الأربعاء، 23 يوليو 2014

الفصل (هـ2) – عادل ضاهر - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (هـ2) عادل ضاهر

بقلم: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
يهدم عادل ضاهر الأساس المعرفي للقرآن بجرة قلم، ويقول[2]،[1]
في غياب أية أدلة عقلية تثبت صدور النص عن الله، فإن اعتقادنا على أساس ما هو وارد في هذا النص بأن الله يأمر بكذا وكذا أو ينهي عن كذا وكذا – ومروراً بأخبار التاريخ والخلق- لا يمكن أن يتخطى كونه مجرد اعتقاد، أي لا يمكن أن يصبح معرفة.
وقد يستدل القارئ من هذا القول أن صاحبه غير مؤمن بالوحي، ولكنه استدلال غير ضروري من كلامه إذا ابتغينا الإنصاف. والحق أن كلامه يؤدي إلى أن الإيمان بالقرآن والإسلام لا يمكن أن يتخطى الإيمان القلبي، أو بحسب قوله: [مجرد اعتقاد]. أي أن كلامه إذا آل إلى حديثه عن نفسه، وغيره من العقلاء – بحسب منهجه الفلسفي – يعني أن المسلم ليس إلا مسلماً اعتقاداً وليس استدلالاً، وأن المسلم لن يختلف بذلك عن البوذي أو الهندوسي الذي يؤمن كل منهما بدينه – رغم حيوده عن الحق- اعتقاداً وليس استدلالاً!!!
ولا نختلف مع من يرى أن هذا التصور - في الإيمان الاعتقادي وليس الاستدلالي - أزمة معرفية أو سقطة حجاجية عند القائلين بها من المتفلسفة، الذين يتكلم باسمهم عادل ضاهر، بل إننا نزيد على ذلك بإدانتها بأشد العبارات الكاشفة لزيفها وتخرصها. ولكننا نرى أن صدور هذا التصور عند "الفلسفة العلمانية" نتيجة طبيعية لمنهجها، نظراً لاعتمادها على "العقل" باعتباره المصدر والمرجع، رغم قصوره المعرفي في أكثر ما يخوض فيه من مسائل، ولكننا نتألم على الخصوص من أن يتبنى هذا التصور مؤمنيين شديدوا القرب من روح الإسلام ولبابه، كالسلفية أو الأشعرية أو غيرهما.
ونود التأكيد على أن الوازع وراء التصور الاعتقادي اللا-إستدلالي مختلف أشد الاختلاف بين  المؤمنيين بالوحي الملتزمين به، والعلمانيين الجانحين عنه. فالمؤمنون يرون في ذلك عصمة للإسلام من زلات العقل، ومن ثم يدرأون عن الإسلام أذى العقل وشطحاته، بظنهم. أما العلمانيون فيُسقطون بنفس التصور حجية الإسلام وصلاحيته للتطبيق، إذْ كيف يُوظَّف ما لا يرتكن في مبناه إلى العقل – بحسب قولهم؟!
والحق عندنا أن كلا الفريقيين على خطأٍ جسيم، وخطرٍ عظيم؛ فالمؤمنون – الأصوليون – النافون لحجية العقل - أو المكبّلون لقدراته - قد جمّدوا الإسلام بهذه الحيطة المفرطة، وأوقفوا صلاحيته حيثما انتهت إليه القرون الأولى، أما العلمانيون المتصيدون لهذه الذريعة المغلوطة فقد أزاحوه عن الصلاحية بحجة غياب العقل في أصوله، وزوال حجيته المعرفية. فكان الفريقان للإسلام ظالمان، أزاح الأول العقل عنه لحفظه منه، وأزاح الآخر العقل عنه لحفظ العقل منه. وما درى الفريقان أنه لا إسلام بلا عقل، ولا عقل بلا إسلام. وأن ذلك في الإسلام كله، أساساً كان أو بناءاً، أصولاً كان أو فروعاً، إحكاماً كان أو اشتباها. ... ولكن العقل هنا ليس مصدراً معرفياً – حسبما ظن كلا الفريقان، .. بل هو محض أداة تحليلية، يعالج المعلومات وينقحها، لكن لا يختلقها، ولا يستنبتها من تلقاء نفسه.
يقول عادل ضاهر[3]
ثمة حُجّة حاسمة في نقض الأصولية الإسلامية، وهي رفض النظرية المعرفية الكامنة فيها. وهذه النظرية مفادها أن الإنسان مؤهل لمعرفة الطريق الصحيح إلى تنظيم شئونه الدنيوية بالإرشاد الديني. ويزعم الأصوليون أن الإسلام، على غير الأديان التوحيدية الأخرى، لا ينشغل فقط بخلاص الإنسان، وإنما ينشغل أيضاً بحياته الدنيوية، وبتنظيمها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً. وهذه حجة لا ضرر فيها إذا نظرنا إليها على أنها حجة تاريخية عن الإسلام، باعتبار أن الإسلام في بداية نشأته كان مضطراً إلى ربط الروحاني بغير الروحاني. ومن هذه الزاوية لا يجوز الاعتراض. لكن ما يجوز الاعتراض عليه هو الزعم بأن الإسلام يتبنى فكرة الدولة الثيوقراطية (الإلهية)
لا بد أن يتعجب القارئ كثيراً من المنطق الفكري لصاحب العبارة السابقة، فالتهم التي يكيلها للأصولية الإسلامية، باعتبارها حركة فكرية، هي في الحقيقة موجهة لأصل الإسلام، أي القرآن. ولا يغيب عن أي قارئ للعربية أن القرآن صريح في القول بأن معرفة الطريق الصحيح إلى تنظيم شئون الإنسان الدنيوية إنما تكون بالإرشاد الديني مع معالجة الواقع بأسبابه التي جعلها الله مفاتيح التسخير. ومَنْ فصل بين الإرشاد الديني وأسباب الواقع وتسخيره، فهو جاهل بأمر الإرشاد الديني على حقيقته، سواء كان أصوليَّ الانتماء أو علمانيَّ الهوية!
ولا يغيب عن قارئ العربية أيضاً أن القرآن صريح في أن الإسلام لا ينشغل فقط بخلاص الإنسان، وإنما ينشغل أيضاً بحياته الدنيوية، وبتنظيمها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، وذلك لأن هذين الأمرين مشتبكان، وليسا منفصلين على نحو ما يتوهم صاحب العبارة أعلى، ومن ظن مثل ظنه؛ فالصلاح الدنيوي المسترشد بالوحي معبر إلى الخلاص الأخروي، مثلما أن الفرار من التبعات الدنيوية التي أوجبها الوحي معبر إلى العقاب الأخروي. وينطبق هذا الفهم أيضاً على الأديان التوحيدية الأخرى في نصوصها الخالصة التي أنزلها الله تعالى، قبل أن تتشوه بفعل أتباعها.
فالنقض إذا ليس مُوَجَّهاً للأصوليين، وإنما للإسلام من وراء حجاب، فلماذا يستحي العلمانيون من بيان صريح مقاصدهم، والتلصص وراء أسماء موهومة، أصوليين أو غيرهم، وما تقطر به أقلامهم وألسنتهم مكشوف للعيان، ولا تخطئه الأبصار إلا الغفل من الصبيان؟!
الظاهر أنهم يضلون – عن عمد- طلابهم وقراءهم وسامعيهم، وخاصة أن أكثر هؤلاء متوسطي الثقافة، وينخدعون بالألقاب الأكاديمية! ولأنهم يخدعونهم، فلا يصرحون بأنهم يعارضون القرآن لسبك المسرحية الهزلية في الخداع، وإلا انفض عنهم حتى هؤلاء الغفل، فرأوا أن يوجهوا نقدهم إلى فئة من الناس؛ الأصوليين، وخاصة أنهم حاملوا لواء القرآن، فيَفُتُّون عضد ناصري القرآن، وغرضهم القرآن ذاته ودعوته.
ثم لننظر في تبرير وهن الاتهام الأخير الكامن في زعمه الفصل بين الخلاص الأخروي والحياة الدنيوية، وذلك عندما قال أن الوصل بينهما في الإسلام كان: حجة لا ضرر فيها إذا نظرنا إليها على أنها حجة تاريخية عن الإسلام، باعتبار أن الإسلام في بداية نشأته كان مضطراً إلى ربط الروحاني بغير الروحاني، يريد من ذلك أن هذا الوصل كان مبرراً تاريخياً فقط لظروف النشأة وتحت الاضطرار. ونتساءل: ما الذي تغير عبر التاريخ وانقشعت معه تلك الضرورة، وعاد الأمر إلى الفصل بعد الوصل، وكأن الفصل هو الأصل، ووجب عودته بعد انحسار الضرورة التاريخية؟!
وأخيراً يقول أن ما سبق من اتهامات يهون مع ما هو أقوى منه، وهذا الأقوى هو ما يجوز الاعتراض عليه بحق، وما ذلك إلا الزعم بأن الإسلام يتبنى فكرة الدولة الثيوقراطية (الإلهية)، ودون الدخول في الفروق بين الدولة الدينية والدولة المدنية، فالمتكلم يقصد: الدولة التي تأتمر بأمر الله وتنتهي بنهيه. وبذلك يسقط القناع، ويستبين العداء الصريح لله تعالى، وعدم التصديق بما أنزل من قرآن، وقد أمر الله تعالى فيه صراحة بما اعترض عليه المتكلم أعلى. فأنَّى تقوم للمتكلم وأمثاله حجة؟!
يقول عادل ضاهر: 
مشكلة الأصوليين تدور على أنهم يريدون تحويل ما هو "تاريخي" إلى ما هو "منطقي" بمعنى أن لديهم اعتقاداً راسخاً هو أن الإسلام يقدم لنا أجوبة عن جميع الأسئلة الهامة الخاصة بالشئون الدنيوية بغض النظر عن الظروف التاريخية. ولهذا فإن موقف الأصوليين من العلمانية هو أنها مرفوضة ليس فقط من الزاوية الدينية، بل أيضاً من الزاوية المعرفية. وفي عبارة أخرى يمكن القول بأن موقفهم يدور على أن "معرفة" كيفية تنظيم الشئون الدنيوية مشتقة من "المعرفة الدينية". وإذا أطلقنا على المعرفة أنها "معرفة عملية" فمعنى ذلك أن أساس معرفة الإنسان العملية يكمن في المعرفة الدينية.
نتساءل: أين تكمن في الإسلام الإفادة بأن المعرفة الدينية منفصلة عن الواقع والمصلحة فيه؟ - لن يجد الباحث عن إجابة هذا السؤال إلا ما ينفيه. وعندها سيعلم إن تمسح العلمانيين بالواقع لا يستقيم إلا بفصله عن الدين، لأن الغرض ليس نصرة الواقع، بل معاداة الدين ذاته. لذلك وجب فصل عدو العلمانيين الذي هو الدين، عن المعلوم صدقه بالضرورة الذي هو الواقع. ولا ينكر أحد أن معرفة الواقع لا تستقيم الحياة بدونه، فأصبح تمييزه عن الدين واجب وإلا ما استقام المنطق العلماني ببخس الدين من علو القيمة. وهذا السلوك متكرر لدى المكذبين بالدين، فقال الله تعالى في مثله "فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ"(الأنعام:33).
أما عن فحوى كلام المتكلم، فننكر على صاحبه استنكاره أن الإسلام يقدم لنا أجوبة عن جميع الأسئلة الهامة الخاصة بالشئون الدنيوية بغض النظر عن الظروف التاريخية، ولكن مع تصحيح العبارة بأن الإسلام يستصحب معرفة الواقع مكاناً وزماناً، والمعرفة الزمنية تعني التاريخية، ولأن الزمن يتغير، فالإسقاط التاريخي يستلزم إسقاطات مختلفة للإسلام مع التاريخ، ولا يعني ذلك تبديل المحكم من الآيات وما يتبعها من أحكام، بل يعني رحابة الأحكام لتستوعب جديد الأحداث، بأدوات القياس الفقهي.
أما الزعم بأن موقف الأصوليين من العلمانية هو أنها مرفوضة ليس فقط من الزاوية الدينية، بل أيضاً من الزاوية المعرفية، ففيه من التلبيس ما لا يخفى على كل متفحص عليم. وبيان ذلك أن العلم الحديث، الذي هو مطية العلمانية، فيه الحق والباطل. فإن رفض الإسلام باطله، فكيف يزعم زاعم أن ذلك من رفض العلمانية من الزاوية المعرفية. وكيف لا يرفض الإسلام القائم على الإقرار بوجود الخالق العليم القدير، أي زعم بـ "علم" ينفي عن الله تعالى وجوده ووحدانيته، الذي هو عصب الإسلام ولبابه. ومن شاء أن يعلم فحوى العلمانية، فسوف يقرأها سريعاً في إنكارها لوجود الله تعالى على نحو يتصاعد من التضمين – بنفي دواعي وجوده – إلى التصريح العلني التهكمي، ونأتي بمثال واحد فقط من سيل هذه التصريحات، فهذا ولفجانج باولي Wolfgang Pauli الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1945، يقول عن روح العلم الحديث: [لا إله وديراك رسوله][4] وذلك تهكماً على الشهادة في الإسلام [لا إله إلا الله، محمد رسول الله]. أما عن الحق في العلم، فهذا ما يؤيده القرآن نصاً – وهذا هو التفسير والإعجاز العلمي- أو إقراراً بتصديق الواقع وحثاً للنظر فيه والتفاعل معه – وهذا هو روح البحث العلمي التي بعثها القرآن في المسلمين ومَنْ وراءهم، فعمت هذه الروح الأرض على نحو ما نرى من ثمراتها حولنا اليوم من كشوف علمية وابتكارات تكنولوجية.
ويستكمل عادل ضاهر ويقول:
وهنا نثير ثلاثة أسئلة:
أولاً: ما هي العناصر الأساسية للمعرفة العملية؟
ثانياً: ما معنى المعرفة الدينية؟
ثالثاً: هل أي عنصر من عناصر المعرفة العملية له أساس في المعرفة الدينية؟"
وعن السؤال الأول أجاب ضاهر بـ: "أن المعرفة العملية تعني معرفة الغايات والوسائل. مثال ذلك، إذا أردنا تنظيم مجتمع (ما) تنظيماً رأسمالياً أو اشتراكيا علينا تحديد الغاية من هذا التنظيم، وتحديد الوسائل التي تحقق هذه الغاية. معرفة الغاية معيارية، وفي نهاية المطاف أخلاقية، لأن المطلوب معرفته هو أي الأمور خيرة في ذاتها، أو ذات أهمية اجتماعية أو تجُبّ غيرها. أما معرفة الوسائل فهي معرفة علمية أو بالأدق، معرفة علمية تطبيقية. بيد أن معرفة الغاية تفترض معرفة علمية نظرية. وهكذا يمكن القول بأن المعرفة العلمية النظرية متضمنة في المعرفة العملية، وهذه المعرفة قد تكون معرفة سوسيولوجية إذا كانت مرتبطة بالمجتمع، وقد تكون فيزيقية إذا كانت مرتبطة بالبيئة الفيزيقية، وهكذا تتضمن المعرفة العملية معرفة علمية ذات طابع اجتماعي أو فيزيقي بالإضافة إلى المعياري والأخلاقي.
نقول: يُعد تنظيم شيء ما في أي النواحي النظرية أو العملية مثل تخطيط مدينة على مخطط أكبر منها لإقليم من الدولة ثم الدولة جميعها ومن ورائها المجتمع الدولي. بمعنى أن منافذ المدينة لا بد وأن تصب وتعب من محيطها من الطرق، فتتسق خارطتها وجوداً وانتظاماً مع خارطة الإقليم والدولة. ولو لم يتم ذلك لانعزلت المدينة مكاناً وحياةً. وكذا حياة الإنسان والمجتمعات، لا بد أن تتسق أنظمتهما مع مخطط الحياة الأشمل زماناً ومكاناً، والذي لم يعلم به إلا الله سبحانه، فأخبرنا به، وهداناُ إلى سبله. فما لنا إلا أن ننسق مخطط مدينتا وحيِّنا وشارعنا وبيتنا وفي خلفية كل ذلك ذلك المخطط الأكبر، وعلاماته الإرشادية التي وضعها الله على طرقه جميعاً. فمن عاب علينا ذلك، كان كمن عاب على الملك أن يأمر رعاياه أن يتبعوا نظام ملكه، وعاب على رعاياه اتباعه حسب إرشادات نظامه، وهو يأمل منهم أن يخالفوا ملكهم ويتمردوا عليه. فتباً لهؤلاء العائبين، يقبلون لملوكهم وأنظمتهم ما لا يقبلونه لله العزيز الحكيم؟! ويسعدون أن يكونوا لدولهم مواطنين، وأن لا يكون الخلق بربهم مؤمنين، وله طائعين، وفي ملكوته مواطنين ربيين.
ثم إن الملك الحكيم أمرهم أن يعملوا ولم يسخر لهم ملائكة تعمل نيابة عنهم، ويتفحصوا بيئات أعمالهم، ووعدهم بالإحسان في العمل إحساناً وبالإساءة سوءاً. وكما وضع لطريقهم الإرشادات، وضع لأعمالهم الضوابط وسبل الإتقان وآيات الوصول لكل مأمول، اجتماعياً وفيزيائياً وأخلاقياً، وأمرهم أن يختاروا الأصلح والأهدى والأقوم، وليس بمعايير مختلقة مبتدعة، ولكن بمعاييره هو، لماذا؟ لأنه أعلم وأخبر وأصدق وأحرص منهم على أنفسهم. ومع كل ذلك يتأبّون عليه سبحانه وعلى نظامه، لا يريدون إلا الجنوح والتفلت والعربدة.
ومن تَفَلُّتهم أن يميزوا بين معرفة دينية ومعارف أخرى غير دينية، ويقصرون الدينية على معرفة الله وعبادته، ويقصدون من ذلك الطقوس العبادية والعقائدية الغيبية. ويجعلون كل ما وراء ذلك من تصورات وأسباب حياة من غير المعرفة الدينية - سواء كانت أسماؤها معرفة عملية أو علمية أو نظرية - ولو تتبعوا عواقب ذلك لوجدوا أنهم يشطرون القرآن بين الآخرة والدنيا، وكأن آيات الدنيا وأمر الله فيها ليست من الدين، وكأن تصورات المؤمن بالقرآن - عن الدنيا والخلق والحق والباطل - يجب ألاّ تُستقى من القرآن، وكأن أفعال المؤمن وسلوكه في الدنيا يجب ألا تستهدي بالقرآن. وكأن ما في القرآن من ذلك زائد عن حاجة الناس، وأن لهم أن يأخذوا منه بحسب أهوائهم، وأن يدعوا ما لا يروق لهم !! .. أي إيمان بقى وأي إسلام هذا ؟! .. والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم " وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ"(المائدة:49-50)
 وفي سعي عادل ضاهر لإثبات تناقض القول بأن أساس المعرفة العملية هي المعرفة الدينية، يبني حجته على النحو التالي:
يضع مقدمة خلاصتها أن المعرفة الدينية ضرورية، أي حتمية، ويقول في إثبات ذلك:
الموضوع النهائي للمعرفة الدينية هو الله، وهو سرمدي وضابط الكل وخير وحر ومصدر الإلزام الأخلاقي. .. (و) تتجاوز المعرفة الدينية إلى معرفة صفات الله وأفعاله ومقاصده، لأن هذه جميعاً تفيض من ماهية الله، ذلك أنها هي التي تحدد صفاته وأفعاله ومقاصده. ... (أي) أن ماهية الله، وليس ثمة ما بعدها، هي التي تحدد صفاته وأفعاله ومقاصده. فإن قلنا عن هذه أنها ضرورية فإننا نعني أنه ليس من المنطقي ألا يكون الله حائزاً لها. وهذا هو الوضع المنطقي للقضايا الدينية.
نقول: لا نقبل هذا الكلام. فليس على الله – سبحانه وتقدس وتعالى وتجلى – أي ضرورة. فله المشيئة جميعا، ولا القدرة جميعا، وبيده الخير جميعا، وليس هناك من ضرورة تلزمه، ولا تفيض عنه سبحانه فيضاً منطقياً بزعم متفلسفة الماضي والحاضر. فالقضايا الدينية، هي التي ترتبط بكلامه، أمراً ونهياً وهدياً وترعى محارمه، وترتهب من نذره، وتطمح لبشارته. فالله سبحانه باق عليم سميع بصير، فمن جعل وجوده ضرورة منطقية قبلية فقد هذى بما لا يعلم، ومن جعل صفاته وأفعاله ومقاصده يحددها شيء غير مشيئته وإرادته فقد ابتدع ديناً واختلق لنفسه في وهمه إلها غير الله سبحانه، ومن جعل خلقه فيضاً اضطرارياً فقد لغي بما لم يفقه، ومن جعل مسائل دينه منطقية ضرورية، فقد جهل بجهله، وتخرص بخرصه. فنحن لا نعلم عن الله إلا ما يخبرنا به الله، ومن شرد عن ذلك، فقد شرد عن الطريق، ومن كان هذا حاله فهو هالك لا محالة، على طرق الدنيا بمقاييسهم الدنيوية حتى قبل طريق الآخرة بمقاييس رب البرية.
وبناءاً على هذه المقدمة، وما تحمله من اختزال وتلبيس، يستكمل ضاهر حجته ويقول:
من زاوية هذا الوضع المنطقي، يبين (يتبين) لنا أن المعرفة العملية لن تجد أساسها النهائي في المعرفة الدينية. وسبب ذلك أن قضايا المعرفة العملية ليس لها نفس الوضع المنطقي الذي هو للقضايا الدينية، إذ هي تبدو أنها ممكنة وليست ضرورية. ولهذا، ليس في الإمكان تأسيسها معرفياً إلا في قضايا من طبيعتها، أي من العبث استنتاجها من قضايا دينية، لأن هذه (القضايا الدينية) ضرورية، والضرورة خاصية موروثة منطقياً. والموروث منطقياً معناه أن نوع الخاصية الوارد في المقدمات لا بد أن ينتقل إلى النتيجة إذا كان الاستدلال صحيحاً، لأن الاستدلال الصحيح يمتنع معه منطقياً أن تكون المقدمات صادقة والنتيجة كاذبة.
نقول: اختزل المتكلم هنا القضايا الدينية في معرفة الله سبحانه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً. وجعلها معرفة ضرورية ضرورة وجودية. وما على هذا شرع لنا ربنا الإيمان به وبدينه. فالمسلم لا يعلم ربه – ابتداءا - إلا بشهادة خلقه عليه إرشاداً، ثم برسالته المنزلة علماً وتفصيلاً. وآيات معرفة الله تعالى في كتابه عقيدة محكمة، وآياتها بينة ظاهرة، وهي راية الدين وجبهته، ومن وراء ذلك للدين أسطول، وللسحاب هطول، وللرياح نسيم، وللمياه خرير. فمن أنكر منها شيء عالماً عامداً قاصداً فهو مبتدع، ينكر الماء المنهمر من السماء مع رؤيته السحاب الكثيف اللفيف الهاطل منه الماء، ويقول أن الماء محتمل والسحاب ضرورة، والنسيم محتمل والرياح ضرورة، وري الظمأ محتمل والماء ضرورة. وما علم أن كتاب الله تعالى هو كتاب القضايا الدينية، وفيه المشتبه، فهل أصبح العلم بدلالة المشتبهة التي هي مجهولة عن قوم من المسلمين ضرورة. فهي إذاً ضرورة محال تحققها! أم أن ذلك يقتضي أنها ليست من الدين؟! فكيف لا تكون من الدين وهي آيات في كتاب الله تعالى؟! .. إشكالات متراكمات، وخبالات متعاظمات، وفلسفات متخرِّصات.
فدين الله تعالى فيه الضرورة في مُحْكَمِه، وفيه الاحتمال في دلالة متشابهه، ومع الزمان تتكشف الآيات، وتنتقل احتمالاته إلى يقينيات، وممكنات المعنى فيه إلى ضرورات.
ونسأل: ألا تتوزع القضايا العلمية في الفيزياء والاجتماعيات والإنسانيات على مقياس اليقين والاحتمال كما تتوزع القضايا الدينية، فما الفرق بينهما إذاً؟ لا فرق نراه إلا إذا أراد غيرنا رؤيته كما يريهم إياه هواهم والوهم والخيال، ويخطُّون لأنفسهم أديان، ما أنزل الله تعالى بها من سلطان.
فالقضايا العلمية قضايا دينية بهذا المعنى، والقضايا الدينية قضايا علمية بإفادتها للعلم الرصين، رضى من رضى وأبى من أبى. فلا هي تثبت برضى، ولاتنتفي بإباء. فالحق حق وإن تعامى عنه المبصرون، والله تعالى يقول في أمثالهم " وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ "(الأعراف:198)
وبعد هذه النتيجة المنطقية الفاسدة، يتساءل عادل ضاهر ويقول:
ما هو الوضع المنطقي لقضايا المعرفة العملية؟
- إذا بدأنا بالقضايا العملية فإن إمكان تكذيبها وارد بمعنى أننا إذا كنا في وضع يسمح لنا بأن نعرف أنها صادقة، فليس معنى ذلك أن ليس ثمة ظروفاً من الممكن معرفتها تسمح لنا بالقول بأن هذه القضايا كاذبة. ونخلص من ذلك إلى نتيجتين: الأولى أن القضية العلمية من الممكن أن تكون كاذبة، والثانية أنه إذا كانت كاذبة ففي إمكاننا معرفة ذلك.
نقول: إن إمكان التصديق والتكذيب في القضايا تحت الدراسة يعود لبشرية المفكر، لا لذات موضوعات الدراسة. فالعلم بالموضوع معرفة علمية يحتمل الصدق والكذب اعتماداً على الإحاطة البشرية من عدمها. ويمكن التحقق من كذب العلم بالقضية باستكمال الإحاطة، والتي يتبين منها كذب سابق العلم قبل الإحاطة. كما أنه يمكن التحقق من صدق المعرفة العلمية بالقضية بمزيد من المعرفة بها، فيتأكد صدق العلم السابق قبل التحقق.
وما يقال عن التحقق من صدق أو كذب القضية العلمية، يقال على التحقق من صدق أو كذب القضية الدينية. فالقضايا الصادقة – تحقيقاً - هي أمارات النبوة، وتطابقات الآيات القرآنية والسنن النبوية مع الوقائع المادية. وبهذا الصدق آمن المؤمنون وقامت الحجة على البشر جميعاً. وآمنوا من ثَمَّ بكامل الآيات، الشاهد منها والغائب. ومن بين ما آمنوا به من الشاهد ما كان بيناً فكان تصنيفه من المحكم، وما لم يكن بيناً فكان تصنيفه من المتشابه. وهذا الأخير كان فيه الاجتهاد والتدبر والسعي والنظر. وكان في تفسيره وتأويله الصدق والكذب. وبمزيد من المعرفة في موضوعاته يتأكد الصادق منه، فيكون إعجازاً، ويتزيف الكاذب من آراء الناس فيه، فيتطلب إعادة التفسير والتحقيق. فتكون المعرفة المضافة في هذه الموضوعات من المعرفة الدينية القابلة للتحقيق صدقاً أو كذباً من جهتها البشرية. ويظل العلم في ذات الآيات المنزلة صادق مطابق لما أخبرت عنه، عَلِمَه الناس من فورهم أو تأجّل إلى حين، مثلما يظل العلم في ذات الموضوعات الطبيعية والاجتماعية صادق مطابق لأحوالها التي عليها خلقت وتقدّرت، أو تأجل إلى حين.
ويستكمل عادل ضاهر ويقول:
وحتى من الوجهة الإلهية فإن إمكان كذب القضية العلمية ليس موضع شك. فإذا كانت القضية العلمية قضية سببية، فالقول بأنها ضرورية يحد من قدرة الله. فالله من حيث هو ضابط الكل بالضرورة، فالكل معلق بإرادته. ولكن هذا القول ليس كافياً، ذلك أنه إذا كانت المعلومات تفيض بالضرورة من طبيعة عللها، فإن الموجود الذي يخلق نسقاً من العلل لن يسمح لآخر بما فيه ذاته هو من تعليق هذا النسق.
نقول: القول بأن سببية القضية العلمية يحد من قدرة الله تعالى، لا يقل سوءاً عن القول - ولله تعالى الـمَثل الأعلى- بأن قيام برنامج حاسوبي على مبدأ المنطقية الـمُبرمجة لمستخدميه - من حيث قيود الاستخدام - يحد من قدرة الشركة التي أنتجته. ومثلما أن هذا القول الأخير فاسد ويعبر عن عدم فهم قائله للعلاقة بين الـمُبرمِج وصلاحياته الواسعة، والمستخدم للبرنامج وأنها مقيدة أو ممنوعة باختيارات الـمُبرمِج، فكذلك القول الأول فاسد، بل أشد فساداً لأن الله سبحانه لا حد لـقدرته ومشيئته (سبحانه). وبناءاً على ذلك يكون القول بأن [الموجود الذي يخلق نسقاً من العلل لن يسمح لذاته هو من تعليق هذا النسق] قولاً ساقطا. ومصداق ذلك قول الله تعالى " مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(البقرة:106)، وقوله تعالى " وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا "(الإسراء:86-87)، وقوله تعالى " أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا .."(الفرقان:45)، وقوله تعالى " إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا "(النساء:133) .. ومن الواضح أن خلاف الحاصل كان جائز الحدوث لو شاء الله ذلك (لاحظ ما تحته خط)، مما يقطع بنفي الضرورة التي يزعمها عادل ضاهر على الله تعالى، سبحانه هو العليم الحكيم القدير، لا راد لحكمه، وله الأمر من قبل ومن بعد.
أما قول عادل ضاهر بأن [المعلومات تفيض بالضرورة من طبيعة عللها] فقول يجعل من ضرورة العلل قدس أعلى من موجدها إذا لم يكن باستطاعته كسر هذه الضرورة لو شاء ذلك، تعالى الله عن قوله علواً كبيرا.
ويقول عادل ضاهر:
إذا اتفقنا على أن القضايا العلمية والمعيارية احتمالية وليس ضرورية، فمن التناقض القول بأن هذه القضايا مشتقة من القضايا الإلهية، من حيث أن هذه القضايا ضرورية، والضرورة وراثية. وإذا كانت المعرفة العملية مردودة إلى المعرفة المعيارية والمعرفة العلمية، فمن التناقض القول بأن أساس المعرفة العملية هي المعرفة الدينية.
نقول: تُعد تسمية القضايا الدينية بالقضايا الإلهية اختزال مضلل، ومثله مثل من يختزل المادة في الجامد منها فقط، أو يختزل الجوامد في الحديد منها فقط، فيُسقط حكم المختَزل إليه (الحديد) على كل (جامد)، أو يسقط حكم (الجوامد) على كل (مادة). ومن هنا نشأ التناقض الذي ادعى المتكلم أعلى وجوده. ومن هنا أقام حجة استبعاد المختزل إليه (الحديد) على متغيرات نطاق الاختزال (الجوامد)، أو مبتغاه الأساسي من ذلك وهو استبعاد (المعرفة الدينية) كأساس لـ (المعرفة العملية). وهذه الحجة مصادرة تلفيقية، لأن القضايا الدينية لا تُختزل فقط في القضايا اللإلهية، أي معرفة الله تعالى وصفاته، ومن ثم فالحجة فاسدة.
يقول عادل ضاهر:
ثمة حجة أخرى نعتبرها قاتلة للأصولية. وهذه الحجة تستند إلى مسلمة هي أن مفهوم الله هو مفهوم معياري، ذلك أن الله في الإسلام هو بالضرورة الموجود الوحيد الذي يستحق العبادة. موجود كهذا من الضروري أن يتصف بالكمال الخلقي بالإضافة إلى الصفات الأخرى. ولكن يلزم من ذلك أنه ليس في إمكاننا معرفة أن الله موجود إلا إذا كان في مقدورنا تحديد المعايير الصحيحة للتمييز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، وتحديد عما إذا كان شخص ما حاصلاً على هذه المعايير بحكم ماهيته ومقاصده وأفعاله. وهذا يدل على أن الأخلاق سابقة على الدين من الوجهة الدينية وإن لم تكن كذلك تاريخياً. وإذا كان ذلك كذلك، وإذا كنا قد وفقنا في بيان أن المعرفة العلمية مستقلة عن المعرفة الدينية فإن المعرفة العلمية ليس لها أي أساس في المعرفة الدينية.
نقول: القول بـأنه ليس في إمكاننا معرفة أن الله موجود إلا إذا كان في مقدورنا تحديد المعايير الصحيحة للتمييز بين الخير والشر، والصواب والخطأ .. أي القول بأن معرفتنا بالأخلاق معيارية وسابقة على معرفتنا بالله تعالى المتصف بكل خير بناءاً على هذه المعايير... كل هذا ضرب في عماية واستدلال فاسد. وقد حكم القرآن على معايير الإنسان – في غير هدى من الله- بأنها باطلة في أغلب الأحيان لسببين: الظن والهوى كما قال سبحانه "إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ"(النجم:23). فالظن هو الحكم بالقطع رغم احتماله كما قال تعالى " إنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ "(الأنعام:116)، والهوى يمنع معرفة الخير من الشر، كما قال تعالى "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ"(البقرة:216).
إذا كان ذلك كذلك، فمعايير الإنسان الأخلاقية لا يمكن أن تكون دليله على معرفة الله تعالى، لأنها مشوشة، ولو لم تكن كذلك لكان أغلب الناس قد عرفوا الله ووحدوه من تلقاء أنفسهم، ولم يستدع الأمر إرسال الرسل إليهم. فالدليل على وجود خالق هو دليل الخلق والإبداع. ثم يُمحص العلم بالخالق بهديه المباشر بالرسالات والأنبياء. ومن تبعات هذا الهَدْي كان تمام معرفة الخير والشر، ومعايير الخالق المنزلة في ما هو الخير وكيفية تحصيله، وما هو الشر وكيفية اجتنابه.
والحقيقة أن المتكلم أعلى كان له غرض من إثبات أن الأخلاق سابقة على الدين، وهذا الإثبات – الفاسد كما بيّنا – غرضه أن يقول أن المعرفة الدينية التي هي تابعة للأخلاق – لا يمكن أن تكون أساس للمعرفة العلمية، وإلا كانت سابقة على كل معرفة ومنها الاخلاق. فإن كانت لاحقة للأخلاق كما زعم وحاول الاستدلال، فما الضمان على سبقها الضروري للمعرفة العلمية. وإن لم تكن ضرورة في ذلك، فلا أساس للقول بها. وكان هذا هو بيت القصيد من حجج تهافت فضلَّت، ومكرت فما استقرت.
ونلاحظ أن عادل ضاهر قد جعل الأخلاق مُقيدة لمشيئة وطلاقة قدرة الخالق سبحانه، وأنها سابقة على القدرة والمشيئة، وهو نفس ما ذهب إليه أعلى من جعله الضرورة المنطقية سابقة ومقيدة لإرادة الله تعالى وفعله. سبحان الله وتقدست أسماؤه عن تلك السقطات المروعة، وحقاً قال سبحانه " وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ "(الزمر"67)
وإذا تساءلنا: ما الذي حدى بعادل ضاهر أن يزعم مزاعم تناقض أقرب الآيات معاني عن الله تعالى، ولا يحيد عن دلالتها إلا الجاهل بالعربية؟! ... والإجابة يسيرة، وهي أنه لا يعتمد القرآن مصدراً لأي معرفة، حتى ولو كانت "دينية"؛ ولو في تعربفه الضيق جداً لها وقصره إياها على معرفة الله تعالى وصفاته، .. بل إنه عاب على الناقدين لما عُلم من الدين بالضرورة – أمثال محمد أحمد خلف الله، ومصطفى عبدالرازق- تسويغهم لكلامهم في أنهم يستشهدون بالقرآن في حججهم التي كانوا يزعمونها، ومن ذلك نقرأ له قوله[5]:
الخلاف بين المؤيدين لفكرة أن الإسلام دين ودولة والمعارضين لها يكاد ينحصر في كونه خلافاً حول ما إذا كانت هناك نصوص دينية، في القرآن والسنة، تؤيد الفصل بين الدين والدولة في الإسلام أو لا تؤيد هذا الفصل. فإذا أخذنا مثلاً علي عبدالرازق، وهو واحد من أهم المعارضين للجمع بين الإسلام والدولة، فإننا نجد أن إصراره على القضاء ووسائل الحكم ومراكز الدولة ما هي "سوى خطط سياسية صرفةـ لا شأن للدين بها ..." إنما يقوم على أن الدين – أي النص الديني في هذه الحالة – "لم يعرفها ولم ينكرها ولا أقر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم وقواعد السياسة". ويرى محمد أحمد خلق الله أن مقولة أن الإسلام دين ودولة هي مقولة تنطبق على ما أٍسماه "الإسلام الحضاري" وليس "الإسلام الديني"، فهو يقول: ".. إن الصيغة الحكومة الإسلامية، يقصد منها الإسلام الحضاري، وليس الإسلام الديني، بمعنى أن الالتزام هنا إلتزام أدبي يقوم لحساب المصلحة التي يقدرها العقل البشري، وليس بالإلتزام الديني الذي يوجبه وجود نص ديني من عند الله ...". إن المسألة التي لها أهميتها، إذن ، بالنسبة لعلي عبدالرازق ولمحمد أحمد خلف الله، هي ما إذا كانت هناك نصوص دينية تقر أو تلزم بربط الإسلام بالسياسة، وقد اعتقدوا بعدم وجود نصوص كهذه.
....
ليس مهماً لأغراضنا هنا ما هي النصوص الدينية التي يلجأ إليها هذا الفريق أو ذاك من الفريقين المتنازعين – يقصد المعارضين أو المؤيدين لربط الدين بالسياسة – وما إذا كانت قطعية أم لا، وما هو التأويل الصحيح لها، إن كانت تحتاج لتأويل. إن المسألة الأهم في نظرنا، هي ما إذا كانت العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام، حتى وإن افترضنا وجود نص ديني قطعي من القرآن أو السنة يؤيد الاعتقاد بوجودها، هي أكثر من علاقة تاريخية أو موضوعية أو يمكن أن تكون أكثر من علاقة تاريخية أو موضوعية. إن المسألة الأخيرة لا يمكن الحسم فيها إلا عن طريق معالجتنا الفلسفية لقضايا ذات طابع إبستمولوجي ومنطقي-مفهومي. إننا بحاجة إلى أن نلجأ إلى اعتبارات منطقية مفهومية لنتبين ما إذا كان بالإمكان الربط على نحو ضروري بين الإسلام والدولة. فإن كان ثمة شيء في طبيعة الدين أو طبيعة القيم أو طبيعة الألوهية يتنافى أو لا يتنافى مع الاعتقاد بوجود رباط ضروري بين الإسلام والسياسة، فإن هذا يمكن اكتشافه عن طريق تحليلنا للطبيعة المنطقية للدين، أو للقيم، أو للألوهية، وليس عن طريق اللجوء لنص ديني أو آخر. من هنا تأتي الحاجة إلى اللجوء إلى اعتبارات من النوع المنطقي المفهومي، وتصبح مسألة اللجوء إلى نصوص دينية مسألة هامشية.
فإذا كان هذا موقف عادل ضاهر من النصوص الدينية وممن ذكرهم ويستشهدون بآيات القرآن، رغم تشويشهم لمعانيه بما يحقق أهواءهم أو ظنونهم، فكيف يستشهد هو بها؟! .. بل كيف يقرأها حتى في محاولة فهم التصورات الصحيحة لمراد الله تعالى في كتابه؟! .. وهذا ما جعله ينكص عنها، ويتركها عامداً متعمدا!!!.. والنتيجة أنه يتصور الدين بحسب رؤيته وهواه، وبلا أي مرجعية للإسلام في كيانه الخالص؛ القرآني والحديثي، ويرجع فقط إلى ما سمّاه التحليل المنطقي المفهومي، فيجعل من الضرورة الدينية والأخلاقية قيود على الخالق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا، ضارباً عرض الحائط بنصوص القرآن ... وكأنه يتكلم عن دين غير دين الإسلام؛ دين يؤلفه من عند نفسه. ... فكيف يقيم حجة على دين الإسلام ومعانيه إذا أسقط نصوصه الدينية من الاعتبار؟! ... ثم يحاكم الإسلام - باعتباره دين مثل أي دين آخر - تبعاً لمنطقه الفلسفي؟!!!!
المؤلف 



[1] عادل ضاهر، تلقى علومه الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت، حائز على درجة دكتوراة من جامعة نيويورك في الفلسفة في العام 1967م، عمل في حقل التدريس الجامعي في نيويورك والأردن، له عدد من المؤلفات.
[2] عادل ضاهر، "الأسسس الفلسفية للعلمانية"، دار الساقي، 1998، ص292.
[3] عادل ضاهر، بحث: "الفلسفة ضد الأصولية الإسلامية"، ندوة "الأصولية والعلمانية في الشرق الأوسط المعاصر"، برايتون، إنجلترا، أغسطس 1988، مدرج ضمن (الأصولية والعلمانية، لمراد وهبه، ص59، 72-78، دار الثقافة، القاهرة، 1995)،
[4] نطق باولي بهذه العبارة في مؤتمر سولفاي الدولي الخامس Solvay International Conference سنة 1927 بعد فتح باب النقاش عن رؤى الفيزيائيين في الدين، وعندما نطق باولي بهذه العبارة التهكمية – على عبارة الشهادة في الإسلام -  ما كان من كل الفيزيائيين الحاضرين – ومعهم ديراك Paul Dirac – إلاَّ أن ضحكوا عليها (جاء ذلك في:Teil und das Ganze (1969), by Werner Heisenberg, p. 119)، وقد تناقل الفيزيائيون هذه العبارة بترجمات مختلفة كما في (Physics and Beyond : Encounters and Conversations (1971) by Werner Heisenberg, p. 87)،  و(Jesus, Son of Man (1977) by Rudolf Augstein, p. 325).
(المصدر: http://en.wikiquote.org/wiki/Pauli,_Wolfgang )
[5] عادل ضاهر، "الأسس الفلسفية للعلمانية"، ص 10-11.

السبت، 19 يوليو 2014

الفصل (هـ1) – عبدالوهاب المسيري - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (هـ1) عبدالوهاب المسيري

بقلم: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول عبد الوهاب المسيري يرحمه الله[2]،[1]

الفرق بين النص المقدس والنص العلماني هو مثل الفرق بين الشِّعر (الذي يتعامل مع ظاهرة الإنسان) والمعادلة الجبرية (التي تتعامل مع عالم الأرقام الذي لا يعرف الضحك أو البكاء). فالمعادلة الجبرية قد تتسم بالدقة، ولكنها الدقة التي تستبعد الإنسان.
نقول: أولاً: المواجهة التي يقصدها المتكلم في هذه العبارة إنما هي بين "النص القرآني"، في أي جزء من أجزائه بحسب إطلاق العبارة، من جهة، والنص العلماني من الجهة الأخرى. والحقيقة أن المتكلم يقصد المواجهة بين النص القرآني عامة، والنص العلمي بالمعنى الحديث، وبما تمثَّل له من معادلة جبرية. والحقيقة أن هناك الكثير من الفروق بين العلمي والعلماني. فلفظ العلماني يحمل صراحةً شبهة "اللاديني"؛ أي: المستبعِد للدين – وخاصة الجانب الغيبي فيه - من سياق أحكام العقل على الأشياء، غير أن المسيري هنا يُعرِّي العلم الحديث فيكشف – ربما عن حسن نية - عن علمانيته المجردة والمتزينة بزينة العقل، فيختصر الطريق في الوصول إلى مراده، أي التمييز بين الدين والعلم، وأنهما نسيجان مختلفان لا يأتلفان! ومن ثم يرمي طُعْماً يلين به سمع القارئ لقبول غياب الصرامة والقطع في النص القرآني في مراده من المعاني، في وقت يؤكد على تجذُّر الحِدّة والصرامة المعرفية في العلم، وأن فيها قوته وقيمته!
ثانياً: يُعد تمثيل الفرق بين النص القرآني والنص العلمي، بالفرق بين الشعر والمعادلة الجبرية تمثيلٌ جائر. لماذا؟ لأنه إذا كانت المعادلة الجبرية تمثل العلم في حسمها وقطعها، فإن ذلك يُفضي إلى أن الشعر يمثل النص القرآني في ضبابية الشعر وهيامه. ولو ذهبنا نفهم أحسن مايقصده الكاتب من تمثيل الشعر للقرآن، فسنفهم منه حمل المعاني إلى الإنسان رقراقة فياضة، إلا أن السياق اللفظي قد يُفضي إلى ما هو تشويش على حقيقة المعاني، هذا إن بقى لها حقيقة. وإذا افترضنا أفضل ما في معاني السياق من تشبيه، فلا نجد إلا أنه قول جارح. لأنه يعني أن النص القرآني – كما صرح الكاتب فيما بعد – قول مجازي. وهذا يصطدم مباشرة بنصوص قرآنية تقطع بحدِّة معانيه المرادة، أي إحكامها في نفسها، وباستقلال عن قارئ القرآن، كما في قوله تعالى "الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ..."(هود:1)، ثم إحكامها في بعضٍ منها على أقل تقدير، في الأفق المعرفي لقارئ القرآن، ونقصد بذلك قول الله تعالى "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ"(آل عمران3: 7). وهذا الصدام – الذي يختلقه المسيري- يمتد لأبعد من ذلك، فيُجهِز على التشريعات التي جاءت بها نصوص القرآن مباشرة، ويُجهض الاجتهاد الفقهي بِرُمَّته، وذلك لوقوعه في دائرة المجاز – بحسب كلام المسيري - الذي يهز أركان ثبات نصوص الأحكام، هذا إن لم ينفيها لعدم قطعيتها؛ بدعوى المجازية الشعرية فيه!
وإن حاول مدافع عن كلام المسيري التمييز بين محكم القرآن وأنه حرفي المعاني ولا مساس به، وبين متشابهه القرآن وأنه هو المجاز المقصود، قلنا أن دعوى المشاكلة بين المتشابه والمجاز تنفي تشابهه، لأن المجاز يفيد معنى على الحقيقة الذهنية، وإن كان غير متقولب الصورة في الواقع، ولا يشار إلى مفرداته صراحةً، مهما توهمه الوهم. لذلك فالمتشابه هو ما لم يقف الإنسان على معناه الصريح، وإن تردد بين مآلان حقيقيان أو أكثر، ولا مجاز في أيّهما، أما المجاز فلا تردد ولا غياب للمعنى المقصود، وإنما خيال صريح من وراء حجاب. ويكشف هذا التحليل تورط المسيري في خلاف ما جاء به القرآن، ويتركه غير مبرأ من تهمة تشويه صفة النص القرآني المحكم في نفسه بهذه المجازية التي يدعيها، والشاعرية التي نفى الله تعالى معناها عن كلامه الأجل.
يقول المسيري[3]:
 بدون مجاز لا يمكن إدراك الله الذي هو رب المحدود واللامحدود، وهو متجاوز (مفارق) للمخلوقات وليس كمثله شيء. وبالتالي فالسؤال: "هل الله موجود"؟ إن طُرح في إطار علماني مادي - سؤال سخيف لا معنى له.
يريد المسيري من هذه الفقرة إثبات صحة مزاعمه المجازية عن النص القرآني، وآليته في ذلك أن يثبتها لله تعالى. ولأن الله تعالى هو المتكلم بالقرآن، يعمد المسيري إلى تعميم المجازية التي يحتفي بها، والتي أثبتها بظنه لله، العلي الحق المبين، لتنسحب على كامل النص القرآني. ولأن المسيري يريد أن يزيح القرآن عن العلم الحديث ليثبت مجازيته، أو أنه يريد الزعم بمجازية له ليُقصيه عن الواقعية، فسيعمد إلى التبغيض في العلم مقارنةً بالإلهي العلوي، وهو الأمر الذي يطرب له المؤمنون، وذلك بالإتيان على ذميم صفات العلم الجوهرية في عيونهم، ألا وهي العلمانية، ويمعن في الحط منها فيقول "العلمانية المادية"، وهو في الحقيقة يريد أن يقول: العلم الصرف هو علمانية مادية، والله تعالى منزه عنها. ولا يمكن للعلمانية أن تُسأل عنه، لأنها لا تعلم كيف تجيب، ومن ثم يعد السؤال عندها سخيفاً وبلا معنى، لأنه لا يوجد عنه شيء في قاموسها اللغوي، وليس لسخف في ذات السؤال. وذلك مثلما نسأل الطبيب عن كيفية إصلاح عيب ميكانيكي في السيارة، فيكون السؤال سخيفاً لأنه خارج النطاق المعرفي للطبيب. فكذلك هنا في حالة سؤال المسيري عن الله تعالى، من حيث الوجود (المادي)، والذي يصبح لا علمياً في عُرف المسيري، فلا يتبقى من إجابة للسؤال عنده إلا الإجابة المجازية أو الشاعرية، أي التي تتهرب من الإقرار بالوجود، احتجاجاً بمادية الوجود، .. والذي تُنزه الله تعالى عنه بزعمها، وهي في الحقيقة تتنكر للوجود.
ويعد العلم (العلماني المادي) في حساب المسيري هو المتعلق بالمحسوسات القابلة للتجريب والقياس. ولنسأل أسئلة من صميم العلم الحديث، نفك بها الاشتباك بين العلمي المحسوس والعلمي الغير محسوس: "هل الإلكترون موجود"؟ "هل الكوارك موجود"؟ هل الدالة الموجية في الفيزياء الكمومية ذات حقيقة مادية وموجودة؟... إن أسئلة عديدة من هذا النوع مقبولة بالمعنى العلمي الحديث، وليست سخيفة بأي نوع من السخف، رغم أنها من النوع العلمي غير المحسوس، بل ولا تملك الفيزياء الحديثة لها إجابة. ومع ذلك يُجاب عن تلك الأسئلة بالأدلة الغير مباشرة لأننا – علمياً – يستحيل علينا رؤية الكوارك مثلاً، لأن قوانينه، التي استنبطها مُنَظّري وجوده، أنه لا يمكن رصده على حالته المنفردة. فكيف إذاً يصح إدعاءُ علميةِ هذه الأسئلة ووجاهتها في الفيزياء المادية ولا سُخفها، في الوقت الذي يظل معه الادعاء على علمية السؤال عن وجود الله عز وجل بالسخف؟! وهل ينتج عن حجة المسيري أننا لا نعلم عن نصف العلم الطبيعي الآن الغير قابل للتجريب المباشر إلإ المعرفة المجازية!!! – باعتبار ما يؤدي إليه تعبيره عنها؟!.
إن دليلنا على وجود الإلكترون والكوارك والدالة الموجية هو انسجام وجودهما مع الآثار التجريبية. وهل دليلنا على وجود الله تعالى غير ذلك؟! مع الفرق بين علوية – أو ماورائية- وجوده سبحانه، وأنه ليس كمثله شيء، ودونية – أو مادية - وجود كل ما سواه من موجودات. بل هو أثبت في الوجود بما أنزله تعالى من وحي نقرأه بأم أعيننا، ولا ينكر نسبه إليه إلا ناقص العقل!.. ومن ثم فوجود الله تعالى أكثر علمية. وإذا قال المسيري أو من يدافع عن كلامه: "نحن نقيس الإلكترون ونعرف كتلته وشحنته ولا نستطيع ذلك عن الله" نقول: نحن نستطيع مثل ذلك بمعرفة أن قدرات الله وصفاته الموحى بها في القرآن أكبر من حدود نحدها نحن بقدر ما تُتيحه لنا معارفنا، مثلما نحد حدوداً تجريبية عُليا ونستيقن منها. ومثال ذلك لدى أهل الفيزياء الكونية أن ارتفاع أبعد المجرات لا يقل عن 13 مليار سنة ضوئية ما لم تكن جنبات السماء تنزاح عن بعضها فيزيد الارتفاع لأكثر من ذلك. فكذلك قدرات الله تعالى التي يمكن تعديدها من أسمائه الحسنى فيمكن قياسها بأنها أكبر من حدود تجريبية نعلمها يقيناً، ويبقى صحيحاً أنها أكبر من ذلك بلا سقف أعلى يمكننا أن نتكلم عنه، ولا نتكلم عندئذ إلا في حدود سقف معرفتنا وقياساتنا، وما يتخطاها يمكن أن نعلم أنه تخطاها قدراً وحساباً.  
وقد منحنا القرآن من مثل هذه الحجج والبراهين في غير آية. ومنها قوله تعالى "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا"(الكهف18: 109). وتلك قيمة تجريبية علمية يمكن حسابها، لو أردنا. وعندها تكون تلك القيمة التجريبية هي حد التصور الذي يتزايد عليه كلام الله تعالى بلا سقف أعلى، سواء من حيث السعة والشمول والإحاطة، أو من حيث إصابته لليقين والصدق.
وأيضاً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال[يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ][4] وتكون قيمة الصفات الإلهية أكبر من تلك الحدود.
وأيضاً أن حق الله في التسبيح، أي التمجيد لعلو قدره، يمكن أن يوضع له حد حسابي أدنى، وذلك من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضاء نفسه، سبحان الله مداد كلماته". ويكفي أن نعلم أن عرش الرحمن يحوي السماء جميعاً وما حوت من مجرات وأجرام، وإذا كان هناك اتزان، وهو حتماً قائم، فلا بد أن السماوات وما فيها تحمل فوقها العرش العظيم، فكم يكون وطءُ العرش على السموات؟! ولا يستبعد أن لهذا المعنى والتأويل علاقة قوية بقول الله تعالى "تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ"(الشورى:5)، أي من وطئة ما تحمله فوقها. وأما عن عدد خلق الله، فيكفي أن نعلم أن عدد أصناف الكائنات الحية – وليس عدد المخلوقات الحية- على كوكب الأرض من نبات وحيوان لا يقل عن 30 مليون صنف! وليس الإنسان إلا صنف واحد. فكم يكون عدد الخلق أجمعين، من مادتنا الأرضية، ومن غيرها كالجن والملائكة؟! – وفي ملك الله الفسيح وملكوته الأعظم، ماضياً حاضراً ومستقبلا، والذي لا يعلم مداه ومحتواه إلا هو سبحانه! .. هذا إن كان الخلق لما حيَّ منه، أما إن كان معناه كل شيء، فعدد الخلق سيشمل كل معدود، من ذرات وجسيمات، و فوتونات .. إلخ .. وهو عدد يفوق التصور فضلاً عن أن يقبل الحصر، ناهيك عن أن يحيط به عقل!..
أي أن كلمات الله تعالى أكثر مما يكتب بمداد من بحار الأرض جميعاً، وخزائن الله تعالى أكبر من ماء البحر إذا اجتمعت طموحاتنا المادية وأصبح مقدارها مقدار ما يحمله المخيط من الماء. وأن أدنى استحقاق لله تعالى تسبيحاً لو قدر بعدد لكان أكبر من عدد الخلق ومن زنة عرش الرحمن. وهذه التقديرات الدنيا من رحمة الله تعالى بنا لاستحالة تحمل عقولنا لحقيقة ما وراء تلك المقادير من صفاته العليا، والتي لا يعلم قدرها الحقيقي إلا هو سبحانه "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ "(الزمر39: 67).
لكل ذلك يصبح السؤال عن وجود الله تعالى سؤالاً علمياً، لا مجازياً، وذو معنى حقيقي، وتكون إجابته حقيقية، حتى وإن وصف الله تعالى لنا ذاته العليّة في أسماء، ادعى اللُغويين لها تصنيفاً مجازياً لعدم ماديتها ليس إلا، ويصبح بذلك كلام المسيري ومن سار على دربه كلاماً سخيفاً لا معنى له، ونستحي من الله تعالى أننا ذكرناه، ولو لم يكن لإقامة الحجة عليه وعلى أصحابه، ما كنا لنفعل. فالله غفرانك، وعفوك، تجليت في علاك، وتقدست أسماؤك وصفاتك عن ذوي الأفهام السقيمة.
يقول المسيري: 
 فالله موجود ولكن وجوده ليس وجودا ككل الوجود، لأن الله لا يتجسد في أي إنسان أو شيء، ومن هنا تعجز اللغة الرياضية عن التعبير عن وجوده، ولا بد من لغة مجازية للإجابة على السؤال، ولذا فإن الحضارة الإسلامية العربية تزخر بالمجاز، ولا تلجأ إلا نادرا للرموز (إلا في كتابات الحلوليين وغلاة الشيعة).
نقول : إن إجمال مجازية أو حرفية النص القرآني انطلاقاً من التعبير عن وجود الله تعالى مجازياً أو حرفياً يُعد إجمالاً مُخلاً. فالنص القرآني قد تناول طيفاً عريضاً من التقريرات لا يجوز الجزم بالتعبير عنها رياضياً لكي يكون القرآن علمياً بالمعنى الحديث (وهو ما يقصده صاحب المقالة بلفظ علمانياً). فإن كان الغرض نفي الحرفية عن بعض النصوص فمن غير الإنصاف أن يكون ذلك لغير تلك النصوص، ثم تعميم الحكم على كامل النص القرآني. فهذا الاستدراج لا ينطلي على عاقل. ومثله مثل من يحكم بالإرهاب على كل المسلمين لتبني قلة منهم النهج العنيف في الرد على خصوم الإسلام (رغم أنهم قد بادروهم بالظلم العنيف أيضاً!، والبادي أرهب). بل إن القرآن أولى بهذه الحكمة ممن يدعونها. فـ "الحرفية" حيث الإحكام وقد قرره القرآن، و"التشابه" حيث لا يتيسر الإحكام، لتفاوت العطاء القرآني للإنسان، بين ثقافة وثقافة، وزمن وزمن، واختلاف عوارض الأحوال، و"الحقيقة" حيث شخوص الأسماء والصفات، و"المجاز" حيث تسمية ما لا يعلم العقل شخوصه إلا تمثيلاً وتأليفا، وفي إطار التأويل المقبول. ومن ثم يأتي ما سماه القرآن المحكم والمتشابه وما سماه الناس الحقيقة والمجاز. أما أن يكون كل النص القرآني مجازاً، أو متشابهاً، فهذا حكم جائر لا سند له يؤيده، فضلاً عن العديد من أدلة النفي التي تقصمه.
أما عن قابلية صفة من صفات الله تعالى أو عدم قابليتها للتعبير باللغة الرياضية، رغم أن مبدأ لزوم ذلك للقبول بعلمية المسألة المعنية موضع جدل، فهو جائز من حيث الإمكانية. ويدخل ذلك فيما يُسمى بحساب اللامتطابقات inequalities. وهو ما يمكن مقارنته بوضوح كافي بما أبدعه علماء الشريعة وأصول الفقه وسُمِّيَ بقياس الأَوْلى. وفي الأمثلة التي سقناها أعلى نجد أن كلمات الله تعالى - أي أحكامه وقضائه في خلقه - أكبر من (<) الكلمات الممكن كتابتها بماء البحر كمداد، وأن محتوى خزائنه أكبر من (<) ماء البحر لو كانت طموحاتنا (=) ما يحمله المخيط من الماء. وأن قَدْر الله تعالى، والمقدر بتسبيحه الأعظم، أكبر من (<)  زنة عرش الرحمن، والذي تحمله السموات التي نَوْجَل من محض النظر في جوارنا منها. وهذه العلامات الرياضية هي أدوات التعبير عن هذا الحساب الرياضي (في صياغتها الرائجة في القرون القليلة الماضية).
يقول المسيري:
 يقوم المجاز بتحرير النص القرآني من فضائه الزماني والمكاني فتصبح الآية ذات دلالة إنسانية عالمية تتجاوز المناسبة المباشرة، ومن ثم تتضح مقدرة النص القرآني التوليدية وأنه صالح لكل زمان ومكان. ومن هنا قولي إن المجاز يؤدي إلى التجاوز أما الحرفية فهي تطابق بين النص القرآني ووقائع محددة داخل الزمان والمكان وتربطه بهما.
نقول:
ينفي قولُ الله تعالى: "إنه لقول فصل"(الطارق86: 13) عموم كلام المسيري. والقول المجازي ليس بفصل في أحكامه على القضايا. وإن كانت آيةٌ ما مشتبهة في تقدير المفسرين في عصر ما، فإنها آتها ذلك الحين الذي تؤول فيه إلى الحرفية – أي الإحكام فتكون من المحكمات- مع انكشاف البينات التي ترجح لها دلالة دون دلالات أخرى كانت من الـمُمكنات اللغوية. فهذه وأمثالها أنزلها الله تعالى لذلك الزمان الذي انكشفت فيه دلالتها الحقيقية. وكانت وستبقى آية واجبة الإيمان من قبل ومن بعد، كما قال تعالى على لسان الراسخين في العلم من المؤمنين بها من قبل إنكشافها "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا"(آل عمران3: 7) . وفي انتقالها إلى البيان المحكم يقول الله تعالى "ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"(القيامة75: 19)، ويقول تعالى "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"(فصلت41: 53). ومثل هذا الوصف لا يلحق بما من شأنه أن يكون مجازاً دائماً أبداً. ثم كيف يكون مجازاً وآيةً في نفس الوقت. إنها آياتُ وصفٍ قبل أن تكون آياتُ أعلامِ (أي تسميات). إنها آياتٌ كآيات الكون المنظور المحسوس المجرب وليست آياتٍ فُصِّلت فقط لأغراض الوقف في التلاوة."
وإن لنعجب كل العجب من كلام مجازي الدلالات، شاعري الإيحاءات، فضفاض المعاني والخاطرات، لا تقف على معنى فيه إلا وينزلق من ميوعة مجازيته، وزئبقية مفرداته، فكيف يُحْتَج بمثل هذا الكلام لإحقاق حق وإبطال باطل؟! وكيف يقطع قارئه بجنته وناره؟! ولما لا تكون الجنة والنار مجازين للرضا والسُّخْط، والحبور والنفور، والسعادة الروحية والتعاسة الأبدية. وهل إبليس مجاز عن الشر، والملائكة عن الخير، وهل الله - تعالى عن ذلك علواً كبيراً - مجاز عن منبع الوجود، وسر السرمدية الأبدية، وأن إرادته ومشيئته أيضاً مجاز في ما هو كائن بعد أن يكون! وماذا عن ذات الله العليا – جل في علاه – أمجاز أيضاً يُأولها كل عصر بما شاء و"تتضح مقدرة النص القرآني التوليدية وأنه صالح لكل زمان ومكان" – كما قال المسيري أعلى- ويصح عندها قول المتفلسفة بأنه – سبحانه – العلة الأولى، ويصح عندها قول أصحاب وحدة الوجود بأنه – سبحانه – في كل موجود، وإذا زٌجروا في إلحادهم في أسماء الله، قالوا إن الوصف مجازي، واللفظ يحتمله، وهكذا نفهمه!!!
وأي تلبيس هذا الذي يقوله المسيري عندما يقول: "الحضارة الإسلامية العربية تزخر بالمجاز، ولا تلجأ إلا نادرا للرموز"، وهل الرموز شيء غير خلاصة المذهب المجازي الذي يتبناه المسيري في كلامه السابق؟! وأين هو المجاز في علوم القرآن عند المحققين المشهود لهم من الأئمة الذين أقرت لهم الأمة بالفقه والعلم واتباع المنهج القويم؟ - وأي معلم من معالم الحضارة الإسلامية تلك التي تزخر بالمجاز حتى تجعله أصل الدين وفهم كتاب رب العالمين؟! لم يأتنا الكاتب بمثالٍ ولا بيقين، وما كلامه إلا خبط وخلط مبين، يضيع معه الدين، ولا يبقى إلا خيالات من مجازات المضلين.
وفي إصرار صاحب المقالة على سحب صفة المجاز على كل النص القرآني يقول:
ما يحدث للنص القرآني في الإطار الحلولي هو أن تلغى المسافة بين النص القرآني والواقع، فيتطابق مع الواقع، بالتالي لا مجال للتجاوز أو للمجاز وتظهر التفسيرات الحرفية. ولذا فإني أرى أن الهجوم على لغة المجاز هو هجوم على فكرة الإله المفارق للعالم. 
غرض صاحب العبارة هنا أن يُشبه مطابقة أو إسقاط النص القرآني على الواقع أو ما سماه بالتفسير الحرفي بأنه كمثل أعمال الحلوليين. وهو تشبيه غرضه التنفير (لسوء سمعة أصحابه). وهذا خلطٌ وتلبيس! .. فـ "المحكم" في القرآن محكم ومطابق لأعيان مسائله، وليس هناك من حلول شيء في شيء. و"المتشابه" في القرآن يُؤمن المؤمنون بتلاوته ولفظه حتى يستبين في موعده الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وعندها يستبين لهم معناه، أمّا ما كان مجازاً من القرآن في اصطلاح أهل اللغة، فيُتصور في الوهم والخيال بما يحقق واقعيته التي لا سبيل إلى الوقوف عليها، ولا بد له من واقع يؤول إليه وإلا كان عبثاً من القول. أما إدخال مسألة تصور الإله لإثبات مجازية النصوص القرآنية في أسماء الله تعالى وصفاته، ثم تعميم الحكم عليها، والذي هو "تجاوز الحلول"/"المجازية" لينسحب على كل النص القرآني، فهو خلط غريب بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
ثم ما مصدر هذا الترادف بين (تجاوز الحلول) والمجاز؟! – إن صدق الترادف هنا، فسيصدق على نقيضيهما؛ أي: الحلول والحقيقة. فهل كل حقيقة حلول[5] (بالمعنى اللُّغوي)؟! – وهل كل حلول حقيقة؟! – هذا خلط مردود، وتلبيس مشبوه؟!
وإن صدق هذا الحكم بتجاوز الحلول (بالمعنى اللُّغوي) على أحكام الغيب الواجب الإيمان بها، وحَسْبَمَا جاء بشأنها من توقيف إلهي في الأسماء والصفات، وما ينبغي أن نفهم منها من تصورات خبرية دون مشابهة ولا مماثلة. فهي أحكام لا تنسحب على عالم الشهادة وما أتى بشأنه من أحكام لا شك في واقعيتها، سواء ما علمناه منها أو ما لـمّا نعلمه إلى حين.
يقول المسيري:
 إن المفسرين الحرفيين ينسون أن القرآن لا يتطابق مع التاريخ أو مع القوانين العلمية، فهو الذي يُحكم به على التاريخ والواقع وليس العكس، إذ لا يجوز المطابقة بين المطلق الإلهي والنسبي البشري. التاريخ الذي جاء في القرآن هو تاريخ مقدس، وليس تاريخاً زمنيا، تاريخ يضع المقاييس والمعايير التي يمكن من خلالها محاكمة التاريخ الزمني،..
نقول: القرآن كلام الله تعالى، والكون الذي خلقه الله والتاريخ – ومنه تاريخ البشرية - مكنون في علمه سبحانه، وعنده وحده مفاتح غيبه. فالأصل أن الله تعالى إذا أخبرنا عن التاريخ أو الكون فكلامه سبحانه عنهما حق مطابق لأحداثهما، وهو كلام فصل قاطع في أحكامهما. فإن سَعَينا لنفهم هذا الحق بالمطابقة بما يزيل التشابه، فعلامَ يكون الملام؟! إنما الملام على من باعد بين كلام الله وبين آياته في الكون؛ تاريخاً كان أو حقائق علمية. والمباعدة بين القرآن والواقع التاريخي أو العلمي بدعوى التنزيه، لا تختلف عمن قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم[6]: "لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنْ اللّهِ كَمَا تَقُولُ لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدّ عَلَيْك الْكَلَامَ". وكأنه يقول بتعبر المقالة السابقة: "إن كنت من عند الله فأنت مطلق وأنا نسبي، ولا قدرة لي على تحقيق وجودك وسماع كلامك تحقيقاً عينياً حرفياً". يريد حجة يحتج بها لعدم السمع والاتباع. فهذه حيلة أيضاً لا تنطلي إلا على المخدوعين بالكلام وزينته أو المنبهرين بتفخيماته وطلاسمه. وقديماً حاول من حاول أن يُنزه الله تعالى – بظنه وخياله - فوقع في التعطيل، سواء سَلِمًت نيته أو فسدت. فالجنوح إلى التعطيل بحجة التنزيه، حجة قديمة مكشوفة، بل مفضوحة. أمّا حكم الله على التاريخ بتصويب أو تخطئة أهله، فهذا في شأن الأحداث الجسام، ومصائر الأمم، وما ستؤول إليه، وتلقى عليه من جزاء، ولنا في هذا الجانب من قصصهم العبرة.
أما شأن أحداث التاريخ اللازمة عن ذلك القصص ،كوقائع ثابتة على سجله المدون في الأرض، فما يمنع من كشفه واكتشافه. كما أن ما أبلغنا الله تعالى به مما في الأرض مما يعلمه سبحانه حق يجب أن يكون مطابقاً للواقع.  ولو لم يكن الأمر كذلك في هذا وذاك، لما قال الله تعالى "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ..."(الأنعام6: 11)(النمل27: 69)(العنكبوت29: 20)(الروم30: 42) وكذلك (النحل16: 36) لنعلم عن التاريخ من الحقائق العلمية ما هو ثبات ومطابقة بين الوحي والتاريخ. ويُعد الخلط بين عبرة مجازية يريدها الكاتب والحق التاريخي، إجمالٌ مربك، يُجهض العبرة، ويفرغ علمية الحقائق التاريخية من واقعيتها، ومن ثم صِدْق الوحي بها. ثم ألا يكون إخبارُ الله تعالى لنا بأن نوحاً قد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ألا يكون ذلك حقاً علمياً لا مجاز فيه؟! ألا يكون من حق الباحث في التاريخ الإنساني أن يعتمد هذا الحق ضمن مسلماته التي ينسجها مع غيرها من مسلمات أو ترجيحات، فيكون الإنسان في مرحلة من مراحله، بناءاً على ذلك، كان له من العمر هذا المدى؟! أي بطلان في ذلك! بل أي علمٍ في غير ذلك لمن يدعي الإيمان بأن القرآن كلام الله تعالى حقاً؟!
أما قوله "التاريخ الذي جاء في القرآن هو تاريخ مقدس، وليس تاريخاً زمنيا ... " وما يريد به من ضرورة عدم الخوض في تاريخية أحداثه الزمانية والمكانية بما يُفضي إلى تقديس عين الأحداث إذا تعينت، فهذا غير صحيح. فمرد التقديس إلى لزومية الحكم على تلك الأحداث من قبل الخالق جل وعلا، لا عين الأحداث التي كان أشخاصها جميعاً ممن خلق الله. أما الخوف من مطابقة أو عدم مطابقة تلك الأحداث لوقائع الاكتشافات الأثرية، فهذا لا يُخشى منه إلا إذا كان النص المقدس في الأصل قد تم التلاعب به. وهذا ليس من شأن القرآن في شيء. ومثال مما ذكر المسيري لذلك عن التوراة أن ما جاء فيها من التاريخ "تاريخ زمني ضُمِّن في تاريخ مقدس، وقد تسبب هذا في عدة مشاكل من بينها أن ثمة اكتشافات أثرية تُبين أن ما جرى في قصص التوراة لم يقع في فلسطين وإنما في أماكن أخرى." ولا نخشى من حدوث مثل هذا الاختلاف في قرآن ربنا جل وعلا، إلا إذا كان الذي يخشاه هو المسيري نفسه، أما نحن فنثق في كتاب الله تعالى وصدقه، وأنه محفوظ بحفظ الله تعالى له.
يقول المسيري: "إن ربط القرآن بالعلم أو التاريخ هو نوع من أنواع المادية في التفسير وخروج بالقرآن من مجال المطلق إلى مجال النسبي. إن المقدرة التوليدية للقرآن لا تأتي من كونه متطابقا مع التاريخ الزمني أو مع العلم، وإنما تأتي من أنه تضمن إطارا عاما لما يجب أن يكون عليه الإنسان والمجتمعات الإنسانية."
نقول: القرآن نزل به الوحي للإنسان. وإبقائه في المجال المطلق – بضبابيته أو عموميته - دون فهمه وإسقاط هذا الفهم على الواقع، تعطيلٌ له. ولو صحت حجة الكاتب لصح لكل مذنب أن يتخلص من لوازم وتبعات فعله بقوله: "هذا للمطلق وأنا إنسان، أنا نسبي". وإذا كانت حجة صنع مقدرة توليدية للقرآن بإلباسه لباس المجاز حجة صحيحة، لما كان القرآن حجة على أحد. فالمجاز لا يتفق بالضرورة على تأويلاته اثنان قد أصابا الحق – كالمثال الذي جاء به الكاتب في سياق مقاله بصدده في رواية العجوز والبحر لـ هيمنجواي التي تعددت تأويلاتها (يسميها المسيري رموزاً) بلا اتفاق بين أصحاب التأويل[7]- ولا يكون من ذلك مخرج إلا بالكف عن تدبره والاكتفاء بما فيه من مجازية شعرية لا رمزية فيها. فكيف يُحكم في التاريخ وأفعال البشر ويصف الله تعالى الجنة والنار، ويقول عنهما ما قال، وعن غيوب الكون التي وصف ما فيها من حق بقوله تعالى "فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ"(الذاريات51: 23). فأي حق دامغ هو أحق – أشد حرفية - من نطق الناطق إذا أراد النطق وقتما يريد أن ينطق؟!
وإذا أراد القرآن أن يُقرِّب صورة مُركَّبة غائبة عن الأذهان يأتي بها على صورة مَثَلْ، فيتصورها السامع على صورة المثل كما جاء، ومثال ذلك قوله تعالى "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "(النور:35). ولا يترك القرآن للسامع أن يتمثل ما يشاء ليوافق به فهماً معوجاً جاء من صورة مجازية قد يصادف فيها الحق أو لا يصادفه. ثم يحتكم إليها الناس وتكون عليهم حجة يوم يقومون للحساب. ثم أي بيانٍ في المجاز – لو أصاب المسيري في كلامه - حتى يُسمِّي الله تعالى القرآن "الْكِتَابِ الْمُبِينِ"؟! فهل كان المجاز في يوم من الأيام إلا غموضاً والتباساً في المعنى؟!
وماذا يريد صاحب المقالة من تعريف المقدرة التوليدية للقرآن، هل هي تعدد الدلالات لتكون بعدد الناظرين المتدبرين للنص، أو بصلاحية النص لكل أفراد الحالات الخاصة التي يشملها؟ إن كان بالمعنى الأول، فلا وألف لا، لأن الحق واحد، غير أن الكاتب يهرب من ذلك وينادي بأن يظل المعنى سابحاً في الفضاء المجازي، لا يدعي أحد اقتناصه، وإلا أصبح رمزاً، وأصبح صاحبه حلوليا!، وهذا تفريغ للقرآن من أي معنى يستفاد منه. وإن كان بالمعنى الثاني فهذا تعميم ما يُظن أنه خاص، وهو فحوى القياس الفقهي وأصله الذي عليه بُني. وهذا القياس أهم آليات أصول الفقه التي تقع بعيداً وبشكل منافي لأي مجازية شعرية يريدها صاحب المقالة.
يقول المسيري:
 القرآن يتحدث عما ينبغي أن يكون وليس عما حدث أو عما هو قائم. وإن حدث تطابق بين النص القرآني والعلم والتاريخ، فهذا يجب ألا يزيد ولا ينقص من الإيمان.
الجملة الأولى مردودة لصراحة اصطدامها بنصوص عديدة في القرآن، ما لم يكن الكاتب يريد بها شيئاً آخر لم يوضحه. وهل ما قصّه القرآن عن أفعال اليهود كان مما ينبغي أن يكون؟! نعم إن القرآن يقول - من خلال ما كسبت أيدي الناس - ما كان ينبغي أن يكون، أي: ما هو النموذج المثالي الذي يجب أن نعاير أنفسنا وأعمالنا عليه. إلا أن الكاتب – على ما يبدو - يعيد تأصيل فكرة تعالِي القرآن على الواقع، تكراراً لقوله بأنه مطلق والواقع نسبي، مما يفتح الباب لتبرير عدم تطبيقه عليه. وقد رددنا ذلك. أما قوله: أن التطابق بين النص القرآني والعلم والتاريخ يجب ألا يزيد أو ينقص من الإيمان فهذا أيضاً مردود بنصوص القرآن من مثل قوله تعالى "وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا"(المدثر74: 31).
يقول المسيري: إن بعض المفسرين الحرفيين يتوصلون إلى سيناريو عام ومجرد يستخدمونه لتفسير كل صغيرة وكبيرة من أحداث التاريخ (وليس الأنماط العامة المتكررة أو السنن)، وهم يزعمون أن هذا السيناريو آخذ في التحقق أمام عيوننا الآن وهنا. فإن حدث حادث أو وقعت واقعة فإنهم يهرعون إلى النص القرآني ويقولون لقد تنبأ القرآن بهذا، فقد جاء في الآية كذا أن كذا وكذا سيحدث. وهذا سقوط فيما أسميه "التفسير بأثر رجعي".
نقول: أليس ما يعيبه الكاتب هنا على أصحاب التفسير الحرفي – أي الصريح حسب مفاهيم العصر الذي يعيشون فيه وما رجح لديهم منه – أنهم يحققون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو‏ ‏الفصل‏ ‏ليس بالهزل"(سنن الترمذي، الدارمي) فأي عيب في رؤية المحيط الكوني من منظار القرآن حسب أفهامهم. وهل هم مكلفون بغير ذلك حسب ما وسعهم الوسع. ألا يسقطون في مؤاخذة الله لهم مع المؤاخَذين إن سمعوا للكاتب نصيحته والله تعالى يقول لهم "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"(محمد47: 14). وما قول صاحب المقالة في من قال الله تعالى فيهم من المؤمنين يمتدح تصديقهم لوعد الله ورسوله ويشهد الله لهم بأن هذا التصديق منهم قد زادهم إيماناً، وهذا خلاف ما قرره صاحب المقال أعلى، يقول تعالى: "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا"(الأحزاب: 22).
ثم أنه ليس كل ذي عينين بصير، فهذا محمد إقبال في كتابه الشهير "تجديد الفكر الديني في الإسلام"، يقول في معرض حديثه عن التاريخ في آيات القرآن[8]: "الآية: " وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ"(الأعراف:34) مَثَلْ من أمثلة الأحكام التاريخية العامة يتجلى فيه التعيين والتحديد، وهي في صيغتها البالغة الإيجاز توحي بإمكان دراسة حياة الجماعات، دراسة علمية باعتبارها كائنات عضوية. وعلى هذا فمن يزعم أن القرآن يخلو من بذور المذهب التاريخي يكون على ضلال مبين".
ثم يؤكد محمد إقبال ذلك بمثال عملي هو مقدمة ابن خلدون، التي يحتفي بها العجم والعرب، فيقول عنها [9]: "الحقيقة أنه يبدو أن مقدمة ابن خلدون تدين بالجانب الأكبر من روحها، إلى ما استوحاه المؤلف من القرآن، بل هو مدين للقرآن -إلى حد كبير- حتى في أحكامه على الأخلاق والطبائع.
ومن الأمثلة الموضحة لهذا: الفصل المستفيض الذي عقده – ابن خلدون – عن أن "جيل العرب في الخلقة طبيعي"، فليس ما كتبه ابن خلدون في هذا الموضوع إلا تفصيلاً للآيات الآتية:
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"(التوبة:97-98) [مع استثناء من قال الله تعالى فيهم: " وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ "]."
ثم يتكلم محمد إقبال عن عناية القرآن بالتاريخ فيقول: "على أن عناية القرآن بالتاريخ بوصفه مصدر من مصادر المعرفة الإنسانية، تذهب إلى أكثر من مجرد الإشارة إلى تعليمات تاريخية، فقد وضع لنا قاعدة من أعمق مبادئ النقد التاريخي. وبما أن التدقيق في رواية الحقائق التي تُكوّن مادة التاريخ، شرط لا غنى للتاريخ عنه بوصفه علما، وبما أن رواية الأخبار على وجهها الصحيح، متوقفة على رواتها كل التوقف، فإن أول قاعدة من قواعد النقد التاريخي، هي القاعدة التي تقر أن أخلاق الراوي، عامل هام في الحكم على روايته. وفي هذا يقول القرآن "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا"(الحجرات:6)."
ويستكمل إقبال ويقول: "لقد كان تطبيق المنهج الوارد في هذه الآية على رواة الأحاديث النبوية، هو الذي تطورت عنه بالتدريج قواعد النقد التاريخي. وإن نمو الحاسة التاريخية في الأسلام لَـموضوع رائع. فدعوة القرآن لتدبر تجارب الحياة، ووجوب التثبت من نصوص الأحاديث النبوية، والرغبة في تزويد الخلف بمصادر دائمة للإلهام - كل هذه العوامل أسهمت في خلق مؤرخين من أمثال ابن إسحاق، والطبري، والمسعودي. على أن التاريخ من حيث هو فن يؤجج خيال القارئ، ليس إلا مرحلة من مراحل تطور التاريخ من حيث هو علم أصيل. ولا تتأتى كتابة التاريخ كتابة علمية إلا لمن تجمعت لديه خبرة أوسع، ونُضج أتم في التفكير العلمي، وأخيراً تحقق أعظم (؟؟) لبعض الأفكار الأساسية عن حقيقة الحياة والزمان. وترجع هذه الأفكار في جملتها إلى اثنتين؛ كلتاهما أساس لتعاليم القرآن: ..
(الفكرة الأولى:) وحدة الأصل الإنساني، ... وفي شأنها يقول فلنت[10] R. Flint: "لا يمكن أن يُسند إلى أي كاتب مسيحي من كتاب الإمبراطورية الرومانية أنه كان يعرف عن وحدة الإنسانية أكثر من فكرة عامة مجردة" ... أما الإسلام فكان الأمر فيه على خلاف هذا، فهو لم ينظر إلى وحدة الإنسانية على أنها فكرة فلسفية أو حلم من أحلام الشعراء، بل كان بوصفه حركة اجتماعية، يهدف إلى جعل هذه الفكرة عاملاً حياً في الحياة اليومية لكل مسلم، وبها جعلها تعطي أُكُلَها في صمت وخفاء.
(الفكرة الثانية) إدراك حقيقة الزمان إدراكا دقيقاً، وتصور الوجود حركة مستمرة في الزمان، وهذه الفكرة هي أبرز ما نجده في نظر ابن خلدون إلى التاريخ، مما يسوغ ما أضفاه عليه فلنت Flint من مدح ثناء، إذ يقول[11]: "إن أفلاطون وأرسطو وأوجستين ليسوا نظراء لابن خلدون، وكل من عداهم غير جدير حتى بأن يُذكر إلى جانبه.""
وهكذا يفند تحليل محمد إقبال مزاعم المسيري عن مطلقات التاريخ، ويجعله حكماً حياً في معالجات الحوادث والطبائع البشرية. أي أنه يجعل مشاهد التاريخ لقطات شاهدات على صدق القرآن، ويجعل القرآن الناطق الصادق الدال على مسارات التاريخ. وأن كلام الخالق وخلقه منظومة واحدة يصدق بعضها بعضا.
يقول المسيري:
إنهم (يقصد المفسرون الحرفيون) يعيشون في ظلال العلم الطبيعي المادي ويحاولون إعادة صياغة الرؤية الإسلامية منطلقين من هذا العلم وليس من منطلقات إسلامية، فهم يتصورون أن العلوم الطبيعية توصلنا للحقيقة الكاملة الواضحة البسيطة. وأعلق ساخرا على هذا بالقول: "إن تفسيرات الإعجاز العلمي للقرآن تبدو وكأنها تريد أن تثبت أن الله عالم طبيعة لا بأس به وأنه مؤرخ لا يشق له غبار". ومن المفارقات أن سطوة العلم الطبيعي وعلم التاريخ قد تم تقويضها في الغرب، في حين أن مفسرينا الحرفيين لا يزالون يعيشون في عصر الانبهار بالعلم الطبيعي وبعلم التاريخ، ويتصورون أن هذا هو المدخل الوحيد لدراسة الإنسان، مع أنه من المستحيل تفسير سلوك الإنسان من هذا المنطلق. 
نقول: جمع الكاتب بين العلم الطبيعي وعلم التاريخ وتفسير سلوك الإنسان. ولم أرى لأصحاب التفسير العلمي عروجاً ذا شأن أو ثقل على تفسير سلوك الإنسان بالاستشهاد بأعمال الغربيين في ذلك استشهاداً مجرداً. وإن كنا نحن قد فعلنا شيئاً من ذلك[12]، فقد كان مع تنقيح الفكر الغربي وتهذيبه بمعية ما أنزله الله تعالى. أما القول بأن سطوة العلم الطبيعي قد تم تقويضها فهذا محل نظر، بل محل شك كبير. فإن إنكار الحقائق التجريبية إنكار للآيات البينات، ولها من الذم مثل ما لمنكر آي القرآن – في موضوعها - من ذم. وإذا كان المقصد أن ما قُوِّض منها ما كان في محاولة تطبيقها على الإنسان وعلوم الاجتماع، فهذا لا يمس الإعجاز العلمي الطبيعي. وإذا كان الغرب يتقلب بين العلوم ويقوض هذا ويُطلق هذا حسب هواه، فالمؤمن يتشبث بالحقائق الدامغة ولا يتشبث بأعيان أقوال الغربيين صحت أم فسدت. فإذا رأى عندهم من الحق شيئاً فهو أولى به، فالحق رديف الحق. ولا يعني ذلك أن كل استشهادات أصحاب التفسير والإعجاز العلمي صحيحة. فإنهم يجتهدون. والمجتهد كما هو معلوم: مصيب ومخطئ. وإبطال المبطل للحق أشد عند الله من خطأ المخطئ المتهاون! فكيف بالمجتهد المجد، بل أين ذلك المبطل من المجتهد المصيب؟ لا يستويان.
أما قول صاحب المقالة "إن تفسيرات الإعجاز العلمي للقرآن تبدو وكأنها تريد أن تثبت أن الله عالم طبيعة لا بأس به وأنه مؤرخ لا يشق له غبار" فقد روَّعنا أشد الترويع لما مس منه الذات الإلهية بما لا يليق. ونعتذر إلى الله العلي الحكيم القدير مما قيل. ونستسمحه بالرد على هذا القول بما يستحقه قائله. فنقول لصاحب المقالة: "إذا  كان ما تقوله صحيحاً، فإن أحكام القرآن وما يُطبَّق منها في أنظمة القضاء تثبت – على منهجك واصطلاحك - أن الله عالم قانون واجتماع لا بأس به، ولا يُشق له غبار". ومن البين أن هذا القول الأخير تطاولٌ لا يليق، فضلاً عن أنه قول باطل دلالة وسياقاً ومنطقاً، وكذلك يكون قول صاحب المقالة في شأن الإعجاز العلمي في القرآن. فكلٌّ من عند الله: أحكام القانون الشرعي، وآيات الإعجاز العلمي الصريح المحكم. ومن تهكم على بعض ما جاء من عند الله بعد ثبوته، أو في السياق إلى إثباته - فقد باء بغضب من الله، كما قال تعالى "وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ"(المائدة: 49). ومن تنكر لشيء مما أنزل الله لأنه لم يفقهه فقد صدق فيه قول الله تعالى "بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ"(يونس: 39).
يقول المسيري:
يغيب على المفسرين الحرفيين أن العقل الإنساني قاصر عن الإحاطة بكل معاني النص القرآني ومراميه، فالعقل الإنساني قاصر ونسبي، في حين أن القرآن كامل ومطلق، ولا يمكن الإحاطة به تماما وبشكل نهائي. أليس هو كلام الله؟ وهل بمقدور البشر إدراك الإله في كليته وهو ليس كمثله شيء؟. وبالتالي نجد أن الإطلاق ينتقل من النص القرآني إلى المفسر الحرفي الذي يتصور أنه أحاط بالمعنى الكلي للنص، وبالتالي يتخلى عن التواضع الذي هو جوهر التقوى وعما أسميه النسبية الإسلامية. 
نقول: يجمع الكاتب مرة أخرى بين الممكن في التصور، وهو الكون الذي خلقه الله وآياته فيه، وغير الممكن تصوره وهو الله سبحانه وذاته العليا. وينقل حكم ما لا يمكن تصوره إلى ما يمكن تصوره. فيحكم بحكمٍ واحدٍ على مختلفين. وهذا خلاف ما عرَّف النظَّار به "العلم" من أنه التفريق بين المختلفات والجمع بين المتشابهات. وما فعله المسيري كان خلاف ذلك، ويدفعنا للتعجب منه[13]. ونلحظ دخول الكاتب منطقة السخرية قبل قليل، ثم استطراده هنا بالتقوُّل على أصحاب التفسير والإعجاز العلمي ما لم يقولوه، أي قوله عنهم: [يتصور أنه أحاط بالمعنى الكلي للنص... وبالتالي يتخلى عن التواضع الذي هو جوهر التقوى]. وكأن التقوى تُنتقص بإعمال الفكر في كتاب الله وتدبّر آياته. وكأن مقام المدح في تدبر القرآن وحث القرآن عليه، قد آل إلى ذم بادعاء الإحاطة! كما أن هذا الانكار على المتدبر لآيات القرآن في الخلق والكون بادعاء الإحاطة ينسحب على كل آيات القرآن من أحكام ووعظ وبشارة وإنذار وغيب وشهادة، ومن ثم يمكن لمن شاء أن ينكر على الناظر في القرآن المفسر لآياته – مهما دق تفسيره وأصاب الحق فيه – أنه يدعي الإحاطة بالمطلق، ومن ثم يَستنقص عمله ويُسخِّفه! والفتنة في ذلك بينة، أرادها صاحب المقالة أو لم يردها.
يقول المسيري:
 النسبية الإسلامية غير النسبية العلمانية التي أسميها "النسبية المطلقة"، أما النسبية الإسلامية فهي "نسبية نسبية". فبينما تذهب النسبية العلمانية إلى أنه لا توجد مطلقات من أي نوع، ولذا تصبح هي ذاتها مطلقًا، فإن النسبية الإسلامية تذهب إلى أن عقل الإنسان محدود، وأن النص القرآني يتجاوزه، وأننا وإن كنا لن نصل إلى الحقيقة المطلقة واليقين المطلق، فإن لنا مرجعية نهائية مطلقة هي المنظومة المعرفية والأخلاقية المتضمنة في القرآن والسنة. ولذا فنحن نؤمن بالآية: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، "وفوق كل ذي علم عليم". ولكننا نؤمن أيضًا وفي الوقت ذاته بأن النص القرآني يحثنا على أن ننظر من حولنا لنرى كيف بدأ الخلق، ولنعرف سنن الكون. رغم أنها معرفة غير كاملة إلا أنها تكفي لندير شؤون حياتنا. مثل هذا الموقف الأصولي التوحيدي يتسم بالتواضع والتقوى والخشوع، فالمفسر يقدم تفسيره باعتباره تفسيرا واجتهادا وحسب، وليس الحقيقة النهائية.
نقول أولاً: أن التمييز بين نسبية إسلامية والدعوة إليها، ونسبية علمانية والتهرب منها، تلطيف واجهته التزييف. فالمتتبع لكلام المسيري الذي سقنا له شواهد عديدة، لا يجد فيه الناظر إلاّ نسبية علمانية! نسبية لا تبقي على القرآن للمسلمين إلا ذراً للرماد في العيون! إذ ما جدوى قرآن شعري المعنى، مجازي الدلالة، يصلح لكل زمان ومكان بحسب أوهام الأفهام! قرآناً لا تستطيع – من حيث المبدأ حسب منظور المسيري – إنزاله على الوقائع، ولا إعماله على الأحداث، لأنك إن فعلت، كنت حرفياً حلولياً! – فلا إعمال، ولا يقين، ولا تفسير إلا في الخيال!
ثانياً: القول بأننا "لن نصل إلى الحقيقة المطلقة واليقين المطلق" يُفرِّغ كلام الله تعالى من اليقين العلمي في المحكم من آياته. إذ لا يستقيم أن تؤدي آيات محكمات في كتاب الله تعالى إلا إلى اليقين للمؤمنين بها، إلا إذا كانوا غير مؤمنين أو متشككين، أو دون مستوى الفهم اللغوي والفقهي والوقائعي (التجريبي). أما القول الاستثنائي التعويضي عن اليقين بأن "لنا مرجعية نهائية مطلقة هي المنظومة المعرفية والأخلاقية المتضمنة في القرآن والسنة" فهو قول فضفاض يجعل من القرآن والسنة فضاء شعري مجازي روحاني، لا تختلف فيه المنظومة المعرفية والأخلاقية عن تلك التي لعموم الأديان الأخرى. وكيف تقوم بقرآن هذا شأنه حُجَّة، ويحتكم إليه المتنازعان كما أمر الله تعالى حين قال سبحانه "فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ"(النساء: 59). ونبرئ كلام الله تعالى، الذي وصفه سبحانه بأنه "قَوْلٌ فَصْلٌ"(الطارق: 13)، بأنه ليس كما وصف صاحب المقالة، بما صبغه به من مجاز شعري، ليس فقط في المحكم من آياته، بل وفي المتشابه أيضاً. فالمتشابه محكم في نفسه ودلالته التي قُصدت منه، ولا يرجع تشابهه إلا لحدود قدرة الإنسان المرحلية على عدم الوقوف بحسم على تلك الدلالة. ولابد مع الزمن أن تتحول تلك المتشابهات إلى محكمات، فتستبين جميع آيات القرآن تحقيقاً لقول الله تعالى "ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"(القيامة: 19).
أما ما سُمِّي بـ " النسبية الإسلامية – التي - تذهب إلى أن عقل الإنسان محدود، وأن النص القرآني يتجاوزه" فإن ذلك وارد فقط في المتشابه منه إلى حين. لا لأنه مجازي الدلالات، بل لأنه مستغلق إلى حين موعد ظهوره. ولو كان القرآن يتجاوز العقل الإنساني في قدرته على فهمه - على الإطلاق ودون تحفظات – لكان الإنسان مُكلَّف بما لا يستطيع. والله تعالى يقول "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"(البقرة: 286). ولهذا أيضاً يَسَّره الله تعالى للإنسان وقال سبحانه " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ"(القمر:17، ...). وإن تجاوز متشابه القرآن بعض عقول بني آدم، فليس ذلك لأنه كذلك، بل لأن هذه الفئة من الناس كانت دون فهمه، مثلما أن عقول كثيرٍ من الناس دون فهم كثيرٍ من العلوم التي وضعها الإنسان نفسه بما أودعه الله تعالى فيها من ملكات التعلم والنظر العقلي. ومن ثم فهذا التجاوز نسبي وليس بمطلق. أما المحكم من آياته فلا يسع أحدٌ عدم الوقوف على معناه، إلا من سُلب العقل، وهذا مرفوع عنه القلم. أما ما ينبغي بحق أن نصف به القرآن في مسألة التجاوز المطلق، فهو أنه يتجاوز قدرة الخلق جميعاً أن يأتوا بمثله في القيمة والصياغة، مصداقاً لقوله تعالى "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا"(الإسراء: 88).
وعن القول بأن "الموقف الأصولي التوحيدي – الذي - يتسم بالتواضع والتقوى والخشوع، فللمفسر – الذي - يقدم تفسيره باعتباره تفسيرا واجتهادا وحسب، وليس الحقيقة النهائية."، نقول أنه لا بأس بهذا الموقف التواضعي في تأويل المتشابهات. أما التفسير فهو ليس إلا للمحكمات، أو لما ارتقى من المتشابهات إلى الإحكام بغلبة الأدلة ووصولها إلى حد النِّصاب المعرفي. ومن ادعى من المجتهدين يقيناً فوق يقين الدليل الذي بين يديه، فلا خلاف أنه من المتعصبين أو الموهومين، ونقصد بذلك الذين يرفضون الرأي المخالف ولو كان صواباً، وهؤلاء منتشرين في كل علم. ولا علاقة لوجودهم بكون فضاء العلم يقيني أو مجازي، شرعي أو تجريبي، فلسفي أو رياضي أو هندسي. فالاجتهاد العلمي شيء والتعصب فيه شيء آخر. وقد يخلط المسيري أحياناً بين المتكلمين بالمعجزات والمتعصبين؛ لأنهما يشتركان في صعوبة الرد عليهما، فالأول يتكلم بمعجزة قرآنية، فلا مجال لمخالفته ولو كان مُخطئاً، وإلا انتقلت المخالفة للقرآن ووقع المحظور. أما الثاني لا مجال لمخالفته ايضاً، لأنها بلا طائل لتعصبه، مهما كان كلامه باطلاً. ومن ثم يحمل معارضو الإعجاز على أصحاب الإعجاز حملتهم على المتعصبين، هذا رغم أن الاشتغال بالفكر الإعجازي اجتهاد يحتمل الإصابة والخطأ البشريين، ولن يستطيع إعجازي عاقل أن ينكر دليل معارض دامغ بمحض التعصب، وإلا افتضح أمره وتعصبه، وانفض الناس من حوله. أما تشويه الفكر الإعجازي بتزييف مبدأ الإعجاز بدعوى المجاز الأبدي للقرآن، فلا تنطلي أيضاً على أحد، ومثلها في التعصب مثل الإعجازي إذا أتاه دليل خطئه فتهرَّب منه.
ويبدو أن المسيري ساءه أخطاء الإعجازيين إن كان قد أدرك منها شيء، ولم يستطع تزييفه بحق، أو أنه استعصى عليه قبولها، وما استطاع ردها، فلم يجد إلا أن يَهِدْ المعهد (المعبد) على رؤوس من فيه جميعاً، فنادى بالمجاز، والشعر والإلغاز، وأن صلاحية القرآن في المكان والزمان لا بأس بها لكل إنسان، شريطة أن يصلح كل تأويل في القرآن، ما دام أنه شعري المعنى ، مجازي الفحوى، لا حلول له، ولا صريح دعوى، ففي بطن الشاعر يكمن المعنى!! ...
ثم ماذا .. يسكب المسيري أخيراً أكواب الشعر والمجاز والصلاحية التوليدية لكل زمان ومكان – في غير واقع- في إناء واحد ... إناء الأخلاق، وذلك عندما قال: [وإن كنا لن نصل إلى الحقيقة المطلقة واليقين المطلق، فإن لنا مرجعية نهائية مطلقة هي المنظومة المعرفية والأخلاقية المتضمنة في القرآن والسنة] يريد بذلك حصر معاني القرآن في مجملات ومطلقات بلا أي إسقاطات متعينات، وأن مآل القرآن يتعالى هناك في أفقه المطلق من الماورائيات والروحانيات والأخلاقيات، وما دون ذلك من تأويلات واقعية فليست إلا حلولية مقيتة يجب تنزيه القرآن عنها!! ... بدلاً من أن تكون كشوف قرآنية مجيدة في كتاب الله تضاهي الكشوف الباهرة في خلقه وإبداع صنعه!!
يقول المسيري[14]:
 "الحرفية" في التفسير هي أن يلجأ المؤمن بكتاب مقدس ما إلى التمسك بحرفية النص، دون اجتهاد أو إعمال عقل، وكأن النص يحمل رسالة واضحة مباشرة صريحة مثل القاعدة العلمية، أو اللغة الجبرية، أو الصيغة السحرية، أو الأيقونة التي تفضي بمعناها لمن يتعبد أمامها ... -  ومن ثمَّ فـ - إن ما يحدث في التفسيرات الحرفية هو أن يتم إلغاء المسافة التي تفصل بين الدال والمدلول، وتُلغى فكرة الزمن تماماً وتُلغى ثنائية الدنيا والآخرة. فالتاريخ المقدس يصبح سيناريو مادي مباشر (صورة طبق الأصل من الواقع) آخذاً في التحقق الآن وهنا ( ولذا لا يمكن الاجتهاد في التفسير).
نقول: قد تكون أغلب النصوص القرآنية – وهي التي أتت محكمة - يسيرة الفهم على العموم، ومن ثَمَّ حرفية التفسير، ويكون إنكارها إنكار لما يعلم من الدين بالضرورة. ولكن أغلب النصوص القابلة للمواجهة من معطيات العلوم الحديثة ليست يسيرة على الإطلاق كما يتوهم كثيرٌ من الناس. بل إنها لم تكن مفهومة على تمام معناها قبل الاستبصار بمخرجات الكشوف العلمية الحديثة، وعلى مدار قرون طويلة مضت، فكيف يندرج تفسيرها إذاً في التفسير بـ "الظاهر الدلالة" على ما فهمه الأقدمون، ولا نقول "التفسير الحرفي". وإذا كان صاحب المقولة يبني أحكامه في جواز التفسير العلمي من عدمه على سذاجة بعض المشتغلين به و تعجلهم – كما قال عنهم: "دون اجتهاد أو إعمال عقل" - بالإعلان عن ما يظنونه مكتشفات، ومن ثم على حرفيتها، فهو أشد خطأً منهم، ومثله كمثل من كان يُحَذِّر من التداوي في العصور الماضية بالوسائل القديمة، لأن كثيراً من آليات التطبيب وقتها كانت تؤدي إلى الهلاك إن لم تؤدي إلى الشفاء. وكان الأولى به دعم التفسيرات الجديدة المدعومة بمستجدات الوقائع، مثلما يدعم الطبيب المعاصر العلاجات الجديدة بمستجدات الكشوف الدوائية والعلاجية.
ونرى أن دوران الكاتب حول "التفسير الحرفي" ووضعه في مقابلة مع التفسير المجازي، يجعل مقصده الصريح من اصطلاح "الحرفية" الذي يستخف منه بإصرار، أنه التفسير الحقيقي الواقعي الذي هو مراد الله تعالى من الآيات بحسب فهم المفسر. وذلك لأن أهل الاصطلاح اللغوي كانوا وما زالوا إذا قابلوا بين المجاز اللغوي وشيء آخر، فليس أمامهم من مقابل إلا الحقيقة اللغوية. وبطعن الكاتب في حرفية التفسير – لصالح التقسير المجازي- يكون بذلك طاعناً في حقيقته اللغوية، وواقعيته الكامنة وراء الآيات ذاتها. وكأنه لا حقيقة وراء الآيات ولا واقع. ومن ثم يتم تفريغ الآيات من مضمونها وتصبح ترانيم شعرية. وهذا لا يطعن فقط في قيمة وفاعلية أي تأويل علمي للآيات ذات المغزى العلمي بالمعنى الحديث، وإنما يطعن في إيمان المؤمنين أنفسهم ويجعله إيمان في الهواء، أو سراب يحسبه المفسر ماء! فإن أتاه فلن يجد شيئاً، ويجد المسيرى عنده، فيعطيه درجة صفر في الامتحان!
يقول المسيري[15]:
المفسر الحرفي .. يقدم تفسيره باعتباره الحقيقة البسيطة الواضحة النهائية واليقين المطلق، وكأنه قانون علمي مادي توصل له صاحب التفسير، فرغم أن القرآن هو كلام الله إلا أن هذا المفسر أدرك معناه تماماً وفسره للناس، ثم يقدم تفسيره على أنه كلام الله البسيط الواضح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو في واقع الأمر كلامه هو، وبما أن النص يحوي التاريخ والعلم والواقع، وحيث أنه لا اجتهاد مع النص، يصبح النص والواقع والإله والمفسر شيئاً واحدا. هذا هو النموذج الكامن وراء التفسيرات الحرفية. 
نقول: هل يختلف تفسير القرآن المعتمد من قبل علماء المسلمين في عموم آياته وفي أكثر التفاسير شهرة، عن ما ادعاه صاحب المقالة السابقة وسماه بالتفسير الحرفي؟ إن الآيات التي قامت عليها العقيدة، والتي جاءت أصولاً للأحكام الفقهية، والتي بشرت وأنذرت من حساب الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب حقيقي، والتي أعلمتنا بالغيب الحاضر والمستقبل، كل هذه الآيات فسرها المفسرون الـمُعتبرون بدلالات واضحة جلية لا مجاز فيها ولا آراء إلا قليلا. فالذين فسروها – بناءاً على كلام المسيري - هم مِن ثمَّ، مفسرون حرفيون! وتفسيرهم غير قابل للمراجعة في هذه الآيات بما يبدل معانيها، ومن ثم فتفسيرهم حقيقة بسيطة واضحة نهائية ويقين مطلق بتعبير صاحب المقالة السابقة. بل إن تفسيرهم بهذا المعنى وحسب منطقه يصبح قانوناً علمياً للإنسان في ماضيه وحاضره ومصيره. ونتساءل: هل يمكن وصف هذا النموذج التفسيري – كما قال المسيري - بأنه أصبح يمثل النص والواقع الإنساني والإله الخالق والمفسر في شيء واحد؟!... إذا جاء هذا الوصف على هذه الصورة التهكمية فسوف يشمل كل مفسر للقرآن، وفي أي نوع من أنواع الآيات: في العقيدة والأحكام والعبادات والمعاملات! فكل هذه الأركان الدينية أصبحت محل تهكم يشملها سخرية الكاتب جنباً إلى جنب مع الآيات الكونية. فسبب التهكم يعم الجميع ولا يميز بين نوع ونوع، ما دام يندرج تحت مسمى التفسير الحرفي. وإذا وصل الأمر إلى هذا الحد، واستجبنا لصاحب هذا الكلام، ومنعنا المفسرين من تفسيراتهم الحرفية لكلام الله تعالى، خشية الوقوع في ما وصمهم به صاحب المقالة من تألُّه. عندئذ نسأل صاحب المقالة: ومن يستخرج لنا من القرآن أحكامه؟ فإما أن يقول: الله يستخرج لنا الأحكام، وهذا هو قول الخوارج حين قالوا: "لا حكم إلا لله"، أو يقول - ما هو أسوأ من ذلك -: لا سبيل لاستخراج أحكامٍ من القرآن لأنه أتى على نمط المجاز والمجاز كما قال المسيري: "يقوم بتحرير النص القرآني من فضائه الزماني والمكاني فتصبح الآية ذات دلالة إنسانية عالمية تتجاوز المناسبة المباشرة."، ومن ثم فلا أحكام لعيون المناسبات، ومفردات الحوادث! – وهذه هي الطامة الكبرى وراء كلام المسيري. إنه يستهدف الشريعة بجملتها، والفقه وعلوم القرآن، والدين، كل الدين!!! ... وهل يتبقى للدين معنى، أو قيام له بين الناس، بلا تفسير حقيقي لا مجاز فيه.؟!
وإذا راجعنا المقالة بمزيد من التدقيق، فسوف نجد خطأ استخدام أحد أهم الألفاظ في هذا الاستدلال، وهو لفظ "النص". فقول علماء أصول الفقه والقواعد الفقهية "لا اجتهاد مع النص" ليس ما يستدل منه العامي أنه لا اجتهاد في مسألة ما مع محض ورود آيات القرآن في نفس المسألة، وبما يفهمه الساذج من العوام من أن لفظ "نص" يعني سياق الآيات. أما المعنى الصحيح المراد من لفظ "النص" في هذه القاعدة فهو[16]: " ما دل ظاهرُ الألفاظ عليه من الأَحكام". فإن خفيت الأحكام أو الدلالات المقصودة في سياق الآيات واحتاجت إلى الاجتهاد العيني الواقعي في عين المسألة جنباً إلى جنب مع ألفاظ القرآن، فيتم معالجتها بدخولها في رتبتها التي يقيمها العلماء، من مستويات أقل في درجة الوضوح من درجة "النص"، وأمثلة ذلك: "الخفي والمُشكل والمـُجمل والمتشابه"[17]. ولا ريب بوجوب الاجتهاد على المفسر عندئذ، حتى يرتقي بالآيات المعنية إلى مستوى "النص" – أي إلى مستوى الوضوح الكافي لاستخراج الحكم/الدلالة – وذلك بمعية ما جاء به من معلومات عينية واقعية في الحوادث الفردية أو الآيات الكونية. وعلى ذلك فالاجتهاد وارد حتماً في آيات القرآن الكونية؛ لأنها كانت – من قبل الاجتهاد - أقل في وضوحها من درجة "النص" اللازمة لاستخراج الحكم/الدلالة الكونية، وإلا لظهر معناها عند علماء التفسير السابقين، ولما احتاجت إلى الاجتهاد، ولكانت من المحكم منذ يوم نزولها.
إن العلماء العاملين في التفسير والإعجاز العلمي مجتهدون على العموم. وإن قصَّر بعضهم في الإعداد الكافي لخوض غمار التفسير العلمي بحكم حداثة مادته وجدتها، فتقصيره يخرجه من الاجتهاد. ولا ريب أن كل مجتهد – انطبقت عليه شروط الاجتهاد - يصيب ويخطئ في الوصول إلى الحق. ومعلوم لدى علماء الأصول أنه لا ينبغي لمجتهد أن يغلق الباب في وجه النقد البنَّاء، أو التنقيح، أو الرد الموضوعي على عيون المسائل التي أثارها. ولم يدّع أحدٌ منهم التأله، ولا التحدث بإسم الإله، ولا تأليه الواقع، وهو ما تتهمهم به المقالة السابقة. ولن يغني عجز من كره أعمالهم، هجاءهم، بدعوى ردعهم، لرفع القرآن عن متناول أيديهم – تنزيهها له بزعمه - فيكونون سواء.
إن دعوى صاحب "التفسيرات الحرفية للقرآن"[18] لها من الخطورة ما يمس جوهر القرآن بما لا يقبله أهل القرآن على أي مذهب كانوا. فقد عمم مجازية التفسير ليطغى على كامل الآيات، وهذا مردود، وطعن في واقعية النصوص! واتهام ضمني لكل المفسرين بالتعالي، بحكم أن تفسيراتهم حرفية. وهذه دعوى مستبطنة تستهدف تعطيل القرآن، سواء قصدها أو لم يقصدها. ونفى أثر الآيات الموحى بها في التحقق في واقع الخلق. وهذا يتصادم ومقررات النصوص من جهة، وحاجة الواقع إليها من جهة ثانية. ويبدو أن دعوى المجاز التي راجت ورجحت لدى علماء اللاهوت حول الكتاب المقدس بعد التصادمات العديدة التي نتجت عن تحريفات اليهود وأخطاء المتأولة منهم[19] قد أثرت على الكاتب، فأراد أن يحملها إلى القرآن. وهي دعوى لا تختلف عن دعوة إقصاء الدين عن مسرح الحياة، كما أقصت اوربا الدين في تنوُّرِها المحدود، بعد ظلامها الطويل، واكتفت بما آل إليها من الكتاب المقدس بالمجاز، الذي يحفظ نصوصها متوناً غير قابلة للتفعيل!
ولكي نكشف أكثر عن مرمى مقالة الكاتب في ذلك نقرأ العبارة الآتية له، حيث يقول:
 المجاز يقوم بتحرير النص القرآني من فضائه الزماني والمكاني فتصبح الآية ذات دلالة إنسانية عالمية تتجاوز المناسبة المباشرة، ومن ثم تتضح مقدرة النص القرآني التوليدية وأنه صالح لكل زمان ومكان.
وفيها نلحظ دسه للعسل الذي هو صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، في السم الذي هو المجاز الذي يحرر النص القرآني من فضائه الزماني والمكاني فتصبح الآية ذات دلالة إنسانية عالمية تتجاوز المناسبة المباشرة. والنتيجة أن الدلالة لن تسقط علي أي مناسبة وسيظل أصل النص – بحسب المتكلم - مجازاً، وحيثما يكون المجاز فلا قياس فقهي ولا أحكام ولا حلال ولا حرام. والدليل على إجهاض قيمة النص القرآني بهذا التأويل من المقالة نفسها ابتدائها بالعبارة: "كي نتناول قضية التفسيرات الحرفية للقرآن علينا بادئ ذي بدء أن نتوجه لقضية المجاز في اللغة. إذ أذهب إلى أن النصوص المقدسة نصوص مجازية توليدية، لا يمكن فهمها إلا بإدراك طبيعتها المجازية." وعلى ذلك – وبلسان صاحب المقالة – فالنصوص المقدسة جميعاً توليدية. ولكن العبارة الأسبق تقول أن المقدرة التوليدية هي المسئولة عن صلاحية النص لكل زمان ومكان. وعلى ذلك، فالنصوص المقدسة جميعاً صالحة لكل زمان ومكان. ومن ثم فلم يكن صاحب المقالة يمتدح القرآن بهذا الوصف ويميزه به، بل إنه لم يقصد من الصلاحية هنا الصلاحية التطبيقية على الوقائع، بل الصفة المجازية الشعرية الروحانية، ومن ثم تتساوى جميع النصوص المقدسة في هذه المنزلة. وكما قلنا أعلى: لـمّا كان مآل الكتب المقدسة السابقة – ذات الطابع المجازي – هو التعطيل، فكذلك تجيء دعوى الكاتب بتعطيل القرآن من حيث أن دلالاته مجازية - بزعمه!!
وهنا ملاحظة هامة يجب الوقوف عندهما لتجلية الأمور؛ ألا وهي وجوب التمييز بين جواز التفسير الحرفي بين حالتي الغيب والشهادة. فإذا كانت الشهادة واقع رصدناه، أو من المفترض رصده بدرجة ما من الوضوح، فماذا يعيب علينا مطابقة نصوص الوحي بما نرصده عن الواقع ويسجله التاريخ بقدر ما يتيحه لنا الوضوح الحاصل؟! فإذا كان الأمر كذلك، فالتفسيرات الحرفية للواقع والتاريخ نتيجة طبيعية، حيث لا يجوز تخطي الحقيقة اللغوية إلى المجازية إلا في حضور صارف يوجب لذلك. أما الغيب فلا جدال في استعصاء إسقاط نصوصه على صور لها مثيل في الواقع المادي على نحو يقبل المطابقة. فمهما تخيلنا الملائكة فلا يجوز تصور أجنحتها وهل هي على نمط أجنحة الطائر أو شفرات الدوارات المروحية أو غير ذلك، ناهيك عن الجزم بذلك، والذي هو قول بلا علم ولا ترجيح. وعلى ذلك فالتفسير المجازي والوقوف عند حدود اللغة دون إسقاطات حرفية على واقع لا يمكن رصده ضرورة لازمة في هذا المجال من إخبارات الوحي بالغيب. إذا علمنا هذا، أدركنا أن صاحب المقالة - الذي نحاوره فيها - قد خلط بين طبيعتين مختلفتين للوجود، وعمم عليهما حكماً واحداً هو استبعاد التفسير الحرفي عنهما، وهو بذلك يكون قد وقع في خطأين: نفي التفسير الحرفي حيث لا مفر منه في عالم الشهادة متمثلاً في الواقع والتاريخ، وتعميم حكماً واحداً على مختلفين، ومن ثم جمع بين المختلفين من حيث يجب التفريق بينهما، وهو شرط ضروري كي يتحقق لنا علمٌ معتبر بشأنهما.
ولما فعل صاحب المقالة ذلك، وقع في الخلط بين عالمي الشهادة والغيب، لذا نجده يقول[20]:
 الحرفية هي ثمرة الحلولية التي تلغي المسافة بين الخالق ومخلوقاته فيتوحد بها ويصبح في العالم جوهر واحد ويصبح لكل الظواهر بُعد واحد، بما في ذلك كل النصوص، وبالتالي يصبح للنص القرآني معنى واحد مباشر واضح ودقيق، بوسع المفسر أن يصل ببساطة دون اجتهاد ولا إعمال عقل، وكأن النص يحمل رسالة واضحة مباشرة صريحة مثل القاعدة العلمية أو اللغة الجبرية.
 فنقل المسيري حكم مُدان للحلوليين وأصحاب وحدة الوجود، وهم الذين يبالغون في التفسير الحرفي لعالم الغيب إلى درجة الإلحاد بتمثيله بما يروه من الواقع المادي ودمج الغيب بالشهادة والشهادة بالغيب، وحمل صاحب المقالة هذا الحكم على كل النصوص ليَسِمْ به من يفسر نصوص الوحي عن المخلوقات المكلفة والمسخرة كما يروها ويعانونها بأنهم من مثيل الحلولية! واذ كانت "القاعدة العلمية" – التي ذكرها المسيري - نص بشري مستقرأ عن الواقع من سلوكه، وجاء النص القرآني بإفادة صادقة عن عين الواقع، فليس هناك من ضير ولا تجاوز ولا حلول ولا وحدة وجود في ضم معادلتي الواقع والوحي حيثما يشترك موضوعهما – لأن موضوعهما هو الشهادة، وليس إلا الشهادة أو لوازمها.
أما عن وضوح الرسالة ومباشرتها وصراحتها وانتفاء الاجتهاد وإعمال العقل – كما يدعيه صاحب المقالة أعلى - فهذا بعيد كل البعد عن جدية العمل البحثي الذي يتطلبه الجمع بين مقولات الواقع والوحي عن ذات الموضوع، حتى وإن قصَّر فيه بعض المشتغلين بتحقيق الإعجاز العلمي. ودعماً وسخرية من هذه البساطة المدعاة، يقول صاحب المقالة[21]:
وما على الإنسان إلا أن يفتح القرآن فتقع عيناه على أي آية فيدرك معناها على الفور. 
 ومرة ثانية تأكيدية ينتقل من الحلول إلى التفسير العلمي والتاريخي وكأنهما من توابعه! فيقول[22]:
ونتيجة لحلول الخالق في مخلوقاته وكمونه في العالم، ونتيجة لإلغاء المسافة بينه وبين مخلوقاته نجد أن التفسيرات الحرفية تذهب إلى أن النص القرآني يتطابق مع الواقع المادي ومع التاريخ الزمني، وأن كل ما ورد في القران يمكن التدليل عليه علميا، وأن القصص القرآني تحقق حرفيا في التاريخ. 
وبإسقاط ضوءاً كثيفا على هذه الدعوى الأخيرة من استنكار صاحب المقالة لكون "القصص القرآني قد تحقق حرفيا في التاريخ" فنتذكر من جنح إلى مثلها في الماضي القريب، ونقصد بذلك "محمد أحمد خلف الله" في رسالته التي قدمها عام 1947م إلى جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) لنيل درجة الدكتوراة، والتي رفضتها الجامعة، وكانت بعنوان "الفن القصصي في القرآن الكريم"، وقد قال فيها[23]: "إن المعاني التاريخية ليست مما بُلِّغ على أنه دين يُتَّبع، وليست من مقاصد القرآن في شيء ... إن قصد القرآن من هذه المعاني إنما هو العظة والعبرة .. ومعنى هذا .. أن قيمتها التاريخية ليست مما حماه القرآن ما دام لم يقصده" وقال[24]: "إن التمسك به – يقصد التاريخ – خطر أي خطر على النبي عليه السلام وعلى القرآن، بل هو جدير بأن يدفع الناس إلى الكفر بالقرآن كما كفروا من قبل بالتوراة". وعن قول الله تعالى "وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا"(الفرقان:5-6)، فقال خلف الله معقباً[25]: "هل هذا الرد ينفي ورود الأساطير في القرآن؟ أو هو إنما ينفي أن تكون هذه الأساطير من عند محمد يكتبها وتملى عليه ويثبت أنها من عند الله، قل أنزله الذي يعلم السر ...إلخ .... – ثم قال – إذا كان هذا ثابتاً فإنا لا نتحرج من القول بأن في القرآن أساطير لأنا في ذلك لا نقول قولاً يعارض نصاً من نصوص القرآن"!!! ... هذا وقد دعم أمين الخولي المشرف على الرسالة قول صاحبها، وقال عن رفض جامعة فؤاد الأول للرسالة[26]: "ترفض اليوم ما كان يقرره الشيخ محمد عبده بين جدران الأزهر من إثنين وأربعين عاما".
وبالرجوع إلى مجلة المنار، فنجد ما عوّل عليه محمد أحمد خلف الله، وأمين الخولي، ومن بعدهما المسيري، ومحمد أركون وآخرين، فنقرأ[27]: "ولكون التاريخ غير مقصود له لأن مسائله من حيث هي تاريخ ليست من مهمات الدين من حيث هو دين، وإنما ينظر الدين من التاريخ إلى وجه العبرة دون غيره"، ونقرأ أيضاً[28]: "بيَّنا مراراً أن أحداث التاريخ وضبط وقائعه وأزمنتها ليس من مقاصد القرآن، وأن ما فيه من قصص مع أقوامهم فإنما هو بيان لسنة الله فيهم وما تتضمنه من أصول الدين والإصلاح."
ونعود إلى المسيري لنقرأ[29]:
ثمة مفارقة هنا، لأن هذا الحديث يعني في واقع الأمر أنه إذا كان النص القرآني متطابقا تماما مع قوانين الطبيعة والتاريخ، فكلام الله المتجاوز يصبح هو قوانين الحركة وقوانين الحتمية التاريخية. ولذا نجد كثيرا من المفسرين الحرفيين يقومون بنزع الآيات من سياقها، ومن ثم من إطارها المرجعي النهائي، أي أن التفسيرات الحرفية تتجاهل النظرة الكلية للنص القرآني، ثم تلوي عنق الآيات وتجعلها تتطابق مع واقعة تاريخية هنا وقانون علمي هناك. أليس هذا هو ذاته جوهر التفسيرات المادية، التي تجعل المحك الوحيد لمصداقية أي قول هو مدى تطابقه مع الواقع المادي؟ 
فنقول: أن هذه المقولة للمسيري تميز في كلام الله تعالى بين تفصيلات تنكرها، وكليات عامة تثبتها، بنفس منطق خلف الله وتفسير المنار. وكأن غرض كلام الله تعالى ليس إلا كليات عامة لا تضاريس فيها، هذا رغم أن الله تعالى يقول: " وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا"(الإسراء: 12)، ومن ثم تنفي هذه المقولة التفسيرات الحرفية سواء كانت تفسيرات لآيات محكمات أو غير محكمات، إعجازاً علمياً أو حقائق تاريخية. ثم يجيء تشويه صورة هذا التحقيق التفصيلي لآيات القرآن ووصمه بأنه جوهر التفسيرات المادية. ونقول: ألم يستشهد القرآن على صدقه بصدق الواقع الذي يحكيه القرآن، ألم يقل الله تعالى: "وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ"(الأحقاف:34). فهو حق لأنه واقع، ولأن الواقع يصدِّق كلام الله العلي القدير، الذي خلقه وهو به أعلم. لذلك فإن لفظ "مادي" وإلحاقها بالتفسير لا تعيبه، بل تجعله أقوى بحكم الانتقال بالتفسير من "علم يقين"؛ أي: "التفسير اللغوي الذي أحاط المفسر بمعاني مفرداته" إلى "حق اليقين"؛ أي: "التفسير العلمي الذي أحاط المفسر بمعاني وشواهد مفرداته"! .. فأي التفسيرين أهدى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ولا بد أن ينتبه القارئ الواعي إلى نار قديمة لهذا الدخان الجديد، أيام المتفلسفة وأبو حامد الغزالي، والنزاع في علم الله تعالى بالجزئيات!، إذا نقرأ في المسألة الثالثة عشر من الكتاب الشهير لأبي حامد "تهافت الفلاسفة" ما نصه[30]: [في إبطال قولهم (أي الفلاسفة): إن الله – تعالى عن قولهم – لا يعلم الجزئيات المنقسمة بانقسم الزمان: إلى كائن وما كان، وما يكون] ثم يعرض أبو حامد المسألة بقوله: [وقد اتفقوا على ذلك، فإن من ذهب منهم إلى أنه (أي الله سبحانه) لا يعلم إلا نفسه، فلا يخفى هذا من مذهبه، ومن ذهب إلى أنه يعلم غيره - وهو الذي اختاره ابن سينا – فقد زعم أنه يعلم الأشياء، علماً كليا، لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن، ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي.] ثم شرع أبو حامد بتفهيم المسألة ثم اشتغل بالاعتراض عليها. .. وإذا تفحصنا مسألتنا التي نحن بصددها، نجد أن عرضها الجديد من قبل المسيري ومن سلك سبيله، قبله أو بعده، قد استنكر أن يحتوي كلام الله تعالى على الجزئيات من حيث هي وقائع متحققة، واكتفى بقبول أن كلام الله تعالى متجاوز لهذه الجزئيات، وينصب الغرض من كلام الله على الكليات! فما أشبه الليلة بالبارحة.
نعود إلى المسيري ونقرأ له[31]:
 الحرفية تقف على طرف النقيض من الأصولية في الإسلام، فالأصولية هي رفض لبعض الممارسات والتفسيرات التي يرى الأصوليون أنها تتنافى مع تعاليم الدين، وهي دعوة إلى إعمال الفكر وممارسة الاجتهاد لتجديد الثوابت والأصول الفكرية والمعرفية للدين، فالأصولية دعوة للعودة إلى أصول الدين الأولى وممارسات واجتهادات الأولين والصالحين والحكماء، ومحاولة تفسيرها تفسيرا جديدا، وتوليد معانٍ جديدة منها تتلاءم والزمان والمكان اللذين يوجد فيهما المفسر "الأصولي".
نقول: هذا الادعاء بوجود أصولية تقف على النقيض من الحرفية ادعاء لا سند له. فإذا تتبعنا رأي صاحب المقالة لوجدناه يقول[32]: " ترجمنا – نحن العرب - كلمة (Fundamentalism) الإنجليزية ونقلناها من المعجم اللغوي والحضاري الغربي إلى معجمنا اللغوي والحضاري دون إدراك المفاهيم الكامنة في المصطلح التي تحدد معناه." أي أن دلالة الأصولية المقصودة دلالة منقولة من غير ثقافة الإسلام، وترتبط بالثقافة المسيحية بشكل مباشر، كما يتابع ويقول "وهذا المصطلح في المعجم الغربي يشير بالدرجة الأولى إلى التفسيرات البروتستانتية (الحرفية) للعهد القديم والجديد، أما في السياق الإسلامي فالأمر جد مختلف." فإذا تساءلنا: ما هي الأصولية الإسلامية التي تقف على نقيض مع التفسير الحرفي؟ لما حصلنا على إجابة! فإذا تفحصنا المقولة أعلى لوجدناه يقول: "فالأصولية دعوة للعودة إلى أصول الدين الأولى وممارسات واجتهادات الأولين والصالحين والحكماء"، ونستعلم أكثر ونسأل: أي أصول تلك التي نأخذها عن الحكماء والصالحين واجتهادات الأولين؟ - وهل الحكماء هم الفلاسفة أم أنه يُطلق هذا اللفظ على غيرهم؟ ومن هم الأولين، هل هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم التابعين أن فلاسفة اليونان؟!
إن الأصول في الإسلام هي فقط القرآن والسنة الصحيحة، وغير ذلك اجتهاد من علماء الإسلام – بالقياس الفقهي والإجماع - يرتقي أو يضعف بما يحمل من دليل. وإذا أطلق هذا الاصطلاح "الأصولية" في الثقافة الإسلامية الراهنة فهو يشير إلى الدعوة للعودة لمنابع الإسلام الأصلية ونبذ ما عداها من مراجع في التشريع، إلا ما تأكد عدم مخالفته لها. أمّا إذا خُصِّص وسقط المصطلح على نوع من العلماء، أي: "الأصوليون"، فيكونون بالضرورة علماء أصول الفقه دون غيرهم. ولا يدخل في هؤلاء وأولئك لا حكماء بساطهم الفلسفة ولا صالحين يحملون البركة ليقرروا به تفسير كلام الله. إنما هو عِلم مبني على ثوابت الإسلام، وبه تعرف طرف استنباط الأحكام الفقهية، ولا يحمل لواءه إلا من يُجاز له بالأهلية.
ويبدو أن دعوى صاحب مقالة "الحرفية والأصولية" غرضها تبخيس التفسير الحرفي الواقعي، فادعى تنافيه للأصولية لما لها من رنين إيجابي في أذهان السامعين، فينتج عن ذلك صد نفسي عما ينافيها، وما ذلك إلا "الحرفية"، بزعم صاحب المقال. ولكنه أخطأ في تعريف الأصولية مما كشفت محاولته الإجهاضية للتفسير الحرفي، والتي يقصد منها الواقعية الإسلامية، ومن ثم فشلت محاولته وتعرى زيفها ومكرها.
يقول المسيري[33]:
 إن كان هناك بالفعل تطابق كامل بين الواقع والقرآن، وإن كان الواقع والقرآن خطين متوازيين فإن المرجعية تنتقل من النص المقدس إلى الواقع، ويصبح من الأجدر أن نذهب إلى الواقع المادي المحسوس القابل للقياس مباشرة. أليس هذا هو بوابة الدخول إلى العلمانية والمادية؟ ... إن هذه المطابقة تجعلنا نحاكم القرآن من منظور الواقع وليس العكس. وهناك بعض العلمانيين ممن يتعرضون لتفسير القرآن فيقولون إن النص هو الواقع، أي أنهم يلغون المسافة بين الواحد والآخر، ثم يتمادون فيقولون إن الله هو الواقع، الله هو الثورة، بل إن أحدهم أيام المد الاشتراكي قال إن الله هو الإصلاح الزراعي، أي أنهم يقعون في التجسد وفي الشرك.
يكشف لنا المسيري عن مهارة عالية في تلبيس الأمور، وحصر الاختيارات أمام القارئ بين متعارضات، ويجعل أحلاها ما يريده هو من القارئ أن يختاره، وهو قانع منتشي. ويفعل في سبيل ذلك فبركات من تزيين الباطل، وتشويه الجيد، حتى يصل لغرضه من إلزام القارئ باختيار لا ثاني له.
ونسوق تفصيل هذه الحيل والفبركات التي أتى بها في الفقرة السابقة:
1- الغرض من الفقرة تبغيض القاريء في مطابقة القرآن للحقائق الواقعية التي يتكلم عنها وأنها تفسيره ومآله، ومن ثم إلزامه بأن القرآن مجازي المعاني دونما واقع ينبغي أن نبحث عنه وراءه.
2- إثبات أن مطابقة القرآن للحقائق الواقعية تؤدي إلى العلمانية المادية التي يبغضها المؤمنون مسبقاً، لأنها تنتقص الدين وتجعله مادي علماني، وليس روحاني متعالي.
3- النتيجة الحتمية هي أن تصبح المطابقة المشار بين القرآن والواقع بغيضة في عين القارئ، ويجب نبذها، والارتماء في أحضان التفسير المجازي الخالص!
أما، كيف أن المسيري نفذ الخطوة الثانية – أي التي حقق فيها المساواة (الزائفة) بين مطابقة القرآن والواقع من جهة، والعلمانية المادية من جهة ثانية، فسنعرضها في صورة حجة عقلية للمسيري، يعقبها وجه التلبيس الذي اتبعه:
1- الحجة العقلية للمسيري: المطابقة بين القرآن والواقع تامة (حسب ادعاء التفسير الحرفي)، فالواقع إذاً يغنينا عن القرآن لأنه قابل للقياس مباشرة. يقصد من ذلك أن الواقع له مزية عن القرآن، ومن ثم نختاره وندع القرآن! ولكن الاعتماد على الواقع فقط هو ادعاء العلمانية المادية (البغيضة)، ويعظم المسيري هذا البغض في اقتران دعواها تلك بنبذ القرآن في سبيل الاعتماد فقط على الواقع. وعلى ذلك تكون مطابقة القرآن والواقع تؤدي إلى علمانية مادية، ويصبح كلاهما على نفس الدرجة من البغض لو صدقت المطابقة! .. الأمر الذي يجب تنزيه القرآن عنه!
2- وجه التلبيس: الحق أن المطابقة التامة بين القرآن والواقع تامة عند الله تعالى فقط، لأنهما كلامه وخلقه. أما عندنا فجزئية على الدوام، ولا تصل إلى التمام إلا في نهاية القصة: وفي الطريق إلى ذلك تزداد نسبة المطابقة التي نشاهدها بأعيينا وزيادة علمنا مع الزمن، ولن تتم المطابقة بكامل تفاصيلها إلا يوم نلقى الله تعالى، مصداقاً لقول الله تعالى "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ"(الأعراف:53). وفي الطريق إلى هذا الميعاد المحتوم ستكتمل المطابقة في ما أتى به القرآن مع التفاصيل الدنيوية، ويصبح كامل القرآن في ذلك محكم، ومع تتالي أحداث الانتقال من الدنيا إلى الحياة الأخرة سنتتابع المطابقة فنرى تهدم الكون على نحو ما فصّل القرآن، والنفخ في الصور،  والبعث والحساب والميزان والثواب والعقاب، والنعيم والعذاب... وكل هذه الأحداث وقائع مادية، ولا ينكر وقوعها؛ أي ماديتها إلا الـمُنكر لحديث القرآن! .. وهنا تكتمل المطابقة التي زيفها المسيري، ودلس بها على القراء، وادّعى أنها مطابقة تامة – لمن آمن بها - في لحظة واحدة من الزمن الأرضي ... لفئة يجب نبذها .. هي المفسرون الحرفْيون!
أما ما أعقب ذلك في كلام المسيري عن علمانيين يساوون بين الواقع والخالق جل وعلا، ويقولون الثورة هي الله بحكم أنها واقع، والإصلاح الزراعي مثلها لأنها واقع، فهذا كلام عابث لا قيمة له، وقائليه في خطر عظيم إن هم ماتوا على ذلك. ولا يلزم هذا العبث أحداً من المؤمنين، الذين ينظرون إلى الواقع بمنظار القرآن فيفرقون بين الحق والباطل، مثلما ينظر كليل النظر إلى الواقع بنظارات طبية يرى بها الصورة واضحة والطريق مستقيم، فيسلكه آمناً مطمئناً، ولا يعتبر بمن يزيف عليه ويقول له: إن النظارة ليست الواقع، وإنها ليست إلا مجازاً شعرياً!
يقول المسيري:
 أن التفسيرات الحرفية تفسيرات شعبوية، لأنها سهلة للغاية، إذ يفتح المفسر النص القرآني ويأخذ منه سطرا أو سطرين ويفسرهما بطريقة مباشرة. فالشخص العادي خاصة في العصر الحديث مع شيوع المثل الديمقراطية وأفكار المساواة يرى أنه بوسعه أن يفسر القرآن دون أن يكون عنده الإعداد العلمي اللازم مثل معرفة اللغة والإلمام ببعض التفاسير والممارسات السابقة، ونقط الاتفاق والاختلاف بين المفسرين وأسباب هذا الاختلاف. (على الرغم من أنه يشكو طول الوقت من صعوبة أي نص أدبي أو ثقافي على قدر ولو بسيطا من التركيب!).
نرى هنا الخلط بين صحة المبدأ وسوء تطبيقه، حيث يتذرّع الكاتب بسوء التطبيق لغرض وحيد هو هدم المبدأ. وبدلاً من تحريم العبادة التي يسعى الكاتب إلى تحريمها لأن العُبَّاد يسيؤون آداءها ويستخفون بها بحسب وصفه، على صاحب  المقالة أن يُعلِّم الناس العبادة الصحيحة. وبدلاً من تحريم الدواء بالكلية كي لا يموت منه الناس باجتهاداتهم الشخصية، عليه أن يدعو إلى تقنينه وتأهيل الأكفَّاء لتحمُّل تلك المهمة. إن إعطاء نموذج حي للناس يتأسَّون به، خيرٌ ألف مرة من تركهم يهيمون على وجوههم كما تفعل الجهات الدينية والتربوية، وخير آلف ألف مرة من منعهم من فعل شيء كما يفعل المسيري. وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا النموذج البشري الذي من شاكَلَه في الدنيا صاحَبَه في الآخرة. وما مَثل صاحب المقالة وما يدعيه، إلا كمثل من يدعو الناس للعبادة المجازية الشعرية! فلا هيئة حرفية للصلاة من قيام وركوع وسجود، ويُقاس على ذلك ما وراءَه، وذلك بحُجّة أن التفسير الحرفي للعبادة – بدعوى الحرفية التي يشوه صورتها صاحب المقالة- سيؤدي إلى التجسيد والحلول! حلول المصلى في المصلى له!!! ومن ثم يدعو الكاتب لتحريم العبادة اتقاءاً لهذا الحلول!!! .. نعم .. هذا مآل دعوى المسيري من حيث لا يدري .. أو ربما أنه كان يدري .. ولا يعلم ذلك إلا الله العليم الخبير.
ولا يظن ظان أننا نتقول على المسيري .. وكل ما يعنينا منه ليس إلا لوازم كلامه .. فإن كان فاسداً .. رددناه عليه ولا نبالي.
يقول المسيري:
 إن – الإنسان - حينما يفتح الكتاب المقدس فإنه يريد أن يعرف المعني المباشر الواضح الذي لا لبس فيه ولا إبهام، بل والمقابل المادي لما جاء فيه. وهذه هي عقلية "حدث بالفعل.
ونتساءل: هل للقراءة العاقلة غرض يختلف عن فهم القارئ لما هو مكتوب؟ إن المقولة السابقة تدعو إلى غير ذلك! بل وتعيب على الإنسان الفهم الصريح إن أراد التدبر كما أراد الله تعالى " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"(محمد: 24). وقيل[34]: "يتَدَّبرُون القرآن" يتأملون في معانيه ويتبصرون ما فيه. وقيل[35] في قوله تعالى "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ"(ص:29): هذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات وما لا يُعقل له معنى لا يتدبر، وفي قوله "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ" لم يستثن شيئا منه نهى عن تدبره.
ثم ما المراد من سخرية الكاتب بما وصفه من سعى الساعي إلى فهم القرآن، ووسمه بعقلية "حدث بالفعل"؟! .. هل هي نقيصة، وإذا كانت نقيصة، فلابد أن عكسها هو الفضيلة، وتكون سمتها إذاً "لم يحدث بالفعل". أي أن على قارئ القرآن أن يضع في حسبانه ألا يفهم ما يقرأ، أو أن ما يفهمه من قراءته – مهما بلغ من مهارات الفهم - لم يحدث بالفعل كما يتراءى له أنه فهمه؟! .. أو ربما أن يقرأ القرآن كما يقرأه الهندي والإندونيسي وكما كان يقرأ المسيحي الأوربي التوراة والإنجيل باللاتينية لا يفهمون مما يقرأون شيئا، يتعبدون بما لا يفقهون!!! .. هل تحويل القرآن إلى ترانيم هو الفضيلة! .. أللهم نبرأ إليك من هذه الدعوى .. وما كان في معناها.
وفي استئنافه المسيري بقوله: "كأن ما يحدث بالفعل هو الحقيقة الخالصة. مع أنني دائما أنبه إلى أن الحقائق ليست الحقيقة، وما يحدث بالفعل هو مجرد حقائق تحتاج لتفسير وتصنيف ثم تجرد منها الحقيقة." فنوافقه على أن الوقائع المادية مركبة ومتراكبة وتتطلب تحليل هي الأخرى. ولكن هذا لا يمنعنا من أصل المناظرة بين كلام الله تعالى ووقائع خلقه بمفرداته واصطلاحاته. ولم يحدث أن رأينا من قائم بالتحليل اللغوي وهو يدعو الناس بأن يقذفوا بمفردات اللغة واصطلاحاتها في البحر، بحجة أنها لا تستقل بالمعنى ولا تؤدي إلى حقيقة؟!
يقول المسيري: "يمكننا أن نقول إن معظم الحركات الشمولية، اليمينية واليسارية، حركات حَرْفية، فهي حركات لها كتبها المقدسة (أعمال هتلر- كتابات ماركس- كتابات لينين- العهد القديم) التي تحتوي على كل ما يلزم للتعامل مع الواقع المادي (فثمة تطابق كامل بين النص المقدس وهذا الواقع)."
ونستغرب ونقول: أي اشتراك هنا بين الوحي الإلهي في مصدريته اليقينية والمتعالية عن المشابهة وإنزاله على الواقع المخلوق بإرادة وقدرة نفس الإله المتكلم بالوحي، ومقارنته بالفلسفات الفاسدة والمتخرصة والبربرية الهمجية من مثل كتابات لينين وماركس وهتلر وفرضها على أتباعهم؟! كما أننا بنفس المنطق نبرئ العهد القديم في صورته النقية من هذه المشابهة الجائرة.
ونتساءل: هل إذا أراد ولي الأمر العادل أن يفرض نظامه بالقوة على متمردين فاسدين، يتساوى مع شرذمة منهم خرجت عليه وأعلنت العصيان المسلح تريد سلبه الأمر بما لا حق لها فيه. هل يستويان مثلا؟! هل نُحرِّم الزواج الذي شرعه الله وباركه قياساً على آثار الإباحية المدمرة للمجتمع والخلق القويم لمجرد اشتراكهما في الآليات البيولوجية؟! 
كل هذه المحاولات من صاحب المقال كانت بغرض الانتقاص من التفسير الصريح – والذي سماه التفسير الحرفي- لآيات الله في كتابه في أهم ملامحها ظهوراً: أي التفسير العلمي وتفسير أحداث التاريخ، ولو نجحت هذه المحاولات فلا بد وأن ينسحب كلام صاحبها على كل المخرجات العملية من آيات القرآن، متمثلاً في التشريع، والفقه، والسياسة الشرعية، والولاء لله وحده، والجهاد دفاعاً عن المقدسات تحت راية القرآن ... إلخ، ولكنها كما هو واضح، ما كانت لتصمد لأنها بُنيت على باطل. وكل باطل زاهق.
المؤلف 


[1] عبد الوهاب المسيري (1938 - 2008)، مفكر علماني في ثياب الإسلام، ويدعو إلى ما يُسميه العلمانية الجزئية أو المقيدة أو المحدودة، وهو مؤلف موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، حصل على الدكتوراه من جامعة رتجرز بنيوجيرسي عام 1969. عمل بالتدريس في جامعة عين شمس بالقاهرة، ودول أخرى مثل السعودية وماليزيا. له عشرات الكتب والدراسات.

[2] (عبد الوهاب المسيري، مقال بعنوان "التفسيرات الحرفية للقرآن"، موقع قناة الجزيرة على الإنترنت بتاريخ 31/1/2006)
[3] المرجع السابق.
[4] الحديث قدسي، ومروي عن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه، (متفق عليه)
[5] الحلول والاتحاد (في الاصطلاح) عقيدتان كفريتان، أما الحلول (ويسمّى أصحابها "الحلولية") فمعناه أن الله يحل في بعض مخلوقاته، ويتحد معها، كاعتقاد النصارى حلوله في المسيح عيسى ابن مريم، واعتقاد بعض الناس حلوله في الحلاَّج، وفي بعض مشايخ الصوفية، .. وأما الاتحاد (ويسمى أصحابها "الإتحادية") فمعناه أن عين المخلوقات هو عين الله تعالى. تعالى الله سبحانه عن ذلك علواً كبيرا.
(يراجع في ذلك "مجموع الفتاوى" لابن تيمية، الجزء الثاني) 
[6] هو حبيب بن عمرو بن عمير بن  ثقيف، وذلك لما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم للإسلام فكان منهم ما كان. (أنظر سيرة ابن هشام، 1/4199
[7] وكما حكى المسيري القصة، قال: "صياد عجوز أمسك سمكة كبيرة بطرف صنارته ولكنه لا يقوى على أن يحملها إلى قاربه. وتبدأ أسماك القرش في الهجوم على السمكة والتهام لحمها قطعة قطعة. ورغم علمه أنه لن ينجح في حمل السمكة إلى قاربه وأن أسماك القرش ستلتهمها إلا أنه يصر على الصمود والاستمرار في معاناته. السمكة الكبيرة هنا رمز لشيء ما، ولذا نجد النقاد الأدبيين كل واحد فيهم يأتي بتفسير مختلف لدلالتها. فهناك من يقول إنها رمز عداء الإنسان للطبيعة وانتصاره عليها، وهناك من يقول العكس، إنها رمز انتصار الطبيعة على الإنسان، وهناك من يقول إنها رمز أن حياة الإنسان في هذا الكون أمر مأساوي، ولكن الإنسان من خلال صموده يمكنه تجاوز وضعه المأساوي هذا، ويسبغ معنى على العالم. وهناك من يقول عكس ذلك وهو أن الصمود والاستمرار في المعاناة هو دليل على عبثية الكون الذي نعيش فيه، فهو كون بلا معنى، وبالتالي لا يوجد أي بعد مأساوي."
[8] محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، دار الهداية للطباعة والنشر، القاهرة، سنة 200، ص 165-167.
[9] السابق، نفس الصفحة.
[10] Robert Flint, “History of the Philosophy of History”, Historical philosophy in France and French Belgium and Switzerland (1893), p. 114. http://archive.org.
[11] Ibid, p. 86
[12] في كتاب "أصول فقه العلوم الاجتماعية"، عزالدين كزابر.
[13] كما قال أبو حامد الغزالي في المستصطفى " المفرق بين المتماثلات كالجامع بين المختلفات فمن أثبت الحكم للخلافين يتعجب منه، ويطلب منه الجامع، ومن فرق بين المثلين يتعجب منه لماذا فرق بينهما."(المستصفى في علم الأصول، أبو حامد الغزالي، ص300). وقد اعتمد هذا المبدأ: أي (الجمع أو المساواة بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات) كثير من منظري الإسلام في تأصيل الأحكام وتعميمها. كما نجد أن كوبرنيكوس اعتمد على مبدأ الجمع بين المتماثلاث الذي يمثل شطر هذا المبدأ في تعريفه للفرضية العلمية scientific hypothesis، حيث نقرأ له يقول: "إن الفرضية العلمية الحقيقية هي تلك التي تجمع بين الأشياء التي كان يُظن أنها متمايزة جمعاً منطقياً- والجمع المنطقي عنده هو وحدة المعالجة الرياضية- أي بالكشف عن السبب العقلي الذي يجمع بينهما ويبرر لماذا جاءا على النحو الذي هما عليه." (Copernicus, De Revolutionibus, Bk. I, Ch. 10) نقلاً عن:
Edwin A. Burtt, "The metaphysical foundations of modern physical science – a historical and critical essay, Published by: KEGAN PAUL, TRENCH, TRUBNER & CO., LTD., London, 1925, p. 45
[14] اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود، عبدالوهاب المسيري، ص 178.
[15] "التفسيرات الحرفية للقرآن"
[16] لسان العرب لابن منظور، مادة (نصص).
[17] أنظر في ذلك كشف الأسرار للبزدوي – أو غيره من كتب أصول الفقه– حيث يقول: [بيان المتكلم لا يخلو من أن يكون ظاهر المراد للسامع أو لم يكن. والأول إن لم يكن مقرونا بقصد المتكلم فهو ظاهر ، وإن كان مقرونا به فإن احتمل التخصيص والتأويل فهو النص وإلا، فإن قبل النسخ فهو المفسر ، وإن لم يقبل فهو المحكم، وإن لم يكن ظاهر المراد فإما إن كان عدم ظهوره لغير الصيغة أو لنفسها والأول هو الخفي والثاني فإن أمكن دركه بالتأمل فهو المشكل، وإلا فإن كان البيان مرجوا فيه فهو المجمل، وإن لم يكن مرجوا فهو المتشابه]
[18] (عبدالوهاب المسيري ...؟؟ )
[19] http://en.wikipedia.org/wiki/Young_Earth_creationism#cite_ref-10
[20] (عبدالوهاب المسيري، مقال بعنوان "الحرفية والأصولية"، موقع قناة الجزيرة على الإنترنت بتاريخ 10/3/2006)
[21] المرجع السابق.
[22] المرجع السابق.
[23] "الفن القصصي في القرآن الكريم"، محمد أحمد خلف الله، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الرابعة، 1972، ص 44.
[24] المرجع السابق، ص 42.
[25] السابق، ص 178-180.
[26] السابق، صفحة (ح).
[27] تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ج1 ص 279.
[28] المرجع السابق، ج12 ص 101.
[29] مقالة "الحرفية والأصولية".
[30] أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، الطبعة السادسة، دار المعارف، القاهرة، 1972، ص 206.
[31] "الحرفية والأصولية"، عبدالوهاب المسيري.
[32] المرجع السابق.
[33] المرجع السابق.
[34] الكليات لأبي البقاء الكفوي.
[35] الإكليل في المتشابه والتأويل، ابن تيمية.