط، بعد الانتباه إلى أن الحقيقة المطلقة لمساقط الآيات المتشابهات، لا يعلمها إلا هو سبحانه، أما نحن فليس إلا أن نسعى للأحسن، والأرجح، وإلا لما قال الله لنا: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ"(الزمر:18) وهؤلاء هم من مدحهم الله تعالى " أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ"(الزمر:18).
وحول آخر عبارة في هذه الفقرة، والتي قال فيها أبو عبد المعز: [نرجو ممن يسير في نهج التفسير العلمي أن يدخل في متاهة العلم الغربي، ويدرك نظريات أصحابها وتقييمهم، ويطلع على مذاهبهم الابستملوجية، ..... لعل التفكر يقوم مقام الانبهار ...... ولعلهم يُقدِّرون القرآن كما ينبغي: صدقٌ محض لا اختلاف فيه، وكلام غيره فيه اختلاف وفيه باطل - ولو سمي علما – واعتَبِروا ببعض المفسرين، الذين سبقوكم عندما انبهروا بأرسطو وفلك بطليموس ..... فتحدثوا في تفاسيرهم عن الفلك أطلس وعن الفلكات العشر وعن عالم الكون والفساد....وظنوا انهم ينصرون القرآن .... (لم يكونوا، ولم يصرحوا أنه أرادوا بذلك نصره)
فهل تدرون ما موقف العلماء المعاصرين من الفلك أطلس؟
وما يدريكم أن نظرية الانفجار العظيم التي فسرتم بها آية الفتق والرتق......قد يضحك منها أحفاد الأحفاد...؟]
نقول أننا نشد على يد المتكلم، في أخذه على كثير من لغط الإعجازيين، الذين استهواهم الخوض في آيات الله دون إدراك نِصَاب العلم فيه. غير أننا نُذكِّره بأن الإنصاف يلزمه بأن يضحك أيضاً ممن توهَّم أن النجوم إذا انتثرت تساقطت على الأرض، وأمثالها كثير، وإلا كان متحيزاً غير منصف. غير أن السخرية إن أبعدت من ظُنّوا بعيدين، آذت أقربين.
*******
6- خلط أهل التفسير العلمي بين التقانة والعلم، رغم أن التقانة تحاسب بمعيار"النفع والضرر".. أما العلم فيحاسب بمعيار "الحق والباطل"!
قال أبو عبد المعز[12]: [هناك تخليط آخر بين العلم والتقانة (التكنولوجيا) ،فجعلوا الإنجازات التقنية والاختراعات المادية هي العلم نفسه، ومن ثم لم يكونوا ليستسيغوا التشكيك في العلم، أو جعله تحت الـمُساءلة النقدية، مادام يوفر الدواء والغذاء والمركوب والملبوس .. مع أن أجدادنا القدامى كانوا على وعي بالفروق، فسموا التقانة "علم الحيل" وميزوه اسماً وموضوعاً عن "علم الهيئة" (الفزياء) مثلا.
صحيح إن التقانة مرتبطة بالعلم على اعتبار أن النظرية العلمية قد توجه التقني إلى اختراع مادي- وليس دائما- ولكن يبقى الفرق شاسعا بينهما في منظور فقه العلم...
فالتقانة فن تسخير .. والعلم نظرية تفسير .. وشتان بين الأمرين...لكن القوم خلطوا بينهما، ونسبوا ما تحقق للناس من دعة ورفاهية بفضل الوسائل والمخترعات إلى العلم، مع أنها من "التقانة".. ونتذكر مرة أخرى ذلك التمجيد الصبياني: "بالعلم غزونا الفضاء"،"بالعلم أجرينا الماء في الصحراء"
فنرى الخطأ المزدوج: الخطأ الإديولوجي في التمجيد، والخطأ المعرفي في الخلط بين التقانة والعلم..
ومما يزيل الخلط بين المفهومين كليةً أن التقانة عند المساءلة النقدية تحاسب بمعيار"النفع والضرر"..أما العلم فيحاسب بمعيار "الحق والباطل".
فالأمصال والسيارات والقنابل الذرية والنيلون والمصابيح الكهربائية ليست حقا ولا باطلا وإنما هي ضارة أو نافعة .. والذين يقولون إن العلم الحديث خرب العالم بالتلوث وأسلحة الدمار هم أيضا مخطؤون، فهذه مسؤولية التقانة، أما العلم فوظيفته تنحصر في تفسير العالِم، فيقدم نظريات عن نشأة الكون، وأصل الأرض، وبنية المادة، ومستقبل السماوات .. وهذه النظريات تمحص بمعيار الحقيقة والبطلان لا غير...
وعندما نعترض أو نتحفظ على التفسير العلمي للقرآن فإننا نقصد هذا المعنى وحده ... لا سيما وأن القرآن له تفسيره الخاص لتلك الظواهر الكونية فلا نقبل أن يزاحمه الخطاب العلمي، ولا نقبل أن تُأوَّل حقائق القرآن وفق قواعد الخطاب العلمي.. إلا إذا كنا نرى أن الخطاب العلمي أرقى من الوحي ودون ذلك خرط القتاد!]
نقول: أَقَرْ صاحب العبارة السابقة بأن وظيفة العلم تنحصر في: [تفسير العالم، فيقدم نظريات عن نشأة الكون، وأصل الأرض ،وبنية المادة، ومستقبل السماوات ... (وما كان على شاكلة هذه المعرفة)]
ونسأل: أليس لهذا العلم من نفعية، إذا حضر العلم حضرت النفعية، وإذا غاب غابت؟! ... كما وأن هذه النفعية ما كانت لتتأتى – في اجتهادات الناس- إلا به، وما لها من غيره من سبب. .. فإذا سمينا هذه النفعية تقانة، فتكون التقانة التي نعيش معها الآن – ولم تكن معهودة قبل ظهور العلم الحديث - لازمة عنه، وتدور معه حضوراً وعدما. وما كان هذا شأنه من نتيجة وسبب، كانت النتيجة دليلاً على صدق غالب أقواله المرتبطة به، ودعماً قوياً لمصداقيته. وإذا كان الحق رفيق الصدق، كانت التقانة - الناتجة عن العلم الحديث وأثر من آثاره دون سواه - شهادة على حقِّ حقه العلم في فهم سنن المادة التي عليها خُلقت. ... إذا كان ذلك كذلك، ... فكيف يُنكِر صاحبُ العبارة أعلى، دلالة النفعية العملية على ما في العلم من حق، وهي لازمة عن مقولاته، على صدق هذه المقولات، وما وراءها من حق يتدعم بها، ويشير العلم إليه في نفسه؟! ... وكيف يَظن ظان أنه قد تَيَسَّر له فك العلاقة اللازمة بين الحق والنفعية؟ ... هل ليتخلص من الاعتراف بقيمة العلم، إذا ثبت للعلم التميز بانفراد بكونه السبب وراء هذه النفعية؟!
لا يشك أحد الآن في أن الفهم الحديث لـ بنية المادة – وقد أقر صاحب العبارة أنها من وظيفة العلم- هو السبب وراء أغلب المنافع، أي "التقنية"، التي يجني الإنسان ثمارها. فكيف لا تكون هذه التقنية دليلاً على أن هذا الفهم حق، أو أنه أشبه التنظيرات -حول هذه المسألة- بالحق؟! – كما وأن بنية المادة في منظومة العلم الطبيعي الحديث لا تنفك عن تفسير العالم وأصل الأرض وهيئة السموات ومستقبلهما، وقد أقر بها جميعاً صاحب العبارة، أنها من العلم. فالتقانة مادية أو فلكية أو نووية أو كيميائية، تخرج جميعاً من عباءة العلم الحديث، وبدون اعتماده سبباً وراء الفهم التقني لآليات تلك التقنيات، ما كانت لتخرج! ... ويتبع ذلك أن خروجها إحقاق وتميُّز للعلم الحديث، وأن عدم خروجها في الماضي، إقرار بفشل الفكر الفلسفي العاجي القديم (والذي لا نوافق على تسميته علما) إذا تعلق بعين المسائل وموضوعها. .. ومعلوم قوة الدفع التي شحذها القرآن في بناء منهجية التفكير الإنساني ... والتي من ثمارها كان هدم الفكر الفلسفي الأرسطي، ثم كان ظهور هذا العلم الحديث على النظر التحقيقي الذي حث القرآن على مثله وبث فيه روح الحياة، أو البعث.
ثم كيف يقول أبو عبد المعز ما قاله من فصل تعسفي بين العلم والتقانة التي عنه خرجت، وبدونه ما كانت لتخرج؟! .. وهو القائل في موضع آخر[13]: [قد تقرر عند أئمة أمتنا، أن أية فكرة أو أي اجتهاد لم نستطع أن نكتشف فيها البطلان بسبب إحكام الشبهة أو بسبب الزخرفة والتزيين الشيطاني، فإنه مع ذلك يمكن القطع ببطلانها ليس بتحليلها بل بمجرد النظر إلى مآلها ولوازمها: فلا يلزم عن الحق إلا حق , ولا يلزم عن الباطل إلا باطل]، هذا إذا افترضنا جدلاً أن العلم الطبيعي الحديث فكرة مشبوهة لا نعرف لها صدقاً من كذبا!!! .. فكيف إذا كان مما لا يصح أي قولٍ فيه إلا بدليل إثبات، ولا يمتنع سقوطه لاحقاً إلا بدليل نفي؟! .. هل نُلفِّق له عدم شرعية أبناءه من التقنيات، ونقول أنها لا ترث منه حقا لأنها ليست من عائلة العلميات؟! ... ثم لو جاءنا التزيين الشيطاني - بحسب كلام أبي علد المعز أعلى -  والمنفك الصلة عن أي سببية معرفية يمكن اختبارها- فوجدناه نافعاً، اعتمدناه لحسن آثاره، ... هذا من أغرب ما يمكن أن نسمع أو نقرأ.
فنقول: أن العلاقة بين الحق والباطل تَطَّرِد وجوداً وعدما مع النفع والضُّر الناتج عنهما على الترتيب. كما وأن النفع والضر دلالة أكيدة على حق أو باطل الأسباب التي أدت إليهما على الترتيب. وإذا شَكَّ أو شكَّكَ أحدٌ في هذه العلاقة الـمُطَّردة فقد تشكك بقانون السببية الرابط بينهما. فإذا حسم بالبطلان على علاقة الحق في العلم بالتقانة الناتجة عنه فقد أنكر السببية. وإذا أنكر السببية فقد أنكر أن الدين وفرقانه بين الحق والباطل ملازم لمصلحة العباد. وأنهم لا مصالح لهم تتحقق من دونه، بل وأن المفاسد إذا وقعت كانت دليلاً قاطعاً على مفارقتهم للحق، واتباعهم الباطل. فكيف يُقبل كلامه وفيه تعطيل للمنظومة الدينية الإسلامية القائمة على أن الأحكام الشرعية والفقهية جميعاً مدارها على مصالح الأنام[14]. كما وأن المصالح ركن من أركان أصول الفقه، أجمعت المذاهب الفقهية على أهميتها، وإن تفاوتت في تعظيم قيمتها، تقديماً وتأخيرا، ولا سيما الفقه المالكي الذي غلب عليه مراعاة المصالح[15]. فكيف يقال أن الحق والباطل معيار للعلم، وأنه منفك العلة مع النفع والضُّر الذي حصره القائل بذلك - معياراً خاصاً لـ محض (تقانة/صناعة/فن) من أفانين البشر؟!
وإذا كان مدار الفصل بين حِل التِّقانة وحُرمة التصديق بالعلم الحديث أنهما من تصنيفين مختلفين، الأول يقاس على محور الحق والباطل، والثاني يُقاس على محور النافع والضار، .. فنقول: هذا تصنيف جائر، ومثله مثل الاصطلاح، الذي قال فيه علماؤنا: [لا مُشاحّة في الاصطلاح إذا فُهمت المعاني] .. ومثلما لا يُبنى حكم على اصطلاح حادث، قد يتبدل بغيره في زمن لاحق أو سابق، فكذلك هنا، .. لا يجوز أنه نضع العلم على مقياس الحق والباطل، ولا نضعه على مقياس النفع والضر. ثم نلتزم بلازمة غير ملزمة، وهي أنه مفارق للتقنية التي وضعناها على مقياس النفع والضر وليست على مقياس الحق والباطل!  ... نقول أن هذه قسمة جائرة .. سوَّغتها اصطلاحية ظنية اصطلحها صاحب القسمة لغرض بناء الدليل، وحبكة أوصاله ومفصلاته!! .. ونرى أنها قسمة ضعيفة للغاية، وقد تجوز فقط إذا انفصل الحق عن النفع، والباطل عن الضر، وكان الاطراد correlation بين كل ثنائي منهما منعدم. فإذا علمنا أنه اطراد ثابت لا ينازع فيه منازع، ... فلا نجد مهرب من رد الحجة على صاحبها!!!
وكما أننا فنّدنا من قبل القول بأن تمجيد العلم أيديولوجيا لمن كانو فقراء إليه، فكذلك نُفَنِّد هنا إنكار السببية بين التقانة والعلم، وبذلك تسقط العبارة [(رأينا) الخطأ المزدوج: الخطأ الإديولوجي في التمجيد (العلم)، والخطأ المعرفي في الخلط بين التقانة والعلم] سقوطاً مروعاً.
أما الزعم بـ (أن القرآن له تفسيره الخاص لتلك الظواهر الكونية فلا نقبل أن يزاحمه الخطاب العلمي) فنتعجب له أشد العجب! ... ونسأل: أين نجد تفسيرَ القرآن الخاص للظواهر الكونية المفارق للخطاب العلمي؟! ... هل هو تفسير للنبي – صلى الله عليه وسلم؟! ... لا ..لم يترك النبي عليه صلوات الله تفسيراً للآيات الكونية، إلا قليلا .... أم أنه التفسير بالمأثور؟! فإن كان في التفاسير المأثورة تعريجاً على هذه الموضوعات، فما مصدرها؟! ... إنها آراء المفسرين التي أملتها ثقافتهم المعرفية المحلية والزمنية التي عاهدوها، وليست من النقل عن الله تعالى ورسوله حتى تنسب إلى القرآن، فلا يُنازع عندئذ أحدٌ فيها. فإن كان هناك من صد عن ثقافة كونية معاصرة قد تُشوش على تفاسير القرآن المشار إليها، فكيف بثقافة كونية أقل منها جودة وأخفت رصانة؟! .. مع كامل إجلالنا لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم أئمتنا في الهدى ومعرفة عقائد وعبادات دين الله الحنيف، أما فهم الطبيعيات والكونيات، فلم يكن له موجب عندهم حتى نُصدِّرهم له، ثم نحاسبهم عليه، أو نقرن فهمهم لتلك الآيات بأنها من تفسير القرآن الخاص الذي لا يقبل المزاحمة.
وإذا كان المفهوم من (الخطاب العلمي) ديباجات أسماء معاصرة لامعة كسقراط وبقراط وأرسطو في الماضي، ونيوتن وأينشتاين في الحاضر، ومن ثم تهوينه، والحط من قيمته لانتسابه لأشخاص ليس لها القيمة التبجيلية الدينية!! .. فالخطأ في ذلك فادح، والتلبيس أشنع من أن يسكت عنه من انتبه إليه! ... فـ (الخطاب العلمي) .. علمي .. ليس لأنه يستمد قيمته بالانتساب إلى أشخاص لامعة الأسماء، بل إلى أدلة وبراهين، وهو مطابق لما قاله علي ابن أبي طالب – رضي الله عنه – عندما قال: [إعرف الحق تعرف أهله] ..أي: (أعرف صدق العلم تعرف الصادق من العلماء الذي صدّر نفسه له). ولا يمتنع عن أي من المعاصرين – أياً كان اسمه أو جنسه، معروفاً كان أو مغموراً- من تخطئة الخطاب العلمي المعاصر، إذا تبين لا-علميته في مسألة ما، إذا لابستها الأخطاء، وكشف هو النقاب عن ذلك، .. لأن القيمة تستقر في صدق البرهان، وما دل عليه، وليس في تقليد، أو تبجيل ... لأقوامٍ أو أشخاصٍ، دون بصيرة وتبصُّر، وهذا هو ما علمناه من كتاب ربنا جل وعلا "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي"(يوسف:108)
ويلخص أبو عبد المعز مقالته الأخيرة ويقول[16]: [لا مناص من طرح هذا التمجيد ليتم مساءلة العلم ونقده في حجمه الحقيقي.
- الانبهار بالتقانة وملاحظة دقتها و"ملموسيتها" وفعاليتها في إنجاز وظائفها، لا يؤخذ منها حكم عن صدق العلم أو كذبه من جهة الابستملوجيا، ومن جهة الشرع، توكل التقانة إلى الفقه وأصوله ليتم تكييفها الشرعي في باب المصالح المرسلة، فيقبل منها ويرد بحسب سلم النفع والضرر.. وهذه التقانة لا علاقة لها بتفسير القرآن، إلا ما يزعم بعضُهم من إعجاز علمي في مطابقة الآيات لبعض المخترعات العصرية..
أما العلم المفسِّر للكون، فيوكل لتمحيصه إلى قواعد الشرع العامة (عقدية ومنهجية..) وإلى قواعد التفسير الخاصة ...ومقصدنا من هذه البحوث أن نثبت أن النظريات العلمية العامة مجرد ظنون ... فيترتب عنه "نسف ما يسمى الإعجاز العلمي" لأن الإعجاز الذي هو دليل القرآن للمرتابين فيه، لا يمكن أن يستند إلى مرجعية من الظن. ويبقى بعد ذلك تفسير الآية علمياً مثل أي تفسير بلاغي أو فقهي، يُقبل أو يُرد، بحسب رجحان الظن أو مرجوحيته .. مع فرق واضح في كون البلاغة والفقه داخلة في مجالنا التداولي، فنحن أعلم بخفاياها وأسرارها وأقدر على التمييز فيها بين ما يُمج وما يستساغ .. لكن العلم الطبيعي في نظرياته العصرية خارج عن مجالنا التداولي ونحن منه في مقام التقليد لذلك سميناه "إسرائيليات العصر" باعتبار عدم القدرة على التأكد من صحتها - في ذاتها أولاً وبالنسبة إلينا ثانيا- فلا نصدق ولا نكذب، كما علمنا المنهج النبوي.]
نقول: نشد على يد المتكلم أعلى في قوله [لا مناص من طرح هذا التمجيد (للعلم) ليتم مساءلة العلم ونقده في حجمه الحقيقي]، ونُقِرُّه عليه، دون التفات لما سماه تمجيد، فمَن لا يُمحِّص نظريات البشر فهو إلى الجهل أقرب. .... نعم، نُقرُّه على ذلك، ولكن، ليس فقط في تصديق من صدّق بلا آيات، بل أيضاً في تكذيب من كذب مع ظهور الآيات، أو تسميتها بما يطمس كونها آيات، سواء "تقنيات" أو "صناعات". أما الأشد من التصديق والتكذيب، فهو في إعراض من أعرض احتجاجاً، وزعماً، عدم وقوفه على صدق أو كذب ما دار حوله النزاع. بل وإذاعته ذلك في الناس عاماً مطلقا، رغم أن آياته بينة لمن طلبها بأسبابها، والإجماع على صراحة براهينها قاطعة عند أهل النظر والبرهان؛ وكونها قابلة للتعلُّم، ... خاضعة للمعايير. ويُعد هذا السلوك الأخير من قبيل الإعراض عن حق، وليست من قبيل التوقي من باطل، أو الاحتياط من مجهول. كما وأن من فعل هذا يُضمر اكتفائه بعلمه عن المزيد، وبلوغه كلَّ علمٍ في كتاب العزيز المجيد، وأن مَن بعده، حتماً دونه، وأن باب الفضل قد أغلق، وأن خزائن العزيز العليم قد صودرت مفاتحها.
ونستغرب قول القائل: (التقانة وملاحظة دقتها و"ملموسيتها" وفعاليتها في إنجاز وظائفها، لا يؤخذ منها حكم عن صدق العلم أو كذبه من جهة الابستملوجيا)، ونقول: أوليس آثار الله دالة عليه، وأن صانعها حكيم عليم، .. إن حجة مثل هذه لتطعن في مُوجِبات الإيمان بالعزيز الحميد، بديع السموات والأرض، الذي عرفناه من آثاره، فبحثنا عنه وناجيناه الهداية، قبل أن نعرفه من جليل كلامه، فآمنا به وأقررناه له سبحانه ... كيف لا تُعد آثار الصانع دالة على صدق علمه؟! ... كيف يخلو العلم المنتج لآثار نافعة من درجة معتبرة من المصداقية في مزاعمه بما أنتج، مُبدعاً مُتفرداً، بلا سبق ولا تقليد؟!. ... إن التكذيب بدلالة آثار العلم على قيمة العلم المنتج لها، ليبعث القلق على تصديق المكذب، عن غير دليل أيضاً!. .. هل هو تصديق وتكذيب التقليد، أم الحجة والبرهان؟! ... هل تأتي الحجة والبرهان عنده قبل الإيمان أم بعده؟! ... فإن كانت بعده، فأي حُجَّة تبقَّت للحُجَّة؟! ... وكيف تقوم على المنكر للحُجّة حُجّة إذا لم يؤمن قبلها تقليدا؟ .. ألم يعيب ديننا التقليد قبل الحجة؟! ... إن معاندة (التفسير العلمي للقرآن) بحجج من هذا النوع، تكشف عن أن الحق إذا عوند كانت معاندته كاشفة عن زيفها العنادي، .... ولأن أهل العلم بمسالك العلم عالمين، .. فاطلاعهم على حجج متهافتة من هذا النوع .. ليرتقي بالحق الذي عوند، من حيث أراد منكروه أن يهبطوا به.
وفي قول القائل (تُوكل التقانة إلى الفقه وأصوله ليتم تكييفها الشرعي في باب المصالح المرسلة فيُقبل منها ويُرد بحسب سلم النفع والضرر) حق صريح وحق مكتوم. أمّا المكتوم، فهو أن علة ذكر التقانة في سياق كامل الموضوع، هو أنها من آثار العلم، ومن ثم، أنها آية على صدق ما أنتجها من علمٍ منفرداً بأسبابه. وإذا أنكر المتكلم أو كتم هذه الحقيقة، فتصريحه بما في عبارته من حق، في كونها من المصالح المرسلة وحسب، تُدينه بأنه يهبط بالتقانة الناتجة عن علمٍ – قد كُفر بصدقه – إلى مقام الصناعات اليدوية كالحياكة والنجارة. وبناءاً عليه يُعد هذا الفعل منه انتقاصاً من قيمة هذه التقانة التي تزهو كثيراً عما صرّح به من حق في عبارته، وغلقه لباب يضعها في مقام الآيات على صدق العلم وقَدْرِه.
 وفي عبارته الآتية إشكالية كبيرة، حيث يقول: (العلم المفسِّر للكون .. يُوكل لتمحيصه إلى قواعد الشرع العامة (عقدية ومنهجية..) وإلى قواعد التفسير الخاصة ...ومقصدنا من هذه البحوث أن نثبت أن النظريات العلمية العامة مجرد ظنون ... فيترتب عنه "نسف ما يسمى الإعجاز العلمي" لأن الإعجاز الذي هو دليل القرآن للمرتابين فيه، لا يمكن أن يستند إلى مرجعية من الظن)
نقول، أولاً: أن مقام قواعد الشرع العامة (عقدية ومنهجية..) التي يريد أن يُحَكِّم المتكلم إليها "التفسير العلمي" بالنسبة إلى آيات القرآن الكونية، يشبه مقام علم أصول الفقه بالنسبة إلى الفقه. وذلك أن علم أصول الفقه يعالج القواعد العامة الكلية للفقه، في حين أن علم الفقه يعالج المسائل التفصيلية. وتكشف هذه الإحالة للتفسير العلمي إلى قواعد كلية - وُضِعَت لمسائل الـمُكَلَّفين خاصّة - عن نية المتكلم لإقصاء التفسير العلمي بنص علوي يُدَبِّجه له، يتجاوز أي تفصيل لمسائله التفصيلية، فيقطع من ثم الطريق على من يعارضه بها. ... ثم أن إضافته لما سماه (وإلى قواعد التفسير الخاصة) لم تفد شيئاً عن كيفية تقعيدها، ولا نصوصها، ولا مرجعيتها، وهل هي تنطبق على الـمُسخَّرات التي سن الله تعالى لها سننها أم لا!.
أما التصريح الإقراري (ومقصدنا من هذه البحوث أن نثبت أن النظريات العلمية العامة مجرد ظنون ... فيترتب عنه "نسف ما يسمى الإعجاز العلمي") فيكشف عن نية مُبَيَّتة، وتَصُّور مُسبق، لم يستهدِ ببحث تحقيقي، ولم يسعَ إلى إنجازه، بل سعى إلى إنزال أحكام قِبْلِية على مسائل أقر المتكلم قبلها أنه لا يعلم إن كانت كاذبة أم صادقة، بإحالتها خطءاً إلى فئة "الإسرائيليات" على ما سنرى بعد قليل. أما حجَّته التي ذكرها (النظريات العلمية العامة مجرد ظنون)، فهو حكم مجمل عام أيضاً، ولا أصل له يزكيه فضلاً عن أن يؤكده. ومثل هذا الحكم العام مثل قول القائل أن القرآن يقيني الثبوت ظني الدلالة، هكذا على الإجمال. فيأتي من يبيت نية إقصاء القرآن من وجوب الاتباع بالاحتجاج بهذه المقولة (القرآن ظني الدلالة)، متذرعاً بمسألة عموم ظنية الدلالة، وما يتبعها عقلاً من الاحتمال وعدم حسم المعاني! (رغم أن تفصيل الدلالة يجزم بيقين دلالات الـمُحكم من آيات القرآن، مثل أركان الإيمان، والميرات، ..) ... ولا نرى اختلافاً في الحجتين لوحدة العلة، التي هي عموم الظنية، ونعلم يقيناً أن الحجة الثانية باطلة، .. وقياساً عليها تكون حجة ابو عبد المعز السابقة في مسألة عموم ظنية العلم الحديث، وما يترتب عليها من نسف للإعجاز العلمي – بتعبيره - باطلة أيضاً.
وتفصيل بطلان حجة "الظنية العامة في الدلالة" أن المسائل التفصيلية في العلوم الحديثة منها اليقيني ومنها الظني. فما كان يقينياً أو راجحاً رجحاناً صريحاً، والتأم مع مثيله في الدرجة والموضوع من آيات القرآن، فهذا لا حرج فيه، وتناوله في الاحتجاج "الإعجاز العلمي" مقبول. وما تدنى إلى الرجحان الوجيه بين الطرفين، فتناوله في التفسير العلمي مقبول، مع ضرورة مواصلة السجالات العلمية، والاختبارات التأويلية، والمواجهات التجريبية والرصدية، حتى يرتقي الرجحان فيُعتمد، أو يهوي فيُستبعد.  
والآن، نصل إلى حكم لصاحب الكلام يجيز تداول "التفسير العلمي" بدرجة تكافئ التفسير البلاغي أو الفقهي يقول فيه [ويبقى بعد ذلك تفسير الآية علميا مثل أي تفسير بلاغي أو فقهي، يُقبل أو يُرد، بحسب رجحان الظن أو مرجوحيته]. وبرغم موافقتنا له على الحكم، إلا أنه مستغرب منه بعد أن اتهم الفاعلين من قبل، بما أجازه هنا، بأن ما يصدر منهم من [قول بموافقة القرآن للحقيقة الطبيعية أو لبعضها فجورا وكفرا]!! ... فهل الإجازة الأخيرة لممارسة التفسير العلمي تراجع من صاحبها عن هذا الحكم القاسي... أم أنه يعكس تردداً ... أم ارتباكاً .. أم حماسة في الأنكار ... تبعته رويّة في التطبيق؟!
ولكن، مهلاً ... فهذا الحكم بإجازة الاشتغال بالتفسير العلمي، حُكْمَاً مشروطاً بعلة غير متحققة، ألا وهي قوله بوجود [فرق واضح في كون البلاغة والفقه داخلة في مجالنا التداولي، فنحن أعلم بخفاياها وأسرارها وأقدر على التمييز فيها بين ما يُمج وما يستساغ .. لكن العلم الطبيعي في نظرياته العصرية خارج عن مجالنا التداولي ونحن منه في مقام التقليد.]
ونتساءل: ألا يتضمن هذا الكلام حكماً تأسيسياً – يفترضه صاحب الكلام- يقول بأن كل ما لم يتداوله المسلمون في تناول فهم القرآن لغياب الـمُوجِب أو الـمُحَفِّز أو الداعي المعرفي له سابقا، يُعد من الـمُتَشَكَّك الفكري؟! ... نعم، هو كذلك، .. وإذا كان ذلك كذلك، فليطرحه المسلمون من النافذة!! .. وليستلقوا مطمئنو البال، قريرو العين. ... ولتعبث علوم الغربيين بعقول أبنائنا، فلا يجدوا في نهاية الطريق إلا علماً مبرقش، يؤدي بهم إلى إلحادٍ صريح أو كفرٍ كسيح.
ولكن، هذا التضمين اللازم يؤكد أن العلاقة شخصانية بين الـمُنَظِّرون الإسلاميون الذين يتكلم أبو عبد المعز بِاسْمِهم، وبين موضوع العلم الطبيعي الذي هو مادة التفسير العلمي، وليست علاقة موضوعية بين القرآن والعلم الطبيعي! ... فالبقاء في إطار التقليد لمن يمكنه الخروج منه بتعلم أسباب الاجتهاد، ليست من الممدوحات حتى يستبقيه أهله. بل هي مذمومة باعتبار أن الخروج من التقليد من فروض الكفاية في حده الأدنى، وأنه فرض عين على كل مُفسِّر تصدّى لفهم آيات القرآن ذات العلاقة بالعلم الطبيعي. ومن توانى عن الفرض، قصَّر، وانتُهِر بأنه لم يأت الأمر من بابه، ويصبح إنكاره لمعاني لم يقف على أدلتها من باب الإنكار بالرأي. لأن القول بالرأي – وما يلحقه من ذم- ليس فقط في التأييد، بل هو في الإنكار مثله في التأييد. كما أن من قصّر تأخر، ومن تأخر يتجاوزه الآخرون، ويلحقه اللوم والعتاب، ويترك أهل الثقة فيه وفي منهجه في حيرة وضباب!!!
وأخيراً يبرر صاحب الكلام حكمه السابق عن "التفسير العلمي" بما لا مبرر له ويقول: [لذلك سميناه "إسرائيليات العصر" باعتبار عدم القدرة على التأكد من صحتها - في ذاتها أولاً، وبالنسبة إلينا ثانيا- فلا نصدق ولا نكذب كما علمنا المنهج النبوي].
أما قوله عن مسائل الطبيعيات بـ (عدم القدرة على التأكد من صحتها - في ذاتها) فهو تصريح خطأ ... بيِّن الخطأ لأهل الخبرة بالموضوع!!! - على ما سنُبينه من بعض الأمثلة - .. ونستطيع – بإذن الله تعالى وحوله وقوته - أن نستصحب صاحب الكلام، أو من يثق هو فيه برأيه، لإقناعه بالدليل والبرهان، أن القدرة على التأكد من صحة ما ظنه كذلك من مسائل طبيعية، وأنها قد صدقت فيما صدر بحقها من أحكام (طبيعية)، أنها من باب اليقين، أو الراجح الصريح. ونستثني من ذلك من المسائل، ما صرح العلم الطبيعي المعتبر، أنه لم يتحصَّل لها من المعرفة، ما يكفي للحكم عليها بعد، والتي نسميها متشابهات العلم الطبيعي، وإن كان أمر مسائله آيلة إلى وضوح وإحكام، مع مزيد التجريب والرصد، ومشيئة العليم الحكيم، كما قال تعالى "وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ"(البقرة:255).
ويأتي ختام التبريرات بأن هذا المسلك الذي قرره هو من "المنهج النبوي"، حيث يقول: [سميناه "إسرائيليات العصر" باعتبار عدم القدرة على التأكد من صحة (مسائل العلم الطبيعي) - .. بالنسبة إلينا ..- فلا نصدق ولا نكذب كما علمنا المنهج النبوي] ... فنقول في ذلك أنه ليس من المنهج النبوي أن نطلق حكماً عاما للناس لأسباب خاصة! .. ولو صدق هذا التعميم لكان علم الهندسة عند الطبيب من باب الإسرائيليات! ... ويجوز  عندئذ للطبيب أن ينطلق ليذيع على الناس ذلك؛ مشككاً إياهم في علم الهندسة لأنه لا يعلم - هو شخصياً - صدق أسبابه من كذبها!!!
******
7- "التفسير العلمي" خطاب تأويلي، و"الإعجاز العلمي" خطاب حجاجي، وعليه، فلا يُقبل من الإعجازيين إلا القطع:
قال أبو عبد المعز[17]: ["التفسير العلمي" خطاب تأويلي، و"الإعجاز العلمي" خطاب حجاجي..ومن ثم يُشتغل في الأول بالمنطق اللغوي، ولا يُشتغل في الثاني إلا بالمنطق العقلي وحده .. فتكون النتيجة: مطالبة المفسر بالظني، ومطالبة الإعجازي بالقطعي، (على نحو ما يكتفى بالظني في "علم الفقه، "ولا يكتفي في "علم التوحيد" بأقل من القطعي).
ولا حاجة إلى التنبيه على أن مطلق الظن غير مقبول (لا في فقه ولا في تفسير)، بل لابد من تقييده بصفة الرجوح من بعد عرضه على معايير العلماء في تمييزهم بين التفسير بالرأي الجائز والرأي الممنوع!!
وفي مجال الحجاج إما أن يكون الدليل قطعيا وإما السكوت !! لأن الحجة الضعيفة توريط للقضية!
وفي موضوعنا تكون الحجة الضعيفة قوة للطاعن في القرآن وللمرتاب فيه ..
ولو كان المحتج للقرآن يعي هذا الأمر لأدرك أن السكوت كان خيرا له..وقد انتبه إلى هذه الآفة ابن تيمية – عندما قرر أنه عند الاحتجاج لا بد من قطع أصول المخالف ونسفها نسفا، فانتقد على المتكلمين ضعف حججهم ورأى- عن حق – أن خصومهم من الفلاسفة لن ينسبوا هذا الضعف إلى المتكلمين بل إلى الشريعة نفسها. ومن ثم ينقلب المقصود على المتكلمين أرادوا الانتصار للشرع فأوهنوه!!
بناء على هذا التقرير لا نقبل من الإعجازيين إلا القطع، بل القطع المزدوج، قطع بالمنطوق العلمي (على قواعد الابستملوجيا) وقطع في التنزيل على المنطوق القرآني (على قواعد اللغة وعلم التفسير)]
نبدأ بآخر عبارة، فنُعلق ونقول: وهل هناك قطع علمى بالمنطوق العلمي على قواعد الإبستمولجيا – وقد قال صاحب الكلام أن العلم العصري من قبل كله نسبي، وبما يسري على منهجه الإبستمولوجي- ؟!، ... ثم هل هناك قطع على قواعد اللغة وعلم التفسير، ومعلوم كيف تتعدد الآراء النحوية والدلالية والتفسيرية على نحو ما هو معلوم؟!
ثم نقول: نُقِرْ هذا الكلام على عمومه ولا نُماري فيه، إلا من نقاط تفصيلية توضيحية، ستتغير معها الصورة على نحوٍ ما:
أولاً: فيما يخص فهم معاني القرآن على ما هي عليه، أي المطابقة بين المفهوم والمنطوق انطباقاً لا يحيد أبدا، فنقول أنه أمرٌ لا يستطيعه أحد من الناس غيرُ نبي. ويتبع ذلك أنه في أي تفسير للقرآن لغرض التأويل (التفسير العلمي) أو الحجاج (الإعجاز العلمي) فإن العبرة بما ألفه المجتهد من عبارة لُغوية تقترب من حقيق المعنى على أفضل ما يكون. أي أن العبرة بأفضل اقتراب للمعنى الحقيقي لا بمطابقته، التي هي مستحيلة ولا يدَّعيها أحد.
فإذا كانت المطابقة مستحيلة على المجتهد، وكل المعنيين مجتهدون، فالمفاضلة القاطعة بالأحسن - وليس بالمعنى الدامغ في نفسه الذي يعلمه الله تعالى وحده - هي التي تُقدِّم تأويلاً على تأويل (في التفسير)، أو تقدم حجة على حجة (في الإعجاز والتحدي). ولنقرأ جميعاً مرة أخرة قول الله تعالى "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ"(الزمر:23)، وقوله تعالى "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ"(الإسراء:9)، وقوله تعالى "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"(النحل:125)، ونتدبر معانيها جيداً.
أي أن قبول تفسيرٍ ما، أو حجة إعجازية ما، ليس لرجحان ظن الأولى، وقطعية الثانية – وإن كان حقاً في نفسه – بل في أنهما التفسير الأقوى، والحجة الأرجح .. وذلك لأن المسار مسار جدلي، والأدلة تفاضلية، تجمع بين حبكة الدليل ونفعيته.
أي أن الأمر نسبي، تفاضلي، وليس مطلق من صنف عين اليقين. 
ودليل ذلك من القرآن، أنه عند مقارعة المنكرين، ... فإن الله سبحانه لم يقارعهم إلا بالمفاضلة، إن استطاعوا، وربما حثاً لهم على السعي إلى المغالبة، فيعلموا بالتجربة حدودهم، ولم يقارعهم بأن يأتوا بالقطعيات الثابتات، لأنه أمر عصيٌّ على البشر جميعاً. فإصابة الهدف بالرمي تمتنع إذا حاد الرامي ولو بألطف انزواء. وأقرب الرماة إلى الهدف أصدقهم.
ومصداق ذلك - مرة أخرى - أن كل آيات المقارعة جاءت على صيغة النسبة أو المفاضلة (أهدى/ أحسن)، وإذا أدت المفاضلات المتتابعة إلى أن المماثلة مع القرآن للبشر مستحيلة، وعندها برهان القطع. وهذا هو أسلوب علم الرياضيات في إثبات اللانهايات، فيما يُسمّى Proof by Induction. وذلك بأن نثبت (مثلاً) أن (س) أعلى من 1، ومن 2، ومن 3، ومن أي رقم تالي (رغم أنه نهائي) ... فيثبت من ذلك أن (س) عدد لا نهائي. .. فيكون طريق القطع عبر المفاضلة .. وليس قفزاً إلى القطع (باللانهائي) الذي يستحيل على عقول البشر أن تتصوره.
قال تعالى "قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"(القصص:49)
وقال تعالى "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ"(الإسراء:9)
وقال تعالى "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ"(الزمر:18)
وقال تعالى "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"(يونس:38)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم، عن عبدالله بن مسعود: "أعلم الناس أعلمهم بالحق – وفي رواية: "أبصرهم بالحق" - إذا اختلف الناس"[18].
وأخيراً نطرح سؤالاً حول مُعاجزة القرآن للمتشككين بالإتيان بسورة من القرآن، وتحير مفكري الإعجاز القرآني في علته، وما آل إليه الأمر من الإجماع أو التوافق على أنه بلاغة القرآن، .. فهل يوقف فيه على قطعٍ بالبلاغة إلا بعد مفاضلات كثيرة، يجول بها الخاطر، فيتبين أنه في كل مفاضلة، لا سبيل لتقدم بلاغة بشرية على بلاغة القرآن .... وكذلك التفسير العلمي ... لا يُقطع بجودته إلا بعد مفاضلات تفسيرية عديدة بين الدلالات العلمية للآيات وغيرها من دلالات لغوية شائعة، والنتيجة أن تراكم التفاضلات يرقى بالدلالة العلمية إلى مستوى اللزوم والضرورة أنها فوق بشرية، ومن ثم تؤول إلى الإعجاز العلمي.
والخُلاصة: أن التزام القطع العلمي والتأويلي – المستحيل التشكيك فيه - في الإعجاز العلمي، لا يمكن إلا وسيشكك فيه آخرون بناءاً على نظرية بوبر الإبستمولوجية التي تمنع القطع، وتقبل التخطئة. لذا يُستغني عن القطع بالمفاضلة من خُبراء في السِجال العلمي، فإن ظهرت مفاضلة راجحة صريحة، يظهر بجلاء من تكرارها عجز البشر، فهو "إعجاز علمي". وإذا كانت المفاضلة تدعمها القرائن فقط، فهو "تفسير علمي". فإن انحسر الإعجاز في السبق إلى معرفة الظاهرة بما يصعب معه إنكار التأويل، فالإعجاز يفيد "صدق الوحي"، أي "إعجاز الصدق". وإن كانت المفاضلة في صياغة أحوال الظاهرة، وظهر أن القرآن أصوب صياغة من كل ما أمكن للبشر أن يضعوا له من صياغات اجتهادية، فيكون هذا هو إعجاز التحدي.، والذي يفيد أيضاً بالتبعية "إعجاز الصدق".
8- العلوم العصرية من جنس الإسرائيليات:
قال أبو عبد المعز[19]: [لا حرج أن يسلك عموم المروي عن بني إسرائيل في علم الفلك أو في علم الأرض.. ولكن إذا ما قصد به تفسير آية قرآنية أو تعيين دلالة في حديث نبوي، فإن ذلك المروي سيغدو من "الإسرائيليات" وليس من علم الفلك .. هذه الرؤية الاعتبارية لمصطلح "إسرائيليات" لها- في تصورنا- أهمية بالغة لأنها توطئة لتنزيل الحكم الشرعي على ما يسمى بالتفسير العلمي... فلسنا نتوفر على حكم شرعي خاص بعلم الفزياء أو علم وظائف الأعضاء ... ولكن التكييف الشرعي للإسرائيليات وارد في السنة النبوية: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" فهذا تأصيل من جهة الرواية .. "لاتصدقوهم ، ولاتكذبوهم" وهذا تأصيل من جهة الدراية،.. لكن علينا قبل تنزيل الحكم إثبات أن هذه العلوم العصرية هي من جنس تلك الإسرائيليات .. وأن حديث "حوت البهموت "مثل حديث "الثقوب البيضاء والسوداء" وأن الاختلاف- إن وجد- هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع.]
نقول: هذا التحليل، المتمثل في إلحاق التفسير العلمي لآيات القرآن الكريم بالإسرائيليات، سبق أن ذكر مثله[20] شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله. لذلك فهو ليس جديد كل الجدة على ما كنا نظن به. كما وأن الشيخ بن باز قد قيده فقط بما لا يمكن الوقوف على صدقه من بطلانه، وليس على كل تفسير علمي، وهو تقييد حكيم.
ثم نقول: الغاية الأولى من الفقرة السابقة – بلسان صاحبها- هي: [توطئة لتنزيل الحكم الشرعي على ما يسمى بـ "التفسير العلمي"]، وجاء الحكم الشرعي – كما احتج له صاحب العبارة – بأن التفسير العلمي حُكْمه حُكم الإسرائيليات، أي ... لا يُصدّق، ولا يُكذّب. ... وكلام هذا شأنه، فحتما لا يكون إلا لغواً !!!
ولكن، .... هل حقاً أن العلم بالطبيعيات والفلك الحديث ... لا تصديق له ولا تكذيب به ... وأنه لا يزيد عن كونه مرويّات من قبيل مرويّات بني إسرائيل؟! ... أي: قال أينشتاين كذا وكذا ... وقال نيوتن كذا وكذا ... وقال هابل و هوكنج و ... إلخ ؟!
هذا أغرب ما قرأنا في وصف واصف للعلم الحديث !!! 
ونسأل: أين التجارب، وأين الإمبريقية، وأين اطراد الظواهر التجريبية، والأرصاد الفلكية، والبراهين الحسابية، والمعادلات الرياضية، ... أين الحجج العلمية التي تنافس حجج الفقهاء والأصوليين في قوة الرصانة وإقامة الأدلة، وما فيها من ترجيح وترقية وتجارب حاسمة وتنبؤات دامغة أو راجحة ... إلخ ... هل فيما يُروى من إسرائيليات شئٌ من هذا؟! ... إن قوة العلم الحديث تعود إلى قوة أدلته، ... وليس إلى مصداقية رواته. فلا قيمة لكلام أينشتاين - من حيث هو المدعو ألبرت أينشتاين - إن خالف كلامه الرصد والتجربة. ... ألم يقل الله تعالى لمن يزعم زعماً ... حتى ولو كان كفراً بواحاً ... "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"؟ ... أوليس هذا حكماً تشريعياً في وجوب الأخذ بالبرهان؟! !!! ...  إنَّ خُلُو الإسرائيليات من البرهان هو ما جعل لها هذه الرتبة المعدومة من القيمة العلمية. ومن ثمَّ، فهي لا تقارن أبداً مع العلم الحديث الذي عماده البرهان. ولا يجب عندئذ وضعه في رتبة واحدة معها، والقول بـ [أن الاختلاف (بينهما) - إن وجد- هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع]، قولاً غير صحيح! بل نقول أنه اختلاف حاسم في النوع. .. فالإسرائيليات لا أصل لها تقاس عليه صدقاً أو كذباً، أما العلم الحديث فأصله قائم، وهو عينُ الشيء المحكي عنه، وهي عينٌ ناطقة لمن استنطقها، حاضرة أبداً بالإجابة لمن يسأل، شريطة أن يتعلم لغتها، ولغتها هي التجريب والرصد والفعل ... لذا يُعد الجمع بين المكتشفات العلمية والإسرائيليات جمعاً بين مختلفات، الذي هو نقيض العلم كما عرَّفه ابن تيمية عقل الأمة، رحمه الله، وعليه لا يجوز نقل حكم الإسرائيليات إلى التفسير العلمي المستند إلى هذه المكتشفات، والنتيجة أن حكم الإسرائليات على "التفسير العلمي" حكمٌ باطل مردود. أما إن اقتصر الحكم على ما لا إمكان فيه للحسم بين الصدق والكذب، ولو ترجيحا، فعندئذ يوقف الفصل فيه حتى إشعار آخر. وحتى في مثل هذا الموقف، لا ينبغي تسميته أو إلحاقه بالإسرائيليات، لاعتبارات تاريخية ونوعية قد تؤدي إلى التباسات بين مرامي الاصطلاحات، وتداخل بين المختلفات والسياقات.
ثم: مَن قال وادّعى أن كلام العلم الحديث كلام أحاديث؟! .. وكيف يُقال أن عبثيات [حديث "حوت البهموت" ... الحوت الذي يحمل الأرض على ظهره في وهم من قال به] مثلها مثل نتائج العلم الحديث في قوانين الجاذبية التي تُؤطر حركة الأرض في مدارها، وتتنبأ بمواضعها في أي لحظة من ماضيها ومستقبلها؟! ... وإن كانت حجة القائلين بـ "الثقوب البيضاء والسوداء" ضعيفة أو مردودة – لم نسمع من قبل عن ثقوب بيضاء، ربما أن المقصود الأقزام البيضاء white dwarfs أو أنها ذكرت على سبيل السخرية- ، فهذه الأقوال لا تُردّ إلا بالحُجَّة، وفي موضوعها الخاص بلا تعميم، ولا تسخيف. .. فالـتسخيف حجة يُلام صحبها. كما أن خطأ أحد التفسيرات العلمية لا ينبغي أن ينسحب على مبدأ صلاحية التفسير العلمي وجدواه. فكم من الأحكام الفقهية قد ردها الفقهاء، ولا يمكن أن يزعم زاعم أن هذا يرد الفقه والتفقه، ولو فعله متعالم، لطرده علماء الشريعة من مجماعهم، واتهموه بالزندقة والتعطيل!
ونأتي إلى طامة كبرى، وهي قول صاحب العبارة [لا حرج أن يسلك عموم المروي عن بني إسرائيل (يقصد العلم الحديث) في علم الفلك أو في علم الأرض] ؟! ... يقصد: لا حرج باللغو في هذه العلوم ... ... ونقول: كيف يكون هذا الأمر لا حرج فيه ... بل فيه كل الحرج. ... ويتأكد موقف صاحب العبارة من توهينه لقيمة رصانة هذه العلوم – بما لا يكترث له من لغوٍ فيها- بقوله: [لسنا نتوفر على حكم شرعي خاص بعلم الفزياء أو علم وظائف الأعضاء .. (أو ما كان على شاكلتها من العلوم الحديثة)]. ...ويقع هذا الموقف في قلب أزمة فكرية حضارية تعاني منها النخبة الإسلامية، ولا علينا من غيرها. .. ألا وهي إغفالها الحكم الشرعي/التحقيقي في هذه العلوم ... حتى كانت النتيجة أن يُعمّم لها – كما رأينا أعلى – حكماً كحكم الإسرائيليات، إلا إذا قال لي قائل: الإسرائيليات في العلم لا بأس بها، أما في الدين فلا! ...  هنا نقول له لا...  العلم عندنا دين، والدين عندنا علم. ومن يتهاون في علم يتعلمه أولاده، يتهاون في رصانةِ دينٍ يُرتِّلونه ولا يفقهونه! ... وهذا الموقف التسخيفي للعلم الحديث – ويعنينا فيه ما يمكن الوقوف على الحق بأدلته - قد تعاظم - كما رأينا أعلى - من تبرير، بأن قيمة العلم الحديث في أذهان الناس، إنما تَحَصَّل عليها بلا حق، وأن الوسيلة إلى ذلك كانت بـ[تمجيد العلم]، أي تزيينه بالباطل!!!
تفنيد أمثلة جِيء بها لتُزكِّي أن "التفسير العلمي" مكافي للإسرائيليات:
جاء أبو عبد المعز بشيء من تفسير الفخر الرازي قديما، وعبارة من أشباه التفسير العلمي المعاصر، ليعكس ما رآه نمطا للإسرائيليات في فكر أهل التفسير والإعجاز العلمي قديماً وحديثاً. والزعم أن هذا النمط يتسم بالافتقار إلى معايير التقييم بين التصديق والتكذيب. وسنثبت هنا أن هذه العبارات؛ قديمها وحديثها مما يمكن أن نقف على صدقه أو كذبه، ومن ثم نهدم زعم التشابه بين التفسير العلمي الرصين والإسرائيليات، وهي الحُجَّة التي أسس عليها أبو عبد المعز تشكيكه في التفسير والإعجاز العلمي. ولا ننسى أن نُذكِّر بأن تعريف الشيخ بن باز كان أحكم ،حين ربط بين الإسرائيليات والتفسير العلمي، لأنه أيد العلاقة فقط في حالة عدم الوقوف على صدق العلم. غير أنه اشترط للوقوف على الصدق شروطاً تجهضه أيضا، وذلك حين ربطها بالاقتناع الشخصي بالأدلة[21]  ، حتى مع عدم التأهل لها!!
أولا، عبارة من تفسير الفخر الرازي:
جاءت العبارة التالية ضمن ما أورده أبو عبد المعز[22]، نقلاً عن الفخر الرازي، يقول: [وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ فِرَاشًا مَشْرُوطٌ بِأُمُورٍ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: كَوْنُهَا سَاكِنَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً لَكَانَتْ حَرَكَتُهَا إِمَّا بِالِاسْتِقَامَةِ أَوْ بِالِاسْتِدَارَةِ، فَإِنْ كَانَتْ بِالِاسْتِقَامَةِ لَمَا كَانَتْ فِرَاشًا لَنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ مَنْ طَفَرَ مِنْ مَوْضِعٍ عَالٍ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلَ إِلَى الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ هَاوِيَةٌ، وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ هَاوٍ، وَالْأَرْضُ أَثْقَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَالثَّقِيلَانِ إِذَا نَزَلَا كَانَ أَثْقَلُهُمَا أَسْرَعَهَمَا وَالْأَبْطَأُ لَا يَلْحَقُ الْأَسْرَعَ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلَ الْإِنْسَانُ إِلَى الْأَرْضِ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ هَاوِيَةً لَمَا كَانَتْ فِرَاشًا، أَمَّا لَوْ كَانَتْ حَرَكَتُهَا بِالِاسْتِدَارَةِ لَمْ يَكْمُلِ انْتِفَاعُنَا بِهَا، لَأَنَّ حَرَكَةَ الْأَرْضِ مَثَلًا إِذَا كَانَتْ إِلَى الْمَشْرِقِ وَالْإِنْسَانُ يُرِيدُ أَنْ يَتَحَرَّكَ إِلَى جَانِبِ الْمَغْرِبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ حَرَكَةَ الْأَرْضِ أَسْرَعُ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ عَلَى مَكَانِهِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ، فَلَمَّا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَرْضَ غَيْرُ مُتَحَرِّكَةٍ لَا بِالِاسْتِدَارَةِ وَلَا بِالِاسْتِقَامَةِ فَهِيَ سَاكِنَةٌ]
وهذه العبارة خاطئة علمياً من عدة جهات:
(1) اشتراط أن الأرض ساكنة لتكون فراشاً خطأ. والسبب أن الرازي ظن أن السكون عن الحركة قرين كونها فراشاً مستقرا، وإذا تحركت الأرض لفقدته، ولاضطربت، ولما أصبحت فراشاً صالحاً لمن يفترشها كالمهد، ساكنة هادئة. وعلة خطأ الرازي ما ظهر حديثاَ من أن الحركة المنتظمة لا ينتج عنها اضطراب. أي أن الجسم المتحرك بسرعة ثابتة لا يستطيع راكبوه التمييز بين سكونه وحركته المنتظمة. وهذا ما تم تقنينه وسُمِّي بقانون القصور الذاتي. ولم يكن معلوماً أيام الرازي. وأشبه الأشياء بالشعور بهذا القصور الذاتي على الأرض، إذا ركب الإنسان سفينة شراعية تنزلق على سطح الماء الأملس بريح خفيفة. ولو كان الإنسان داخل السفينة، لما درى، أتتحرك السفينة به أم لا! ... وكذلك الأرض في السماء، يركبها الإنسان متنها ولا يدري بحركتها، إلا إذا نظر خارجها، فيرى النجوم جميعاً بهيئتها كما هي تنزلق صورتها في كل يوم وليلة لتعود كما كانت، فيعلم الإنسان عندئذ أن أحد الاثنين قد دار: الأرض أو السماء،  وقد علمنا أن الأرض هي التي دارت حول نفسها، لأن النجوم بجملتها وتباعد أجرامها التي تفوق الأرض بأرقام فلكية لا يمكن أن تكون قد تحركت لتحافظ على صورتها كما هي في عين الإنسان. إضافة إلى ما يتطلب ذلك من أن النجوم جميعاً تكون على نفس المسافة من الأرض، وهذا ما توهمه الأقدمون، وثبت خطؤه بالطبع.
(2) ظن الرازي بأن (الثَّقِيلَانِ إِذَا نَزَلَا كَانَ أَثْقَلُهُمَا أَسْرَعَهَمَا)، وهذا خطأ. والصحيح أن ثقل الجسم أو خفته لا يؤثر في سرعته هويانه (حركته بالاستقامة). وقد بنى الرازي هذا التصور بالقياس إلى جسمين يهويان تجاه الأرض نفسها. والحقيقة أن خطأه مُركَّب، فلا الأرض هاوية في حركة مستقيمة – هي وما تحمله على ظهرها- تجاه مركز جذب مثلا، يشبه قاع البئر إذا هوت فيه الأشياء. ولا أن الحركة المستقيمة التي حاول الرازي نفيها عن الأرض تُختبر بالهويان الذي يحدث فيه زيادة السرعة على نحو متواصل مع الزمن، وللتمييز بين الحركتين، اختلف اسمهما، وأصبحا: سرعة مُنتظمة، وسرعة مُعجلة. وإذا كان الإنسان راكباً شيئاً يتحرك سرعة منتظمة، فلن يشعر بحركته، ولن يستطيع التمييز إذا كان يتحرك أو لا يتحرك. وهذا هو الذي يُسميه الفيزيائيون "القصور الذاتي" inertia الذي شرحناه أعلى. أما إن كانت السرعة مُعجلة، مُتبدلة التعجل في اتجاهات مختلفة، فهذا هو الـمَيَدَان. وقد فات على مفسرينا أن هاتين الحركتين مختلفتان، وهو ما سنتناوله بالتفصيل عند مناقشة آراء شيخنا عبد العزيز بن باز إن شاء الله تعالى.
 (3) ظن الرازي أن الإنسان المتحرك على الأرض يتحرك حركة مطلقة لا علاقة لها بما يركبه. وقال أن الإنسان إذا تحرك في اتجاه حركة الأرض نحو الشرق – باعتبارها تستدير ناحيته، فلن يصل أبداً إلى مبتغاه، لأن الأرض أسرع، وهذا التحليل خطأ لأن الحركة النسبية تنضاف، بمعنى أن سرعة الإنسان وهو يتحرك ناحية المشرق يجب أن تضاف إلى سرعة الأرض، كراكب السفينة المتحرك على متنها، وفي اتجاه حركتها سيصل إلى مقدمتها. ولو صدق الرازي لما وصل الراكب أبداً إلى مقدمة السفينة إذا كانت السفينة أسرع من حركته. ... ويقع الخطأ في غياب تصور "القصور الذاتي" والذي يجعل من الراكب لأي شيء يمتلك سرعته وسرعة ما يركبه جميعا، فإذا تحرك على ظهره انضافت سرعة هذه الحركة إلى سرعة الشيء إذا اتحد الاتجاه، أو انتقصت منه إذا تضاد الاتجاه. وهذا الفهم لا يختلف عليه اثنان في العلم الآن، ويُسمى في أدبيات الفيزياء بـ "النسبية الجاليلية" نسبة إلى العالم الإيطالي جاليليو، أو "السرعة النسبية التقليدية"، وسبب التسمية تفريقها عن السرعة النسبية التي أتى بها أينشتاين. وهما نوعان يتفقان تماماً في السرعات التقليدية على الأرض وفي حركة الأجرام القريبة في السماء، إلا إذا قاربت السرعات المتناسبة سرعة الضوء، أو كانت جزءاً محسوساً منها، وهنا يختلفان. والخلاصة أن تحليل الرازي خطأ، ولا ريب ولا اختلاف ولا نزاع في أنه خطأ.
والخلاصة: أن المسألة قد خرجت من جهلنا بسنتها في نفسها، إلى علمنا بهذه السُّنة، وعلتها وتبعاتها من ظواهر في السكون والحركة. ومن ثم لا يُعد هذا التفسير من الإسرائيليات. وأصبحنا نستطيع الحكم على تفسير الرازي - على نحو ما قاله - بأنه خطأ.
ثانياً، عبارة مؤلفة على نمط يُشبه التفسير العلمي المعاصر:
قال أبو عبد المعز، نقلاً (افتراضيا) عن لسان أهل التفسير العلمي: [ما يقوله العلم الحديث .. حق، ونحن إذ نفسر "الحبك" بـ "الأوتار الفائقة" فهذا ليس تداخلا للخطابات، ولا حَمْلا للقرآن على غيره، وما فعلنا شيئا غير تفسير كلمة بأخرى كما تفعلون أنتم - معاشر اللغويين - عندما تفسرون "القسورة" بالأسد .. وليس في هذا كله إلا حملاً للقرآن على نفسه لأنه حمل للحق على الحق!!]
وهذه العبارة أيضاً خاطئة من جهتين على الأقل: (سواء نطق بها أحد مما ينسب نفسه إلى التفسير العلمي أو لم ينطق بها):
(1) تفسير "الحبك" بـ "الأوتار الفائقة" يقوم على علة تشابه أن هذه الأوتار المفترض أنها تملأ الكون كما يزعم القائل بها، أي تملأ السماء، ومن ثم فنسبتها من السماء كنسبة النسيج من الثوب. وكما يُحبك الثوب من خيوط، يمكن تصور السماء وكأنها محبوكة بما يملأها، ألا وهي ما افترضه أصحاب نظرية الأوتار الفائقة من أوتار (خيوط) تملأ السماء في كل موضع وأي موضع!
أما علة تفسير "القسورة" بالأسد فليس إلا نقل عن أهل العربية، حيث سموا الأسد أسداً وسموه قسورة. فمن سمع اسم قسورة ولم يعرفه قيل له هو الأسد الذي يعرفه.
والخطأ الأول في هذا التفسير أن تفسير "الحبك" بـ "الأوتار الفائقة" لم يقم على نفس علة تفسير "القسورة" بالأسد! ... فكيف أمكن قياس الأول (الذي يحاجج عنه أهل التفسير العلمي المزعومون) على الثاني (المشهود له عند أهل العربية) لتبريره؟! ...
(2) إذا جاز أن نعلل الحُبُك بالأوتار الفائقة التي تعني خيوط تملأ السماء، وأنه يظهر من آثارها احتباك السماء وما فيها على نحوٍ شبيه باحتباك الثوب المشدود الخيوط على نمطه المتقن، إذا جاز هذا الوصف، فإنه يجوز فقط إذا علمنا أن تلك الأوتار الفائقة موجودة وجوداً حقيقياً. ولكن الحقيقة أننا نعلم أنها لا يمكن رصدها للتأكد من حقيقة وجودها، وثانية أن النظرية التي تفترض وجودها ضعيفة لعدم قدرتها على تقديم تفسيرات مرتبطة بها  تشهد للنظرية بالصدق أو التزكية. حتى أن تقييم النظرية أصبح أقرب إلى الحيل الرياضية منها إلى التوصيف الفيزيائي لما عساه أن يكون موجوداً. والنتيجة أن علة التفسير واهية للغاية لسبب التشكك في وجود المفسَّر به. وهذا الحكم بالتخطئة حكم علمي لا يختلف عليه اثنان، ولا يقل في قيمته العلمية عن القول بأن حديثاً ما منسوب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حديثٌ ضعيف جداً. وكذلك تفسير "الحبك" بالأوتار الفائقة يمكن الحكم عليه بأنه تفسير ضعيف جداً، وربما إلى ما هو أدنى من ذلك، وقد يصل إلى درجة "المتروك" من الحديث، فيكون متروكاً من الصلاحية لفهم نسيج السماء.
والنتيجة أنه في مقدورنا الحكم على التفسير العلمي من حيث القبول أو الرفض، بل أنه حتى في القبول، يمكننا الحكم فيه على درجة القبول، من حيث الصحة أو الضعف، أو الترك لغياب الدليل أو القرينة ... وهذه الأحكام تُخرج التفسير العلمي من وصف الإسرائيليات بالضرورة.
أما إن غاب عنا الدليل أو القرينة التي نحكم بهما بالصحة أو الخطأ، أو القوة أو الضعف، على أي من أطروحات التفسير العلمي، فهذا لا ينبغي أيضاً أن يُدخله في الإسرائيليات، ... لماذا؟ .. لأن الإسرائيليات مؤبَّدة الحكم بالتعليق[23]، أما الأطروحات العلمية فغير مُؤبَّدة، ودوماً يتأمل فيها العلماء الحسم، حتى وإن غابت آليات الحسم إلى حين. أما ما لا يمكن الوقوف عليه من حيث المبدأ، فهذا خارج عن العلم بالكُلِّية، وهذا هو الذي سمته حلقة فيينا ,والوضعية المنطقية positivism في النصف الأول من القرن العشرين بالخرافات أو الكلام الفارغ nonsense، ويدخل فيه عندنا الأساطير والميتافيزيقا التي اختلقها الناس بلا سند إلهي من وحي صادق، تقوم عليه الأدلة، ويحمل برهان صدقه معه دوماً، ولكل باحث جاد عنه، كما يدخل فيه كل التوهمات التي تختلقها سيناريوهات تصور الكون قبل اللحظة التي يسمونها الانفجار العظيم. إذ أن هذه اللحظة المتفردة للكون في ذاتها مشكلة، فكيف بما قبلها بما لا دليل ولا قرينة إثبات عليه من أي نوع أو درجة؟!
* * * * * * *

إضافة هامة (بتاريخ 23/ 8/ 2014):

افتتح الأستاذ (أبو عبد المعز) بتاريخ 21/ 8/ 2014 على ملتقى أهل التفسير الموضوع الآتي:
من أسرار مفردات القرآن: الليل والنهار = الأرض
وبمراجعته وجدنا أنه من طبيعة دراسات (التفسير العلمي في القرآن) الذي تأكد لنا أعلى أنه يعارضه!!! ... لذلك مثّل لنا هذا الرأي الجديد له، مفاجأة كبرى. ونميل كل الميل إلى أنه قد راجع أفكاره، وعدل عنها بدرجة ما، وأصبح يقبل التفسير العلمي، حتى وإن اشترط له اشتراطات. وهذا أمر طبيعي، لأننا جميعاً نشترط لصحة علمٍ ما شروطاً وضوابط. .. ولكي نقف على موقفه، شاركنا بذلك الموضوع بمشاركة سألناه فيها إن كان موضوعه هذا يمثل تراجعاً أم لا؟! .. ولكنه لم يُجب حتى اللحظة. .. وربما أنه لن يجيب على الإطلاق كعادته معنا، .. فنقول: لا بأس. لأن الغرض من الحوار، حتى وإن كان من طرف واحد أن يُبصِّر القراء بما يقرأون، ويقيم لهم الحجة على ما يجب أن يصدقوه، وما يجب أن يستبعدوه. .. فإن تحقق لنا هذا، فما كان دونه، فلا بأس به.

   غير أننا نضع أيضاً احتمالاً - ولو ضعيفاً - أن أبا عبد المعز لم يتراجع عن موقف العام من رفض التفسير العلمي للقرآن، غير أنه إذا واجه مسألة بعينها من مسائل آيات القرآن ذات علاقة به، كالمسألة التي أثارها أعلى (في تفسير  قول الله تعالى "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" وأن "اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" كناية عن الأرض نفسها .. وقوله في النهاية هذا ما يقرره علماء العصر، ويقصد: ما قامت عليه الأدلة)، أي أنه ينجرف فكرياً إلى التفسير العلمي إذا تتبع الأدلة العلمية الرصينة، ومن حيث لا يستطيع المقاومة!.. وهذا الأمر رأيناه من قبل عن سيد قطب في رفضه للتفسير العلمي، ثم تعريجه عليه، والتجائه إليه، وقوله: ("يكور الليل ...الآية" .. تعبير عجيب يقسر الناظر فيه قسراً على الالتفات إلى ما كُشف حديثاً عن كروية الأرض، ومع أنني في هذه الظلال حريصٌ على ألا أَحْمِل القرآن على النظريات التي يكشفها الإنسان.)، وهو ما يعني أنه لا يجد مناصاً من اقتران تفسير الآية مع كون الأرض مكوَّرة، وكأنه بذلك يعتذر عن تصريحاته برفض التفسير العلمي، ثم الالتجاء إليه، بما لا يجد منه مهربا!!!. .. وهذا الموقف (أي: الرفض التعميمي للتفسير العلمي، ثم القبول التخصيصي) يكشف عن حقيقة أن الواقعين في هذا الأمر - أي: الرافضين للتفسير العلمي - يبنون الأحكام التعميمية على أدلة تنظيرية انطباعية غير عملية! فإذا ما نزلوا إلى أرض الواقع، وجابوا الآيات ودلائلها المشهودة، فإنهم سرعان ما يكتشفون أنهم تعجلوا في حكمهم الأول.
المؤلف 
عودة إلى فهرس الكتاب


[1] هو أحد المشاركين النشطين بملتقى أهل التفسير http://vb.tafsir.net/members/tafsir104/، ويتضح بجلاء من مشاركاته الخبرة العميقة في المسائل الشرعية وأصول الدين، ويبدو أنه متخصص محترف، غير أني لم أقطع بشخصيته، وخاصة أنه لا يتجاوب في مشاركاته، ويبدو أنه يريد إبقاء شخصيته سراً، وله ما أراد. كما وأن مراجعاتنا لا تتأثر بشخصية  من نراجع كلامه في معاني كلام الله تعالى، مفتياً مرموقاً كان أو طالب من طلاب العلم.
[3] ذكر هذه العبارة مراراً شيخ من شيوخ العلمانيين المعاصرين، هو (مراد وهبه)، وهو من معاصري الأقباط المتفلسفة.
[6] http://vb.tafsir.net/189758-post10.html
[9] Bertrand Russel, “ABC o fRelativity”, 4th Ed. By Felix Berani, London,… First edition appeared in 1925.
وقال برتراند رسل: ["من الطريف أن نضع أينشتاين مقابل كوبرنيكوس. فقد كان الناس يعتقدون قبل كوبرنيكوس أن الأرض ساكنة وأن السماء تدور حولها مرة كل يوم. وذهب كوبرنيكوس إلى أن الأرض تدور حقاً مرة كل يوم، وأن الدوران اليومي للشمس والنجوم دوران ظاهري فحسب. وتبنى جاليليو ونيوتن هذا الرأي، وكان من المعتقد أن هناك أشياء كثيرة تثبته مثل تفلطح الأرض عند القطبين، وأن الأجسام أثقل هناك منها عند خط الاستواء. أما في النظرية الحديثة فإن الخلاف بين كوبرنيكوس وأسلافه يصبح مجرد اختلاف اصطلاحي، فكل حركة نسبية، ولا خلاف هناك بين القضيتين: الأرض تدور مرة كل يوم، والسماء تدور حول الأرض مرة كل يوم. هاتان القضيتان تعنيان شيئاً واحداً بعينه، تماماً مثلما أقول إن شيئاً معيناً طوله ستة أقدام أو ياردتان. وعلم الفلك أيسر إذا أخذنا الشمس على أنها ثابتة بدلاً من الأرض، مثلما أن الحسابات تكون أسهل بالعملة العشرية (وبالنظام العددي العشري). أمّا أن يقول المرء شيئاً أكثر من ذلك عن كوبرنيكوس فهذا معناه افتراض الحركة المطلقة، وهذا وهم. كل حركة نسبية، والنظر إلى جسم ما بوصفه ثابتاً مجرد اتفاق، وكل هذه الاتفاقات مشروعة على حدٍّ سواء، وإن لم تكن جميعاً على حدٍّ واحدٍ من السهولة."] ترجمة مقتبسة من: ( ألف باء النسبية”، برتراند راسل، ترجمة فؤاد كامل، مركز كتب الشرق الأوسط، القاهرة، 1977.)
[10] F. Abe et al. (CDF Collaboration) (1995). "Observation of Top Quark Production inpp Collisions with the Collider Detector at Fermilab". Physical Review Letters 74 (14): 2626–2631.
[11] S. Abachi et al. (DØ Collaboration) (1995). "Search for High Mass Top Quark Production in pp Collisions at √s = 1.8 TeV". Physical Review Letters 74 (13): 2422–2426.
[13] http://vb.tafsir.net/tafsir4348/#post16852
[14] يُنظر في ذلك كتاب العز بن عبدالسلام، "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، وفحوى الكتاب بجملته هي أن الدين جاء لتحقيق المصالح.
[15] محمد أبو زهرة، "مالك"، دار افكر العربي، 1964، ص 349.
[18] حديث مرفوع، "الفقيه والمتفقه"، للبغدادي،
[20] "الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب، وعلى جريان الشمس والقمر وسكون الأرض"، عبدالعزيز بن باز، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، 1402، ص44.
[21] السابق، ص 43.
[23] يُنظر في ذلك مداخلة لنا على نفس الموضوع