الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

الفصل (أ6) - محمد رشيد رضا - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ6) محمد رشيد رضا
بقلم: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الشيخ محمد رشيد رضا [2]،[1]: "زاد الفخر الرازي صارفاً آخر عن القرآن، هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة، على ما كانت عليه في عهده؛ كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها، وقلَّده بعض المعاصرين بإيراد مثل ذلك من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة. فهو يذكر فيما يُسميه "تفسير الآية" فصولا طويلة بمناسبة كلمة كالسماء والأرض من علوم الفلك والنبات والحيوان، تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن."
نقول أنه جاء في تفسير الفخر الرازي رداً على مثل هذا الاستنكار لمنهجه في التفسير؛ حيث قال الرازي[3]: "ربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم، وذلك على خلاف المعتاد! فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها، والتأمل في أحوالها جائزاً لما ملأ الله كتابه منها."
ونقول: إذا أخذنا ظاهر كلام الشيخ رشيد رضا (رحمه الله تعالى) على ظاهره، لوجدناه يتهم سلوك الفخر الرازي بأن ما أتى به يُعد صارفاً عن القرآن، ويصد قارئ القرآن عما أنزل القرآن لأجله! ... ونستعلم: كيف يكون ما كتبه الفخر الرازي من تفسير – وقد ذكر فيه ما ذكر – صارفاً عن القرآن؟! – هل بمعنى أنه منافس للتفسير بالمأثور، أو أنه مُكَمِّل له، يستكمل ما أهمله المفسرون السابقون الذين انحسرت معارفهم عن الوقوف على تمام معاني الآيات الكونية؟! ... ولكن الرازي لم يدّع أنه منافس للتفسيرات الأسبق، فلِمَ يتعرض لمثل هذه الإدانة، وقد برر بنفسه علة هذا المنحى، وقام على ثغرة أُهملت، فرأى أن يستوفيها حقاً بما أوتي من قدرة معرفية بالطبيعيات بأقصى ما يمكن لعالم في عصره أن يحققه؟!
إن الفرق بين الفخر الرازي وغيره من المفسرين لم يكن فقط رغبة شخصية حضرته وغابت عن غيره في التفسير العلمي للقرآن، بل كان الدافع – بعد الهمة وسعة الأفق – في افتراق ثقافة الرازي عن غيره من المفسرين الآخرين. فالرازي كان واسع الاطلاع، مُنَقِّب عن المعارف في أفكار المتقدمين والمتأخرين، موسوعي المعرفة، وهذه الخصال والامتيازات، تجعل مثله إذا قرأ القرآن يستحضر سريعاً المعاني المناظرة من غير القرآن، والتي تحضره بحكم الاشتراك الموضوعي مع ما يتكلم عنه القرآن. وإذا افتقر المفسر إلى سعة المعرفة ضاقت عليه نطاقات التناظر الدلالي بين نصوص آيات القرآن، والتي يطلع عليه جل المفسرين، وما وراءها من معارف تتناول نفس الموضوعات. فيسكت عنها، لا لأنها من غير نهج القرآن، بل لأنه لا يمتلك ناصيتها، ولا يقف على مواطن الدفاع عنها أو ضدها. ولأن الإنسان يؤثر ما يعرف، ويعادي ما يجهل، تَوَزَّع المفسرون بما أملته عليهم ثقافتهم، فكانوا في ديارهم وبيوتهم فيما يألفون من ثقافة، ويشعرون بالغربة فيما لا يألفون من ثقافة، فيستنكرون، ويأنفون، ويسعى منهم من يخشى اتهامه بالتقصير عما حققه غيره، بالهجوم وسحب الثقة، لا عن ضعف الطرف الآخر، بل عن غياب صواب الحكم الجامع للعلاقة بين الثقافتين في أغلب الأحيان.
وقد صرح الشيخ القرضاوي بشعوره بمثل هذه المعاناة المعرفية، عندما قال[4]: "إذا بالغنا في استخدام العلوم يصبح القرآن لا يعرفه إلا علماء الطبيعة وعلماء الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات، وأمثالنا لن يفهموا القرآن وأحيانا ننتهي إلى أن الأمة لم تفهم القرآن، عبر أربعة عشر قرناً، حين يقول بعضهم: إن هذا هو المعنى المقصود بالقرآن!." – ومما لا شك فيه أن الشيخ هنا يقصد الآيات ذات الدلالات الطبيعية والكونية، ولأنها تمثل فقط بعض آيات القرآن، فكلامه مقيد بها ولا يعم كامل آيات القرآن.
فالمسألة – التي شغلت الذين توجَّسوا وارتابوا في أمر الإعجاز العلمي- تتعلق بثقافة المفسر، لا بما ينبغي أن يكون عليه تفسير القرآن كما تنطق آياته. فثقافة المفسر تتحكم به، وتوجهه، وربما تضطره إلى أن يرفض حقاً، لأنه لا يعلم قوة دليله- أو يقبل باطلاً لأنه لا يعلم قوة دليل بطلانه، والسبب أن المفسر واقع تحت تأثير ما يظنه صحيحاً بقيوده المحلية زماناَ ومكاناً. ولا يختص ذلك بخصوم التفسير العلمي، بل يعم كل مفسر، بما فيهم أصحاب التفسير العلمي أنفسهم. فالمسألة تعود لبشرية المفسر، ولعدم إحاطته المعرفية. ومن هنا يستوجب الأمر استحضار قول الله تعالى "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"(الإسراء:36)، وقيمة هذه الآية أنها توقف المتكلم في شأنٍ ما، عند حدود معرفته به، لأن معناها: "لا تتصدى لما لا تعرفه، سواء بالإقرار، من حيث لا تتيقن من الإقرار، أو بالنفي من حيث لا تتيقن من النفي". وما حدث من الشيخ رشيد رضا، غفر الله تعالى له، أنه نفى من حيث لا دليل عنده على النفي. أما الشيخ يوسف القرضاوي، فقد كان أكثر موضوعية! وفائدة كلامه، أنه يعاني من هذه المسألة ويشعر بانحسار أفق علمه الطبيعي أمام ما يستجد، ويخشى في قرارة نفسه أن يكون هناك إشكال، ينعكس سلباً على ماضي الأمة المعرفي. والأمر ليس على هذه الصورة التي آلمته، ولكنه كان موضوعياً صادقاً، لا صاداً ولا متهماً، وإن تضمن كلامه ذلك، بل عالماً محافظاً مع درجة من الانفتاح المعرفي الوسطي المتسم بالتيسير والأريحية.
غير أن الأمر ليس على هذه الحدة الظاهرة في موقف الشيخ رشيد رضا، رغم كلامه الإقصائي لسلوك الرازي في تفسيره. فالمعالجة الدقيقة لسياق كلام رشيد رضا يظهر له موقفاً قريباً أو شبيهاً بموقف أبوحيان الأندلسي! (أنظر الفصل (أ1)) .. ولتوضيح ذلك نستحضر العبارة السابقة مباشرة لما أدرجناه من عبارته التي انتقدناه فيها حتى الآن، يقول الشيخ رشيد رضا، رحمه الله:
[كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كُتب في التفسير يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية ، والهداية السامية، فمنها ما يشغله عن القرآن بمباحث الإعراب وقواعد النحو، ونكت المعاني ومصطلحات البيان، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين، وتخريجات الأصوليين، واستنباطات الفقهاء المقلدين، وتأويلات المتصوفين، وتعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض، وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات، وما مُزجت به من خرافات الإسرائيليات] ... ثم استكمل وقال [وقد زاد الفخر الرازي صارفا آخر ....] وجاء بالعبارة التي انتقدناها.
ومعنى ذلك أن الشيخ رشيد رضا يضع التفسير العلمي بالعلوم الحادثة - في افتراقها عن المقاصد العالية والهداية السامية التي يراها وحدها جديرة بعلم التفسير– في مصاف (مباحث الإعراب وقواعد النحو) و(نكت المعاني ومصطلحات البيان) و(جدل المتكلمين) و(تخريجات الأصوليين) و(استنباطات الفقهاء)، ومعلوم أن هذه العلوم لا يستغنى عنها، مع تفاوت، إلا أنه يضيف إليها ما هو أدنى منها مثل (تأويلات المتصوفين) و (تعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض)، ثم ما هو أشد سوءاً من ذلك من (كثير الروايات) و(خرافات الاسرائيليات).
أي أن اعتراض الشيخ رشيد رضا على التفسير العلمي لآيات القرآن ليس إقصائي، بل تصنيفي. ولهذا فهو أشبه بما سبق عرضه من اعتراض أبو حيان الأندلسي (الفصل أ1). ومن ثم، يزول هذا الاعتراض إذا عولج التفسير والإعجاز العلمي – باعتباره علمٌ خاص من علوم القرآن- مثلما تُعالج هذه الأصناف التي اعترض الشيخ رشيد على إدراجها جميعاً في علم التفسير، ونقصد بها (مباحث الإعراب وقواعد النحو) و(نكت المعاني) ... إلخ.
ومما يزكي مرونة الاعتراض وأنه ليس بالحدة التي ظهرت عليها في أول الفقرات أعلى، إدراجه للعبارة: (سنن في العالم مطردة) في "المقاصد العالية"، ثم قوله اللاحق: [إن أكثر ما ذكر من وسائل فهم القرآن، فنون العربية لا بد منها، واصطلاحات الأصول وقواعده الخاصة بالقرآن؛ ضرورية أيضا، كقواعد النحو والمعاني، وكذلك معرفة الكون وسنن الله تعالى فيه - كل ذلك يعين على فهم القرآن]
فالإشكال إذا في موقف الشيخ رشيد رضا يكمن في رغبته في التمييز بين تفسير القرآن الذي يريد قصره على المقاصد العالية (علم ونور ، وهدى ورحمة ، وموعظة وعبرة ، وخشوع وخشية ، وسنن في العالم مطردة)، وما وراء ذلك مما فيه فائدة فيضعه في جملة علوم مُعِينة على فهم القرآن، مرتبة تقريباً حسب أهميتها، دون أن تكون من صميم علم التفسير، وتشمل فيما تشمل في آخر القائمة "التفسير العلمي لآيات القرآن".
كما يمكننا الآن أن نفهم عباراته التي وصف فيها التفسير العلمي (في تفسير الرازي) وصفاً حاداً وقال فيها أنها (صارفة عن القرآن، ... وتصد قارئها عما أنزل الله)، فيمكننا أن نفهمها على أنه يقصد أن هذه العلوم ليست مقصودة لذاتها، بل لما وراءها من مقاصد عليا. لأننا رأيناه يضمها إلى علومٍ لا يمكن الاستغناء عنها، كالقواعد اللغوية، وتخريجات الأصوليين، واستنباطات الفقهاء.
ومع كل هذه الأعذار، يبدو وكأن الشيخ رشيد رضا يتردد بدرجة ما في قبول التفسير العلمي على نحوٍ صريح، لما يشوب نقده لتفسير الرازي من هجوم، ما استطعنا تفنيده إلا بشيء من الجَهْد. وخاصة أن هجومه شمل تسمية بعض العلوم التي تبين فسادها – كقوله: العلوم الحادثة في الملة على ما كانت عليه في عهده كالهيئة الفلكية اليونانية - والتي  اقترنت بعلوم الفلسفة والمنطق ونسبتهم جميعاً إلى اليونان، وكانت تلك العلوم محل نقد لازع من علماء الإسلام، كالغزالي وابن تيمية، كما هو معلوم. وهو ما نعُدُّه تعريضاً بالإدانة لما ظهر من فساد ظاهر لتلك العلوم، ولخروجها من غير مشكاة الإسلام، ومن ثم، لإدراج الرازي لها في تفسيره بما قد يعكر صفو التفسير الخالص. إلا أن تفسير كل مفسر بثقافة عصره منحى يصعب أن ينجو منه أحد. لهذا كانت التصويبات اللاحقة على السابقة أمر ضروري في تجلية التفاسير الأقدم. هذا، إن خلت التفاسير الأحدث من الجنوح والشرود عن الجادة.

المؤلف
عودة إلى فهرس الكتاب




[1] الشيخ محمد رشيد رضا (1865-1935)، من أصل لبناني وتوفي بمصر. من رواد الإصلاح الإسلامي، تأهل لتدريس العلوم الشرعية والعقلية والعربية، من تلاميذ الشيخ محمد عبده. أسس مجلة المنار على نمط مجلة "العروة الوثقى" التي أسسها الإمام محمد عبده، له مؤلفات عديدة من أهمها "تفسير المنار" الذي استكمل فيه ما بدأه شيخه محمد عبده الذي توقف عند الآية (125) من سورة النساء، وواصل رشيد رضا تفسيره حتى بلغ سورة يوسف وحال وفاته دون إتمام تفسيره.
[2] محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج1، ص8.
[3] تفسير "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي، في معرض تفسير قوله تعالى "إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ..."(الأعراف: 54)
 :[4] القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي
  http://www.qaradawi.net/2010-02-23-09-38-15/4/808.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق