الاثنين، 23 ديسمبر 2013

الفصل (أ15) – شوقي ضيف - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ15) شوقي ضيف
بقلم: عزالدين كزابر


بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الأستاذ الدكتور شوقي ضيف- رحمه الله تعالى-[2]،[1]: "تلت الشيخ الإمام [محمد عبده] تفاسير كثيرة منها ما اهتدى بهديه ومنها ما خاض في مباحث علمية. كنت ولا أزال أراها تجنح عن الجادة إذ القرآن فوق كل علم. ومن الخطأ أن يتخذ ذريعة لإثبات نظريات علمية في الطبيعة والعلوم الكونية والفلكية وهو لم ينزل لبيان قواعد العلوم ولا لتفسير ظواهر الكون، وما ذُكر فيه من خلق السماوات والأرض والأفلاك والكواكب إنما يُراد به بيان حكمة الله وأن للوجود خالقاً أعلى يدبره وينظم قوانينه. ولا ريب في أن القرآن يدعو أتباعه دعوة عامة إلى العلم والتعلم للعلوم الرياضية والطبيعية والكونية. ولكن هذا شيء والتحول بالقرآن إلى كتاب تُستنبط من النظريات العلمية شيء آخر، لا يتصل برسالته ولا بدعوته. إنه دين لهداية البشرية يزخر بما لا يُحصى من قيم روحية واجتماعية وإنسانية. وحَسْب المفسر أن يُعنى ببيان ما فيه من هذه القيم ومن أصول الدين الحنيف وتعاليمه التي أضاءت المشارق والمغارب أضواء غامرة."
نقول: لم يُدرك كثيرٌ من علمائنا – رغم تألقهم في تخصصاتهم كالنجوم في الظلمات المدلهمة – أن النزال قائم ولا يزال يستعر، وله اصطكاك يبرق ويرعد هنا وهناك بين الحق والباطل. ومهما دوّى هذا النزال في صورة من صور العنف أو خفَّ صداه، فإن قطب الرحى منه ومرجعه ليس إلاّ إلى الحُجّة والغلبة. وبقدر ما يطغى أهل الإضلال والزيغ على أرض جديدة من بقاع الفكر الصادق، وحمى الله تعالى في حججه، بقدر ما يفقد أهل الإيمان بالله تعالى من هيمنة الروح القرآنية على ما سبقه من كتب إلهية، ناهيك عن علوم بشرية لا ينفك عنها العوج والشطط، تسعى إلى هيمنة على عقل الإنسان وقلبه، دع عنك انقياده ومصيره.
يقول أحد المتحررين الليبراليين[3]: ["هذا من فعل الله" ليس تفسيرا لظاهرة ما، إنما هو اعتراف بأنه ليس لدينا تفسير لهذه الظاهرة، وأحيانا يؤدي هذا الموقف-وهذا هو الأخطر- إلى عدم بذل الجهد العلمي المطلوب لمحاولة إيجاد تفسير معقول]. ونُلاحظ كم في هذه العبارة من سُمٌّ قاتل، وفحواها! .. أن على من يُصدِّقُها أن يختار بين أحد الاختيارين دون الآخر؛ فإما أن يقول: "هذا من فعل الله" كما يقول المؤمنون بالله، أو أن يسعى إلى تفسير الظاهرة تفسيراً علمياً على النهج الغربي الحديث. ومعنى أن يقول المؤمن هذه العبارة "هذا من فعل الله" أنه يفتقر إلى التفسير العلمي للظاهرة. ومن ثم، فأي موقف يتراءى لمؤمن فيه أنه يؤدي إلى أن يقول هذه العبارة، عليه أن يتوقف ويفكر، ألها تفسير علمي؟ - فإن وجد التفسير فقد بلغ المراد! وإلا فليقلها ليعلن أنه ليس لديه تفسير. أنظر أيها القارئ الكريم مدى خبث هذه الفكر الذي ينتصر بالعلم الحديث لنفي الإقرار بما هو حق لله تعالى دونما شريك في الوجود، والذي هو بتمامه من خلقه سبحانه، أسباباً وثمارا. ورغم أن الرد على هذا الزيف الفكري يسير، وفضح تلبيسه غير عسير، إلا أن الأغرار من الناس – مسلمين وغير مسلمين – صيدٌ هائم يلتقطه الضُلاَّل بهذا المكر الداهم.
ولمثل هذا – وغيره – من مكر الماكرين، وجب أن ينكشف للناس علاقة الدين – في الإسلام والقرآن – بما بنى عليه العلم الحديث قواعده، ألا وهو ما خلقه الله تعالى وأودع فيه من أسرار وإبداعات. وليس هذا رد فعل لمحض التشويش دون الأصول والبراهين، بل دفاعاً عن حق لله فيما خلق، وفيما أنزل، وفيما يجب أن يُنسب إليه سبحانه، حتى لو توسطت ذلك أسباب جعلها الله تعالى من دلائل حكمته في الخلق، وظن الـمُـبطلون – أو تغافلوا عن – أنها مما ينفي أو يستغني عن ضرورة وجود الـمُبدع لها سبحانه.
وليس غريباً على أهل الإلحاد العلمي، أن يسعَوا إلى دعم إلحادهم بالمكر في رداء العلم، والله تعالى يقول لنبيه: "وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا"(الإسراء:73-75)، وهذه الآية محققة فيما نقلناه أعلى، في تخيير الناس بين نسب الحق لله وبين التفسير العلمي الغربي بعيداً عن الله، افتراءاً وكذباً!! .. وكأن المسألتين – الإيمان والعلم- متناقضتان ولا تجتمعان؟!
وأينما يذهب المؤمن في العلوم الحديثة يجد مثل هذه الألغام، والفتن، ويظل يبتعد عن حمى الإيمان شيئاً فشيئا، حتى يصل به الأمر إلى أن يصبح من زمرة أقوام أخذتهم الفتنة وابتلعتهم، ثم صنعت منهم ألسنة لها، يلمزون ويخدشون الحق بجهلهم أو ظنهم، وما يخدشون إلا وجوههم وما يشعرون.
ولا يظن ظان أن الإعجاز العلمي في القرآن ملجأ مصطنع، يأوي إليه المؤمن من هذا الهجوم الإلحادي، هروباً من النزال العلمي، وانكشافاً لوهن فكري، وتذرعاً بجوار الله، وفراراً من الزحف! .. بل الحال غير ذلك، وهو، أن الله تعالى غالبٌ على أمره، عالم بالغيب ومكر الماكرين. وما نراه، أنه سبحانه جعل في كتابه من الأدلة والبراهين على ائتلاف كلامه الحكيم مع إبداعه في خلقه، ينطق كل منهما ليدلل على الآخر في غير تباين ولا تنافر ولا افتراق، لأنهما جميعاً منه سبحانه. فبالحق خلق ما خلق، وبالحق أنزل ما أنزل، فكان ما أنزل مصداق ما خلق، وكان ما خلق تصديق ما أنزل.
فالأسباب إذاً حاضرة لشمول كتاب الله تعالى لأسرار الله في خلقه سبحانه، ولا نقول لنظريات البشر حولها. وليس هذا افتراءاً دون سند، ولا ادعاءً ما عليه من دليل، فآيات القرآن في ذلك متواترة. بل إن التصريح بعلل شمول التنزيل على مثل هذه الآيات جلية بينة، ولا أدل على الحق من علة صريحة عند أصحاب البراهين، وخاصة إذا صدرت من أصدق القائلين، وأحكم الحاكمين. فلم تتركنا الآيات نبحث معللين، مخطئين أو مصيبين، تائهين ضائعين، ولم يعفنا في نفس الوقت من تدبر الأسباب والبحث والتنقيب. فقال تعالى في علّة تبيين الحق للكافرين "حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"(فصلت:41)، وفي علة تثبيت المؤمنين، واستيقان الذين أوتوا الكتاب، ونزع فتنة الارتياب "لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ"(المدثر:31). والعبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وإذا نظرنا في كتاب الله تعالى فسنجده مشحوناً بالآيات الكونية، وأسرارٍ مازلنا نجهل معانيها، فلا يعلم أحدٌ من المفسرين ترجيحاً، ولا اطمئنان معرفياً، ما تؤول إليه "الذَّاريات" و"الوِقْر"، ولا "الصَّافَّات" و"الزَّجْر"، ولا "المُرسَلات" و"العًرف"، ولا الحروف المقطعة، ولا "مستقر الشمس" ولا الفرق بين جريانها وسبحها، ولا ما في الأرض من مثل السموات السبع، ولا الأمر العارج بين السماء والأرض، ولا الأيام ذوات الألف سنة والخمسين من مثلها ... إلخ. ... فأنَّى لنا أن نعرفها إن لم نتفحص ما خلق الله، وما قاله الراصدون لها في صورة قوانين حاكمة، أو نظريات مطروحة، أو أفكار هائمة. ... أم أننا ننتظر الوحي ينزل – وما هو بنازل كما أخبرنا ربنا جل وعلا- ليخبرنا بعد أن أخبرنا، ويطعمنا بعد أن أطعمنا، ويسقينا بعد أن سقانا؟! – أم يظن عاقلنا أن الأرض تخرج ثمارها مطبوخة، أو ذهبها مسكوكا، أو أن يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه! وما هو ببالغه!
ثم ما هو الذي أمرنا الله تعالى أن نتدبره في كتابه العزيز حين قال سبحانه " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا"(النساء:82)، وحين قال جل في علاه " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"(محمد:24)؟! – أم أن التدبر غرضه الإقرار، فإذا حضر الإقرار انتفى التدبر بظن الظانين؟! – وهل يختلف هذا عن قول القائل أن الصلاة غرضها التسليم، فإذا تم التسليم رفعت الصلاة؟! ... ومن يرفع التدبُّر، فكأنما يرفع الصلاة. ... أنظر كم يزيغ الداعي إلى ذلك؟!
وقد نفهم أن ينفي نافٍ عن كتاب الله تعالى ما لا يليق به ولا يرتقي لقيمته، تبعاً لقياس الأَوْلى! .. ولكن أن ينفي النافي عن كتاب الله تعالى صدق حديث الله عن خلقه، وأسرار ملكوته، ويقصرها على التلاوة، والترتيل، ... وكثيرٌ منها مازال مُشتبها في معانيه؛ ينتظر من يفك منه الشفرة، ويذيع العِبرة، وينشر حروف الحق، ولا يكون من الكاتمين، الذين توعدهم الله بقوله سبحانه "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ"(البقرة:159)، فهذا ما لا نفهمه!!!
ولا يعني ذلك أن يخوض الخائضون، ويلغُ اللاغون، وفي كتاب الله يتخبطون، فيرفعوا مآذن للعلم بزعمهم، ما أنزل الله بها من سلطان. فالحق برهان، والعابث فيه خسران. ومن أراد دخول الدار، فللدار أبواب، وجهة ومخبر، وأهل ومحرم. فأدب القرآن لا يقل عن أدب الديار، فلا يقتحمنها أحمق إلا بإذن، وإذن القرآن الفهم والعلم، ولا ينطق إلا ببينة، وإلا فهو منها في مهلكة. وإن ظن أن الناس عن حقيقة قوله غافلة، فسهام القرآن بالمرصاد له ناظرة، ترمق العابثين بفضائح مُقبلة، لا يدري أين يذهب إن كان من أصحاب القلوب المبصرة.
أما المانعون الناس عن كتاب الله متفقهين، بأدوات العلم والفهم متزودين، فما يرون في من يمنع الناس عن بيت الله حجاجاً أو معتمرين؟! – إن كانوا يرون كتاب الله من ثقب نافذة، فقد فتح الله على الناس ألف نافذة. ومن قصر على الناس السبل إلا سبيلاً يعلمه، فمن أدراه، بعد الذي ما دراه، أنه عن سبيل الله صادٌّ أو نافرُ؟!
وأما قول شوقي ضيف – رحمه الله: "حَسْب المفسر أن يُعنى ببيان ما فيه من هذه القيم - الروحية والاجتماعية والإنسانية -ومن أصول الدين الحنيف وتعاليمه التي أضاءت المشارق والمغارب أضواء غامرة"، فيه كثير من الحجر على عطاءات القرآن! .. ولأن القرآن كلام الله تعالى، فعطاءاته وأسراره ونهايات معانيه لا يعلمها إلا مُنزله؛ العليم الحكيم، سبحانه. ومهما بلغ إنسان من علمٍ، فليس له من أمر القرآن شيئاً في سبر أغواره وآفاق ارتقاءاته.     
ثم نقول: برغم هذا الحَجْر الذي أعلنه الأستاذ الدكتور شوقي ضيف عن التفسير العلمي في القرآن الكريم في قوله: [تلت الشيخ الإمام تفاسير كثيرة منها ما اهتدى بهديه ومنها ما خاض في مباحث علمية، كنت ولا أزال أراها تجنح عن الجادة] ... إلا أننا سنراه يبحر بنفسه في التفسير العلمي، ويعترك مضماره، بقدر ما أحاط به من علم بالطبيعيات، وذلك في سياقات تفسيره لعدد من الآيات:
ففي قوله تعالى: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) "(الرحمن)، واقتراناً مع قوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) "(الفرقان)
يقول[4]: [هذا البرزخ والحجر، إما حقيقيان، بمعنى أن بين البحرين برزخاً من اليابسة، وكأن الآية عن مطلق البحر العذب والبحر المالح، ووجودهما على ظهر المعمورة، وإما مجازيان بمعنى قدرة الله. ويجري مع ذلك فهمان متقابلان؛ فهمٌ يمثله (التقاء) الأنهار بالبحار والمحيطات، وأن كلاً من الماءين العذب والمالح، لا يتجاوز حده، وهو معنى (لا يبغيان). فكل منهما لا يبغي على صاحبه، ولا يطغى عليه بالممازجة والاختلاط، وفهمٌ ثان أعم، وهو قدرة الله على أن خلق البحار ملحة والأنهار عذبة، والتقاؤهما ليس التقاء حقيقياً وإنما هو التقاؤهما في مرأى العين، بمعنى أن الإنسان يراهما، وإذا رأى أحدهما تذكر صاحبه.] ..
نقول: لا بد أن ينتبه القارئ إلى غرابة التفسير الثاني عن معنى (يَلْتَقِيَانِ)، وأنه معنى مرجوح، بل مطروح، وليس بعيد أن يكون شوقي ضيف قد نقله عن غيره ممن لا يعلم شيئاً عن مصبات الأنهار في البحار. ومن هنا نرى أيضاً أهمية التفسير العلمي في استبعاد التفسيرات التي لا تتفق مع الواقع المحكي عنه في الآيات.
وفي قوله تعالى " فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) "(الرحمن)
يقول[5]: [معنى وردة: حمراء، ..... وقيل وردة إسم مَرَّة من الورود، مثل سَجْدة من السُّجُود، أي أن السماء انشقت وردة أو دفعة أو حركة واحدة، والدهان دهن الزيت، أي أن السماء تصير مثل الدهن ذوباناً وسيلاناً .. والانشقاق التصدع والانهيار والذوبان. وذكر القرآن مراراً هذه الصور إبان البعث، وأنها حين تقع ويختل نظام الكون، يكون ذلك إيذاناً بالنشور والنشأة الثانية، وهو تارة يتحدث عن انشقاقها، وتارة يتحدث عن انفطارها دلالة على اختلال بنائها، والله يصورها ذائبة سائلة كما في هذه الآية، ومثل قوله في سورة المعارج عن يوم القيامة "يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ"، والمهل دُرْدِيّ الزيت المغلي وحثالته، وهو يقابل الدهان بمعنى دهن الزيت في الآية. وقيل المهل: ما ذاب من المعادن حتى سال وتموج من شدة الغليان، ...]
نقول: هل هذا التفسير شيء آخر غير التفسير العلمي، والخوض في المباحث العلمية التي تراءى لقائلها – في بداية كلامه- أنها تجنح عن الجادة؟! .. أم أن التفسير العلمي يكون مذموماً إذا ما ازداد استيضاحاً بما استُحدث من اكتشافات وإضاءات معرفية. أما إن كان من تخريجات اللغة، بلا إسقاط للأسماء على الدلالات، من الذوات كانت أو الصفات، فهو المقبول، والممدوح، والمشهود له باليمن والبركات؟!!! ... إن كان الأمر كذلك، وكان إغلاق التفسير على اللغة، دون ما تشير إليه اللغة، فهو حجر لا نعلم له شاهد ولا برهان، إلا انغلاقاً على مكنون معاجم، كتبت لأذانٍ قبل أذان، ... رغم أن داعي الله لا يكف عن الأذان.
وفي قوله تعالى: "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ "(الرحمن:3)
يقول[6]: [للمفسرين كلامٌ كثير في تصور خلق الله السموات والأرضين السبع، وهل خُلقت السموات أولاً أم الأرضون أولا، أو هل خلق الدخان أولاً لقوله تعالى في سورة فصِّلت: " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ "، وماذا يُقصد بالدخان، وهل هو السديم عند الجغرافيين والفلكيين المحدثين، وفي رأيي أن كلام القدماء والمحدثين في هذه الجوانب الفلكية مما يخرج عن الغاية المقصودة بها الذكر الحكيم.] ..
نقول: نرى هنا تصادماً من شوقي ضيف مع التفاسير المأثورة التي وازنت بين أسبقية الخلق بين الأرض والسموات، وخاصة أن هناك إشكالاً في هذا الأمر، ذكره جل المفسرين بين الآيات: (فصلت:9-12)، و آية (النازعات:30). .. وربما لم يكن لدى شوقي ضيف إضافة مفيدة هنا، فآثر الاكتفاء بما في الآيات من عظة. وكان عليه التمييز بين كفاية التفسير  في نفسه بما لا مزيد عليه، أو اكتفائه هو منه. فالخلط بين المسألتين لا يجوز. وربما أنه أضمره في قوله (في رأيي) تحرجاً من إلزام غيره به.
ثم يستكمل ويقول: [فهذه السموات المليئة بالمجموعات الكثيرة من الكواكب، كلما اكتشف منها الإنسان مجموعة، وكلما توغل في دراسة مجموعتنا الشمسية، عرف عظمة الكون وعظمة خالقه، وما إحصاء القرآن للسموات السبع بأنها سبع إلا رمزاً لكثرة سدمها ونجومها ومجراتها ومن الخطأ محاولة التعرف على السبع؛ لأن هذا من عالم الغيب الذي لا يدري الإنسان حقيقة أمره، لأنه يخرج عن قدرته ومدى عقله وعلمه. .... وحسبنا أن ننظر ونتأمل ونتفكر في ملكوت السموات والأرض، أما أن نأمل التعرف من القرآن على كيفية خلق الله الوجود وما أشار إليه من سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، فذلك يخرج عن غاية القرآن نفسه بما ذكره من هذه الجوانب.] ..
نقول: إن استنكار حقيقة العدد سبعة للسموات، وما مثلهن من الأرض، لا مستند له. كما أنه تحكم تفسيري، وقطع بما لم ينقطع له المعنى بالضرورة. أما القول بأنه رمز، للدلالة على الكثرة، فهو قول من الأقوال التي ذكرها المفسرون، وإن لم يكن بأقواها، بل هو أضعفها. وأياً كانت درجة الحَجْر الذي يستخدمه شوقي ضيف، فإنه يمارس التفسير العلمي، أي التفسير الذي يُأول الآيات الكونية في القرآن بما تشير إليه من وقائع، حتى وإن كانت من منظور قديم. .. ومما لا شك فيه أن التفاوت بين المفسرين في معرفتهم بالظواهر الكونية تعكس جرأتهم أو توجلهم أو إمساكهم عن ممارسة هذا التفسير. ... وعليه يكون حكم المفسر مقرون بخلفيته الثقافية، وليس بحكم موضوعي على التفسير العلمي، سواء من حيث ما ينبغي له ومن حيث ما لا ينبغي، إلا أللهم قياس الأوْلَى.
وفي قوله تعالى "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ"(التكوير:1)
يقول[7]: [ .. إذا جعلنا الكلمة (كُوِّرَتْ) في الآية بمعنى الإلقاء والإزالة، التقت في معناها بقوله تعالى "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ"(الأنبياء:104)، والآية لا تريد الطي بآلة أو علاج، وإنما تريد الدلالة على الذهاب والفناء، ومثلها التكوير هنا بمعنى الإزالة والسقوط وضم الشيء بعضه إلى بعض، فهذه المعاني الثلاثة متقاربة، وتنتهي إلى إفناء الشمس والذهاب بها. ... وقيل معنى (كورت) ألقيت من فلكها على الأرض كأنها تُطعن ثم يُلقى بها، وقيل: بل يُلقى بها في النار زيادة في عذاب الكفار، واعتُرض على هذا القول بأن النور لا يلحق بالنار، وإنما الحري أن يُلحق بالجنة وأهلها. وأول بعض المفسرين أن يوفق بين الرأيين، فقال إن الشمس تحمل النور والنار، فما كان فيها من النورية يلحق بنور العرش، وما كان فيها من النارية يلحق بالنار. ... والله جل شأنه في هذه الآيات وما يشبهها إنما يتحدث عن آياته الكونية، .. ]
نقول: هذه التفسير مليء بالإشكالات، فالقول بأن [الآية لا تريد الطي بآلة أو علاج] يعني أن تكوير الشمس – إذا جاز تشبيهه بالطي - سيحدث بلا سبب طبيعي، أي أنه سيجري على غير سُنَّة كونية، وأنه مما يلحق بغيب لا سُنَّة معه، فنقول: أنّي ذلك، وأحداث الكون جميعاً مرتبطة على نحوٍ سببي، كما أننا نرى الآن بالتلسكوبات نفس هذا الحدث الذي تتكور فيه نجوم أخرى، قد آن أوان تكورها، ويعلم علماء الفيزياء الفلكية علل هذا التكور، ومآله. ... ثم ما الذي يدفع المفسر إلى تفسير يخلو من الأسباب؟! هل يريد بذلك أن القدرة الإلهية لا تتجلّى إلا مع غياب الأسباب؟ .. إن الخلق وتسيير شئون الكون بأسباب وتقدير لَأَحْكَم من الخلق السحري أو العمالي (الذي تُسخر في آدائه الملائكة)، فلماذا يلتزم المفسر باللاسببية كي يثبت لله تعالى عظيم القدرة وتجلي الإرادة؟! ... أوليس الإنسان مع ارتقاء علمه أصبح يستبدل العمال بالأسباب (التكنولوجية) التي تفعل فعل العمال على نحو أدق وأصوب وأرقى، ولا يعني ذلك الاستغناء عن العمال أو الملائكة، ولكن يعني أن الاستغناء عن صناعة منظومة سببية لإنجاز خلق/عمل ما ـلَمِمَّا هو أولى بالحكمة وبديع صنع الصانع، ويُصَدِّق كلامنا هذا قول الله تعالى "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ"(الأنعام:59)، وهو ما يعني أن كشف الغيب له مفاتح، أي أسباب، أي منظومة سببية، أي مسالك، وأنها من شأن الله تعالى وحده. ... ويؤول إلى هذا الإشكال كثير من التفسيرات التي تبرر أحداث الكون بتدخل مباشر من الملائكة، مثل ذلك تفسير قوله تعالى " وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) "(الانفطار)، والذي أتى به شوقي ضيف – والمنسوب لابن عباس- و فيه[8] [(أن الكواكب) قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات في النفخة الأولى مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض تناثرت تلك الكواكب وتساقطت سلاسلها لأنه مات مَنْ كان يمسكها من الملائكة]! ... نقول: إن هذا التفسير مرفوض ومردود ... والسبب واضح؛ وهو أن تماسك أجرام السماء يجري على سنة كونية، نعلم كثيراً من أسرارها على نحو تفصيلي الآن، وليس كما جاء في هذا الفهم المرتبط بثقافة غير محيطة بأسباب السموات حتى تقطع بأمر كهذا. .. ولا ينجينا من مثل هذا الجنوح الثقافي القديم في فهم كلام الله تعالى إلا "التفسير العلمي" الذي أدانه شوقي ضيف.
ثم كيف نكرر كلام من يقول بأن تكوير الشمس يمكن أن يكون معناه [ألقيت من فلكها على الأرض]، فنسبة الشمس إلى الأرض كنسبة الفيل إلى فأر، أو ما يزيد عن ذلك، فهذا سقوط متوهم، لا يمكن أن يحدث! .... ثم ما هذا التفريق بين نور الشمس ونارها، وبأي فهم يمكن قبول هذا الخلط المفاهيمي، ... ثم بعد ذلك يتم فصل هذا النور عن تلك النار، وإلحاق الأول بالعرش والأخر بنار جهنم!! هذه أقوال ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يكشف فسادها إلا العلم بفيزياء الكون وسننه التي برهنت عليها الأدلة، وأصبح فهم آلياتها يشبه فهمنا لسباحة السمك في الماء والطيور في جو السماء، من حيث التعليل والصنعة. .... إن القلب ليحزن والعقل ليُجرح من مثل هذه التفاسير التي يتم تداولها، وهي عن الحق زائغة، وعن النقل جانحة، وعن الحجة فارغة. ... 
وأما القول بأن [الله جل شأنه في هذه الآيات وما يشبهها إنما يتحدث عن آياته الكونية]، فلا نراه إلا اعترافاً صريحا من القائل بأن الآيات كونية، وما من آلة نعلمها لفهم الآيات الكونية مع اللغة إلا علوم الآيات الكونية، وهذا هو "التفسير العلمي" لمن تأهل له بحقه، وأقام فهمه على براهين دامغة وحجج راسخة.
وأخيراً نقول: إن هذه النماذج لتفسير الآيات الكونية لأصدق دليل على أمرين: الأول أنه ما من سبيل إلى أحسن فهم للمشتبه من آيات القرآن الكونية إلا التفسير العلمي، والثاني، أنه ما من سبيل إلى نفض غبار التفاسير القديمة الموهومة إلا بالفهم العلمي، وهذا الفهم هو "التفسير العلمي" أيضاً.

المؤلف




[1] أحمد شوقي عبد السلام ضيف (1910 - 2005)، وقد اشتهر بإسم "شوقي ضيف": أديب وعالم لغوي والرئيس السابق لمجمع اللغة العربية المصري حتى وفاته عن 95 عاماً. وكان عضواً في عدد من المجامع اللغوية العربية، مثل سوريا، والأردن، والعراق. نال العديد من الجوائز، منها: جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1979، وجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي عام 1983. له خمسون مؤلفا، أهمها: سلسلة "تاريخ الأدب العربي"، و "تجديد النحو"، و "تيسيرات لغوية"، وكتاب الرد على النحاة لابن مضاء، نَشْراً وتحقيقا.
[2] شوقي ضيف، "سورة الرحمن وسور قصار"، دار المعارف، 1995، طبعة ثالثة، نسخة إلكترونية، ص 11-12.
[3] اسمه وضاح نصر، نقلاً عن سيد القمني، "الأسطورة والتراث"، ط3، 1999، ص11.
[4] شوقي ضيف، "سورة الرحمن وسور قصار"، دار المعارف، 1995، ص 48.
[5] السابق، ص61-62.
[6] السابق، ص 112.
[7] السابق، ص 153-154.
[8] السابق، ص 155.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق