السبت، 2 أغسطس 2014

الفصل (هـ3) – رضوان السيد - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (هـ3) رضوان السيد

بقلم: عزالدين كزابر
الدكتور رضوان السيد
عودة إلى فهرس الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الدكتور رضوان السيد[1]،[2]
لفكرة الإعجاز العلمي فائدتان: أنّ القرآن – بخلاف الكتب الدينية الأخرى – لا يتناقض مع العلم ولا يُضادّه. وبعث الثقة لدى المسلمين أن لدينهم مستقبلاً باعتبار عدم مناقضته للعلم والتقدم، بل استحثاثه عليه.
نقول: هل يمكن الإقرار بأن القرآن الكريم لا يتناقض مع العلم (الغربي وكشوفه) ولا يضاده، دون المواجهة بين مقولات القرآن ومقولات هذا العلم، والقدرة على تمييز التناقض أو التضاد من عدمهما؟! - الإجابة: لا يمكن، ... وإلا كان قولاً عابراً لا سند له من عينات المواجهة، وما تتضمنه من عدم التنافر في أدنى مراتب العلاقة.
فإذا برّأنا القرآن – جدلاً - من ممارسات الإعجاز العلمي، بافتراض أنها بدعة منبوذة، فنسأل: ألا تفرض هذه المواجهة نفسها تلقائياً على قارئ القرآن من ذوي الخبرة في العلوم، لا عن تكلُّف وتصنُّع، أم أنها تُعد تكلفاً منه بالضرورة إذا تطرق إليها الفكر، وعليه أن ينبذها؟ - الإجابة، أنها حتماً تأتي طبيعياً لا يستطيع أصحاب الخبرة تجاهلها إلا إذا أصموا آذانهم أو تجاهلوا علمهم! فإذا عالجوها بما علموا وخبروا من خبر العلوم التي هم فيها خبراء، وعلى أدلتها شهداء، علموا – في أقل ما يمكن أن يعلموا – أنه لا تنافض هناك بين العلم الصريح والدين الصحيح ولا تضاد. والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو: ما نوع هذه المعالجات بين القرآن والعلم الذي يفي بالحد الأدنى من المواجهة، أهي دراسات في الإعجاز أم في علوم القرآن؟ - نقول: أياً كان اسمها، فهي مما يندرج تحت راية التفسير العلمي أو الإعجاز العلمي أو أسلمة العلوم، وجميعهم أولاد عمومة، فأي لوم على الباحثين ذلك الذي تفرض هذه الدراسات نفسها عليهم مثلما تفرض الشمس نفسها – سطوعاً أو ضياءاً - على عيون الناس المبصرة في نهار الأرض؟! – وعلامَ يلومهم من لم يُبصرها؟ - حقاً إنه لمن العجب أن يسخر ضعيف البصر من وصف المبصرين للألوان وحديثهم عنها، ثم يقول: "يكفينا من الضوء ما نتحسس به طريقنا، وما زاد من مزاعم الألوان فتكلف وتصنُّع!" – وأخشى ما نخشاه أن يكون هذا الإعراض عن علاقة القرآن بالعلم، عند فئة من الناس يجهرون به، ليس إلا زهداً متكلفاً في العلم ذاته، مثل زهد من حرم نعمة فاستنقصها كي يواسي نفسه، أو حسداً ممن أوتوها فيكونون سواء!
أما ما قيل من فائدة بعث الثقة في نفوس المسلمين، بإشراق المستقبل لهم، كتبعة من تبعات الإعجاز العلمي، فهو بُشرى نفسية لا عن ثمرات عيانية، وتجاوز لما هو أهم. وذلك الأهم هو أن الإسلام والقرآن هما دين الله تعالى وكتابه، وهما منتصران لا محالة، رضي منا من رضى وساند، وتقاعس عن نصرتهما من تقاعس وعاند. فإن ظهر في القرآن ظهوراً تراه العيون وتسمعه الآذان فلن يوقفه كاره أو شارد، ولن يُعجِّله قبل أجله المحتوم متهافت.. والنفوس ليست دائماً على قلب رجل واحد، فها هو "صلح الحديبية" كان نصراً من الله، وتأذى منه من كبار المسلمين من تأذى لـمَّا خفيت عليهم حكمته، ولكن حكمة الله تعالى غالبة، وأمره نافذ، وكان نصراً حقا. وكذلك التفسير والإعجاز العلمي وما يتبعه، غير أن العقبة الكؤود فيه هم أصحاب الإعجاز أنفسهم، فلو رددنا أخطاءهم لانفتحت أبواب العلم الصحيح على مصاريعها، إلا أنهم يصدُّون عن أكل ثمار الله بقطفها قبل أوانها، لا عن رعاية، ولا حرث، ولا ري، ولا خبرة في شيء، إلا ما قل أو ندر. ولا يقل عنهم خطأً المشككون في التفسير العلمي للقرآن وإعجازه. فإن كان الأولون متهافتون أو مُفْرِطُون، فالآخرون مُعَطِّلون أو مُفَرِّطون. لا صبر للأولين على البحث والتحقق، ولا أمل للآخرين على مايستدعيه ذلك من صبر.
يتابع الدكتور رضوان السيد ويقول: 
بيْد أن هاتين الفائدتين لا تصمدان أو انهما لا تشكلان مسوِّغاً للمضيّ قدماً في دراسات وممارسات الإعجاز العلمي هذه. فأولاً الفكرة نفسها خطأ في خطأ. ذلك أن القرآن يملك طبعاً «رؤية للعالم»، لكنها لا تُعنَى بالفلك والفيزياء والرياضيات والبيولوجيا، بل بالإنسان وسبل التكليف واختيار الحياة الصالحة، ومعوّقات وحوادثّ البيئات الاجتماعية والانسانية والطبيعية المحيطة به، في ظل عناية الله سبحانه ورحمته، ولأنه عزّ وجلّ «خالق كل شيء»، و «له الخَلقُ والأمر»، فمقتضى إيماننا المؤمن والمسلم انه لا تناقض بين ما يورده النص القرآني عن خَلْق العالم والإنسان، والحقائق التي تثبتُ بالعلم البحت والتطبيقي. لكن هذه هي حدود الأمر.
نقول: كيف يقر صاحب العبارة أن يكون للإسلام رؤية للعالم، في غير تصور للموجودات الطبيعية والحية؟! – فإن لم تكن هذ الرؤية واقعية – وهذه الموجودات هي كل الواقع الذي نحيا في رحابه –  فلا بد أن تكون هذه الرؤية وهمية، ومنغلقة في النفس الحالمة! – ثم أن قراءة كتب التراث تصبغ قارئها برؤية للعالم، ولكنه العالم كما كان يراه الإنسان قبل ألف سنة أو يزيد، فإن لم نرى العالم برؤيتنا، فسوف نراه حتماً برؤية اندثرت وكان فيها من الابتسار عن العالم ما كان. ولن يفرغ كوب العطشان من ماء وإلا مات. فإن أبينا أن نشرب ماءاً جارياً، فسنشرب ماءاً راكدا لا محالة.
ثم كيف يقتضي إيماننا أنه "لا تناقض بين ما يورده النص القرآني عن خَلْق العالم والإنسان، والحقائق التي تثبتُ بالعلم البحت والتطبيقي" وتكون هذه هي حدود الأمر؟!  - كيف يكون العلم بهذا الاقتضاء مُسَلَّمٌ به، دون معاينة؟ - إن كان ذلك من الغيب سلّمنا، ولكن العالم والإنسان وحقائق العلم من عالم الشهادة، فكيف نسلم بهما دون إعمال ذلك التسليم؟! – ثم كيف إن سعى من يحقق هذا الاقتضاء، أن يكون مُعاباً عليه سعيه، ويناله من السخرية والتوبيخ الشيء الكثير! .... أبدلاً من دعمه ومؤازرته، يتآلف عليه من العلماء من يصدونه عن سعيه، إن هذا حقاً من عجائب أمر المؤمنين! ... أما إن كانوا من العلماء العاملين، فهذا شيء فوق العجب!!!
ويتابع ويقول: 
لا يجوز الانطلاق من ذلك لقراءة كل الحقائق أو النظريات العلمية من خلال القرآن لا في التأسيس ولا في الاستنتاج. في التأسيس: لأن القرآن لا تفصيل فيه في الشؤون البحتة والتطبيقية. وفي الاستنتاج: لأن النظريات العلمية أو الفرضيات تتغير وتتطور، ونظرية دارون نفسها ما ثبتت حتى الآن، فضلاً عن الفرضيات المتعلقة بالقضايا البيئية والتي تَحَدَّث عنها مُنَظّرو الإعجاز العلمي، من دون أن يتمكنوا من متابعة تطوراتها بتأويلات جديدة للنصوص القرآنية المجملة والتي لا تهدف في الأساس للحديث عن هذه الأمور. و(على) هذا فإن فكرة استخدام النص القرآني للتأسيس لنظرية علمية فيزيائية أو بيولوجية هي إساءة للقرآن، من حيث مخالفتها لطبيعته ولرسالته. أما استخدامه للتوافق مع نظرية علمية – كما حدث دائماً وحتى الآن – فهو تحصيل حاصل من جهة، ويحمل خطر ثبوت خطأ تلك النظرية أو قصورها بعد مدة تطول أو تقصر.
نقول: نُقر جميعاً بالأخطاء المتتابعة لأصحاب الإعجاز، ولكن هذا لا يخدش المبدأ وأصل العلاقة بين القرآن والوجود الذي تتوالى آيات القرآن على ذكره. أما القول بـ "أن القرآن لا تفصيل فيه في الشؤون البحتة والتطبيقية" فهذه مصادرة لا ينبغي التصريح به إلا بما تيقن منه قائلها. ولكن أين اليقين في نفي التفصيل عن قول الله تعالى عن تركيب الأرض: "وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ"(الرعد:4)، وفي نفي التفصيل عن قول الله تعالى عن حركة الشمس الحقيقية وآليتها "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا"(يس: 38)، وفي نفي التفصيل عن قول الله تعالى في سرعة أمر ما تقصده الآية ويتعين من الآية قيمته: "يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ .."(السجدة:5)، ولو شئنا لتابعنا، ولكن في هذا إشارة لما وراءه.
كما وأن هذا التصريح السابق بنفي التفصيل في القرآن عن الشئون البحتة والتطبيقية في الكون والحياة، ومن ثم، الاكتفاء بروحانيات الإيمان، يشبه أقوال أعلم من رأينا من المتصوفة – محمد إقبال-حين ينادي بتأويل الكون – الذي هو الكينونة الأكثر مادية في الوجود - تأويلاً روحياً، ويقول[3]:
الإنسانية تحتاج اليوم إلى ثلاثة أمور: تأويل الكون تأويلاً روحياً، وتحرير روح الفرد، ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي.
فتكون نتيجة هذا الالتقاء بين التفكيرين: أن خلو القرآن من الحديث عن واقعية الكون والحياة، وكشف شيء من أسرارهما، يستضيء بها المسلم في طريقه الوعر، والذي ينادى به خصوم الإعجاز العلمي، ليس إلا رؤية روحانية للقرآن والإسلام! تعمل على إلباسه عباءة الصوفية، فتضعه في حصن مقدس أمين، لا إعمال له إلا العبادة وطقوسها، تبتغي بذلك حماية للقرآن من تفصيلات الواقع الغير مرادة فيه – بظنها – فتعزله، وتُعطِّل مقاصده !!!
نقول: وهل نزل القرآن لغير أن يتفاعل مع الحياة، ويغالب شرورها، ويصد مكرها، وينصر ربها؛ رب العالمين؟! أم أن المؤمنين به خافوا عليه، كما تخاف الأم على رضيعها، فمنعته الناس حتى استنكروه واستنكرهم، فاستغربوه واستغربهم، فنبذوه ونبذهم؟! – أم أنهم عجزوا عن أن يدافعوا عنه إذا لغى فيه اللاغون، وعبث به العابثون، وآثروا السلامة بدسّه في الخزائن، فجعلوه كنزاً مكنوزا، أو أثراً مطمورا؟! – أم يظنون أن الكافرين به سيكفّون عن النيل منه، وقد حبسه المؤمنون، فمنعوه حتى أن يدافع عن نفسه، فكانوا عليه عبئاً وصَداً، بدلاً من أن يكونوا له ناصراً وعَضُداً.
وهب أن المؤمنين استبعدوا أي تصورٍ للكون عن معالجة معاني الآيات القرآنية التي تتناول ما يتعلق به، وما قاله فيها غيرهم من قديم وحديث من نظريات ومفاهيم قد تصدق وقد تكذب، ألا يعد هذا تعطيلاً وحجراً عن آية من كل ست آيات في القرآن؟! – ألا يتعارض هذا مع تدبر آيات القرآن التي أُمر بها المسلمون؟! ... ثم بأي معنى يفهمون تلك الآيات الكونية؟!.. أيفهمونها بما جاء في أمرها من تفاسير قديمة؟! فتكون الأرض ساكنة في مركز الكون، والسماء جلدٌ أو سقفٌ جاسئ مرصعٌ بالنجوم، وعلى مسافة كذا من الأميال التي يقطعها الخيل أو الإبل في خمسمائة عام؟! – فإذا كان مثل هذه المعانى فاسدة، وبلا انفراجه من تأويل!!... فما هو البديل؟ - ليس هناك إذاً إلا هجر معاني هذه الآيات بجملتها من القرآن، وكأنها لم تنزل، وستظل في المصحف إلى يوم القيامة – بحسب من أغلقوا باب المعاني - رقوماً متلوة، لا تدبر فيها ولا تفهيم!
ويتابع الدكتور رضوان:
أما الأمر الآخر المهم فإن نزعة الإعجاز العلمي هي بمثابة تعويض عن التأخر العلمي لدى المسلمين. لكنه تعويض وهمي. فما الذي يستفيد منه المسلمون أو القرآن الكريم إذا كانت «النظرية الذرية» القرآنية قد سبقت بحوث الفيزيائيين والرياضيين الغربيين؟
الذي يستفيده المسلمون أو القرآن الكريم من أن كذا وكذا قد سبق بحوث الفيزيائيين والرياضيين الغربيين، أن آيات القرآن التي قادت هذا الدفع الحضاري من قبل – والتي تتناغم مع صنع الله تعالى يجلجل في أرجاء الكون الإنساني وتتكشف معالمه بلا نهاية تلوح في الأفق- ما زال دويها يتردد لمن كانت له آذانٌ صاغية وقلوبٌ واعية! – فمن أنكر وجودها أو استنكرها، فلن يسمعها، وكان كمن قال الله تعالى فيهم "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا"(محمد:16)!
ويتابع الدكتور رضوان:
أما الإنجازات الفلكية والكيميائية والطبية لدى المسلمين في العصور الوسطى فما ذكر واحد من علماء المسلمين انه استند فيها الى القرآن الكريم.
نقول: هذه العبارة تمثل مأساة حقيقية لتاريخ العلم في الإسلام. والحاصل أن تدوين العلوم وتاريخه اقتصر فقط على اعتبار أن العلم الإسلامي – الذي يقوم على مصادره الأساسية من قرآن وسنة – هو فقط ما يتعلق بالتكاليف الشرعية للمكلّفين. فما كان من تأريخ لهذا العلم، فيكاد أن يغلق العلوم الإسلامية مع انغلاق القرن السادس الهجري، إلا ما كان من طفرات هنا أو هناك، مثل ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومثل ابن خلدون والسيوطي. ولكن الحقيقة أن القرآن سرى نوره العلمي في قرائه وراء هذه الحواجز التاريخية والقوالب التنظيرية لأبواب العلوم، سواء من حيث النوع، فتجاوز حواجز المكلفين وتصل إلى الناظرين في الأشياء، أو من حيث الزمن، فتجاوز القرن السادس الهجري بكثير على أنشطة فكرية غير مشهورة بين مؤرخي العلوم. ونذكر هنا أمثلة:
1- أن علم الجبر نشأ من إعمال آيات المواريث الواردة في القرآن.
2- أن الجغرافيا الرياضية المنضبطة وأوليات القياسات الفلكية الصحيحة لعلاقة الشمس بالأرض، ومن ورائها من دائرة البروج وكل القياسات الفلكية الأساسية، نشأت أول ما نشأت مع تعيين وقت وجوب صلاة العصر، حيث يجب أن يُعلم طول الظل وقت الزوال ليُضاف إلى طول الشاخص، فإذا ساوى الظل هذه القيمة وجبت الصلاة. ولأن ظل الزوال يعتمد على خط العرض، وجب حسابه لكل خط عرض، وقد حسبه البيروني لكل خطوط العرض حتى خط 44، واكتفى بذلك قائلاً، "لا داعي للذهاب وراء ذلك لأنه لا عمران بعدها"! ولو كان هناك عمران يعرفه لكان قد حسبها. وتم بناءاً على ذلك جدولة مواعيد الصلوات لأي مكان على الأرض! في أي وقت من السنة! وتم أيضاً تعين خطوطها على أعلى تكنولوجيا في ذلك العصر، وقد طورها المسلمون أنفسهم بما يبعث على الدهشة والإعجاب حتى بمقاييسنا المعاصرة! ونقصد به "الاسطرلاب" الـمُسطح والـمُجَسَّم، وذلك لمن تأهل وتعلَّم استخدامه. (هذا وقد تجاوزنا عن مواعيد صلاة الفجر والعشاء للاختصار مع أنهما أيضا مواعيد فلكية، وكان للمؤقِّتين طرق فلكية لحسابها – حيث كانت وظيفة المؤقّت أساسية لكل جامع لتعيين مواعيد الصلوات، ومن أشهرهم ابن الشاطر الفلكي الشهير، والذي عمل بوظيفة مؤقّت المسجد الأموي بدمشق)
ونتج عن حساب طول الظل عند الزوال تعديل فلك بطليموس، والحصول على المعلومات الآتية بدقتها العلمية المعتبرة لأول مرة في تاريخ علم الفلك:
- أن ميل الأرض على محور الدوران (دارة البروج) = 30 23 (عند بطليموس 51 23 وعند الهنود 24)
- أن نقطة أوج الشمس متحركة (بعد أن كانت ثابتة في الفلك البطلمي) solar apogee
- المعدل الدقيق للدوران النسبي لمحور الأرض rate of precession بالنسبة لكرة السماء.
- قيمة جديدة لاختلاف مركز دوران الشمس الظاهري حول الأرض عن مركز الأرض eccentricity؟
- معادل جديدة لحركة الشمس solar equation.
وكل هذا باستخدام الدوال المثلثية من جيب الزاوية وجيب تمامها، وتوابعها، وعلاقاتها البينية، وهي هندسة جديدة أبدعها المسلمون لم يعلمها من سبقهم من اليونان ولا الهنود.
3- أن حساب المثلثات الكروية باستخدام الدوال المثلثية (جا، جتا، ظا ومقلوباتها) نشأت من تنفيذ أمر الله تعالى "فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ"(البقرة:144). حيث كان تعيين اتجاه القبلة مشكل كبير في الأماكن البعيد، ومن ثم كان اختراع الهندسة الكروية لتعيين الدائرة العظمى على الأرض للموقع المطلوب معرفة اتجاه القبلة عنده. كما أمكن باستخدام الهندسة الكروية حساب المسافة من أي موقع على الأرض إلى مكة وتعيينها على الأسطرلاب، تلبية لفريضة الحج، فيعلم الحاج كم سيقطع من مسافة![4]
4- اختراع ابن الشاطر للساعة الزمنية المستوية[5] سنة 1371ه، لضبط الزمن لمواعيد الصلاة، وخاصة أنه كان يعمل مؤقت المسجد الأموي بدمشق، وكانت مهمته تعيين أوقات الصلوات، واعتمد في اختراعها على حساب المثلثات الذي أنشأه العرب أنفسهم، وهذه هي الساعة التي نعرفها الآن، ويتساوى طول كل ساعة مع التي تليها تماماً بتقسيم مجموعهما إلى 24 ساعة متساوية المقدار. وقبل ابن الشاطر لم يكن يعلم العالم – العرب والعجم- إلا الساعة الـمُعْوَجّة، أي التي تُقسَّم النهار بطوله إلى 12 ساعة نهارية، ومثله الليل، فيطول النهار بالصيف فتستطيل ساعاته، ويقصر الليل فتنكمش ساعاته! وفي الشتاء تنعكس الأمور.
أما أول من قاس الوقت لكسور من الدقيقة، فكان تقي الدين بن معروف سنة 1577-1580م في عهد السلطان مراد الثالث الذي تولى السلطنة سنة 1574م، وأنشأ مرصداً رائعاً يُعرف في تاريخ الفلك بإسم مرصد تقي الدين في إسطنبول، وقد اخترع تقي الدين في هذا المرصد ساعة ميكانيكية لها ثلاث أقراص تقيس عليها الساعات والدقائق والثواني، وشمل وصفه لهذه الساعة في كتابه "شجرة السدر في نهاية الفكر" "In the Nabk Tree of the Extremity of Thoughts"، وكانت هذه الآلة أول ساعة تقيس كسور الدقيقة على الإطلاق، ولم يسبقه أحد إلى ذلك من قبل، حيث قسَّم الدقيقة إلى خمس ثوان.
نظن أننا أجبنا على الدكتور رضوان السيد، وأظهرنا كيف أعمل المسلمون القرآن، فخرجوا بكل هذه الاكتشافات الحضارية. فإن قيل: إن القرآن دفعهم لاكتشافها ولم يلقنا لهم! قلنا إن القرآن أمرهم بالصلاة ونحوها، فكان النتيجة لوازم تنفيذ الأمر، ولم يكتفوا بما كان يفعل الصحابة لانتشار الإسلام في رحاب الأرض المحدب سطحها، فكان عليهم أخذ هذه الاختلافات الجديدة بالاعتبار وتدارك التعديلات اللازمة. فكانت الكشوف، وكان القرآن علة الحركة. ومن ظن أن الإعجاز العلمي تلقين القرآن لأهله بالعلم وهم قعود، حتماً أنه لم يفهم مقصود الإعجاز، وأنه قد أشكل عليه الأمر. فالقرآن يتكلم عن واقع، ومن استغنى عن الواقع، والبيئىة التي تحيط به وتشمله، فقد أعرض عن أمر الله في القرآن. فإن قال القرآن عن "النور" كيت وكيت، فهل يفيد ذلك فاقد البصر الذي لا يعلم النور ولم يره. كذلك كل ما تكلم عنه القرآن من شيء، يجب حمله على واقعه، فيكون قول القرآن عنه، وقول الشيء عن نفسه معادلتين، ينتج من ترافقهما الفهم العلمي الصحيح لمعاني الآيات، وما يتبع ذلك من إعجاز وتحدي قرآني باهر. فليس هناك من إعجاز يأتي من محض قراءة القرآن دون معرفة عم يتكلم عنه القرآن، ومن ظن ذلك من المتهافتين نحو الإعجاز، أو المعارضين له المشككين فيه، فقد وقع في الوهم، والتبس عليه الأمر.
ويتابع الدكتور رضوان:
ها هم أفراد من المسلمين المتدينين وغير المتدينين يتقدمون ويتفوقون ويحصلون على المناصب والجوائز العلمية العالمية، واستناداً الى البحوث والممارسات الغربية المنهج، من دون أن تتكون لديهم عقدة تجاه دينهم أو بني قومهم – باستثناء الاقتناع بأن تخلُّف العرب والمسلمين ليس علته دينهم ولا قرآنهم، بل الظروف الداخلية والخارجية المحيطة بإنسانهم ومجتمعاتهم.
نقول: المسلمون المشار إليهم هنا، جنود في الحضارة الغربية، مثلما كان من أهل الكتاب علماء وباحثين ومهندسين في الحضارة الإسلامية في بغداد ودمشق والقاهرة والأندلس، والفرد من هؤلاء وأولئك يحمل رؤية الحضارة التي ينتسب إليها، وإن خالف إرثه العقدي عقيدتها، مضطراً أو راضياً، بتبني أهدافها، مع تفاوت ناتج عن نوع التخصص، والقناعات الشخصية، ودرجة الانخراط في النواحي التطبيقية أو النظرية. ولا شك أن المسلمين المعاصرين يكتسبون من ذلك الخبرة البحثية العملية، التي هي من نوع خبرة الصناع المهرة ذوي الاحتراف، وتظهر براعتهم وإبداعاتهم، غير أنهم يستفذونها في دفع عجلات الحضارة الغربية بخيرها الكثير وشرها المستطير، بينما تُحرم بلادهم من عطائهم وفضلهم. وقد أثبتت التجارب أن تأثير تلك الحضارة عليهم لم تكن في كثير من نماذجها محمودة، فقد عاد الكثير ممن عاد منهم إلى بلادِهم متغربين، طاعنين في الدين؛ مجاهرين أو مُستخفين، والأمثلة على ذلك عديدة، وخاصة في النصف الأولى من القرن الميلادي العشرين، وليس طه حسين وزكي نجيب محمود إلا مثالين، وقد رجع الأخير نادماً على ما صدر منه متراجعا، ومنهم من عاش ومات بين الغربيين وهو أقرب إلى أن يكون منهم، ومثال قريب لذلك نجده في محمد أركون. وغير ذلك من المشاهير العشرات، ووراءهم المئات والآلاف اندرسوا في دولاب الحضارة الغربية بتصوراتها ومنتجاتها، تروسا وسيورا، تدور وتدور.
وأخيراً يقول رضوان السيد:
وهناك أمرٌ أخيرٌ يتردد كثيرون منا في الحديث حوله. إذ هناك قضايا في صورة الكون تَرِدُ في القرآن في حدود اللغة والسياقات المتعارَف عليها أو التي كان متعارفاً عليها. ونحن مضطرون – وليس اليوم فحسب بل ومنذ أكثر من قرن – الى قراءتها قراءة مجازية. لكن دعاوى الإعجاز القرآني العريضة، تنشر جواً من العجائبية والسحرية، يحول دون أي تفكير وتقدير.
لما كانت نصوص الوحي ثابتة، والثقافات متغيرة، لزم عن ذلك عقلياً أن موافقة النصوص لإحدى الثقافات على الحقيقة، تقتضي عدم موافقتها لثقافة مباينة، سابقة لها أو لاحقة، وبتحكيم الحقيقة أيضاً. فإذا رافق ذلك أن الثقافة الأولى قديمة ونالها شيء من تقديس الماضي، ككل ماضي عن البشر، كانت النتيجة الاضطرارية لمطابقة النصوص بالثقافة الأولى بانفراد، هي إزاحة نصوص الوحي في الثقافة الأخيرة من الحقيقة إلى المجاز حلاً للإشكال! وليس هذا في الإسلام وحده، بل في أي ظرف مماثل. وقد رأيناه في نصوص كتب أهل الكتاب، ودارت حول عين المسألة نفس الإشكالات.
والرأي الراجح عندنا في هذه المسألة، أن تفسير نصوص الوحي المتعلقة بتصور الكون، يجب أن تكون حقيقة لا مجاز فيها، ما دام أن الوحي يقول الحق، وأنه أعلى من أن ينزل فقط لتغذية الشعور الوجداني والعواطف الدينية على النمط البياني الأدبي الذي أدواته المجازات والخيالات، ومدار ذلك قول الله تعالى "إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ"(الطارق:13-14). وعلاج هذا الإشكال عندنا يكمن في تفكيك نصوص الوحي، فما كان من نصوص الوحي حقيقة حقاً للثقافة الأولى، فهو كذلك حقاً لأي ثقافة تالية، وهذا هو المحكم الذي أكد القرآن إحكامه في معاني الآيات، ومثاله: "وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ"(يس:39)، وذلك صحيح دوماً إلاَّ إذا ارتكست الثقافة، وفقدت مصادرها المعرفية، أو براعتها اللغوية كانحسار التذوق البلاغي والنظمي عند العرب المعاصرين، بالنسبة إلى ما كان عليه العرب في صدر الإسلام. فإن تغيرت الثقافة في موضوع الآيات الكونية، وكانت معاني نصوصها حقيقةً حقاً للثقافة المتأخرة، فلا يمكن أن تكون كذلك للثقافة الأولى، كما أنها لا يمكن أن تكون مجازاً لأن الكون واقعي الوجود، ولا يوصف إلا بحقيقي من الكلام، فليس من نتيجة نصل إليها إلا أن نصوص الوحي - المتعلقة بوصف الكون - كانت غير مفهومة على مرادها في الثقافة الأولى، أي أنها كانت بالنسبة إليها من المتشابهات، ومعنى ذلك أن المتشابهات ترتقي إلى المحكمات بارتقاء الثقافات، فتكون بينة قاطعة للمتأخرين دون من قبلهم، بمعنى أنها تصبح ثابتة الدلالة بعد أن كانت غير ذلك. وبناءاً على هذا التحليل تنتفي الضرورة التي ألجأت غيرنا إلى المجاز في الآيات الكونية، ويصبح القول به مما لا يمكن قبوله في صورة الكون في نصوص الوحي بأي حال.

المؤلف 


[1] أستاذ جامعي وكاتب ومفكر لبناني (1949-) حاصل على الإجازة العالية من كلية أصول الدين بجامعة الأزهر عام 1970. حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة توبنغن بألمانيا الاتحادية سنة 1977. أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية منذ العام 1978، ورئيس تحرير مجلة الاجتهاد الفصلية مع فضل شلق، منذ العام 1988 والتي توقفت مؤخراً. ومدير المعهد العالي للدراسات الإسلامية، وله العديد من المؤلفات والترجمات.
http://www.ridwanalsayyid.com/
[2] " مسألة الإعجاز والإعجاز العلمي في القرآن"، رضوان السيد، موقع الملتقى الفكري
http://www.almultaka.net/ShowMaqal.php?id=89&cat=1 المصدر الأصلي قبل تعطله:
http://www.nabanews.net/2009/3673.html
http://almajalis.org/forums/viewtopic.php?f=2&t=4323
[3] "تجديد الفكر الديني في الإسلم"، محمد إقبال، ص 212.
[4] أغلب المعلومات السابقة مذكورة في محاضرة، جورج صليبا، الإسلام وتحولات العلم اليوناني، سلسلة محاضرات عن علاقة العلم بالدين، معهد هامبشاير، 2008
Islam and the Transformation of Greek Science، Hampshire College, Lecture Series on Science and Religion, 2008.
[5] راجع مقال "توقيتوتوقيت، أعجمي وعربي" هلى هذه المدونة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق