كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (هـ6) احميدة النيفر
بقلم: عزالدين كزابر
بقلم: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الدكتور احميدة النيفر[2]،[1]:
فكم هو غريب التصريح بهذا الرقم! ومع
ذلك فقد كان له أساس ومنطق رجحه صاحبه، وبنى عليه تصوره. وكذلك ما كان من الغزالي،
الذي بنى منطقه في عدد علوم القرآن على أنها عدد كلمات القرآن، ثم تباديل الكلمة
على أربع مستويات، بما يعني أربع أمثال العدد الذي ذكره، ثم ما قال أن هناك رتبة
أخرى من " علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق، وربّما لا يفهمونها إن
سمعوها من العالم بها". وقد وجدنا في بنية الكون من العلوم الغامضة التي
ظهرت حديثاً مثل علم الفوضى، وعلم التناظر، والآوتار الفائقة، فما المانع أن يوجد
في القرآن تناظرات خفية يمثل الإعجاز العددي إحدى تجلياته، وإن ما يُروَّج منه
الآن يعُد في بداياته، ولم يرق بعد إلى مستوى المصداقية المطلوبة؟! فإذا رأينا
ذلك، فأيهما أغرب، ما أتى به الغزالي أم ما جاء به إدنجتون؟! .. أم أن الطعن في
جرأة إدنجتون لا تجوز، .. وتجوز في جرأة الغزالي وحدة بصيرته العلمية؟! .. بدلاً
من أن يكون مدح الغزالي أولى من مدح من جاءوا بعده بألف عام يقتفون أثر فهمه
الراقي .. في وقت كانوا فيه أدنى البشر. .. ثم من الذين يضعون الغزالي في وقت كان
أولى بهم أن يرفعوه .. إنهم بعض المسلمين!! .. حقاً إن هذا زمن يوضع فيه العليم الشريف،
ويُعلى بمن دونه!!
المؤلف
"لا مراء أن صاحب الجواهر ( يقصد الشيخ طنطاوي جوهري ) – وهو يؤكد صراحةً على ألاّ تناقض بين العلم الحديث والنص القرآني، وعلى ألاّ سبيل للمسلمين للرقي دون الأخذ بناصية الاكتشافات الحديثة- (أنه) كان يريد أن يقطع في الوقت نفسه مع المنظور التقليدي الذي ركّز على أن الإعجاز القرآني هو بالأساس بلاغي وتشريعي. لذلك فهو يقول: "يا أمة الإسلام: آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعًا من علم الرياضيات فما بالكم بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها... هذا زمان العلوم، وهذا زمان ظهور نور الإسلام... ليت شعري لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؟ ولكني أقول: الحمد لله، إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم دراستها أفضل من دراسة علم الفرائض...".
تفيد العبارة السابقة إلى توقع
صاحبها – احميدة النيفر - أن أصحاب الإعجاز العلمي يفردونه في هذا العصر - عن غيره
من إعجاز بلاغي أو تشريعي .. - بمزية الإعجاز، وإلا لما استشهد بأن عبارة طنطاوي
جوهري تقطع – أي لا تتفق - مع المنظور التقليدي القائل بأن الإعجاز القرآني هو
بالأساس بلاغي وتشريعي. .. ولنا هنا ثلاث ملاحظات: الأولى: أن صاحب الجواهر في
مقتبس كلامه لم يشر إلى ذلك! بل أكد أن فرعاً من الرياضيات نتج من دراسة آيات
الفرائض - ويقصد علم الجبر - لأنه أشار إليه لاحقاً عندما ذكر المواريث خصيصاً، -
وقد رأينا في حواراتنا السابقة أن الناتج من دراسة العبادات كان جملة من علوم
الرياضيات والفلك والجغرافيا الفلكية، وليس فرعاً واحداً من الرياضيات! كما أن
كلام طنطاوي جوهري – الذي اقتبسه النيفر- ليس به أي مقارنة مع إعجاز بلاغي، أو
تشريعي! ... الملاحظة الثانية: أننا نعلم يقيناً أنه ما من أحد من أهل الإعجاز
العلمي أو أسلمة العلوم أو التفسير العلمي، مُعتبَر الكلام، إلا ويُقِر بالإعجاز البلاغي
أو التشريعي! ولا ينفيه إذا ورد ذكره مع الإعجاز العلمي! .. أما الملاحظة الثالثة
والأهم، فهي أن الشائع بالفعل في الإعجاز القرآني أنه الإعجاز البلاغي والبياني،
ولكن لم يحدث في أي مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي أن كان هناك إجماع على انحصار
الإعجاز القرآني في ذلك دون غيره، حتى وإن قدمه لهذه المنزلة العليا والمتفردة
كوكبة من العلماء على مدار التاريخ الإسلامي. .. ومن ثم، يكون القول بأن المنظور
التقليدي – أي التراثي – للإعجاز هو الإعجاز البلاغي والتشريعي يوهم وجود إشكالية في
طرح أي إعجاز آخر يفارقه، حتى وإن شاركه. والواقع الراهن لا يؤيد هذا الفهم
للإعجاز البلاغي/البياني/التشريعي المتفرد، خاصة أن رؤية الإعجاز قد اتسعت في
المئة عام الأخيرة لتتعدد الآراء في مواطن الإعجاز، وعدم انحصاره في رؤية دون
غيرها من رؤى الإنسان المحدودة والمقيدة بخبرته الشخصية وثقافة عصره، بل إن
التنقيب عن معنى الإعجاز عبر التاريخ الإسلامي ليؤكد أنها كانت مسألة شديدة
الإشكال[3]،
مثلما هي الآن مثار جدال.
يقول[4]:
"الذي يبدو اليوم بحاجة إلى مزيد من التأكيد هو أن ما سُمّي تفسيرًا علميًّا يتطلب منا اعتباره ظاهرة عَرَضية، أي أن يعتبر علامة على أزمة أعمق في آلية التفكير الديني ضمن البنية الثقافية العربية. من هذا المنظور فهو لا يختلف -في جوهره- عن التفسير الأيديولوجي للقرآن (قطب – المودودي) فكلاهما يعبر عن تواصل تَعَطّل المنظومة الثقافية في تعاملها مع النص المقدس. وهو التعطّل الذي بدأ مبكرًا وممثلاً في أبي حامد الغزالي حين قال في جواهر القرآن جملته - المنهج: (أو ما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط، ومنه يتشعّب علم الأوّلين والآخرين)[5]. هذا التّعطّل محتاج إلى معالجة علميّة بالمعنى الدّقيق للكلمة."
يقصد المتكلم أن تعطُّل المنظومة
الثقافية في تعاملها مع النص المقدس له مؤشرات؛ منها: التفسير العلمي، ومنها أدلجة
القرآن فيما عرضه سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، وأن أبو حامد الغزالي كان رائد
هذه العطالة الثقافية!
أما عن الغزالي، في قوله: "
القرآن هو البحر المحيط، ومنه يتشعّب علم الأوّلين والآخرين"، فنسأل: هل
يختلف هذا الكلام كثيراً عن الحديث الذي روته بعض كتب الحديث[6] عن
علي ابن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعضه عن القرآن الكريم:
"..
لا يشبع منه
العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ..". فإن صح اتهام النيفر
للغزالي بريادته في تعطيل المنظومة الثقافية، فهذا الحديث إذاً أسبق في تعطيلها لو
صدقت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا طعن بالغ في أصول الرسالة
ذاتها. ولأن هذا باطل، فما استند إليه باطل، أي: علة تعطيل المنظومة الثقافية في
القول برحابة العطاء القرآني. ومن ثم فالتفسير العلمي لا يعطل حقاً أراد الله
تعالى إعلامنا به في كتابه، بل هو آلة متجددة لإخراج الإعلام المعرفي المتواصل
للقرآن، حتى وأن أربك هذا الإعلام المكتشف لاحقاً ماء الثقافة الدينية الراكد،
فانعقدت له أفهام أصحابها وألسنتهم بين مُنكر ومُتردد ومشوش، وإن نطقوا لم نسمع
منهم إلا توبيخ هذا القادم المزعج لهم في سلامهم الموهوم! .. في زمنٍ .. سُنت وأُطلقت
فيه رماح وسهام المعرفة – المنكرة لله تعالى وسلطانه المجيد- من كل حدبٍ وصوب.
ثم إذا كانت الأيديولوجية الإسلامية
والتفسير العلمي - اللذان يمثلان منظورا الثقافة الإسلامية التراثية والمعاصرة ولو
جزئياً – يقومان كمؤشرين على تعطل المنظومة الثقافية، وهما – كما هو معلوم -
إسقاطان للفكر الإسلامي على الواقع الماضي والحاضر على التوالي، فهل بقى من
الإسقاطات الفكرية التطبيقية للإسلام شيء؟! – لا .. لم يبق إلا النص القرآني،
ومسائل فقه الفرائض. وتكون النتيجة من ثمَّ، قرآن ودين معطلان عن آي رؤية وأي
إعمال في الواقع.
أمّا، من جهة ذم الإعجاز العلمي،
فكفى به فخراً أن يُذم مع سيد قطب والمودودي، فالذم مع مثل هؤلاء، شهادة بالوفاء.
أما البلهاء فيتمنون مدحاً، حتى وإن كان مع الأشقياء، تعساء فرحين به،
"واللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ"(القصص:76).
وإذا كانت المنظومة الثقافية معطلة
من أصحاب التفسير العلمي، بما يتفق مع كلام صاحب المقالة، فأين هي النخب العاقلة
التي يمتدح المتكلم أمرها وينتسب إلى فكرها؟ – أليس من المفترض أن تعلم هذه النخب
أين نجد مفاتيح الحضارة المأمولة، التي فقدنا مقاليدها، وخارطتها وأسباب نجاحها،
والآلية المثلى للتفكير الديني الذي يحققها؟ أم أن هذا ليس في متناول يدها ولا تحت
ناظريها؟ وإن كانت كذلك وتبذل جهدها، فأين هي النماذج الفعالة في الحضارة – بعد أن
بخَّست بالغزالي وقطب والمودودي وأمثالهم- التي تستطيع أن تقدمها هذه النخبة
لتقتدي بها الأمة؟!
ثم، أليس الواقع الإنساني المعاصر
يجري صياغته في كلياته وجزئياته بما يسمى العلم المعاصر، وهو هو نفس الواقع الذي
أنزل الله تعالى القرآن ليقوِّم اعوجاجه، ويهديه الطريق القويم، أما ينبغي أن
يلتقي القرآن والعلم إذاً ماداما أنهما فاعلان في واقع واحد؟ - وما هو القالب
الفكري لهذا الالتقاء الذي لا بد أن يجمع القرآن والعلم والواقع؟ - إن كان
مُسَمَّى "التفسير العلمي" بغيض على بعض النفوس، فليطرحوا له اسماً آخر،
ولا مشاحة في الأسماء!
يقول الدكتور النيفر[7]:
"في الخطاب القائم على أن النّصّ القرآني هو النّصّ المعجز للإنسان تكون العلاقة بين النّصّ والإنسان علاقة مشدودة إلى طرف واحد، هو طرف النّصّ وقدسيّته. بينما كانت العلاقة في فترات الإبداع الحضاري جدليّة بين الطّرفين، أي أنّها علاقة تدفع المؤمن بقدسيّة القرآن إلى أن يكون فاعلاً في واقعه بحسب درجة وعيه المنفتح. بذلك تحوّل الإعجاز في القرون الأولى إلى نسق فكريّ دافع للتّميّز والتّفوّق المعرفيّين."
إن اسم "الإعجاز العلمي"
محض اسم عَلَمْ على مفهوم نامي ممتد، وغير مقيد بقيده اللفظي والحرفي. ومن أراد
المعنى من الاسم - في الوقت الذي وُلد فيه المعنى قبل الاسم - كان كمن طلب روح
الزهر من لونه أو رسمه، دون نبته وتورده! .. كما وأن الإعجاز العلمي ثمرة عالية،
لا مقطوفة ولا دانية، وساقها وفروعها باهية، ... وأوراقها فاشية ... في جمال
العيون .. باهية ... وما هذه الجنان إلا معاني العلم في القرآن، ... فإذا ارتادها
الزوار، .. وجال في أرجائها النظار، .. ونقب في طرقاتها الزراع والعمال، .. نبتت
لهم في أنحائها عجائب الأخبار، .. وهناك هناك فوق الأعناق، خلف الثنايا والمفاوز وفي
أعالي الجبال، يتنسمون أشجار المعرفة الباسقة .. ويجدون ثمار الإعجاز العلمي، ..
فلا يراه ويعاينه إلا من وصل، ولم يصل إلا من اجتهد، وصبر، وما هي مكافأة بلا عمل،
ولا وصول بلا سفر.
وكيف يكون إعجاز القرون الأولى في
سماته البلاغية والبيانية، وهو يدور في رحى اللغة، ونظريات النظم، وأدبيات دواوين
العرب، أشد دفعاً للمؤمن لاعتراك المعرفة، من إعجاز العقود المتأخرة، الذي يمخر
عباب واقعٍ، تتقلب فيه المعرفة ألوانا، ويشق خضم بحرٍ، تتلاطم في فيضه البيانات؟!
يتجول دائماً أبداً في بساتين من زهور المعاني، يتحقق ويدقق، ويتفهم ويستفهم،
ويهمس ويستهمس، وينطق ويستنطق!!! ... فالتفسير الحقيق مسلكه دقيق، وفي مصارفه كثير
من الأشواك والشراك، يستوجب الفهم والعلم والهمة، والمغامرة والمخاطرة وطلب القمة،
ولا تُسدى هذه الخصال لمن كان همه التثبيط، والغمز واللمز، والذم لمن أراد من عباد
الله للحق رفعة ونصرا. وإذا كان من أصحاب الإعجاز من يتخذ مكتباً في أبراج العاج، فحتماً
لن تصعد إليه المعرفة، لأنها تُؤتى ولا تَأتي، وهذا الكسل أهلٌ بمن عليه عاب. أما
كتاب الله الكريم، وحبل الله المتين، فطرفه بيد الله، سبحانه في عليائه، ونحن
بطرفه القريب بأيماننا قابضين، فكيف نجاذبه ونحن من طين، وأبلغ ما نطمح إليه أن
يسري في أرواحنا منه نورٌ ويقين، ساعين بأيدينا الأخرى عاملين منقبين، عما يتكلم
به الله رب العالمين، أو ينطق من خلقه ناطق باسمه الحكيم، نستمع وننظر علنا نكون
مع الفاهمين الموصولين.
يقول:
"في التّوجّه .. الذي يؤكّد على العلاقة المشدودة إلى طرف النّصّ لا يبدو هناك فرق نوعيّ بين أصناف المتلقّين للنّص. الاختلاف الموجود بين المؤمن والجاحد والشّاك لن يخرج أيّ واحد من خانة العجز الجامع لهم أمام النّصّ القرآني إلى خانة أخرى: خانة التّفاعل مع قدسيّة النّصّ. إنّه انزلاق بمفهوم الإعجاز إلى مفهوم مغاير هو التّعجيز، فالحديث عن أسرار النّصّ وجواهره وعجائبه هو حديث عن ثراء النّصّ وعمقه، ولكنّه في الوقت نفسه صمت عن قارئه وطبيعة وعيه والمقتضيات الثّقافيّة والاجتماعيّة المشكّلة له. هذا التّصوّر هو الذي صاغ العبارة المشهورة [مثل هذا الكتاب لو احتاج بيان مقاصده إلى شيء آخر لم تتمّ الحجّة به] فكأنّ قدسيّة النّصّ لا تتحقّق إلاّ بغياب طاقات الإنسان وفاعليّة واقعه الاجتماعي والفكري في ظهور دلالات النّصّ وأبعاده."
ما علاقة الجاحد والشاك بقدسية النص،
بل بالنص الذي هما عنه معرضان؟ كيف يؤدي بهم إلى العجز وهم متحررون منه – أو
مجردون من ستر الحياء - بطبيعتهم المتمردة على قانون الحياة؟ أليس القرآن هو قانون
حياة النفس الإنسانية، كما قال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا
يُحْيِيكُمْ"(الأنفال:24). إن انفلات هؤلاء مع اتهامهم بالوقوع تحت طائلة
العجز، لَدَليل على تخبط صاحب الكلام في حشد الكلام! ولو صدق كلامه لظهر من تحرر
هؤلاء تميزاً على المؤمنين العاجزين، لكن عموم العجز الحضاري دليل على أن السبب
مشترك، ولكن المتحررين متفلتون من حكم القرآن، فدل ذلك على براءة القرآن من تهمة
عجزهم. أما عن مغالطة التعجيز فنشرحه بالمثال:
ما الذي يقوله أحدنا، إن ذم له الذام
فعل منهج الطبيعيات والفلكيات والرياضيات، يقول إن أصحابه مشدودون إلى جامدات من
المخلوقات، أو بروق من المجرات، أو رقوم من المعدودات، يحكون عن أسرارها، وعويص
قوانينها، واحتباك تفاصيلها، والتفاف سلوكها! كلما رسموا لها المسارات، وظنوا أنهم
بذلك فكوا الإلغازات، فاجأتهم بشذوذ عن المألوفات. فيثورون في المؤتمرات،
ويفُضُّون الرسومات، ويهدمون المعادلات، ويكسرون الجمادات، ويعودون إلى مربع
الابتداء، وهكذا دواليك في جولات وجولات. أعجزتهم المادة الميتة عن فهم حياتها،
وحيرتهم زينة النجوم والمجرات من فرط جيشانها واعتراكها، وأصابتهم العدديات بدوار
المتسلسلات واللانهايات. أوصلتهم إلى التعجيز، فلا يبدأون حتى يشتبكون، ولا يكتبون
أوراقاً حتى يمزقون، وتزداد حيرتهم وتتغير عقيدتهم. أوصلتهم علومهم إلى هذيان من
الفهم والقول، حتى [تخرض زعيمٌ منهم وقال: من أمر بخلق هذا الجسيم؟ - وهذى أخر
فسخر فقال: عيوب تصميم هذه الجمادات عيوب في صانعها!][8]....
إلى آخر مشاكل علوم الطبيعيات!
هل نستدل من الفقرة السابقة على أن منهج
العلوم الطبيعية – وهو المثل الأعلى في العلوم المعاصرة بقدها وقديدها – قد أوصل
أصحابه إلى العجز والتعجيز؟! - أو هل وصل مبتغاهم إلى درجة القدسية حتى تعالى على
الفهم، وأصبح سراً أعظم، فهذى أولياءه كالمتصوفة على أبواب معبودهم؟! أو بالتعبير
الذي أوردناه لصاحبه أعلى: هل أصبح [الحديث عن أسرار الكون وجواهره
وعجائبه هو حديث عن ثراء قوانينه وعمقها، ولكنّه في الوقت نفسه صمت عن قارئه
وطبيعة وعيه والمقتضيات الثّقافيّة والاجتماعيّة المشكّلة له] حتى أصبح وجود
قارئ النص الكوني كعدمه، يقول اليوم عنه ما ينفيه غدا، كفلاسفة العصور الوسطى،
وأصبحت نظرياتهم حججٌ تهافتُ كالزجاج، تخالها حقا وكل كاسر مكسور؟!
نعلم أن هذه الأسئلة التي نطرحها وما
فيها من استغلاقات مفهومية عن سؤال الطبيعيات، ليست إلا تحليلات لاغية، لا تقدم
ولا تؤخر، ولا تصف ولا تهدي، ولا تقيم على العقل حُجَجَاً، ولا تنزع عن البصر
حُجُبَا، غير أنها ليست بعيدة عن بعض الحقائق، إلا أننا أتينا بها على هذه الصورة
المشكلة على العقل بقصد التلبيس، فيظن مساكين المثقفين أن علوم الطبيعيات باطل في
باطل، وهي ليست كذلك على العموم، وغرضنا الصريح من ذلك هو نمذجة ما قدمه صاحب العبارة
التي نحاورها من تلبيس، فكان تلبيساً بتلبيس، وتلبيسه أبطل، والبادي أظلم.
والنتيجة: أن قدسية النص قائمة،
ولكنها ليست على العقول التي أنزلت لتهديها متعالية، وفيها يقول الله تعالى
"وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ"(القمر:17-22-32-40)، وكما أن الطبيعة وقوانينها، والتي هي من خلق
الله تعالى مهما اقتربنا منها، تظل بعيدة، فكذلك كتاب الله تعالى. فإذا كان هذا
حال صنعة الله وكلامه، فكيف بذاته العلية؟ - جل في علاه، وتقدَّست أسماؤه.
يقول:
"إنّ انفصال النّصّ عن الذّات والواقع هو المسوّغ لظهور تفسير علمي، وآخر "إيديولوجي"، وثالث "إشاري"، هذه كلّها مداخل قد تختلف في الأشكال والمصطلحات لكنّها تتّفق في آليّة التّفكير المنطلقة من أن الإعجاز الكامل لا يتأتّى إلاّ بتأصّل عجز الإنسان معرفيّا ووجوديّا!."
كيف يمكن الزعم بأن المنظورات
المتعدة في قراءة كتاب الله تعالى – لاختلاف الموضوع وإسقاطات الواقع – تتفق على
طبيعة واحدة في آلية تفكير أصحاب المنظورات، وأن هذه الآلية مردها إلى تأصيل عجز
الإنسان معرفياً ووجودياً بسبب توحدهم في الإقرار بالإعجاز الكامل للقرآن؟! – ما
الذي يغضب صاحب هذا الكلام من كون القرآن معجزاً في جميع ما يتعلق به؟! – ولماذا
يتهم الإعجاز القرآني– بغض النظر عن نوعه- بأنه سبب العجز الإنساني للمؤمنين
بالقرآن؟! – إن صح كلامه فلا بد أن إعجاز الكون عن تفهم نهائي له من جهة أصحاب
الطبيعيات، لا بد أن يكون سبباً أيضاً في عجز الإنسان المتعلم علوم العصر الحديث
معرفياً ووجودياً! ولكن العبارة الأخيرة فاسدة، وكذلك عبارة النيفر السابقة!
والحقيقة هي أن إعجاز الفهم الكامل والمحيط
لكل من القرآن والكون عن مدارك البشر، لدليلٌ على أن مصدرهما متعال، لأن من تواضعت
قدرته عن الإحاطة بصنعةٍ ما، كانت أشد تواضعاً عن الإحاطة بصانعها، وكانت من ثمَّ
أشد تقديساً له ممن توهم في نفسه تمام العلم. وهذا ثمرة الاجتهاد في التفسير
العلمي الجامع بين آيات القرآن وآيات الكون. أما الـمُعرض، الظان بكمال علمه
بالقرآن، وعدم حاجته للعلم بشيء من آيات الكون ... فكم هو بعيد عن تقديس رب الكون
ومنزل القرآن!!! ... لأن التقديس ليس بالقول اللفظي المتكرر الخاوي من النظر
العملي... بل ببث بذور العلم في النفس، بصنائع الخالق القدير وكلامه الحكيم،.. ثم
رَيِّها على الدوام، بدوام التدبر والاعتبار، والنظر والفهم والسير في مناكب
المعرفة والإبحار. أما القاعدون ... فقد تركهم الركب وسار .. وهم فرحون غافلون
منتشون، يظنن أنهم – دون من سواهم – العابدون الممدوحون!!!
يقول:
"حين نتناول التّراث التّفسيري نجد أن هذا التّصوّر للنّصّ وما ينجرّ عنه من انسحاب للحياة من الواقع الاجتماعيّ والثّقافي كان ممثّلاً في الأسس المنهجيّة للإمام أبي حامد الغزالي في كتابيه "الإحياء" و"جواهر القرآن". فالغزالي – رغم ما قرّره من قواعد سلوكيّة ودلاليّة موصولة بالنّصّ تهدف إلى إحياء الإيمان والعلوم– فإنّ المنهج الذي انخرط فيه وزاده تعميقًا كان أبعد ما يكون عن المنهج الإحيائي. ولنستمع إليه يقول: "القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إذ كلّ كلمة علم، ثمّ يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكلّ كلمة ظاهر وباطن وحدّ وطالع[9]... كلّ هذه العلوم ما عددنا وما لم نعدد جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى.. ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق، وربّما لا يفهمونها إن سمعوها من العالم بها...". وقد أدى هذا التصور بالغزالي إلى تقسيم العلوم القرآنية إلى علوم صدف وقشر وعلم اللباب. هذا الأخير هو الذي تتشعب منه قصص الأولين وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم أصول الفقه وعلم الطب والنجوم وهيئة العلم وهيئة بدن الحيوان وتشريح أعضائه..."
نقول: إذا كان الله تعالى قد خلق من
أجناس الأحياء من حيوان ونبات - على قررته التصانيف حتى الآن– حوالي 30 مليون جنس،
ولم يستطع الإنسان بجلالة قدر مجامعه، ومجلدات التصنيفات الأحيائية على مدى 3 قرون
حتى الآن، إلاَّ تسمية حوالي مليون ونصف المليون جنس فقط. ولو أن لكل صنف منها
كتاب علم يشرح الجنس ونشأته وشجرة أقاربه من الأجناس وحياته ومآله وتاريخه وطعامه
وشرابه، وو ... إلخ، فكم علم من علوم هذه الأحياء يمكن تعديدها؟! – لا بد وأن تكون
30 مليون علم، بمعنى تخصص علمي.
وإذا كانت هذه الملايين من الأجناس
قد خُلقت من الأرض ذات العناصر الكيميائية المستقرة التي لا تزيد عن مئة عنصر فقط!
فما البال بـ ما يزيد عن ستة آلاف آية في القرآن، بين محكم ومتشابه، أو لنقل – كما
هو الحال في الآحياء السابق ذكرها - بين ما تم تسميته وما لم يُسمَّى. لا بد وأن
عدد المعارف/العلوم/التخصصات التي يحتويها القرآن بالقوة -أي التي اكتشفها الإنسان والتي لم يكتشفها –
عدد هائل يعجز العقل البشري المتواضع أن يحصيها.
فإذا أحصاهها الغزالي بتعديد الكلمات
وتقليبات تصنيفاتها المعرفية في عصره، فجاءت على النحو الذي قرأناه أعلى، ... فأي
غرابة في ذلك؟! – وهل يختلف ذلك عمّا يصنعه علماء الكونيات الآن من بحث في عظائم
الأرقام العلمية[10]،
فيقولون مثلاً – ضمن ما يقولون - أن الحد الأعلى للعمليات الحسابية التي تمت في
الكون على نحو طبيعي هو (12010) عملية منذ
اللحظة التي يسمونها الانفجار العظيم وحتى الآن[11] –
أو يقولون أن عدد البروتونات في الكون المنظور – أو عدد الإلكترونات المساوي له –
هو 791.5، ويسمون هذا العدد (عدد إدنجتون)، لأنه إدنجتون[12]
صرح بالتصريح الغريب الآتي سنة 1939، وقال[13]
(بصيغة جازمة):
أعتقد أن عدد البروتونات في الكون – ومثله الإلكترونات - هو :
15 747 724 136 275 002 577 605 653 961 181 555 468 044 717 914 527 116 709 366 231 425 076 185 631 031 296
يقول النيفر:
"كل العلوم وكل الحقائق – وكذلك المعرفة – أزلية مكنونة في النص، لا صلة لها بالفعل الإنساني، وهذا ما يعلنه الغزالي بوضوح في الإحياء: "العلوم كلها داخلة في أفعال الله - عز وجل– وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته". هنا يتبدّى لنا الغزالي في جانب رئيسي من بنيته الفكرية، فإلى جانب الغزالي فقيهًا ومربيًا يبرز الغزالي متكلمًا أشعريًّا. ومع هذا الجانب الخاص بالغزالي يمكن أن نضع أصابعنا على مدى تجديد ما يسمّى بالتفسير "العلمي" الحديثَ بالنسبة إلى المنهج المعرفي والعقدي الذي يعتمده."
نقول: هل الاعتراض هنا على قوله أن
كل العلوم والحقائق أزلية مكنونة في النص، أم قوله أنها داخلة في أفعال الله
تعالى؟ - إن كان الأول، فالمسألة إذاً جزء من مسألة خلق القرآن، ونُقرِّب معناها
على أن الله تعالى قدر في الأزل ما سينزله من القرآن ويعلم ما سيكون عليه من تفصيل
واحتواء معرفي، ومن ثم فهو من الغيب المستقبلي، والله تعالى يقول:
"وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ"(الأنعام:
59).
أما إن كان الاعتراض على دخول فعل
العباد في أفعال الله تعالى، فما العيب في ذلك؟! ما الغرابة في أن الله تعالى
يستخدمنا في تنفيذ أقداره الحكيمة، وقد خلقنا على النحو الذي يحقق ذلك على الوجه
الأتم، وأن لنا مشيئة، وله سبحانه مشيئة. وتستوعب سبحانه مشيئته مشيئتنا، مثلما
يستوعب مجرى النهر قطرات المطر الساقطة على سطحه، حتى ولو كان لها مشيئة، فلا تغلب
المشيئة التي يجري بها تيار النهر إلى مصبَّه. وفي هذا يقول الله تعالى
"وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ"(الصافات:96). أما إن كان
الكاتب يعيب على هذا الفكر في أنه يؤدي إلى الجبر، وأن الإنسان وفعله غير ذي جدوى،
فيتعطل ويخلد عن العمل، وأن هذا من ثقافة الإعجاز والتفسير العلمي، المستكين
باستطعام العلم في القرآن دون السعي الحقيقي وراءه، فهذا خلاف الصورة الحقيقية،
حتى وإن فعلها بعض الذين يمارسون التفسير والإعجاز العلمي! فالسعي وراء فهم الواقع
الذي يحكي عنه القرآن حيثما يكون، جزء لا يتجزأ من فهم آيات القرآن، ولا معنى
للتفسير العلمي لظواهر دون الوقوف عليها عياناً واستدلالاً.
يقول:
"إن حديث الشيخ (طنطاوي) جوهري – وهو المعاصر لنا – عن البيولوجيا والجيولوجيا لا ينبغي أن يغيّب عنا بحال من الأحوال خطّ التواصل مع البناء الفكري والعقدي للغزالي والأشعري من قبله. فهو - بوعي أو دون وعي- ينكفئ على مفهوم للنص كما استقرّ منذ القرن الثالث (بعد محنة خلق القرآن). ففي نسيج الثقافة العربية الإسلامية استقرّ أن الكلام الإلهي هو صفة ذاتية قديمة، وليست فعلاً من أفعاله، وينجم عن هذا انحسار خطير لقيمة الإنسان ومعرفته وتجربته؛ إذ لا يستطيع المخلوق أن يعتبر نفسه المستهدف الرئيسي والمخاطب الأول بالكلام القديم. إنه لن يكون قادرا على استيعاب ما لم يخلق له في حدود تجربته المنفتحة. فالسبيل المتاح له هو التقاط بعض أسرار النص وغرائبه وهو مسعى لن يغيّر من طبيعة الإنسان وما يمكن أن تفتحه له تجربته من آفاق. هذا التعامل غير التاريخي مع النص يؤدي إلى قطيعة مع الواقع الاجتماعي الثقافي. إنه يؤسس لمنهج لا تاريخي للمعرفة، إذ يعدّ النص المصدر الوحيد للمعرفة مهملاً تفاعل الإنسان ومعضلاته بقيم النص ومقاصده وبنائه."
كما قلنا، لا قيمة لنص، أي نص من
قائله، ما لم يقترن بواقع يحكيه النص، فالقول بأن النص المصدر الوحيد للمعرفة
– عند من ينتقدهم المتكلم – خطأ مفهومي، يجب عليه تصحيحه لأنه غير وارد في
حيثيات المسألة. فالإحاطة بالواقع والنص جميعاً جملة مفيدة معرفياً، وتُفقد هذه
الإفادة إذا انفصل النص عن الواقع، أو انفصل الواقع عن النص.
أما الجدلية التي يثيرها الكاتب في
الفقرة السابقة، فهي قوله: "التعامل غير التاريخي مع النص يؤدي إلى قطيعة
مع الواقع الاجتماعي الثقافي". ونسأل: إذا كان يقصد من تاريخية النص،
تاريخية قدره ومحتواه عند الله سبحانه. فنقول: هل إذا علمنا أن الله تعالى قدر
محتوى النص القرآني على النحو الذي هو عليه بين دفتي النص قبل نزول القرآن بخمسين
ألف سنة، أو بخمسة عشرة مليار سنة، قُبيل خلق الكون الذي نعلمه، أو منذ أزل أبعد
لا نعلمه، هل في ذلك من تأثير في تعاملنا مع النص؟! – الإجابة هي: لا تأثير! – ثم
أنها مسألة غيبية، لا يجرؤ عاقل أن يتكلم فيها بتقريرات وإلا دخل في استحقاقات قول
الله تعالى " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ... أَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ"(الأعراف:33).
وإن كان يقصد أن النص يرسم صورة
سكونية لا ديناميكية فيها لقارئيه، إن انطبقت على زمن لا تصلح لسواه من الأزمان
اللاحقة! فهذا كلام يتعارض وتصريحات النص ذاته؛ إذ أن أدوات التشريع في النص، ومكنوناته
المعرفية متجددة العطاء، لأنه نصٌ كريم، فالقياس الفقهي، والمصلحة، وفقه الواقع
يهيء التشريع دوماً لاستيعاب عوارض الأحداث، ومستجدات الوقائع، ومتطلبات الفهم،
وجديد العلم المدعوم من الواقع.
وإن كان يقصد أن وصف القرآن للكون
والإنسان من بزوغ في الوجود، وقفول في الغيب قبل عودة لاحقة، وأنها صورة نمطية
رتيبة، مغايرة لتفاؤل وانفعال وآفاق المستقبل الذي قد ينفتح فيخرج من الأرض كما
خرج - وقد اختلف مع قراءات قيّمة للنص - ويهاجر الإنسان إلى عوالم أخرى غير الأرض،
وما إلى ذلك من الخيال العلمي. فنقول: إن هذه الصورة النمطية لم تكن لعين محتوى
النص، بل للقراءات القديمة للنص، وهي القراءات التي يظن المتكلم أنها عين معاني
النص، ويظن أنه انغلق عليها، وأن أسواق العلم قد انفضت عن جديد في النص. ولكن هذا
الذي يعيبه المتكلم هو عين ما يعارضه ويقفل الباب دونه، ونقصد التفسيرات الجديدة
للنص بما أظهرته العلوم الجديدة، فكيف يستنصر بالقديم من التفسير، على عدم قدرة
النص على مواكبة الجديد؟! – فالنص إذاً ديناميكي في عطائه المعرفي، ولا سكونية فيه
إلا للذين سكنوا عن طلب جديد العطاء. فالإشكال فيهم، وما إشكال في معالجة النص،
إلا في إلزام مفاهيمه المنفتحة بأفهامهم المقيدة!
يقول: "
"لا يكون مجديًا إنكار ما يسمى بالتفسير العلمي أو
الإيديولوجي أو الإشاري أو ما يشابهها، بل لا بد من تحديد: لماذا ننكر هذا العمل منهجيًّا؟
وما الضوابط الأساسية التي تحكم تعاملنا مع النص المؤسس لثقافتنا العربية
الإسلامية؟
المؤكد أن جهود رجال من أمثال محمد
عبده وأمين الخولي وآخرين معاصرين، تعدّ أعمالاً ريادية؛ لأنها رغم اختلافاتها
فإنها قد وعت - بشكل علمي - حقيقتين كبيرتين تتصلان بكل عمل تقويمي للتراث
التفسيري:
أ- أن المعضلة ليست في هذا التراث، بل في المنهج
الذي يعتمده.
ب- أن تطوير مفهوم الحداثة في البلاد العربية لا
يتأتى إلا من الداخل الثقافي الذي لن تتجدد منظومته العقدية والفكرية والنفسية إلا
باعتماد الأدوات التحليلية والمنهجية الحديثة."
فالإشكال إذاً في أن نقض التفسيرات
المختلفة، ومنها التفسير العلمي، يقع في نقض مناهج هذه التفسيرات، وأن المعضلة
المعيبة المأخوذة عليها من المتكلم، تكمن مناطاتها بتمامها في المناهج. ولن يتأتى
تحديث هذه المناهج لتفكيك هذا الإعضال -
بحسب كلام المتكلم – من الداخل الثقافي، الذي استفرغ وسعه ولم يفلح في مبتغاه،
فوجب إذاً اعتماد أدوات التحليل والمنهجية الحديثة لتجديد المنظومة العقدية
والفكرية والنفسية!
ولكن هذه الأدوات التحليلية
والمنهجية – كالتي سنراها عند طه حسين، ومحمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وسيد القمني
..إلخ، قد استُجلبت من الغرب، ومن سبقهم من طابور المستشرقين، وحملت معها
أيديولوجية مضادة، تحمل في بواطنها، وقناعاتها المسبقة، أسطورية النصوص، ومجازية
أدبياتها، وتاريخية تأليفية لها. فهي إذاً أدوات تحليلية ذات أغراض غير موضوعية،
ولا تقف على الحياد في معرفتها بالنص، وليتها فعلت! بل تقف على جناح العداء
والتشكيك المسبق! فأي علمية منهجية تلك التي تدعيها لنفسها وهي تستهدف تخريب
النصوص، في وقت تنكر صراحة علمية النصوص. ثم كيف لا تنكرها، في وقت تستأثر
بالاستنصار بها ضد النصوص. فلا مناص إلا من إنكارها وإلا فشلت في مسعاها! ... هو
إذاً المكر العلمي، أي المتشح بردائه زوراً وبهتاناً ...
إذا كان الأمر كذلك، .. - وهو كذلك
من كثرة شواهده كما سنرى عن أركون وأصحابه- .. فلا بد لنا إذاً أن نخلص أدوات
التحليل، التي يتكلم عنها احميدة النيفر، من الأفكار الفاسدة في التحليل. أي أننا
بحاجة إلى تحليل أدوات التحليل! .. والحكم عليها وعلى مصداقيتها .. لا أن نُقدِّس
مزاعمها المشحونة بأغراض أصحابها. .. ومن يدعو إلى اعتمادها حَكَمَاً فيما ينبغي
أن نفهم به كلام ربنا جل وعلا .. كما قرأنا أعلى لتوّنا!!
[1] أحميدة
النيفر هو أحد منظري اليسار الإسلامي أو ما يسمى بالإسلاميين التقدميون. درس في جامع
الأزهر بمصر. قصد باريس ونال من جامعة السوربون دكتورا الحلقة، ثم حصل على شهادة دكتوراه
الدولة في العلوم الإسلامية ليدرس بالجامعة الزيتونية. كتب أحميدة النيفر في السبعينات
في مجلة المعرفة الإسلامية، ثم أسندت له عام 1982 رخصة مجلة جديدة اختار لها عنوان
مجلة الفكر الإسلامي المستقبلي 15-21، وقد توقفت هذه المجلة عن الصدور في أواسط عام
1990. له العديد من المؤلفات والمقالات.
[2] " التفسير العلمي وتَعَطّل المنظومة الثقافية
الإسلامية"، أحميدة
النيفر،
[3] راجع في ذلك ما كتبه الشيخ
محمود شاكر، في كتابه "مداخل إعجاز القرآن".
[4] المرجع السابق.
[5] أبو
حامد الغزالي، جواهر القرآن، مقدمة الكتاب.
[6] سنن الترمذي، والدارمي.
[7] المرجع السابق.
[8] أخزاهم
الله وأخزى جهلهم الذي تظنه السوقة علما! فالذي تَخَرَّص وتساءل مستنكراً: من أمر
بخلق ذلك (يقصد جسيم الميون)؟ Who ordered that ( the creation of Muon particle? هو إيسيدور رابي Isidor I. Rabiوهو الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة
1944 (http://en.wikipedia.org/wiki/I._I._Rabi). والذي سخر من عيوب هذه الجمادات وزعم أنها عيوب في صانعها، هو
ولفجانج باولي Wolfgang
Pauli - الحاصل على جائزة نوبل
في الفيزياء سنة 1945- والقائل على الحقيقة: God is weakly left-handed، في وصفه لظاهرة عدم حفظ التماثلية في التفاعلات النووية الضعيفة
المسئولة عن الانحلال الإشعاعي.
(C.
P. Enz, No Time to be Brief: A Scientific Biography of Wolfgang Pauli – Oxford:
Oxford University Press, 2002- p.519)
[9] يقصدون – أي أهل التصوف –
من الظاهر: عالم الكون والفساد التي نعيش فيه، وبالباطن: العالم العقلي، وبالحد:
الخلق، وبالمطلع: برزخ البرازخ الذي لا يمكن الوصول إليه.؟؟
[10] The Constants of
Nature; From Alpha to Omega - The Numbers that Encode the Deepest Secrets of
the Universe. Pantheon Books, John D. Barrow, 2002.
[11] Computational
Capacity of the Universe, Seth Lloyd, Phys. Rev. Lett. 88, 237901 (2002).
http://physics.aps.org/story/v9/st27
http://physics.aps.org/story/v9/st27
[13] Eddington (1939),
lecture titled "The Philosophy of Physical Science.";
http://home.t01.itscom.net/allais/blackprior/eddington/PhilScience.doc, p.156.
http://home.t01.itscom.net/allais/blackprior/eddington/PhilScience.doc, p.156.