الأحد، 27 أكتوبر 2013

الفصل (أ7) - سيد قطب - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ7) سيد قطب
بقلم: عزالدين كزابر


سيد قطب
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ يوسف القرضاوي أن "سيد قطب[1] – رحمه الله - كان من أشد المعارضين لاستخدام التفسير العلمي في القرآن والإعجاز العلمي، ولكنه كان يستفيد من هذه الأمور في توسيع مدلول النص"[2]!!! ... وإن ثبت هذا الموقف منه – رحمه الله – لحقّ لنا أن نعُدّه تردداً أو حيرة في أمر التفسير والإعجاز العلمي، حيث لا تستقيم المعارضة مع الفائدة مما يُعارض! أو ربما أن هناك اعتراضات منه على هذا المنحى التفسيري، ثم تراجعات أو استثناءات على الاعتراضات، وهو الأمر الذي سيتأكد بمراجعتنا لبعض ما كتبه سيد قطب رحمه الله تعالى في هذا الشأن.
يقول سيد قطب[3]: "ليس لنا أن نتلمس للنصوص القرآنية مصداقاً من النظريات التي تسمى « العلمية » حتى ولو كان ظاهر النص يتفق مع النظرية وينطبق. فالنظريات « العلمية » قابلة دائماً للإنقلاب رأساً على عقب، كلما اهتدى العلماء إلى فرض جديد، وامتحنوه فوجدوه أقرب إلى تفسير الظواهر الكونية من الفرض القديم الذي قامت عليه النظرية الأولى. والنص القرآني صادق بذاته، اهتدى العلم إلى الحقيقة التي يقررها أم لم يهتد. وفرق بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية. فالحقيقة العلمية قابلة للتجربة وإن كانت دائماً احتمالية وليست قطعية أما النظرية العلمية فهي قائمة على فرض يفسر ظاهرة كونية أو عدة ظواهر، وهي قابلة للتغيير والتبديل والانقلاب . . ومن ثم لا يحمل القرآن عليها ولا تحمل هي على القرآن، فلها طريق غير طريق القرآن. ومجال غير مجال القرآن."
نقر بأن "إجمال" الموجهة بين القرآن والعلم، يسبب كثيراً من الالتباس. فالمثبت لهذه المواجهة محق من جهة، والنافي لها محق أيضاً، ولكن من جهة مختلفة! وهذه الجهة الأخيرة هي موقف سيد قطب. غير أن ترك "الإجمال" على حاله، وعدم التمييز بين الجهات المختلفة في المسألة، يبقي على التباسها، ويؤصل لإبقاء الخلاف حولها. وتفصيل ذلك كالآتي:
من القرآن محكم ومتشابه، وأغلب المسائل التي يتداولها التفسير العلمي والإعجاز العلمي، تُعد من المتشابه. ومن العلم حق، وزعم؛ أي حقائق علمية تطابق الخلق على ما هو عليه، ونظريات قد تصيب وقد تخطئ، في سبيلها إلى الطريق إلى الحقائق العلمية. وإذا أجرينا التباديل المختلفة بين وجهين من الأول ووجهين من الآخر، نخرج بأربعة أوجه يجب البت فيها على التفصيل، كالآتي:
1- المقابلة بين ما هو محكم من الآيات، مع النظريات العلمية: باطل لا محالة؛ وذلك ليقين المحكم وشك النظريات. والقاعدة الفقهية تقول أن اليقين لا ينكسر بالشك. ومن هذا الوجه، يصيب سيد قطب تمام الإصابة.
2- أما المقابلة بين ما هو محكم من الآيات مع الحقائق العلمية: فإنه جائز لأن كلاهما يقين، ويعضد بعضه بعضاً، ويستبين بعضه من بعض، وكله من عند الله تعالى، ولا حرج من الخوض فيه، ولكن فقط لأهل العلم الراسخين في كلا الطرفين في آن واحد، ودون وسيط ولا ترجمان. وذلك لأنهم أحق الناس بمعرفة إحكام المحكم في القرآن، وحقائق العلم التي تخطت احتمالات التبدل، من مثل كروية الأرض، ودورانها حول مركز ثقل المجموعة الشمسية الواقع داخل الشمس غالب الأوقات، وخارجها أحياناً، وأن الشمس تجري جرياً حقيقياً – حاملة كواكبها وتوابعها - في مسارٍ لها في مجرة درب التبانة، وأن .. وأن .. إلخ. وفي هذا النوع من المواجهة، لم يكن سيد قطب من الموفَّقين بالاعتراض، كما أنه قد اختلط عليه الأمر حين أرفق "الحقائق العلمية" مع الاحتمال حين قال "فالحقيقة العلمية قابلة للتجربة وإن كانت دائماً احتمالية وليست قطعية" إلا إذا كان يقصد أن الاحتمالية تعود إلى التجربة ونتائجها، أو تأويل من يأولها. ولكن لو كانت التجربة ما زالت مطلوبة لإثبات الحقيقة العلمية، فهي ليست بحقيقة علمية بعد، وتفقد هذه الرتبة وتتدنى إلى ما دونها، أي: رتبة النظرية.
وهذا النوع الثاني من المواجهة هو الذي سبب إرباكاً لسيد قطب رحمه الله، وذلك حين عاد وقبل تطبيقاً له، ومقابلة بين تفسير قول الله تعالى "يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ "(الزمر: 5)، ومسألة دوران الأرض (على نحو ما سنرى لاحقاً). إذ أن رفضه المقابلة كما صرح أعلى كان قاطعاً، ثم كانت عودته لقبول المواجهة، وإجرائها بنفسه، أمراً يدعو للتساؤل، وهذا ما جعله يقول صراحة (وهي صراحة لا يتسم بها إلا العلماء): [ "يكور الليل ...الآية" .. تعبير عجيب يقسر الناظر فيه قسراً على الالتفات إلى ما كُشف حديثاً عن كروية الأرض، ومع أنني في هذه الظلال حريصٌ على ألا أَحْمِل القرآن على النظريات التي يكشفها الإنسان.] ... وكانت الإشكالية أنه صنف "كروية الأرض" باعتبارها "نظرية علمية"، ومن ثم كان الحرج ومحاولة التبرير، رغم أنها "حقيقة علمية"!
3- ثالث العلاقات أن تكون المقابلة بين ما هو متشابه من آيات القرآن، مع ما هو من الحقائق العلمية: .. وهذا مندوبٌ إليه. إذ أن المتشابه من آيات القرآن هو ما ترددت فيه آراء المفسرين، وتعددت دون ترجيح بيِّن، ودون أدلة واقعية إلاّ ما تستدعيه اللغة، والأمر يتخطاها. وهذا النوع هو ما قال فيه الشيخ القرضاوي أنه يصحح آراء المفسرين[4]. ويفند هذا النوع أيضاً عموم حكم سيد قطب بعدم المقابلة، وهو أشد من النوع الثاني، لأن الآيات موضوع النقاش متشابهة، ومن ثم لم تكن محل إجماع المفسرين، ومن هنا تستدعي استئناف أدلة من خارج اللغة لفض الاختلاف، مع السعي لأن يكون الشاهد الخارجي "حقيقة علمية"، أي محل يقين. فإن لم يكن يقيناً فيجب أن يحظى بغلبة الظن بما يُرجِّح وجه تفسيري للآيات بقوة ظاهرة فوق الوجوه التفسيرية الأخرى.
4- المقابلة بين ما هو متشابه من آيات القرآن، مع ما هو "متشابه من العلم"، وهذا المتشابه من العلم هو  النظريات العلمية: ونلاحظ بالتدقيق أن الطرفين هنا من رتبة النظريات/المتشابهات؛ لذلك لا حرج من المقابلة بينهما، شريطة أن تظل المسألة في محل التنظير، ويجب ألا يرتقي بها أحدٌ من الباحثين إلى مصاف الإعجاز العلمي لعدم قطعيتها، وينبغي أن تظل في منطقة التفسير العلمي فقط حتى يتيقن أحد أطرافها على الأقل. ولا حرج من سقوط النظرية العلمية إذا تبين ضعفها، مثلما أنه لم يكن هناك من حرج في سقوط تفسير من التفاسير - قديمة أو حديثة - إذا تبين خطأه وترجحت عليه تفسيرات أُخَر، وهذا الترجيح أمرٌ شائع في اختلافات المفسرين والفقهاء. وتتم المفاضلات بقوة الأدلة، وإذا ظهرت أدلة جديدة تتفق أو تختلف يعاد تقييم الوضع. ويتقدم في التفسير أرجح النظريات مع أرجح التأويلات اللُّغوية. ولا يتعارض هذا مع منهج يعتمد مثيله الأصوليون، ويأخذون بالراجح بعلة غلبة الظن، وبما يشمل العبادات. ولم يوفق أيضاً سيد قطب في عموم رفضه للنظريات العلمية ومناظرتها مع شيء من التفسير إذا اندرجا في هذا النوع.
ويتابع سيد قطب ويقول: "وتلمسُّ موافقات من النظريات « العلمية » للنصوص القرآنية هو هزيمة لجدية الإيمان بهذا القرآن واليقين بصحة ما فيه، وأنه من لدن حكيم خبير. هزيمة ناشئة من الفتنة « بالعلم » وإعطائه أكثر من مجاله الطبيعي الذي لا يصدق ولا يوثق به إلا في دائرته. فلينتبه إلى دبيب الهزيمة في نفسه من يحسب أنه بتطبيق القرآن على « العلم » (يقتضي السياق العكس، أي: تطبيق العلم على القرآن، إلا إذا أراد محض المطابقة) يخدم القرآن ويخدم العقيدة ، ويثبت الإيمان! إن الإيمان الذي ينتظر كلمة العلم البشري المتقلبة ليثبت، لهو إيمان يحتاج إلى إعادة النظر فيه! إن القرآن هو الأصل والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء. أما الحقائق العلمية التجريبية فمجالها غير مجال القرآن. وقد تركها القرآن للعقل البشري يعمل فيها بكامل حريته، ويصل إلى النتائج التي يصل إليها بتجاربه، ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحة والإستقامة والسلامة، وتحريره من الوهم والأسطورة والخرافة. كما عمل على إقامة نظام للحياة يكفل لهذا العقل أن يستقيم، وأن يتحرر، وأن يعيش في سلام ونشاط . . ثم تركه بعد ذلك يعمل في دائرته الخاصة. ويصل إلى الحقائق الجزئية الواقعية بتجاربه. ولم يتعرض لذكر شيء من الحقائق العلمية إلا نادراً. مثل أن الماء أصل الحياة والعنصر المشترك في جميع الأحياء. ومثل أن جميع الأحياء أزواج حتى النبات الذي يلقح من نفسه فهو يحتوي على خلايا التذكير والتأنيث . . . وأمثال هذه الحقائق التي صرحت بها النصوص القرآنية."
نرى في هذه الفقرة عدداً من المسائل:
1- حصر العلاقة بين القرآن والعلم في القول بـ "تلمسُّ موافقات من النظريات « العلمية » للنصوص القرآنية لجدية الإيمان بهذا القرآن واليقين بصحة ما فيه": وهذا غير صحيح. فالمسلمون وأبناؤهم يتلقون التعليم العام، ويكتسبون المعرفة على منهج العلم الغربي، منذ ما يزيد على قرن من الزمان. ومن يقرأ القرآن منهم يواجه نصوصاً قرآنية تتحدث – في كثير من مسائلها - عما يتحدث عنه التعليم الإلزامي العام أو الخاص. فتحصل المواجهة في أنفسهم، بلا تكلف ولا اصطناع من أصحابها، ولا ينبع التحقيق في هذه المواجهة من تشكك في الإيمان ومدى صدق اليقين، بل من تبعاتها التي تسبب حرجاً بالغاً، وخاصة إذا اختلفت التفاسير القرآنية عن النظريات العلمية في ذات موضوعها. ومن أمثلة ذلك ما كان يؤمن به طلبة الأزهر من أن الرجُل له ثلاثة وعشرون ضلعا[5]، وأن المرأة لها أربعة وعشرون، وذلك لأن المرأة خُلقت من أحد أضلاعه، ومُلأ مكانه لحم. فلما أدخلت مادة الثقافة العلمية بالأزهر في ثلاثينيات القرن العشرين وشملت التشريح، انتُدب لتدريسها واحداً من أنبغ علماء مصر[6] وقتئذ، وقد واجه المدرس مشكلة إقناع الطلاب بخطأ التفاسير التي ارتكنوا إليها في شأن عدد أضلاع الرجل. واحتد الخلاف ووصل الأمر أن اتهم الطلاب مُدَرِّسهم باتهامات جسيمة لمعارضة كلامه للموروث التفسيري في هذه المسألة، وكاد أن يستقيل بسببها.
ومثال ثانٍ، يتعلق بما يدرسه الطلاب في المدارس من حركة الكواكب ومنها الأرض حول الشمس، ومعارضة التفاسير الموروثة لهذا الأمر، وإصرار عدد من رجال الدين في الجزيرة العربية على صحة الموروث التفسيري في هذه المسألة[7]، وهو الأمر الذي يضع الطلاب في حرج بالغ، يستتبعه اهتزاز ثقة الطلاب في أحد مصدري المعرفة: الدين أو العلم، أو كليهما. 
وتتكرر مثل هذه المواقف المحرجة ربما دون الإعلان عنها. وهو الأمر الذي يدعو إلى وضع آلية عمل بين "أولي الأمر العلمي"، لحسم أي خلافات بين مقولات التفاسير الموروثة ومقولات العلم المستدل عليه، ولا يمثل الإعجاز العلمي إلا فرعاً واحداً من هذه الآلية المقترحة، غير أنها تقع بالتأكيد في قلب مسألة التفسير العلمي للقرآن والحديث النبوي.
2- حديث سيد قطب عن الافتتان بالعلم، والظن بأنه قد تسبب في هزيمة نفسية، وأنه بتطبيق القرآن على «العلم» أو «العلم» على القرآن، فإنه يخدم القرآن ويخدم العقيدة، ويثبت الإيمان! أمر غير وارد على هذا النحو في دعوات التفسير والإعجاز العلمي! بل الوارد والحاصل أن هذه الدعوات – إذا توجهت للمؤمنين - قد دعت إلى التحصن بالقرآن ثقة فيه ودفاعاً عنه، في مواجهة تشكيكات العلمانية اللادينية، والمبثوثة في الكتب العلمية، والمتشحة بوشاح العلم. ويقول لسان حال أصحاب هذه الدعوات أن القرآن يزيد في الصفة العلمية عن العلم العلماني التصور، وأنه يعلو ولا يعلى عليه، لا أنه صحيح بتوثيق من العلوم (أي النظريات) المتهافتة وإقرار منها. إلا أن هذه الدعوة قد تصح لا باعتبار أن تطبيق العلم البشري الصناعة على القرآن يخدمه، بل باعتبار أن موضوع العلم من حقائق واقعية مكتشفة مخلوقة في ذاتها لله تعالى تؤيد وتدعم كلام الله تعالى، فتصدقه وتشهد له. وهذا لا حرج فيه. فكلا الطرفين من الله، ويستوي ذلك والقول بأن القرآن يصدّق بعضه بعضا، لأن القرآن كله من الله تعالى، وكذلك الخلق والقرآن من الله، فلا مشاحة في سؤال المخلوقات عن معاني القرآن في شأنها، وسؤال القرآن عن مخلوقات الله وإبداعه تعالى فيها، ثم الاستشهاد بذلك نصرة لله ودينه الحق.
3- أما القول بـ أن القرآن هو الأصل والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء، فيحتاج إلى مراجعة في شِقِّه الثاني؛ والسبب أن مخالفة النظريات العلمية للتفاسير الموروثة والشائعة في مشترك الموضوعات، أمر مشكل، ويضع طلاب العلم في حرج بالغ، وفتنة محرجة، ولا تخفى إشكالية خلق آدم بين تقرير النصوص الدينية والداروينية التطورية التي تزعم ظهور مشابه لآدم كبقية الأجناس الحية على اتصال تطوري من خلية أولية. فالأمر ليس كما قال سيد قطب: "سواء"، إلا إذا كان طلاب المسلمين يستظهرون العلم الحديث ولا يفهمون مراميه، أو يستظهرون القرآن ولا يفقهون آياته الكونية. وهذه فتنة علمية يقع حل إشكالاتها على عاتق الجهات التعليمية الدينية والعلمية.
4- وأيضاً القول بأن مجال الحقائق العلمية التجريبية غير مجال القرآن، وأنه لم يتعرض لذكر شيء من الحقائق العلمية إلا نادراً. محل نظر  ومراجعة! إذ أن وجود مئات الآيات القرآنية التي تتحدث عن حقائق علمية في كل المجالات يجعل تلك الآيات نصوص قانونية في هذه المسائل، ولا يمكن تجاهلها فيما تخبر به، أو الاكتفاء بالتعبد بها ترتيلاً، لا فهماً وتعقيلاً، وإلا لحقنا من ذلك ملام القرآن نفسه بقول الله تعالى "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"(محمد:24). وقد جوبه الفخر الرازي بمثل هذا الاستنكار (أو قدَّره الرازي)، فكان جوابه[8]: "ربما جاء بعض .. وقال إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم، وذلك على خلاف المعتاد! فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذَكَرَ هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها، والتأمل في أحوالها جائزاً لما ملأ الله كتابه منها". وإذا كان الذين يتعرضون لتعلم هذه الأمور في زمن الرازي هم فقط من دفعتهم همتهم إلى تعلمها، فإنهم اليوم في زمن العلم الحديث سواد الناس، والصمت على خلافات التفاسير ومقولات العلم تنذر بكارثة محققة، وما توزع المتعلمين بين تعليم ديني يقدس التفاسير الموروثة دون غيرها، وتعليم علمي يقدس النظريات الغربية دون غيرها، إلا مظهر مُشين لهذا الشقاق بين دينيين وعلميين، أو بالأحرى؛ بين إسلاميين وعلمانيين. وهذه هي جذور الفصام التعليمي والثقافي والسياسي في الأمة الإسلامية، بل للحضور أو الغياب الإسلامي في العالم أجمع.
5- والقول بأن القرآن قد ترك للعقل البشري يعمل في الحقائق العلمية التجريبية بكامل حريته، ويصل إلى النتائج التي يصل إليها بتجاربه، ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحة والإستقامة والسلامة، وتحريره من الوهم والأسطورة والخرافة، قول صحيح، إلا أن هذه المنطقة – منطقة صحة العقل وسلامته وتحريره من الوهم والأسطورة والخرافة - قد دخلها العلم الغربي أيضاَ – وبإسم "العلم"- وأصبح يرتع فيها كما يحلو له، ويزيف المنطق العلمي، ويشوه الفطرة العقلية، ويلبس الحقائق بالأوهام، والوقائع بالأساطير، والعقلانية بالخرافة. ولو لم يجد طلبة العلم، من أهل القرآن، من يرشدهم ويعيدهم إلى جادة الطريق في هذه المسائل، لضلوا في مجاهل طرق الفكر الغربي المنهجي الشاطحة والمضلة. ولأن العقل السليم، والمنهجيات القويمة، لا تبنى في الهواء، ولا تُرسم على صفحات الخيال دون إعمال، لزم أن تجسدها الآيات، وتقابلها المناسبات، وتتلقاها عيون المسائل والظاهرات. فالمواجهة مع حقائق – أي: وقائع- العلم ونظرياته حتمية، والهروب منها ذو دلالات انتكاسية.
يقول سيد قطب[9]: "إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته: تصوره واعتقاده، ومشاعره ومفهوماته، وسلوكه وأعماله، وروابطه وعلاقاته . . أما العلوم المادية، والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته. بما أنها أساس خلافته في الأرض، وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه . . والقرآن يصحح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد، ويصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له؛ ويزوده بالتصور العام لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه، وتناسق تكوينه، وطبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه - وهو (أي الإنسان) أحد أجزائه - ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات والانتفاع بها في خلافته . . ولا يعطيه تفصيلات لأن معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتي.
نقول: إن "الإحاطة بالقرآن" لا تتبع بالضرورة حفظ متنه، ولا سرد بعض تفاسيره المطوَّلات، ولا كثرة ترتيله، ولا تحليل بعض تراكيبه، ولا تدبر بعض آياته من هذه الزاوية أو تلك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبّ حامل فقه ليس بفقيه"[10]، وقوله صلى الله عليه وسلم "ولا يشبع منه العلماء"[11]، وعدم الشبع يعني العطش الدائم لعطاءات القرآن، أي دوام الارتواء المعرفي رغم عدم تمام الإحاطة به. وكل ما ذكرنا من إلمام بشيء من القرآن، يفاضل بين أهل القرآن في العلم به، ولكنه لا يقف على حدوده البعيدة، إن كان له من حدود، ولا يزعم تمام امتلاكه، واكتمال الوصاية عليه إلا واهم مغرور. وأي حكم إجمالي عن القرآن – عن ما يحتوي القرآن وما لا يحتوي - لا يزيد – في اصطلاحات المنهجيين - عن كونه "استقراء ناقص". والقاطع بصدق أحكامه في إحاطته بالقرآن ومراميه وغاياته وأنه قد أحاط بكل معانيه، ولم يَدَع منها شيء، يَدَّعي مستحيلاً، ويلتحف غروراً. فالقرآن كنزٌ معرفي، لا تتكشف أسراره إلا بِقَدَرْ، ولا يقطع بدلالات متشابهاته المعلقة – بلا سلطان محدث - إلا مقتحم حمى الله مُتَجَرّئً عليها. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يصح لكائنٍ من كان، أن يدعي أن القرآن فيه أو ليس فيه من العلم شيئا؟! – فالقائل بهذا لا يقول به إلا اعتماداً على تنظيره عن القرآن، ومعلوم أن التنظير محل أخذ ورد، وقبول ورفض، أما القطع ففي مسألة مسألة، والحكم في فقه المسائل له شروطه وضوابطه وقيوده. وأخطر ما يطلق من أحكام على القرآن هو المجمل منها، وهذه مخاطرة، لأنها تقتضي الإحاطة التامة. وهذا شأن الله وحده، سبحانه، لا يعلم أسرار كتابه على تمامها إلا هو.
ويُعد التمييز بين "الإنسان" في جهة، والعلوم المادية والإبداع فيها في جهة أخرى، والقرار بأن القرآن يتعلق فقط بجهة الإنسان، ولا يتعلق بالجهة الأخرى، يُعدان من هذه الأحكام الإجمالية. وربما كان هذا الحكم موافق للواقع الرتيب في علاقة الإنسان بالعلوم المادية عندما كان يقف فقط على شواطئها، ولم يلج بعد مياهها العميقة. أما وقد أصبح غريقاً في طوفانها، مذروٌ في عواصفها، يجاهد البقاء وينافح عن النفس الهواء، امتزج الإنسان بالمادة، وذابت المادة بالأنفاس. وانكسرت بينهما حواجز ظلت منيعة، وأصبح الإنسان ركام من الذرات، والذرة طيف له إرادات. وأصبحت العلوم المادية مرتكزات للأيديولوجيات؛ رأيناها في الاشتراكية وقيامها على المادية الجدلية، والرأسمالية وقوامها على الحرية والملكية المادية. وتشكلت تصورات الإنسان بأيديولوجيات المناهج المادية، فلا بداية إلا من نقطة مكانية زمانية وما قبلها عدم، ولا بقاء بعد البرودة الكونية، وما بعدها عدم. وما غير المادة في الكون، إلا معدوم في الأكوان، موهوم في الأذهان، لا غاية ولا هدف في عقل إنسان، ولا خلق ولا إبداع في نفس فنان. ولا عقل ولا ذكاء إلا ذرات في حركات والتقاءات. ولا ضرورة لقوانين أو سنن، ولم يكن لها من سبب إلا أنها كانت ثم زالت. وكل ذلك قائم على علم وتجريب ومزاعم أمرها مُريب. وإن قلت: قال الدين، ضحك أصحاب العلم، وقالوا لا دين في العلم ولا علم في الدين. وإن قلت قال الله في الخلق، وقال الله عن السماء، وقال الله عن الأرض، قال أهل الدين، دعها لهم، فربهم أعلم بها من ربنا! ربهم رب العلم، أما ربنا فرب الإنسان! أرادوني إنساناً بلا علم، أو ذو علم ولا إنسان.
ونسألهم: هل الاقتصاد وقوانينه المالية في الربح والخسارة والعرض والطلب، إنسانية أو علمية مادية؟! فإن قالوا: علمية مادية، قلنا قد حكم علائقها القرآن، فقالوا: بل إنسانية! قلنا وكيف تحمكها المعادلات الرياضية، .. سكتوا وأُخذوا، ثم قالوا: لا نعلم!!
ونسألهم: ما الصافات؟ قالوا: الطيور! – وما الذاريات؟ قالوا الرياح! – وما العاديات؟ - قالوا الخيل! – وما وما وما ؟ قالوا مثل ما قال الأولون، لا دليل عندهم إلا معاجم الأقدمين، اشتبهت عليهم الألفاظ فظنوا أن الوصف إسمٌ، والمثل عينٌ، واللفظ صنمٌ، والمعاني قد أغلقت حوانيتها، والدقيق لا يخبز إلا قديدا. ضيقوا الدنيا، بعدما وسعها رب الدنيا والآخرة، وأنزلوا الإصر بعدما رفعه الله، وغربوا الشمس بعد أن أشرقها الله، ورفعوا القرآن بعد أن أنزله الله، وحبسوا النور بعد أن حرره الله! كل ذلك في أوهامهم، وما كان إلا ما أراد الله.
يتابع سيد قطب ويقول: "وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها. كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه! ... إن القرآن كتاب كامل في موضوعه ، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها . . لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها . . والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان. والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه. بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره. كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه. وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط، يتركه القرآن يبحث ويجرب، ويخطىء ويصيب، في مجال العلم والبحث والتجريب. وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح."
نقول: هل إذا تكلم منزل القرآن سبحانه وأقسم بما خلق من مثل .. مواقع النجوم، والشفق، والليل وما وسق، والشمس، والفجر، والخنس الجوار الكنس، والصافات، والذاريات، وما تبصرون ومالا تبصرون ...، ونحن لا ندري ما هي مواقع النجوم، ولا الخنس، ولا .. ولا.. ولا .. على وجه يشفي الغليل، ويصل السبيل .. ثم يأتي الرصد والتنظير، يقرب البعيد، ويفحص القريب، ويعلل ويفسر ويحلل ويقول إن الراجح هنا، والسر هناك، والخبر هنالك هو كيت وكيت وكيت ... فنفهم لما قال الله تعالى ما قال، ولما أقسم بما أقسم. هل في ذلك ما يشين القرآن، ويخدش القسم، ويحرج المؤمنين ... إلا ربما من صدَّق تفسيراً بلا دليل، وحنط المعاني بلا تأويل؟!
وماذا لو أن الإنسان قد وضع الـمُقْسَمات بها في علوم سماها: فلكاً وكيمياء وهندسة وطباً وغير ذلك، أتتغير قيمتها وتنتكس هامتها إذا انتسبت لعلومٍ سمَّاها الإنسان؟! .... وعندها نحذف معانيها التي خُلقت فيها، ونبقي مجازيات القسم، وبلاغة النظم ليكونا العلة والغرض، فنبطل المعنى ونبقي الصورة، ونطمس المضمون ونبقى النظم؟! ألا يدخل هذا في التحريف المبطل للمعنى، والتعطيل، إلا لما فهمه الأقدمون؟!
إن موضوع القرآن الذي هو كامل فيه، لا يقرره متعلم قبل أن يكتمل تعليمه! .. ولأننا نتعلم من القرآن، فلا ينبغي أن نصادر على ما لم نعلم بعد. إن القرآن خالد ونحن فانون، ولا تنتهي عجائبه ونحن ذاهبون، فأنّى لنا نصادر عليه، ونزاحم بأنفسنا صدارته. ومن يتبع من؟ أنحن تابعون له أم القرآن تابع لـمُصادَراتنا. إن جُل ما يفعله المؤمن العالم أن يقول الذي هو أحسن مما قيل واهترأ، في مسألة مسألة، فيزيح هزيلاً، وينبذ سخيفاً، ويعلي صحيحاً، ويقدم رئيساً، ... بأدلة ساطعة، براهينها بارعة، مفاهيمها دانية، لا هي مبتورة ولا مضنونة. أما الإجمال، ثم الاستدلال، بما لا يعضده إلا الظن والخيال، فليس من طبع من أراد رضا الرب، وحسن المآل.
ويستكمل سيد قطب ويقول: "كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحياناً عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه، وطبيعة التناسق بين أجزائه . . لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن، بفروض العقل البشري ونظرياته، ولا حتى بما يسميه « حقائق علمية » مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره. إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة. أما ما يصل إليه البحث الإنساني - أياً كانت الأدوات المتاحة له - فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة، وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها . . فمن الخطأ المنهجي - بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته - أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية. وهي كل ما يصل إليه العلم البشري!"
نقول: لا يجادل مؤمن في أن "الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة"، ولكن يمكن الاقتراب من هذه الحقائق النهائية بحقائق غير نهائية (ولكنها أقرب إلى النهائية مما سواها)، وسنمثل لذلك بنسبة رياضية لا يعلم قيمتها الحقيقية إلا الله سبحانه، وهي لا نهائية على الحقيقة، وكيف أن الإنسان يقترب منها دوماً بما هو أحسن من سابقه، وذلك على النحو التالي:
القيمة الحقيقية النهائية لقيمة نسبة محيط أي دائرة إلى قطرها تعطى من العلاقة الآتية (ط):
[3.14159 26535 89793 23846 26433 ……….. ]
وبلا نهاية من الأرقام العشرية
ولكن الإنسان استطاع الاقتراب من هذه القيمة اللانهائية بقيم نهائية عبر التاريخ[12] كالآتي:
- القرن السادس والعشرين قبل الميلاد    (بناة الهرم الأكبر والأوسط)      ط = (22 /7)
- القرن العشرين قبل الميلاد (بردية رند Rhind المصرية القديمة)         ط = (9/ 16)2
- القرن التاسع عشر قبل الميلاد (البابليين)                               ط = (25 /8)
- القرن التاسع قبل الميلاد (الهند)                                        ط = (339 /108)
- القرن الثامن الميلادي (الخوارزمي)                                      ط = (3.1416)
- القرن السابع عشر الميلادي (إسحاق نيوتن)        ط = (3.14159 26535 89793 2)
- سنة 1949 (D. F. Ferguson  ، John Wrench)      ط = 3 + 1120 رقم عشري
- 17 أكتوبر 2011 (Shigeru Kondo)[13]       ط = 3 + (10,000,000,000,050 رقم عشري)
وعلى ذلك، فليس من الخطأ المنهجي (كما قال سيد قطب).. أن (نقترب من ، ولا نقول نعلق) الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية. فالقيمة الحقيقية النهائية لـ (ط) لا يعلمها إلا الله، ولكننا نقترب منها دوماَ. والأقرب أقرب إلى الحق. فإن قيل: وما علاقة القرآن بهذا المثال، قلنا أننا نثبت هنا صحة المنهج بين الحق المطلق اللا نهائي عند الله سبحانه، وصلاحية الحسابات والتجريبيات والتنظيريات الإنسانية (بعد تحقيقها وتنقيحها) في مدى قربها من هذا الحق اللانهائي.
ويذكرنا هذا المثال الذي أتينا به، بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن من هو أعلم الناس: قال[14]: [أعلم الناس أعلمهم بالحق إذا اختلف الناس] ، والشاهد هنا أن معرفة الحق من أعلم الناس لم تكن إصابة عين الحق، بل أن يكون الأعلم بين الناس بالحق، أي الأقرب إلى الحق. ... وهذا هو ما قصدناه من الاقتراب الدائم من الحق، دون الزعم بالإحاطة الكاملة به أو مطابقته، وهو الأمر الذي لا يستطيعه أحد، وإلا لأصبح علمه بالحق كعلم الله به – سبحان الله وتعالى عن أن يساويه غيره في شيء.
يتابع سيد قطب ويقول: "هذا (أي ما سبق) بالقياس إلى « الحقائق العلمية » . . والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى « علمية ». ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية، وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره، وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه . . وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها . . فهذه كلها ليست « حقائق علمية » حتى بالقياس الإنساني. وإنما هي نظريات وفروض. كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية. إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدراً أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيراً أدق! ومن ثم فهي قابلة دائماً للتغيير والتعديل والنقص والإضافة؛ بل قابلة لأن تنقلب رأساً على عقب، بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة!
نقول: تدخل هذه المنطقة التي يتكلم عنها سيد قطب في النوع الأول والرابع من أنواع المقابلات بين القرآن والعلم التي سبق أن صنفناها أعلى، فليرُجع إليها، وكما قلنا هناك: أنه إذا كان متعلق القرآن من ذلك محكمات، ومتعلق العلم نظريات في عيون الموضوعات، فمُحكم القرآن يمحو النظريات، وإن كان متعلق القرآن متشابهات الدلالة، يتم الترجيح بين تأويلات المتشابهات وترجيحات النظريات، وما تُقَدِّمه الأدلة يتقدم، وما تؤخره يتأخر.
وكما قلنا قبل قليل، أن المسلم مكلف باتباع الأرجح والأقرب إلى الحق الذي قامت عليه الأدلة، وبما يستطيعه الإنسان الجاد، وليس إصابة عين الحق، طالما أنها إصابة بعيدة عن الإمكان، كما قال تعالى  "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"(البقرة: 286). وإذا كانت المسائل مما أصبح من متطلبات التعليم والمعرفة المعاصرة، فقد خرج عن أن يكون من الترف الفكري، وأصبح أهماله أضر من اعتباره، ووجب عندها على أهل المعرفة بالله ودينه والتربية الصحيحة لأبناء المسلمين ألا يتجاهلوا هذه المسائل التي تثير الإشكالات، وأن يعالجوها بما هي أهلٌ لها.
ويتابع سيد قطب ويقول: "وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة - أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا - تحتوي أولاً على خطأ منهجي أساسي. (فندنا ذلك أعلى) كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم . .
الأولى : هي الهزيمة الداخلية (فندناها من قبل) التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع. ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم. أو الاستدلال له من العلم. على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه. والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق، لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة."
نقول: فيما يخص الهيمنة العلمية، نقول: أن النفس تنقاد والعقل يسير طوعاً مع الغالب، وغلبة أهل الباطل بالعلم التجريبي طافحة، والفتنة في العيون بارقة، والمؤمنون مستكينون يستنزلون الملائكة والرحمة من ربهم، يظنون أنها مخازن المستكينين، بل المتمسكنين. فإن دعوتهم للانطلاق من كتاب ربهم، قالوا إنه دينٌ لا علم، فالدين لله وللدنيا علومها، فراحو وأعرضوا. وإن قلت علوم الدنيا إذاً، قالوا إنها غربية لا دينية، فلا عبرة بها، واتباعها ضلال، لأن متبعها يوالي أصحابَها ويَذْكُرهم بالخير لا محالة، وقد نهى القرآن عن اتباعهم. وإن دَعَى فقيهُهم إلى الأخذ بأسباب القوة والعلم الحديث، فليس إلا ذراً للرماد في العيون، فيخرج من العتاب، ويلقى من ولاة الأمر الثواب، وأن الإسلام حضارة ويدعو إلى التقدم والنضارة؛ تمتمة إعلام، وفض مجلس، وعلى الدنيا السلام. فإن عاد إلى خزانة كتبه القديمة، وجدته يعاند ما قال، وتخالفه نفسه خوفاً من الفتنة، ولو كانت النتيجة أن يعض على جذع شجرة!!! .. مأساة معرفية، كأن أصحابها في غير زمانهم يعيشون، حيارى لا يدورن أيان يُنصرون.
وإن قيل عن أصحاب التفسير والإعجاز العلمي أن " العلم (عندهم) هو المهيمن والقرآن تابع "، اُلبست الأمور غير لباسها، واتُّهم المجتهد الغافل بكل نقيصة، تُقْصِيه عن جادة الطريق من أقصر طريق. فما أسوأ الذم في مقام المدح، وما ألذعه على النفس وتحسرها من تهمة هي منها براء. هل إن لبس الحق رداءاً أخضراً أو أحمراً يتغير؟! وهل إن لبست الغفلة عمامة أو عباءة تتجمل؟! – فماذا إن حمل العلمُ حقاً، وطفحت التفاسيرُ حشواً ؟ أنترك الحق ونتبع الحشو، أم تترك الأمة دينها وتجري وراء العلم الغربي بقضه وقديده، وتظل الأزمة طاحنة. ولو قلت: كيف؟! قالوا إن الدين لله ابتهالٌ وصلاة. فإن عُدْت من طلب العلم الواجب، وأديت فرض ربك الواجب، فقد أديت الندائين ولا ملام. فإن قلت هذا في وادٍ وهذا في وادٍ! .. قالوا: لا تُلبِس الدين بالعلم والعلم بالدين. فللعلمُ موضوعٌ غير الذي للدين. فإن قلت: ليس لي قلبين! قالوا: كن سميعَاً مطيعا! .. قلنا حسبنا الله ونعم الوكيل، سندافع عن رأينا ولن نستكين.
يتابع سيد قطب ويقول: "الثانية : سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته. وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناءاً يتفق - بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية - مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي. حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته. نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة!"
نقول: هل نادى التفسير والإعجاز العلمي بـ "استلام المعلومات المادية جاهزة" واعتزال التجريب والرصد والتنقيب؟! – ما رأينا ولا سمعنا ولا فهمنا من أصحابه مثل ذلك! – نعم "إن القرآن حقيقة نهائية مطلقة " ولكن ما فائدة التمتمة بذلك، دون صياغة هذه الحقيقة بلغة هذا الزمان واصطلاحاته، والتي لا يفهم الناس سواها، ثم في تفعيلها في النفوس وميادين العمل على تنوعها؟! – ثم إن هذه الحقيقة النهائية ما زالت تتوالى ولم تنغلق أبوابها؛ فمن يوالي قراءتها - ليتشربها منه الناس عذباً فراتا - وأهل الدين عن ذلك معرضين أو غافلين أو صادين، .. فيحق حقها ويفند زيف المزيفين؟!
ويتابع سيد قطب ويقول: "الثالثة: هي التأويل المستمر - مع التمحل والتكلف - لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تَثْبُت ولا تستقر. وكل يوم يَجِدَّ فيها جديد. وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا."
نقول: أي ضير في تأويل مستمر لمتشابه الدلالة في القرآن والخلق، وأين الأمر بالتدبر ودوام النظر والتفكر! أم أن الاجتهاد حفظ المتون، وتعليق الإجازات الدراسية على الجدران، والنشوة بكل لقب في العلم رنان. إن الحق لا يظهر إلا بمغالبة الباطل، وتعاركهما، وما بقى تشابه وتدبر إلا لدوام الأمر بتصحيح مفاهيم في الدين بالعلم، ومفاهيم في العلم بالدين. وهل إذا انحرف مفسر ومبطل، هل بغير العلم ترده إلى صحيح الدين. أم أن "العلم" قد سُرق أيضاً يوم سرقت علوم المسلمين؟!
يتابع ويقول: "ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات - ومن حقائق - عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن . . كلا! إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان. ولقد قال الله سبحانه: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"(فصلت:53). ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله. وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا. فكيف؟ ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة؟ هنا ينفع المثال:
يقول القرآن الكريم مثلاً: "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا"(الفرقان:2) ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون . . الأرض بهيئتها هذه وببعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه، وبميل محورها هذا، وبتكوين سطحها هذا . . وبآلاف من الخصائص . . هي التي تصلح للحياة وتوائمها. فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة . . هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول: "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا" وتعميقه في تصورنا . . فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه . . وهكذا .."
يقر سيد قطب بما قلناه، ولكنه سيستثني من ذلك نوعاً – سيسرده الآن - يظنه مغايراً، غير أنه هو هو، إلا أن قائلوه جهال، والرد بتجهيلهم أولى من الرد بهدم المعبد على كل من فيه، عقلاء وخُبلاء، أو فُضلاء وخبثاء. فالعقل والفضل لمن حق الحق ولزم والتزم، وغيرهما من آثام لمن شرد ومكر وألبس الباطل حقاً، والعلم جهلا.
يقول: "هذا جائز ومطلوب . . ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علمياً ، هذه الأمثلة الأخرى:
يقول القرآن الكريم: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ"(المؤمنون:12) ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارون تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة، وأن هذه الخلية نشأت في الماء، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان . . فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية، لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن!!
لا. إن هذه النظرية أولاً ليست نهائية. فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائياً. وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر، ما يكاد يُبطلها. وهي مُعَرَّضة غدا للنقض والبطلان .. بينما الحقيقة القرآنية نهائية. وليس من الضروري أن يكون هذا معناها. فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة. وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها وهي أصل النشأة الإنسانية . . وكفى . . ولا زيادة . ."
هناك فرق بين إغلاق مبدأ المواجهة بن تفسير القرآن ومقولات العلم، وبين تخطئة المخطئ وردع المتجاوز. وكم من العلماء في الإسلام وتاريخ العلوم التجريبية الذين أخطأوا وأفحشوا، فلم يكن خطؤهم إلا على أنفسهم، ولم تتعطل مسيرة الركب في علوم الإسلام في قرونه الست الأولى، ولا التجريبيات، ولا الرياضيات، ولا الفلكيات، من جراء التباس فهم الغافلين والعابثين. ولا يكون رد الفعل هنا منع الأصوات عن آذان الناس، بل شجب النشاز، وفضح الغوغاء، وردع الندب والصراخ. وغرضنا من ذلك أن لا يُقطع الطريق على مبدأ البحث العلمي في القرآن لمجرد أن البعض يُخطئ، بل يكفي من الضبط ما يكبح التهور، أما الحجْر فيمنع الفهم مع الزيع، والخير مع الشر. فالقول (كفى .. ولا زيادة ..) هو الحجر عن التدبر، والمنع عن الفهم، وتثبيت مبدأ أنه لن يقال أفضل مما قيل!
ويأتي سيد قطب بمثال آخر ويقول: "يقول القرآن الكريم: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا"(يس:38) فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس وهي أنها تجري . . ويقول العلم: إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلاً في الثانية. ولكنها في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعاً بسرعة 170 ميلاً في الثانية . . ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية. إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان . . أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية - في أن الشمس تجري – وكفى، فلا نعلق هذه بتلك أبداً."
يشارك سيد قطب عملياً إذاً في التفسير العلمي! إنه ينخرط في النقاش العملي، ويقبل ويرفض، وهذا جيد. غير أنه ما زال يعترض الطريق، وأقرب إلى سده من انفراجه على مزيد من التحقيق. فالآية الكريمة لم تقل "والشمس تجري" وسكتت، بل قالت "والشمس تجري لمستقر لها"، فلم تكن الإفادة فقط محض الجريان على نحو ما أراد سيد قطب إنهائها، بل في عدة إفادات: الجريان، وأن الجريان لمستقر، وأن المستقر لها وليس بالضرورة لغيرها معها. هذا إذا لم نقرن هذه العبارة من الآية (يس: 38) مع باقي الآية، ثم مع آيات أخرى تكلمت عن الشمس أو الأجرام في السماء. يتضح إذاً أن الباب منفتح للنقاش في مسائل التفسير العلمي.[15]

ويتبقى السؤال: لماذا أراد سيد قطب إغلاق النقاش سريعاً دون الوصول إلى مزيد من النتائج؟! هل هو التردد؟ هل هي الرهبة من الجرأة على تفسير القرآن على غير ما عهده جمهور المفسرين؟! أم هل لأنه من غير المتخصصين في موضوعات التفسير كالفلك والفيزياء في حالة الشمس ومسائلها؟! – ربما تكون جملة من هذه الأسباب قد اجتمعت عليه. غير أنه يَقبل مبدأ النقاش على أي الأحوال.
ويتابع سيد قطب قائلاً: "ويقول القرآن الكريم: " أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا"(الأنبياء:30) ثم تظهر نظرية تقول: إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها . . فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية. ونقول هذا ما تعنيه الآية القرآنية! - لا . . ليس هذا هو الذي تعنيه! فهذه نظرية ليست نهائية. وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي! أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة. وهي تحدد فقط أن الأرض فصلت عن السماء . . كيف؟ ما هي السماء التي فصلت عنها؟ هذا ما لا تتعرض له الآية . . ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع: إنه المدلول النهائي المطابق للآية!
وفي هذا المثال، يفك سيد قطب الارتباط المزعوم للآية مع نظرية تَشَكُّل المجموعة الشمسية، والذي ذكره مفسرون قدامى، وظنوا أن الأجرام القريبة التي رأوها تدور ظاهرياً حول الأرض؛ أي الشمس والكواكب، أنها هي السموات. وحق له أن يفعل ذلك. حيث أن هذا التفسير القديم شديد الضعف. وقد بدى من لواحق التنظيرات العلمية (كوبرنيكوس)، والرصد الفلكي (تيكو براهيه)، وتحليل البيانات (كبلر)، ووضع المجموعة الشمسية في محيطها القريب والبعيد من الكون (هابل)، أن علاقة الشمس ومحيطها الكوكبي بالآية غير وارد. ومرة أخرى يثبت سيد قطب أن المقابلة قائمة وقابلة للبت فيها، حتى وإن كانت بسلبية العلاقة. ونحن على يقين أن قدرة سيد قطب التحليلية لن تتخاذل أمام الحقائق الموضوعية إذا ما كان هناك أطروحات تفسيرية علمية قوية تتأبى على السلبية وتشق طريقها لإيجابية المقابلة مع آيات في القرآن، وهو الأمر الذي سيتأكد عند نقاشه لآية تكوير الليل والنهار.
ويغلق سيد قطب هذا التجربة التفسيرية بقوله: "وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة، فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها، دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق . . وفرق بين هذا وذاك."
ورغم أن هذا الغرض الذي سعى إليه سيد قطب كان أحادي الاتجاه، أي من العلم الحديث إلى الآية القرآنية، وهو الأمر الذي تحرَّج منه من قبل، بل وهاجمه، عندما قال أن القرآن ليس بحاجة إلى العلم ليثبت، فإذ به يجد للعلم فائدة في توسيع مدلول الآيات. غير أن محاولة سيد قطب تضيف بُعداً أخر، ألا وهو تضعيف أو تجريح تفسيرات علمية قدمها مفسرون آخرون، وهو أمر جيد وفائدته لها قيمتها في صلاحية مبدأ المقابلة بين القرآن والعلم. ولو أن سيد قطب كان له مزيد من الخبرة في المسائل ذات الطابع العلمي الفلكي والتجريبي، لكان له إسهامات في التفسير العلمي. والأمل أن تشجع تحليلاته – التي نُبرزها هنا - آخرين، على مواصلة المحاولات، وإيجابية المواجهات، سواء لفهمنا لآيات القرآن، أو لتقييمنا للقيمة الحقيقة للنظريات العلمية، وخاصة إذا تعارضت مع آيات محكمات الدلالة، وهو ما فصلناه أعلى في العلاقات الأربعة التي اقترحناها بين القرآن والعلم الحديث.
ونتساءل: هل تخطَّى الأمر الانخراط الجزئي لسيد قطب في تجربة التفسير العلمي؟ - الإجابة هي نعم، فقد جاء على لسانه: أنه قُسِر على ذلك!!! ... فما الذي قَسَرَهُ على إعادة النظر في تأييد التفسير/الإعجاز العلمي؟ ... لنستمع له!
يقول سيد قطب[16]: ""يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ""(الزمر:5). . تعبير عجيب يقسر الناظر فيه قسراً على الالتفات إلى ما كُشف حديثاً عن كروية الأرض! ومع أنني في هذه الظلال حريص على ألا أَحْمِل القرآن على النظريات التي يكشفها الإنسان، لأنها نظريات تخطئ وتصيب، وتثبت اليوم وتبطل غداً. والقرآن حق ثابت يحمل آية صدقه في ذاته، ولا يستمدها من موافقة أو مخالفة لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل! .. مع هذا الحرص فإن هذا التعبير يقسرني قسراً على النظر في موضوع كروية الأرض. فهو يصور حقيقة مادية ملحوظة على وجه الأرض. فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس؛ فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهاراً. ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور. وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار. وهذا السطح مكور فالنهار كان عليه مكوراً والليل يتبعه مكوراً كذلك. وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل. وهكذا في حركة دائبة: "يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل" . . واللفظ يرسم الشكل، ويحدد الوضع، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها. وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيراً أدق من أي تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية."
هنا امتلك سيد قطب ناصية الظاهرة الطبيعية لحدِّ كبير، من كون الأرض كرة تدور أمام الشمس، وأن النهار هو نصف سطح الكرة المضيئ، والليل هو النصف المقابل الذي يعس في ظل الأرض، وقد غشاها بظلمته. ثم كيف أن الدوران يجعل من الليل والنهار وشاحان يتكوران ويمسحان وجه الأرض على الدوام. ولما قَبَض سيد قطب على الظاهرة إلى هذا الحد ازدادت جرأته، وتكلم بلسان المفسر العلمي، وأصحاب الإعجاز، يدافع عن التفسير، ولا يبدو أنه يمنع ضمناً أن يكون إعجازاً! ونتساءل: ماذا لو امتلك سيد قطب نواصي غير ذلك من ظواهر طبيعية، واستشف وجود معانيها في القرآن؟ - ونجيب، أننا لا نحسبه عندئذ، إلا أحد المفسرين العلميين الذين هاجمهم، وانتقد مسعاهم! – الأمر إذاً أكثر تفصيلاً وأرحب تأويلاً من محض الزعم بأن سيد قطب هاجم التفسير العلمي والإعجاز العلمي. ويمكن القول أنه تحفظ الأمر واتقى الشبهات وتردد فيما يقبل وما يرفض، وقد قيدته حدود المعارف، ثم أطلقته لما رأى ما لم يكن يراه.
ونضيف هنا أن سيد قطب لم يمنع أن يحتوي القرآن على التاريخ كما فعل "محمد أحمد خلف الله" في كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم"، وسوف نقابله لاحقاً، ولا كما فعل "عبدالوهاب المسيري" في مقالته "التفسيرات الحرفية للقرآن" وغيرها، وهو ما سنراه لاحقاً أيضاً، إلا أن سيد قطب يضع الهدف التاريخي خادماً للهدف الديني، ومن ثم يأتي تبعاً له، أو لنقل: أن الهدف التاريخي من الدرجة الثانوية في الأهمية وليس الأولى، فنجده يقول[17]: "من آثار خضوع القصة في القرآن للغرض الديني أن تعرض بالقدر الذي يكفي لآداء هذا الغرض، ومن الحلقة التي تتفق معه، فمرة تعرض القصة من أولها، ومرة من وسطها، ومرة من آخرها؛ وتارة تعرض كاملة، وتارة يكتفى ببعض حلقاتها، وتارة تتوسط بين هذا وذاك، حسبما تكمن العبرة في هذا الجزء أو ذاك. ذلك أن الهدف التاريخي لم يكن من بين أهداف القرآن الأساسية كالهدف القصصي سواء؛ فسارت القصة وهدفها الأول هو الهدف الديني" وانطلق يشرح الوجوه التي سارت عليها بعض آيات القصص القرآني في ذلك.
غفر الله له، وتقبله مع الشهداء.
المؤلف



[1] سيد قطب ابراهيم الشاذلي (1906-1966)، مُنظّر إسلامي، وكاتب وأديب، وكان عضواً في مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، أنهى دراسته بدار العلوم عام 1933، وفي بداية الأربعينيات عمل مفتشاً للتعليم وزاد شغفه بالأدب العربي، فألف: "كتب وشخصيات"، و"النقد الأدبي - أصوله ومناهجه". ثم تحول إلى الكتابة الإسلامية، فكتب "التصوير الفني في القرآن". سافر إلى الولايات المتحدة سنة 1948 لدراسة التربية وأصول المناهج، عاد سنة 1952 متأثراً بفرح الأمريكان وسرورهم باغتيال حسن البنا، والذي لم يكن له علاقة سابقة به وبحركته! انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وفي حادثة المنشية التي قيل أن جمال عبدالناصر تعرض للاغتيال فيها قبض عليه مع آخرين وسجن عشر سنوات لاقى فيها أشد أنواع التنكيل، وفي سجنه ألف تفسيره الشهير "في ظلال القرآن"، و"معالم في الطريق"، و"المستقبل لهذا الدين". وفي سنة 1964 أفرج عنه بوساطة من الرئيس العراقي عبدالسلام عارف، ثم أعيد القبض عليه سنة 1965 مع آخرين، وأجريت له محاكمة قضت بإعدامه يوم 29 أغسطس 1966.
[3] "في ظلال القرآن"، في تفسير قوله تعالى "وكان عرشه على الماء" (هود:7).
[4] يوسف القرضاوي، "نظرات في التفسير العلمي في القرآن"، ص 29.
[5] ومصدرهم في ذلك ما قاله الحافظ ابن حجر في شرح حديث البخاري:("استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء"): قيل فيه إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر وقيل من ضلعه القصير. أخرجه ابن إسحاق وزاد اليسرى من قبل أن يدخل الجنة وجعل مكانه لحم. (فتح الباري 6/368)، وينظر في ذلك أيضاً تفسير المنار في تفسير قوله تعالى " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا"(الأعراف: 189)، ويوجد نص شبيه في سفر التكوين في التوراة هو: "فأوقع الرب الإله آدم في نوم عميق، ثم تناول ضلعاً من أضلاعه وسد مكانها باللحم، وعمل من هذا الضلع امرأة أحضرها إلى آدم"(2: 21-22).
[6] هو الدكتور أحمد زكي (1894-1975)، حصل على دكتوراة الفلسفة في الكيمياء (1924)، ثم دكتوراة العلوم في الكيمياء (1928)، وعمل رئيساً لمصلحة الكيمياء (1936)، ورئيس تحرير مجلة الهلال (1947-1950،) أسس (معهد فؤاد الأول للبحوث العلمية) الذي تغير اسمه إلى: المركز القومي للبحوث، وتولى رئاسته (1947-1952)، ثم أصبح وزير الشئون الاجتماعية (1952)، ثم رئيس جامعة القاهرة (1953)، إلى أن استقال عام 1954 بعد استبداد العسكر بالسلطة، وفي عام 1958 تولى الإشراف على المجلة الناشئة (مجلة العربي) الكويتية، وكانت بسببه درة المجلات العربية، وكان أول رئيس تحرير لها على مدى 17 عاماً، إلى أن توفي سنة (1975) يرحمه الله. والدكتور أحمد زكي هو الذي قال عنه عباس محمود العقاد: لا أقرأ للدكتور احمد زكي أدبا إلا وأتصوره قد جلس الي مكتبه وبيده قلم‏,‏ وبيده الأخري مسطرة.
 ar.wikipedia.org/wiki/أحمد_زكي_عاكف
[7] فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الفتوى رقم (15255):
[8] تفسير "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي، في معرض تفسير قوله تعالى " إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ..."(الأعراف: 54)
[9] "في ظلال القرآن"، في تفسير قوله تعالى " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ"(البقرة:190).
[10] رواه الترمذي.
[11] رواه الترمذي.
[12] سيتم القفز عبر التاريخ على فترات متباعدة لتقريب الفكرة فقط.
[13]  http://www.numberworld.org/misc_runs/pi-10t/details.html
[14] شعب الإيمان للبيهقي، الشاملة.
[15] ويمكن متابعة هذه مسألة جريان الشمس لمستقرها؛ من تفنيد أخطاء التفسير العلمي فيها، وإلى ترجيح التفسير العلمي الرصين. ويظل الباب منفرجاً على مزيد من التحقيق.
[16] الظلال، سيد قطب، في تفسير قول الله تعالى " يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ"
[17] التصوير الفني في القرآن: ص 162.

الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

الفصل (أ6) - محمد رشيد رضا - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ6) محمد رشيد رضا
بقلم: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الشيخ محمد رشيد رضا [2]،[1]: "زاد الفخر الرازي صارفاً آخر عن القرآن، هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة، على ما كانت عليه في عهده؛ كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها، وقلَّده بعض المعاصرين بإيراد مثل ذلك من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة. فهو يذكر فيما يُسميه "تفسير الآية" فصولا طويلة بمناسبة كلمة كالسماء والأرض من علوم الفلك والنبات والحيوان، تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن."
نقول أنه جاء في تفسير الفخر الرازي رداً على مثل هذا الاستنكار لمنهجه في التفسير؛ حيث قال الرازي[3]: "ربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم، وذلك على خلاف المعتاد! فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها، والتأمل في أحوالها جائزاً لما ملأ الله كتابه منها."
ونقول: إذا أخذنا ظاهر كلام الشيخ رشيد رضا (رحمه الله تعالى) على ظاهره، لوجدناه يتهم سلوك الفخر الرازي بأن ما أتى به يُعد صارفاً عن القرآن، ويصد قارئ القرآن عما أنزل القرآن لأجله! ... ونستعلم: كيف يكون ما كتبه الفخر الرازي من تفسير – وقد ذكر فيه ما ذكر – صارفاً عن القرآن؟! – هل بمعنى أنه منافس للتفسير بالمأثور، أو أنه مُكَمِّل له، يستكمل ما أهمله المفسرون السابقون الذين انحسرت معارفهم عن الوقوف على تمام معاني الآيات الكونية؟! ... ولكن الرازي لم يدّع أنه منافس للتفسيرات الأسبق، فلِمَ يتعرض لمثل هذه الإدانة، وقد برر بنفسه علة هذا المنحى، وقام على ثغرة أُهملت، فرأى أن يستوفيها حقاً بما أوتي من قدرة معرفية بالطبيعيات بأقصى ما يمكن لعالم في عصره أن يحققه؟!
إن الفرق بين الفخر الرازي وغيره من المفسرين لم يكن فقط رغبة شخصية حضرته وغابت عن غيره في التفسير العلمي للقرآن، بل كان الدافع – بعد الهمة وسعة الأفق – في افتراق ثقافة الرازي عن غيره من المفسرين الآخرين. فالرازي كان واسع الاطلاع، مُنَقِّب عن المعارف في أفكار المتقدمين والمتأخرين، موسوعي المعرفة، وهذه الخصال والامتيازات، تجعل مثله إذا قرأ القرآن يستحضر سريعاً المعاني المناظرة من غير القرآن، والتي تحضره بحكم الاشتراك الموضوعي مع ما يتكلم عنه القرآن. وإذا افتقر المفسر إلى سعة المعرفة ضاقت عليه نطاقات التناظر الدلالي بين نصوص آيات القرآن، والتي يطلع عليه جل المفسرين، وما وراءها من معارف تتناول نفس الموضوعات. فيسكت عنها، لا لأنها من غير نهج القرآن، بل لأنه لا يمتلك ناصيتها، ولا يقف على مواطن الدفاع عنها أو ضدها. ولأن الإنسان يؤثر ما يعرف، ويعادي ما يجهل، تَوَزَّع المفسرون بما أملته عليهم ثقافتهم، فكانوا في ديارهم وبيوتهم فيما يألفون من ثقافة، ويشعرون بالغربة فيما لا يألفون من ثقافة، فيستنكرون، ويأنفون، ويسعى منهم من يخشى اتهامه بالتقصير عما حققه غيره، بالهجوم وسحب الثقة، لا عن ضعف الطرف الآخر، بل عن غياب صواب الحكم الجامع للعلاقة بين الثقافتين في أغلب الأحيان.
وقد صرح الشيخ القرضاوي بشعوره بمثل هذه المعاناة المعرفية، عندما قال[4]: "إذا بالغنا في استخدام العلوم يصبح القرآن لا يعرفه إلا علماء الطبيعة وعلماء الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات، وأمثالنا لن يفهموا القرآن وأحيانا ننتهي إلى أن الأمة لم تفهم القرآن، عبر أربعة عشر قرناً، حين يقول بعضهم: إن هذا هو المعنى المقصود بالقرآن!." – ومما لا شك فيه أن الشيخ هنا يقصد الآيات ذات الدلالات الطبيعية والكونية، ولأنها تمثل فقط بعض آيات القرآن، فكلامه مقيد بها ولا يعم كامل آيات القرآن.
فالمسألة – التي شغلت الذين توجَّسوا وارتابوا في أمر الإعجاز العلمي- تتعلق بثقافة المفسر، لا بما ينبغي أن يكون عليه تفسير القرآن كما تنطق آياته. فثقافة المفسر تتحكم به، وتوجهه، وربما تضطره إلى أن يرفض حقاً، لأنه لا يعلم قوة دليله- أو يقبل باطلاً لأنه لا يعلم قوة دليل بطلانه، والسبب أن المفسر واقع تحت تأثير ما يظنه صحيحاً بقيوده المحلية زماناَ ومكاناً. ولا يختص ذلك بخصوم التفسير العلمي، بل يعم كل مفسر، بما فيهم أصحاب التفسير العلمي أنفسهم. فالمسألة تعود لبشرية المفسر، ولعدم إحاطته المعرفية. ومن هنا يستوجب الأمر استحضار قول الله تعالى "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"(الإسراء:36)، وقيمة هذه الآية أنها توقف المتكلم في شأنٍ ما، عند حدود معرفته به، لأن معناها: "لا تتصدى لما لا تعرفه، سواء بالإقرار، من حيث لا تتيقن من الإقرار، أو بالنفي من حيث لا تتيقن من النفي". وما حدث من الشيخ رشيد رضا، غفر الله تعالى له، أنه نفى من حيث لا دليل عنده على النفي. أما الشيخ يوسف القرضاوي، فقد كان أكثر موضوعية! وفائدة كلامه، أنه يعاني من هذه المسألة ويشعر بانحسار أفق علمه الطبيعي أمام ما يستجد، ويخشى في قرارة نفسه أن يكون هناك إشكال، ينعكس سلباً على ماضي الأمة المعرفي. والأمر ليس على هذه الصورة التي آلمته، ولكنه كان موضوعياً صادقاً، لا صاداً ولا متهماً، وإن تضمن كلامه ذلك، بل عالماً محافظاً مع درجة من الانفتاح المعرفي الوسطي المتسم بالتيسير والأريحية.
غير أن الأمر ليس على هذه الحدة الظاهرة في موقف الشيخ رشيد رضا، رغم كلامه الإقصائي لسلوك الرازي في تفسيره. فالمعالجة الدقيقة لسياق كلام رشيد رضا يظهر له موقفاً قريباً أو شبيهاً بموقف أبوحيان الأندلسي! (أنظر الفصل (أ1)) .. ولتوضيح ذلك نستحضر العبارة السابقة مباشرة لما أدرجناه من عبارته التي انتقدناه فيها حتى الآن، يقول الشيخ رشيد رضا، رحمه الله:
[كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كُتب في التفسير يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية ، والهداية السامية، فمنها ما يشغله عن القرآن بمباحث الإعراب وقواعد النحو، ونكت المعاني ومصطلحات البيان، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين، وتخريجات الأصوليين، واستنباطات الفقهاء المقلدين، وتأويلات المتصوفين، وتعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض، وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات، وما مُزجت به من خرافات الإسرائيليات] ... ثم استكمل وقال [وقد زاد الفخر الرازي صارفا آخر ....] وجاء بالعبارة التي انتقدناها.
ومعنى ذلك أن الشيخ رشيد رضا يضع التفسير العلمي بالعلوم الحادثة - في افتراقها عن المقاصد العالية والهداية السامية التي يراها وحدها جديرة بعلم التفسير– في مصاف (مباحث الإعراب وقواعد النحو) و(نكت المعاني ومصطلحات البيان) و(جدل المتكلمين) و(تخريجات الأصوليين) و(استنباطات الفقهاء)، ومعلوم أن هذه العلوم لا يستغنى عنها، مع تفاوت، إلا أنه يضيف إليها ما هو أدنى منها مثل (تأويلات المتصوفين) و (تعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض)، ثم ما هو أشد سوءاً من ذلك من (كثير الروايات) و(خرافات الاسرائيليات).
أي أن اعتراض الشيخ رشيد رضا على التفسير العلمي لآيات القرآن ليس إقصائي، بل تصنيفي. ولهذا فهو أشبه بما سبق عرضه من اعتراض أبو حيان الأندلسي (الفصل أ1). ومن ثم، يزول هذا الاعتراض إذا عولج التفسير والإعجاز العلمي – باعتباره علمٌ خاص من علوم القرآن- مثلما تُعالج هذه الأصناف التي اعترض الشيخ رشيد على إدراجها جميعاً في علم التفسير، ونقصد بها (مباحث الإعراب وقواعد النحو) و(نكت المعاني) ... إلخ.
ومما يزكي مرونة الاعتراض وأنه ليس بالحدة التي ظهرت عليها في أول الفقرات أعلى، إدراجه للعبارة: (سنن في العالم مطردة) في "المقاصد العالية"، ثم قوله اللاحق: [إن أكثر ما ذكر من وسائل فهم القرآن، فنون العربية لا بد منها، واصطلاحات الأصول وقواعده الخاصة بالقرآن؛ ضرورية أيضا، كقواعد النحو والمعاني، وكذلك معرفة الكون وسنن الله تعالى فيه - كل ذلك يعين على فهم القرآن]
فالإشكال إذا في موقف الشيخ رشيد رضا يكمن في رغبته في التمييز بين تفسير القرآن الذي يريد قصره على المقاصد العالية (علم ونور ، وهدى ورحمة ، وموعظة وعبرة ، وخشوع وخشية ، وسنن في العالم مطردة)، وما وراء ذلك مما فيه فائدة فيضعه في جملة علوم مُعِينة على فهم القرآن، مرتبة تقريباً حسب أهميتها، دون أن تكون من صميم علم التفسير، وتشمل فيما تشمل في آخر القائمة "التفسير العلمي لآيات القرآن".
كما يمكننا الآن أن نفهم عباراته التي وصف فيها التفسير العلمي (في تفسير الرازي) وصفاً حاداً وقال فيها أنها (صارفة عن القرآن، ... وتصد قارئها عما أنزل الله)، فيمكننا أن نفهمها على أنه يقصد أن هذه العلوم ليست مقصودة لذاتها، بل لما وراءها من مقاصد عليا. لأننا رأيناه يضمها إلى علومٍ لا يمكن الاستغناء عنها، كالقواعد اللغوية، وتخريجات الأصوليين، واستنباطات الفقهاء.
ومع كل هذه الأعذار، يبدو وكأن الشيخ رشيد رضا يتردد بدرجة ما في قبول التفسير العلمي على نحوٍ صريح، لما يشوب نقده لتفسير الرازي من هجوم، ما استطعنا تفنيده إلا بشيء من الجَهْد. وخاصة أن هجومه شمل تسمية بعض العلوم التي تبين فسادها – كقوله: العلوم الحادثة في الملة على ما كانت عليه في عهده كالهيئة الفلكية اليونانية - والتي  اقترنت بعلوم الفلسفة والمنطق ونسبتهم جميعاً إلى اليونان، وكانت تلك العلوم محل نقد لازع من علماء الإسلام، كالغزالي وابن تيمية، كما هو معلوم. وهو ما نعُدُّه تعريضاً بالإدانة لما ظهر من فساد ظاهر لتلك العلوم، ولخروجها من غير مشكاة الإسلام، ومن ثم، لإدراج الرازي لها في تفسيره بما قد يعكر صفو التفسير الخالص. إلا أن تفسير كل مفسر بثقافة عصره منحى يصعب أن ينجو منه أحد. لهذا كانت التصويبات اللاحقة على السابقة أمر ضروري في تجلية التفاسير الأقدم. هذا، إن خلت التفاسير الأحدث من الجنوح والشرود عن الجادة.

المؤلف
عودة إلى فهرس الكتاب




[1] الشيخ محمد رشيد رضا (1865-1935)، من أصل لبناني وتوفي بمصر. من رواد الإصلاح الإسلامي، تأهل لتدريس العلوم الشرعية والعقلية والعربية، من تلاميذ الشيخ محمد عبده. أسس مجلة المنار على نمط مجلة "العروة الوثقى" التي أسسها الإمام محمد عبده، له مؤلفات عديدة من أهمها "تفسير المنار" الذي استكمل فيه ما بدأه شيخه محمد عبده الذي توقف عند الآية (125) من سورة النساء، وواصل رشيد رضا تفسيره حتى بلغ سورة يوسف وحال وفاته دون إتمام تفسيره.
[2] محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج1، ص8.
[3] تفسير "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي، في معرض تفسير قوله تعالى "إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ..."(الأعراف: 54)
 :[4] القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي
  http://www.qaradawi.net/2010-02-23-09-38-15/4/808.html