الاثنين، 7 أكتوبر 2013

كيف يكون القرآن العربي معجزًا للأعجمي؟

كيف يكون القرآن العربي معجزًا للأعجمي؟
عزالدين كزابر





تم طرح السؤال: كيف يكون القرآن العربي معجزًا للأعجمي؟  والإجابة عليه على أحد المنتديات. وقامت اللجنة العلمية بالمنتدى بإعداد إجابة مستفيضة. ورغم وجاهة كثير مما جاء في الإجابة من إفادات، إلا أني رأيت أن أُعَقِّب عليها بما رأيته أرجح، ويصيب كبد الحقيقة، فكتبت التعقيب التالي. (إلّا أن هيئة الإشراف على المنتدى المشار إليه قامت بحذف تعقيبي الآتي نصه في اليوم التالي لنشره، ودون أي اعتذار أو تبرير أو تنويه! ... وما زال سبب الحذف عندي غير مفهوم!). 


الأخوة الأعزاء
السلام عليكم ورحمة الله
مع كامل احتراماتي للجنة العلمية، وللقائم بجمع وترتيب الإجابة عن سؤال (كيف يكون القرآن العربي معجزًا للأعجمي؟). ومع ثراء الإجابة وإحاطتها بما قيل في المسألة إلى حدٍّ كبير، والمجهود الرائع في ترتيب موادها، ..... إلا أني لا أتفق مع المُعِدُّون لها على أنها إجابة تشفي الغليل، وتقطع السبيل، على أهل البرهان من الخصوم! فالمعلوم أن التحدي يقترن بالإفحام، ولا إفحام في غياب ضرورة البرهان، فالضرورة تلجئ الخصم إلى الإقرار، وتبلسه إبلاساً. ولا أرى في كل ما قيل من ضرورة تلزم الأعجمي (أو الجماعة منهم من ذوي الخبرة) بأن عليه/عليهم أن يأتي/يأتوا بمثل أقصر سورة من القرآن في نظم عربي يضاهي سورة في القرآن، في مثل عدد كلماتها، وذلك إذا أراد أن يقبل التحدي. !!! .... 

ولا يعني ذلك أني لا أؤمن بالتحدي القرآني العربي، وعجز البشر عن الإتيان بمثل أصغر سورة فيه، معاذ الله، ولكني أرى الإعجاز والتحدي على وجه مغاير، وبما يشمل الجن والإنس، عرباً كانوا أو عجماً – فرادى أو مجتمعين - على حدٍّ سواء. .... إلا أني لي وجهة نظر مغايرة، وإجابة مفارقة، لما قيل في علة الإعجاز القرآني– بعد اطلاع طويل على تاريخ المسألة وتطور القول فيها – منذ الجاحظ وحتى وقتنا الراهن! ... ورغم أن ما بحوزتي من إجابة أرتضيها، تتطلب في الحقيقة تمهيدات، وشروحات وإلحاقات، إلا أني سأوجزها بقدر الإمكان، سداً لثغرة أزعجتني، في الدفاع عن كتاب الله تعالى.

وهاكم إجابتي عن سؤال (كيف يكون القرآن العربي معجزًا للأعجمي؟) التي أطمئن إليها، وأراها ملزمة وضرورية، ولا تستثني أحداً ممن ذكرت.

وأبدأ الإجابة بمَثَلْ:

إذا كان هناك من البشر مهندساً بارعاً لا يُبَارى في هندسة البناء، وقد حاز السبق بشهادة أُولِى الرأي ولجان التحكيم على مدار السنين، وذلك لما بناه بمفرده من أبنية تملأ مدينة كاملة. ثم أرادت تلك اللجان الفنية أن تفتح باب المسابقة لمن يستطيع أن يتجاوز ذلك المهندس – أو يوازيه - في البراعة والإتقان الهندسي، وقد طرحوا لذلك الجوائز الكبرى، والمجد الهندسي. ... 

وكانت المسابقة الهندسية التي طرحوها، هي أن يتقدم المتنافس ببناء بناية واحدة يتفوق في براعته فيها، ولو على أصغر بناية مما بناه المهندس المذكور، في مدينته المشارإليها!

علماً بأن جميع أبنية المدينة قائمة لم تنخدش، ولم تبلى، وتؤدي وظائفها التي من أجلها قد صُمِّمت وشُيِّدت، وما زالت تحمل بريقها ورونقها وزخرفتها التي لم تستطع أي من هندسيات البناء أن توازيها في القيمة، حتى لحظة إعلان المسابقة.

ولم تشترط لجنة المسابقة أي شيء إضافي إلاّ ما ذكرت من البراعة في البناية المطلوبة، وبما يشهد أن صاحبها يستحق الفوز بالبراعة الهندسية، وتقلُّد المنصب الذي كان يحتله سلفه، إن هو فاز بالمسابقة!

1- فلم تطلب لجنة المسابقة أن يكون معيار التنافس هو البراعة في جمال البناء وزخرفته خصيصاً. (البلاغة)

2- ولا أن يكون المعيار يُسْر الإقامة في البناية، وراحة مستخدميه في تحقيق أغراضهم، خصيصاً. (البيان والفصاحة)

3- ولا أن يكون المعيار مناسبة البناء لعين وظيفته التي من أجلها أنشيء بما لم يحققه سابقه خصيصاً. (الصدق)

4- ولا أن يكون المعيار كفاءة البناء ضد عوامل التآكل والبلى وعدم ذهاب رونقه، وعدم تساقط وتهالك أساساته ودعائمه، خصيصاً. (لا يخلق على كثرة الرد)

5- ولا أن يكون المعيار خامات البناء من مواد خاصة دون غيرها خصيصا. (اللغة)

إذا كان ذلك كذلك، فأنَّي للجهات الإعلامية التي تذيع خبر المسابقة أن تخصص عام موضوع المسابقة، وتقيد مطلقه؟!!! فتقول مثلاً أن البناية الداخل صاحبها في المسابقة يجب أن تكون من نفس نوع الخامات التي استخدمها المهندس الجاري مضاهاة عمله؟!!! (اللغة العربية)
----
فإذا تجاوزنا عما أذيع عن تلك المسابقة، ونظرنا فيما كنا لنحكم به من معايير على المتسابقين المتقدمين باعتبارنا من محكمي اللجنة الفنية لتقييم أعمالهم (أبنيتهم): أما كان ينبغي لنا أن نختار من المعايير ما يحقق الآتي على ترتيب الأهمية:

1- ألا ينهار البناء ويصمد مع عوامل الإهلاك، وهاكم الأهرامات ما زالت صامدة، وأي بناء مماثل يفقد قيمته بجانبها إذا قورن بها إذا هو قد انهار وهي باقية. ثم ما قيمة وظائف البناء الرائعة، وراحة ساكنيه، وجمال زخرفته ورونقه إذا هو انهار بعد أيام على رؤوس أصحابه؟! (لا يخلق على كثرة الرد)
2- أن يتوافق تصميم المبنى والوظائف التي من أجلها أنشيء المبنى، فالمبني الصامد مع الدهر ليكون مستشفى، لا يصلح أن يُستخدم كمسرح، وإلا فقد قيمته، وكان بناؤه عبثاً. (الصدق)
3- أن يحقق لمستخدمي المبنى أعلى درجات الراحة واليسر في تحقيق أغراضهم. (البيان والفصاحة)
4- إذا تحققت المعايير السابقة في أكثر من مبنى متنافس، فليكن جمال البناء وزخرفته معياراً أخيراً (البلاغة والنظم). [آمل ملاحظة أن البلاغة والنظم جاءا في نهاية المعايير!!!]

وأخيراً نتساءل، هل لنوع الخامات المستخدمة في البناء قيمة في التفريق بين بنائين، تساويا في المعايير السابقة جميعاً ؟! – الإجابة : ... لا .... وبناءاً عليه، فاللغة: عربية أو عبرية أو غير ذلك، ليست في ذاتها شرطاً في التحدي القرآني إن تحققت المعايير السابقة.

ومن شاء أن يتحدى القرآن بسورة يفتريها (يطرحها من عند نفسه)، فليأت بعبارة لُغوية مفيدة المعنى، وذات قيمة لسامعيها وتحقق الشروط الآتية على الترتيب، فلا قيمة للَّاحق إذا لم يتحقق السابق:
1- أن تصمد مع الزمن، فلا تفقد قيمتها الأولى بمروره.
2- أن تصدق على موضوعها فلا تتخلف عن وصفه في موضوع الحكاية عنه.
3- أن توافق مستخدميها (المنتفعين بها)، فلا تستعصي عليهم، ولا توقعهم في حرج.
4- أن تروق لهم، فلا يكون عندهم أجمل منها.

وأيُّما عبارة لغوية – وبأي لسان كانت؛ عربية أو انجليزية أو هندية أو ما شاء الأعجمي من لغة – تحقق هذه الشروط بمثل مما حققته أقصر سورة في القرآن، فافترائه (زعمه) مقبول، وسوف تنظر لجنة التحكيم فيه للتأكد من تحقق تلك القيم التي زعمها فيه.

مثال:
سنفترض معاً – جدلاً - أن هناك من زعم أن لديه عبارة لغوية تحقق الشروط السابقة: و هَب أن المُعاجز للقرآن يريد أن يأتي بسورة لا تقل عن أربعة عشر كلمة (كما هي سروة العصر) ويتكلم فيها عن حركة الأشياء في الكون، وأن محاولاته جاءت على النحو التالي:

1- محاولة أرسطية: يقول: [والأجسام تجري بسلطان، حتى إذا زال وقفت، وما لها من نفسها سلطان إلا صدى الأصوات]، ومعنى العبارة أن (الجسم لا يتحرك إلا بتأثير قوة عليه، فإذا زالت القوة وقف، وليس في ذاته فعل، إلا رجع الأصوات). وكانت هذه هي فلسفة حركة الأجسام أيام أرسطو.

2- محاولة نيوتونية: يقول: [والأجسام تجري بسلطان، من ذاتها من زخمها، حتى إذا نافسها غيرها تغير جريها]، ومعنى العبارة أن (الجسم يجري بزخم ثابت القيمة (المسمى بالعزم الخطي)، ولا يتغير العزم، ومن ثم مقدر الحركة واتجاهها إلا بتأثير قوة خارجية). وهذا هو المسمى بقانون نيوتن الثاني في الحركة.

3- محاولة نسبوية (أينشتاين): يقول: [والأجسام تجري بسلطان، من ذاتها من زخمها، حتى إذا نافسها غيرها تغير جِرْمُها]، ومعنى العبارة مثل عبارة نيوتن، إلا أننا غيرنا حرفاً واحداً (لاحظ جريُها أصبح جِرمُها)، وهذا الفرق هو ما أضافته النسبية الخاصة من أن تغير العزم يصاحبه تغير الكتلة الكلية (السكونية والحركية) وهو ما عنيناه بالجِرم.

4- محاولة كمومية نسبوية (ديراك): يقول: [والأجسام تجري بسلطان، من ذاتها من زخمها، حتى إذا نافسها غيرها تغيرت منازلها] وتشمل ما قبلها، ولكنها تزيد عليها أن التغير يتم على انفصال quantum وليس على اتِّصال.

والآن: كل عبارة من هذه العبارات تصحيح لما قبلها، ويعلم علماء الفيزياء والكونيات جيداً أن العبارة الأخيرة لا تطابق بالضرورة الحقيقة، ولكنها أرجح الصياغات. وهذه هي النظرية الحركية، في صياغات بلاغية موجزة (رغم أن الصدق يسبق البلاغة، إذ لا عبرة ببلاغة في كلام غير صادق). وقد استقى العلماء معاني هذه الصياغات مما يرصدونه من أشياء تنفعل أمامهم في الأرض وفي السماء. فمَن مِن الذين صاغوا هذه العبارات، أقصد معانيها، يستطيع أن يدعي، أن أي من هذه العبارات - المبتورة بدرجة ما عن الحقيقة المطلقة، ويسعون على الدوام لمقاربتها - سورة مفتراة! ... بل ويأت بها ليعاجز كلام الله العليم الخبير – الذي يعلم أسرار الخلق؟! .... يقول تعالى "قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"(الفرقان:6)

والنتيجة الحتمية، أن هذه المحاولة - في وصف حركة الأشياء - فاشلة بكل المعايير في صياغة عبارة لغوية واحدة - بعدد كلمات سورة العصر- لتكون تامة الصدق ومفيدة في معرفة ما عن الخلق، ولا تتبدل مع الزمن، رغم أننا استخلصناها من دراسة موضوع واحد امتدت على مدار عمر الحضارة العلمية المدونة من تاريخ البشرية، أي حوالي 2400 سنة! .. فما بالنا إذاً بغيرها مما هو أدنى منها دراسة؟ 

والخلاصة:
أن الإعجاز المعرفي يقع في قلب المعجزة القرآنية. وجوهر الإعجاز المعرفي: أنه ما من شيئ يمكن للإنسان (عربياً كان أو أعجمياً) أن يتحدث عنه حديثاً صادقاً تمام الصدق – في الوقائع والزمان - كما الله تعالى، "وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا"(النساء:87)، وذلك لأنه على ذلك الإنسان أن يحيط به علماً تمام الإحاطة، ولكن هذا يستوجب مشيئة الله تعالى كما قال سبحانه "وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ"(البقرة:255). فكيف يأتِ إنسانٌ بسورة من مثل سورة في القرآن في وقتٍ هو عاجز عن تلك الإحاطة باستنطاق الطبيعة والوقائع؟! .. وأن أي محاولة في ذلك ستكون محاولة بائسة بشهادة العلماء أنفسهم، وهي المحاولات التي مدارها التخمين والتصحيح، ثم التخمين والتصحيح، وهكذا إلى أجل غير مسمى. .. وخير دليل على ذلك تلك المحاولة السابقة لكتابة سورة مفتراة - جدلاً - عن "حركة الأشياء"، وقد جرى تصحيحها على مدار 2400 سنة، وما زالت يقر أصحابها أنها ليست صادقة على كامل نطاق المتحركات (التثاقلية والكمومية) في آن واحد، وذلك لأن علم (الكمومية التثاقلية quantum gravity ) ما زال من الغيب، هذا إن جاز لنا أن نسميه علما قبل أن تتضح معالمه!!!


إضافة بتاريخ: 23/ 1/ 2014.
[مما يُزكِّي هذا البحث قول الله تعالى "يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا"(النبأ:38)، .. بمعنى أن صواب القول (أي صِدْقه) هو معيار التأهل لمن يتكلم، وهو المتقدم على أي صفة أخرى من صفات الكلام، ..  وأين ومتى سيحدث هذا؟! ... في هذا الموقف المهيب، أمام الله العزيز الجبار، وفي حضور واطلاع ملائكة الرحمن، والصديقين والشهداء، والعالَمين والخلائق أجمعين من وراء ذلك يَطَّلِعُون أو يسمعون !!!]


إضافة بتاريخ: 26/ 1/ 2014.
مما يُزكِّي هذا البحث قول الله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا"(الأحزاب:70-71)،]  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق