الخميس، 22 يناير 2015

الفصل (ن2) – إرنست رينان - الجزء الأول - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (ن2) إرنست رينان Ernest Renan - الجزء الأول

بقلم: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
في عام 1883م ألقى (جوزيف إرنست رينان (رينوJoseph Ernest Renan) – عالم اللغات، والمؤرخ، والفيلسوف، والكاتب، والرمز الوطني لفرنسا العلمانية - محاضرة في السوربون بعنوان (المذهبية الإسلامية والعلم). وجاءت المحاضرة على أسوأ ما يكون، بسبب ما طغى فيها من ميراث فكري صليبي حاقد، على المعرفة الأكاديمية! وهي المعرفة التي ظهرت ضحالتها عند ذوي الخبرة بتاريخ الحضارة. فتشوهت أغلب عبارات (رينان) التي تمسحت بالعلم. ولأن المتفوه بها كان رجلاً؛ عُدَّ من رجال العلم المرموقين! دوَّت أصداء هذه المحاضرة قريباً وبعيدا، وأثارت من الاستهجان في داخل فرنسا وخارجها ما أثارت، وما زالت.
وفي العام التالي، أي عام 1884م، نشر (غوستاف لوبون Gustave Le Bon)؛ عالم الاجتماع والإنسانيات الشهير، والفرنسي أيضا، كتابه الشهير "حضارة العرب"، وبعد مراجعته وتحقيق محتواه، بدى لنا أنه نشره خصيصاً للرد على رينان.
ويُعد كتاب لوبون Bon Le بجملته (البالغ 659 صفحة في ترجمته العربية) تفنيداً ماحقاً لافتراءات رينان (في محاضرته التي طبعت في أقل من 24 صفحة) على الإسلام في علاقته بالعلم وأثر الإسلام على معتنقيه. وقد أفاض مؤلفه فيه بعلمه وخبرته العملية قبل النظرية، بما يقطع دابر أمثال هذه الافتراءات على العرب؛ أتباع محمد (صلى الله عليه وسلم) - بحسب اصطلاحاته - فيما اتُّصِفوا به، وتمثلوه من روح الإسلام. ورغم حرص لوبون على خروج كتابه عاماً عن حضارة العرب، إلا أنه قد خص محاضرة رينان بالتعيين – لفرط السوء الطافح فيها- عندما قال[1]:
[قد يسأل القارئ بعد ما تقدم: لم يُنكر تأثير "العرب" علماء الوقت الحاضر الذين يضعون مبدأ حرية الفكر فوق كل اعتبار ديني كما يلوح؟ - لا أرى غير جواب واحد عن هذا السؤل الذي أسأل نفسي به أيضاً، وهو أن استقلالنا الفكري لم يكن في غير الظواهر بالحقيقة، وأننا لسنا من أحرار الفكر في بعض الموضوعات كما نريد.
فالمرء عندنا ذو شخصيتين: الشخصية العصرية التي كونتها الدراسات الخاصة، والبيئة الخلقية والثقافية، والشخصية القديمة غير الشاعرة التي جمدت وتحجرت بفعل الأجداد، وكانت خلاصة لماضٍ طويل. والشخصية غير الشاعرة وحدها، ووحدها فقط، هي التي تتكلم عند أكثر الناس، وتمسك فيها المعتقدات نفسها، مسماة بأسماء مختلفة، وتملي عليهم آراءهم، فيلوح ما تمليه عليهم من الآراء حراً في الظاهر فيُحترم.
والحق أن أتباع محمد ظلوا أشد مَن عرفته أوربه من الأعداء إرهاباً عدة قرون (يقصد رادعين للأوربيين، فيرهبونهم الأوربيون بشدة)، وأنهم عندما كانوا لا يردعوننا بأسلحتهم، كما في زمن شارل مارتل والحروب الصليبية، أو يهددون أوربه بعد فتح القسطنطينية، كانوا يذلوننا بأفضلية حضارتهم الساحقة، وأننا لم نتحرر من نفوذهم إلا بالأمس.
وتراكمت مُبتسراتنا الموروثة ضد الإسلام والمسلمين في قرون كثيرة وصارت جزءاً من مِزاجنا، وأضحت طبيعة متأصلة فينا؛ تأصُّل حقد اليهود على النصارى الخفي أحياناً، والعميق دائماً.
 وإذا أضفنا إلى مبتسراتنا الموروثة ضد المسلمين، مبتسرنا الموروث الذي زاد مع القرون بفعل ثقافتنا المدرسية البغيضة، القائلة إن اليونان واللاتين وحدهم منبع العلوم والآداب في الزمن الماضي، أدركنا بسهولة سر جحودنا العام لتأثير العرب العظيم في تاريخ أوربة.
ويتراءى لبعض الفضلاء أن من العار أن يُرى أوربة النصرانية مدينة لأولئك الكافرين في خروجها من دور التوحش، فعار ظاهر كهذا لا يُقبل إلا بصعوبة(أنظر الهامش).
نختم هذا الفصل (الفصل العاشر من الباب الخامس: بعنوان "تمدين العرب لأوربة") بقولنا: إنه كان للحضارة الإسلامية تأثير عظيم في العالم، وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدهم، فلا تشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم، وإن العرب هذبوا البرابرة (يقصد الذين كانوا في شمال أفريقيا) الذين قضوا على دولة الرومان، بتأثيرهم الخلقي، وإن العرب هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية بتأثيرهم الثقافي، فكانوا مُمَدِّنين لنا، وأئمة لنا ستة قرون.]
وفي (الهامش[2]) قال جوستاف لوبون:
[حينما تلتقي المبتسرات الموروثة والثقافة (يقصد الثقافة العلمية) في العالِم الفاضل، ولا يدري على أيهما يعتمد في وزن الأمور، يتجلّى فيه ما يجتمع في شخص واحد من الذاتية القديمة التي هي وليدة الماضي، والذاتية العصرية التي هي وليدة المشاهدة الشخصية، فيصدر عنه من الآراء المتناقضة ما يستوقف النظر، ومن ذلك التناقض: المثال البارز الذي يجده القارئ في الخطبة التي ألقاها الكاتب اللبق، والعالم الفاضل مسيو رينان في السوربون عن الإسلام، والتي أراد مسيو رينان أن يثبت فيها عجز العرب، ولكن ترهاته كانت تُنقض بما كان يجيء في الصفحة التي تليها. فبعد أن قال مسيو رينان مثلاً: إن تقدم العلوم مدين للعرب وحدهم مدة ستمئة سنة، وذكر أن عدم التسامح مما لم يعرفه الإسلام إلا بعد أن حلت محل العرب شعوب متأخرة كالبربر والترك، عاد فادعى أن الإسلام اضطهد العلم والفلسفة وقضى على العقل في البلاد التي دانت له.
بيد أن ناقداً بصيراً كمسيو رينان لا يستطيع أن ينام مدة طويلة على مثل هذا الزعم المتناقض لأوضح ما رواه التاريخ، فذهبت عنه مبتسراته الموروثة ثانية، ورجع يعترف بتأثير العرب في القرون الوسطى ويشهد بتقدم العلوم في بلاد الأندلس أيام سلطانهم.
ومن دواعي الأسف أن تغلبت على رينان مبتسراته غير الشاعرة بعد ذلك سريعاً، فصار يزعم أن علماء العرب ليسوا عرباً بل (من أبناء سمرقند وقرطبة وأشبيلية، .. إلخ )، مع أن الواقع أن تلك البلاد مما ملكها العرب، وأن الدم العربي مما جرى في عروق أبنائها، وأن علوم العرب مما كان لها نصيب منه زمناً طويلا، وأنه إذا أبيح لأحد أن يُجادل في الآثار التي صدرت عن مدارس العرب، كان ذلك من قبيل إباحته لنفسه أن يجادل في مؤلفات علماء فرنسا بحجة أنهم من الشعوب الكثيرة التي تألف من مجموعها الشعب الفرنسي كالنورمان والسلت والأكيتان، .. إلخ.
ثم يظهر الكاتب الفاضل مسيو رينان أسيفا، أحياناً، على سوء رأيه في العرب. ويصل إلى النتيجة غير المنتظرة الآتية التي تنُم، كذلك، على ما بين ذاتية الإنسان القديمة، وذاتيته العصرية من التنازع، ويأسف على أنه ليس من أتباع النبي، فيقول: (إنن لم أدخل مسجداً من غير أن أهتز خاشعا، ومن غير أن أشعر بشيء من الحسرة على أنني لست مسلماً).]
كان هذا هو رد غوستاف لوبون المباشر على إرنست رينان، وإن كان كتاب (حضارة العرب) بجملة يُعد ردّاً، غير مباشر، على ما به من بضع كبوات باطلة من صاحبه عكرت صفة رونق الكتاب وما فيه من حقِّ محقق.
ولكن، .. ما الذي قاله رينان في محاضرته عن الإسلام والعرب، واستحق هذا الرد الذي قرأناه؟ .. لنطلع عليه إذاً: 
[ملاحظة هامة: الترجمة اللاحقة للمحاضرة هي ترجمتنا المباشرة، وذلك اعتماداً على الأصل الفرنسي[3]، وترجمة إنجليزية[4]، وترجمتين عربيتين[5]، لم ترق أيهما لنا لعدة أسباب، وتأتي ترجمة المحاضرة في 24 فقرة تماماً كالأصل الفرنسي، وقد رَقّمنا الفقرات بترتيب الفقرات الفرنسية (والإنجليزية التي طابقتها تقريباً) لسهولة الرجوع إلى الأصل عند الضرورة. هذا بخلاف الترجمتين العربيتين، اللتين لم تحافظا على تقسيم الفقرات الأصلية لنص المحاضرة.]


المذهبية الإسلامية[6] والعلم 
إرنست رينان – محاضرة ألقاها في السربون في 29 أغسطس 1883
ترجمة: عزالدين كزابر
السيدات والسادة:
(1) شجعني ما عهدته من الانصات المتسامح للحضور الكريم، أن أغامر باختيار موضوعي اليوم، والذي فيه أطرح  سؤالاً شديد الرهافة، لما يجب فيه من التمييز الدقيق، الذي ينبغي معالجته بحسم، وذلك إذا كان لنا أن ندرأ عن التاريخ أي رؤى تخمينية. وفي أقرب التقديرات، تعود الأخطاء التاريخية في أغلب الأحيان، إلى عدم تحري الدقة في استعمال الألفاظ التي تصف الأمم والأعراق. فنحن نتكلم عن اليونان، والرومان، والعرب، كما لو كانت هذه الألفاظ تشير إلى مجموعات إنسانية خالصة في نفسها، دون أن نأخذ في الاعتبار التغيرات الناتجة عن الغزوات العسكرية، والدينية، واللغوية، التي يتشكل على إثرها ما تموج به تيارات الحوادث العارضة للتاريخ الإنساني. إن التصنيف التبسيطي للبشر على هذا النحو لا يملي على الواقع أي إملاءات تحكمه. فنحن الفرنسيين مثلاً، نُعد من الرومان من حيث اللغة، ومن اليونان من حيث الحضارة، ومن اليهود من حيث الدين. وإن كان لمسألة العرق أهمية كبرى في البداية، إلا أنها تميل على الدوام لفقدان أهميتها عندما تجتاحها الوقائع العالمية الكبرى، مثل تلك المعروفة بـ "الحضارة اليونانية"، و"الغزو الروماني"، و"الغزو الجرماني"، و"المسيحية"، و"المذهبية الإسلامية"، و"التنوير"، و"الفلسفة"، و"الثورة"، والتي تأتي جميعاً كالرحى العملاقة لتسحق الفروق البدائية للأسرة الإنسانية، وتقهرها جميعا على الذوبان في كتل بشرية متمايزة، ومتجانسة بشكل أو بآخر. ويروق لي هنا أن أكشف النقاب معكم، عن واحدة من أشد الأفكار، التي شاعت في هذا السياق، اشتباهاً؛ وأقصد بذلك: الالتباس الحاصل في معاني التسميات الآتية: "العلم العربي"، "الفلسفة العربية"، "الفن العربي"، "الفن الإسلامي"، "الحضارة الإسلامية"؛ حيث ينتج عن الأفكار المشوشة اللازمة عن هذه التسميات، العديد من الأحكام الخاطئة، بل ينتج أيضاً أخطاءٌ عملية، وبعض الأحيان يكون لها من الخطورة ما لا يمكن التغافل عنه.
(2) ما من إنسان، مهما كان سطحياً في معلوماته في زمننا هذا، إلا ويرى بوضوح، مدى التخلف الحقيقي الذي تقبع فيه البلاد الإسلامية، ومدى انحطاط الدول التي يحكمها الإسلام، ومدى العدمية الفكرية للأجناس التي تقيم  ثقافتها، وتعليمها، على هذا الدين وحده. فكل الذين سافروا إلى الشرق، أو إلى أفريقيا، قد صُدموا بالطريقة التي يعمل بها عقل المؤمن الحقيقي بالإسلام، وبمحدوديته القاتلة، التي يُسجن فيها رأسه بسِوار حديدي، وبما يجعلها مغلقة تماماً عن المعرفة، وغير قادرة على تعلم أي شيء، ولا منفتحة لأي فكرة جديدة. والحاصل أن يتم تنشئة الطفل المسلم دينياً في سن العاشرة أو الثانية عشرة، والذي قد يحظى بشيء من الذكاء الفطري حتى ذلك الوقت. ثم بضربة واحدة، يصبح متعصباً، مملوءاً بالغرور الغبي، لما يؤمن أنه امتلكه من الحقيقة المطلقة، ويبقى به سعيداً، وكأنه قد حاز الامتياز جميعه، ولا يدري أنه علة انحطاطه. هذه العزة البلهاء هي الرذيلة المتجذرة لدى المسلم، إذ تُوحي إليه البساطة الظاهرة في عقائده باحتقار غير مُبرر للديانات الأخرى. كما أنه يمتلئ بالقناعة أن الله قد منحه كنزاً وسلطاناً تحت إمرته السعيدة، دون أن يُبدي اعتباراً، سواء للتعليم، ولا للمزايا الشخصية، وهذا يجعل المسلم أشد الناس استخفافًا لتلقي توجيهٍ ما، أو تلقِّي العلم، ولا لأي شيء مما تقوم عليه الروح الأوربية. وقد رسخت العقيدة الإسلامية هذا الانحراف الفكري بقوة، حتى أن المتمسك بها يظن أن الفروق العرقية والقومية بين الناس تختفي تلقائياً بمجرد اعتناق هذا الدين. وبمجرد أن يعتنق الناس من البربر أو السودان أو القوقاز أو جزر الملايو أو المصريين أو النوبيين، الإسلام، يصبحون مسلمين، ولم يعودوا بربر أو سودانيين أو مصريين .. إلخ؛ فقط يصبحون مسلمين. ولا يُستثنى من ذلك إلا فارس، فقد استطاعت أن تحافظ على عبقريتها، حيث أنها استطاعت أن تحافظ على مكانتها في الإسلام. وفي عمقها الحقيقي، نجدها شيعية أكثر من أن نجدها مسلمة.
(3) وهذا المآل السيء للإسلام، الذي لا يملك المرء إلا أن يصل إليه بمطالعة شواهد الأحوال، يحاول البعض التخفيف من وطأته المعادية للإسلام بحسب أهله، فيقول أن هذا الانحطاط ليس إلا طوراً انتقالياً. ولكي يتأمَّلون في مستقبل أفضل، يستدعون ما كان من ماضِ، فيقولون أن هذه الحضارة الإسلامية الوضيعة الآن، كانت في يوم من الأيام رائعة. وكان لها رجال في العلم والفلسفة. وكانت سيدة الغرب المسيحي لقرون متتابعة. وحيث أن هذا قد وقع بالفعل، فلماذا لا يمكن أن يعود مرة أخرى؟ هذه هي النقطة المحددة التي أود مناقشتها. هل حقاً كان هناك "علماً إسلامياً"، أو على الأقل، علماً اعترف به الإسلام، أو تسامح معه الإسلام؟
(4) لا سبيل إلى إنكار أن هذه الوقائع الـمُتحدث عنها، فيها بعض الحقيقة. نعم؛ فمنذ حوالي العام 775م وإلى منتصف القرن الثالث عشر تقريباً، أي ما يمكننا أن نقول: حوالي خمسة قرون، كان في البلاد الإسلامية رجال متعلمون، ومفكرون متميزون تميزاً عالياً. ويمكن أن يُقال أيضاً أنه خلال هذه الفترة، كان العالم الإسلام متفوقاً ثقافياً على العالم المسيحي. إلا أن هذه الحقيقة تستوجب التحليل الحذر، وذلك كي نتجنب أي استدلالات خاطئة يمكن أن نبنيها عليه. فيجب علينا أن نتتبع تاريخ الحضارة الشرقية قرناً وراء قرن، حتى نثمن العناصر المتعددة، التي ساهمت في هذا التفوق المؤقت بقِيَمها الحقيقية، والتي سرعان ما تحولت إلى دونية ليس لها مثيل.
(5) ولم يكن هناك أغرب على الأسماع جميعاً، مما يمكن أن يُسمّى فلسفة أو علماً في أي قرن منه في القرن الإسلامي الأول.  [7]وعبر حرب دينية، استمرت عدة قرون، حاملة بين جنبيها ضمير جزيرة العرب، وفي حالة من الترقب بين الأشكال المختلفة للتوحيد السامي، ظل الإسلام أبعد ما يكون عن أي شيء يمكن أن يُسمى العقلانية أو العلم. وكان الفرسان العرب في زمنه أجود المحاربين في العالم، قد تبنوا لأنفسهم قضية تتذرع بها إلى الغزو والنهب. ولكنهم كانوا بكل تأكيد أقل الرجال وعياً بالفلسفة. ولنا أن نقرأ للكاتب الشرقي: "أبو الفرج"، في القرن الثالث عشر، يتعقب الشخصية العربية ويقول: "إن علوم هؤلاء الناس، التي كشفت عن رونقها، كانت علوم اللسان، والأمثال، وقرض الشعر، ومهارة تركيب النثر. أما عن الفلسفة، فلم يمنحهم الله فيها شيئا، ولم يؤهلهم لها." وليس هنا أصدق من هذا الكلام. والعربي البدوي، وإن كان أكثر العرب معرفة بفنون العربية، إلا أنه الأقل تأملاً وروحانية. ويكتفي العربي المتدين، في فهمه للأشياء، بالإله المبدع، الذي يحكم العالم بنفسه، والذي يكشف عن نفسه عبر الأنبياء المتتابعين. لذلك، طالما بقى الإسلام على حاله، في يد العرب، تحت سلطة الخلفاء الأربعة الأوائل، وتحت حكم بني أمية، ولم يظهر فيه أي حركة عقلية تتأثر بها طبيعته. ولم يحدث أن حرق عمر (ابن الخطاب) – كما قيل لنا دوماً – مكتبة الإسكندرية؛ لأن هذه المكتبة في زمنه، كانت قد اختفت تقريباً، ولكن المبدأ الذي اصطنعه عمر لتحقيق انتصاراته في العالم، كان بصريح العبارة، مبدءاً تدميرياً لخُلُق التعلُّم والنشاط العقلي المثمر.
(6) وتغير الحال في كل شيء، بحلول العام 750 تقريباً، عندما أصبح للفرس اليد العليا، فجعلوا السلطة في يد أبناء العباس ونصروهم على بني أمية. وإذ بمركز الإسلام يجد نفسه منتقلاً إلى منطقة دجلة والفرات، وكانت هذه البلد مازالت مليئة بآثار واحدة من أعظم الحضارات التي عرفها الشرق، أي: الحضارة الفارسية الساسانية، والتي وصلت إلى قمة مجدها تحت حكم كسرى أنوشروان. وقد ازدهر الفن والصناعة لقرون عديدة سابقة في هذه الأرض، كما أدخل كسرى نشاطاً عقلياً واضحاً. وفي الوقت الذي اندثرت الفلسفة في القسطنطينية، إلا أنها التجأت إلى فارس ولاذت بها. وقد تُرجمت كتب الهند في عهد كسرى، كما وأن المسيحيين النسطوريين، الذين كانوا يمثلون العنصر الأكثر أهمية من المجتمع، كانوا ضليعين في علوم اليونان والفلسفة؛ وكان الطب بتمامه في أيديهم، وكان أساقفتهم على علم بالمنطق، ومتبحرين بعلم الهندسة. وفي الملاحم الفارسية، التي استقت ألوانها من العهد الساساني، نعلم أن رستم عندما أراد أن يبني جسراً، استدعى البطريارك النسطوري (جاثاليك/كاثوليك) لما يحظى به من كفاءة في هندسة البناء.
(7) وجاء الانفجار الإسلامي ليوقف تماماً – وعلى مدار قرن من الزمن[8] – هذه الحركة الإيرانية/الفارسية الراقية – إلا أن وصول العباسيين للحكم، ظهر وكأنه إعادة إحياء روعة الأكاسرة. وجاءت الثورة التي أعطت العرش لهذه الأسرة الحاكمة على أكتاف جنود من الفرس، وتحت قيادة فارسية. وكان مؤسسوها: أبو العباس، و"المنصور" على وجه الخصوص، دائماً محاطين بالفرس. ومثّلت هذه الأحداث بشكل ما عودة الحياة للدولة الساسانية. وكان المستشارون الخصوصيون، ومُرَبُّوا الأمراء، ورؤساء الوزراء، من البرامكة، التي كانت أسرة مستنيرة من فارس القديمة. وقد ظلت على وفائها للثقافة القومية "المجوسية"، ولم تكن قد انتقلت إلى الإسلام إلا متأخراً، وبلا قناعة. وسرعان ما أحاط النسطوريون بالخلفاء الجدد، الذين كانوا متشككين نوعاً ما، وأصبحوا الأطباء الخصوصيون لهم بحكم التميز الاستثنائي. كما ظلت حران – وهي البلدة التي لها في تاريخ العقل الإنساني مكانة خاصة – مدينة وثنية؛ وقد حافظت على الميرات العلمي اليوناني القديم. هذا وقد تكوّن فيها طبقة من العلماء، غير مبالية بالدين الـمُوحى به، وقد اشتملت على وجه الخصوص على فلكيين مهرة.
(8) وقامت بغداد باعتبارها العاصمة لهذه النشأة الثانية لفارس، أما اللغة العربية، لغة الغزو/الفتح، فما كان من الممكن استبدالها، ولا كان من الممكن التبرؤ من الدين الجديد؛ إلا أن روح الحضارة الجديدة قد أصبحت مختلطة. واتخذ الفرس والنصارى المقاعد المتقدمة؛ وكانت الإدارة، والشرطة على وجه الخصوص، في يد النصارى. وكل هؤلاء الخلفاء الرائعون؛ "المنصور"، و"هارون الرشيد"، و"المأمون" - الذين كانوا معاصرين لحكامنا (في فرنسا) من الكارلوفينجيا – (فيمكن القول بأنهم) قلما يُدعون من المسلمين. فمن حيث الظاهر، يمارسون الدين باعتبار المسؤولية فقط، وكأنهم آباء الديانة، هذا إذا أردنا التعبير الملائم لنا؛ ولكن من حيث روح الديانة، فقد كانوا شيئاً آخر. كانوا شغوفين بأن يعلموا كل شيء، وخاصة الأشياء الغريبة، والوثنية، وكانوا يتساءلون عن الهند وعن فارس، وفوق كل هذا، عن اليونان. وكان هناك من الأوقات، ما يتدخل فيه أتقياء المسلمين بردود فعل غريبة في باحات القضاء؛ وفي لحظات بعينها يصبح الخليفة ورعاً، ويقبل أن يُضحي بأصدقائه الكفار، أو المتحرين فكرياً. ثم تستعيد روح الاستقلال اليد العليا مرة أخرى؛ ويستدعي الخليفة رجاله من أهل العلم، ورفقاء النعمة؛ وتنتعش حياة جديدة، وبما يصبح معه الأمر فضية كبرى في عُرف المتزمتين من المسلمين.
(9) هذا هو تفسير الحضارة الغريبة والرائعة في بغداد، والتي رسمت معالمها في كل مخيلة "قصص ألف ليلة وليلة"، والتي كان فيها مزيجٌ غريب من صرامة السلطة، واسترخاء النوازع؛ عصر شبابي لا يكترث للتبعات، وفيه انتعشت الفنون الجادة، وفنون حياة المتعة، والفضل في ذلك يرجع إلى الولاء المعادي لدين متعصب، وإلى الدرجة التي أصبح فيها أصحاب الخلاعة لهم حظوة في دور القضاء، ويجري تملقهم، إلا أنهم كانوا دائماً تحت تهديد أشد أنواع العقاب. وتحت حكم هؤلاء الخلفاء، والذي كان يبدو أنئذ حكماً متسامحاً، بفعل المتأففين من أهل القصاص، نما وترعرع الفكر الحر؛ ونشأت مجالس الجدال، والمناظرات، وظهرت فرقة "المتكلمين"، أو المجادلين، وفيها خضعت كل الأديان لمعايير الاختبار في ضوء العقل. وبين أيدينا هنا وصفاً لأحد هذه المناظرات يقصها علينا أحد الأشخاص الورعين. واسمحوا لي أن أقرأها كما ترجمها الأستاذ (دوزي Dozy):
(10) ارتحل أحد علماء الدين المسلمين الأندلسيين إلى بغداد، وفي طريق عودته إلى الأندلس، مر بمدينة القيروان في تونس، والتقى بطبيب هناك، وسأله الطبيب: هل حضرت أي من مجالس المتكلمين أثناء إقامتك في بغداد؟ - أجابه الأندلسي: "حضرت مرتين؛ إلا أني نويت ألا أحضرها بعد ذلك". سأله الطبيب: ولمَاذا؟ - أجاب: "أحكم أنت بنفسك". في الاجتماع الأول الذي حضرته، لم يكن هناك فقط مسلمون من كل الطوائف، من أهل السنة، والزنادقة ، ولكن أيضاً الملحدون، وعباد النار، والكفار، واليهود، والنصارى – وفي الحقيقة: كان هناك شُكَّاك من كل نوع. ولكل طائفة من هؤلاء زعيم، ومهمته هي الدفاع عن آراء الطائفة التي يتزعمها؛ وفي كل مرة يدخل واحداً من هؤلاء الزعماء، يقف الجميع تعبيراً عن الاحترام، ولا يجلس أحد حتى يجلس ذلك الزعيم. حتى امتلأت القاعة. وعندما رُئي أن المجتمعين قد التأموا جميعاً، ابتدر أحد الشكاك الكلام، وقال: (اجتمعنا معاً بغرض إعمال العقل"، وتعلمون جميعاً شروط المناظرة. أنتم أيها المسلمون غير مسموح لكم بأي استشهاد مستخرج من كتابكم، ولا الاعتماد على سلطة نبيكم؛ فنحن لا نؤمن بأي منهما. ويجب أن يتقيد كل فرد بحجج مبنية على العقل وحده). فصفق الجميع لكلامه هذا. تابع الأندلسي الكلام: "يمكنك أن تفهم بعدما سمعت هذه الأشياء؛ لماذا لم أعد ثانيةً لمثل هذه الاجتماعات". وقد استحثَّني أناسٌ أن أحضر اجتماعاً آخر؛ إلا أنه كان بنفس فضيحة الاجتماع الأول".
(11) نتج عن هذا التراخي المؤقت لصرامة السلطة الدينية، حراك فلسفي وعلمي حقيقي. وكان الأطباء النصارى من السريان، والذين ساروا على آثار المدارس اليونانية، ضليعين في الفلسفة المشائية، والرياضيات، والطب، والفلك. وقد استوظفهم الخليفة في ترجمة الكتب إلى العربية؛ ومن هذه الكتب: موسوعة أرسطو، وإقليدس، وجالينوس، وبطليموس. وفي كلمة واحدة، يمكننا القول بأنهم ترجموا كل علوم الإغريق. وبعد أن تيسرت هذه العلوم بالعربية، نشطت العقول، مثلما حدث مع "الكندي"، وبدأت تتأمل النظر في المسائل الأبدية العويصة التي طرحها الإنسان أمامه، والتي قصر باعه عن الإجابة عنها. وقد سُمِيَ هؤلاء النظار بالفلاسفة (من philosophos)، ومنذ ذلك الحين، أخذ هذا اللفظ الدخيل، سمعة سيئة، باعتباره منحى عقلي غريب عن الإسلام. وأصبح لفظ "الفيلسوف" لفظاً يتوجس منه المسلمون، وغالباً ما يؤدي بصاحبه إلى الموت أو الاعتقال، باعتبار أن المنخرط فيه "زنديقاً"، وقد توارث المسلمون المحدثون هذا الرُّهاب الفكري حتى يومنا هذا، ويتوجسون الآن من لفظ "ماسوني" لنفس السبب. ويجب علينا أن نُقر بأن "العقلانية" التي نشأت في حضن الإسلام، كانت شمولية الطابع. فقد ظهر نوع من الجمعيات العلمية، اتخذت لنفسها اسم "إخوان الصفا" – أي "إخوان النقاء الفكري، والإخلاص المعرفي"، وتكفلت بنشر موسوعة فلسفية، رائعة لما فيها من حكمة، ولِما ارتقت فيها بالأفكار التي احتوتها. وكان هناك رجلان عظيمان: الفارابي، وابن سينا، احتلوا سريعاً مراتب عليا، واصطفوا مع أعظم المفكرين الذين عهدتهم البشرية. وتطور الفلك والجبر، وخاصة في فارس، تطوراً مشهوداً. وتتابعت مساعي المشتغلون بالكيمياء في أقبيتهم وراء الأنظار، لتكشف عن نفسها للعالم الآخر، بما حققته من نتائج باهرة، من قبيل "التقطير" وربما "ملح البارود". كما وأن أسبانيا المسلمة لحقت بالشرق، في اقتفاء أثر هذه الدراسات؛ وساهم اليهود في ذلك، وأبدوا تعاوناُ فاعلا. ورفع ابن باجا وابن طفيل وابن رشد "الفكر الفلسفي" في القرن الثاني عشر إلى رُتبة لم يصل إليها أبداً منذ القِدم.
(12) كانت هذه هي الحصيلة العظيمة للفلسفة، التي تعودنا أن نُسمِّيها "عربية"، لأنها كُتبت باللغة العربية، رغم أنها كانت في الحقيقة يونانية-ساسانية. وأرى أنه من الأصوب أن تُسمّى "يونانية"، لأن العنصر المثمر فيها حقيقةً، قد جاء من اليونان. فكانت قيمة الشخص في تلك الأيام المتدنية، تُقاس بالنسبة لما كان معروفاً في اليونان القديمة. فكانت اليونان مصدر المعرفة الوحيد، والفكر الفاصل. ويعود لهذه الحقيقة وحدها تفوق اليونان وبغداد على الغرب اللاتيني، بمعنى أن الرجال كانوا في البداية أكثر قرباً من التقاليد اليونانية. وكان من اليسير العثور على كتاب إقليدس، وبطليموس، وأرسطو، سواء في بغداد أو في حرّان، من أن يُعثر عليها في باريس. ولو حدث وكان البيزنطيون أقل استئثاراً بحراستهم لهذه الثروات، والتي كانوا – في نفس الوقت- نادراً ما يقرؤونها، فلو حدث وكان يعيش في القرن الثامن أو التاسع أشخاص مثل (بيساريون) Bessarion، أو (لسكاريس) Lascaris، لما كان هناك حاجة لهذه الدورة الغريبة، التي دار فيها العلم اليوناني عبر سوريا وبغداد وقرطبة وطُليطلة، ليصل إلينا في القرن الثاني عشر. ولكن هذه التسلسل من العناية الغامضة، التي نتج عنها نورٌ يضيء حياة البشرية، عندما بدأت تفقد صلاحيتها في أيدي بعض الناس، تلقفتها أيدي آخرين، فحملتها، وأضاءت بها من جديد، وأعطتها قيمة من أعلى ما تكون، ليُنتفع بها، وإلا كان مصيرها الاندثار، مثل حال أولئك السريان المساكين، وحال الفلاسفة المعتقلين، وحال الحرانيين الذين وضعهم تشككهم رهينة لمعاصريهم. وبهذه الترجمات العربية لأعمال الإغريق وفلسفتهم، وجدت أوربا نفسها حائمة في دوامات التقاليد القديمة، فاقتضت الضرورة جراء ذلك أن تُولَد عبقريتها.
(13) وفي الحقيقة، بينما كان ابن رشد – آخر الفلاسفة العرب – يموت في المغرب، في حُزنٍ وعزلة، كان غربنُا قد انتبه من يقظته تماماً مما كان غارقاً فيه من سبات. وجاءت صيحة أبيلارد Abelard لتدعو الأوربيين إلى إعادة نشأة العقلانية، نعم؛ وجدت أوربا عبقريتها، وأشرعت عبر مسار غير مألوف للتطور، حيث سيمثَّل المشهد الأخير منه البزوغ الكامل للعقل الإنساني. وعلى جبل سانت جينيفياف St. Genevieve هنا، خُلقت الآلية العقلية الجديدة. غير أن هناك شيئاً واحداً ظل مفقوداً! إنه الكتب، الحاوية للمصادر الخالصة لعلوم الأقدمين. وقد تقودنا النظرة الأولى إلى أنه كان من الطبيعي أن نذهب إلى القسطنطينية، ونسأل عن تلك الكتب في مكتباتها، حيث توجد أصول تلك الكتب، بدلاً من أن نلجأ إلى ترجماتها، والتي غالباً ما كانت متواضعة المستوى، وكانت مكتوبة بلغة لا توصف إلا أنها رديئة، وغير مُهيأة لما يمكن أن تحمله من فكر يوناني. إلا أن الجدل الديني بين العالم اللاتيني والعالم اليوناني، كان قد أنتج عداءاً يُرثى له، وهو العداء الذي أججته الحرب الصليبية عام 1204. ومن ثم، لم يكن هناك علماء يونان؛ وكان من الضروري الانتظار لثلاثمائة سنة أخرى حتى يظهر كل من: (بوديه Bude (Budeus))، و(ليفيفر دو تابل Lefevre d'Etaples) على مسرح الحياة.
(14) وفي غياب الفلسفة اليونانية الأصلية، التي كانت مطمورة في المكتبات البيزنطينية، كان من الضروري اللجوء إلى أسبانيا والبحث هناك عن العلم اليوناني، الذي تم ترجمته بشكل سيئ ومشوّه. ولن أتكلم هنا عن (جربرت Gerbert) ورحلاته بين المسلمين، والتي يحوطها الكثير من الشك. ولكن، حتى في القرن الحادي عشر، كان (قنسطنطين الأفريقي Constantine the African)[9] فائقاً في التعلم بالنسبة إلى عمره وبلده، لأنه كان قد تلقى تعليما إسلامياً. وفي الفترة (1130-1150)م، أُنشيء معهداً للمترجمين في طُليْطِلَة تحت رعاية رئيس الأساقفة Archbishop Raymond، والذي جعل أهم الكتب العربية مُتاحة باللاتينية. وفي بدايات القرن الثالث عشر، دخل أرسطو العربي إلى جامعة باريس دخول المنتصر. وألقى الغرب عن نفسه الدونية التي ظل عليها على مدار أربع أو خمسة قرون. وحتى ذلك الوقت، لم تكن أوربا – فيما يخص العلم - إلا رافداً من روافده للمسلمين. ومع اقتراب منتصف القرن الثالث عشر، كان الميزان مازال متأرجحا. واعتباراً من حوالي العام 1275م ظهرت حركتان يسهل التعرف عليهما. أولهما، وقوع البلدان الإسلامية في انحطاط فكري يُرثى له؛ وثانيهما دخول أوربا الغربية بإصرار، وعلى حسابها الشخصي، ذلك الطريق السريع للعلم، في بحثه عن الحقيقة. وكان دخولاً ذا منحنى رحب في تزايده، وإن كان من الصعب الوقوف على أبعاده حتى الآن.
(15) الويل لمن يصبح عديم النفع لتقدم الإنسانية! فليس له إلا أن يُطرح بعيداً. وعندما لقَّح ما يُسمّى بالعلم العربي الغرب اللاتيني بنبتة الحياة، اختفى ذلك العلم من حيث جاء. وفي الوقت الذي كان ابن رشد يُحتفى بوصوله في مدارس الفكر الاتينية، كان يتناساه إخوانه في الديانة. وبعد حوالي العام 1200 لم يعد هناك حتى فيلسوف عربي واحد جدير بالذكر. فقد تم اضطهاد الفلسفة وهي في حضن الإسلام، ولكن بوسائل لم تستطع قمعها بالكلية. واعتباراً من عام 1200 كان علماء الدين قد أزاحوا الفلسفة جملة وتفصيلا. وكانت النتيجة أن مُحيت الفلسفة من البلاد الإسلامية. وإذا تكلم المؤرخون عنها، فإنهم يتكلمون عن ذكرى، ولكنها ذكرى شريرة. كما أن الأعمال الفلسفية قد دمرت، وأصبحت نادرة الوجود. وإن كان المسلمون قد تسامحوا مع الفلك، فلم يكن ذلك إلا مع الجانب المفيد منه فقط في تعيين اتجاه الصلاة[10]. وما حدث بعد ذلك أن سيطر الجنس التركي على الإسلام، وعمل على فقدان الروح العلمية والفلسفية وشيوع – هذا الوباء- عالمياً بينهم. ومن تلك اللحظة، وباستثناء حالات نادرة مثل ابن خلدون، لم يعد للإسلام في رجاله من هو ذو شأن. وكانت النتيجة أن تم ذبح العلم والفلسفة واجتثاثه.
(16) ولا يظنن أحدٌ أني سعيت للتقليل من شأن هذا العلم العظيم، المعروف بالعلم العربي، والذي مثّل مرحلة هامة في تاريخ العقل الإنساني. غير أنه في بعض النقاط، قد تمت المبالغة كثيراً في أصالتها، وخاصة فيما يتعلق بعلم الفلك. إلا أن ذلك لا يعني الذهاب بعيداً وحرمانه من أي قيمة. وباعادة تقييم الصورة، يمكننا القول أن ما نُسميه بالمرحلة العربية قد امتدت في الفترة ما بين اختفاء الحضارة القديمة في القرن السادس، وميلاد العبقرية الأوربية في القرن الثاني والثالث عشر، وخلال هذه الفترة استمرت تقاليد الروح الإنسانية في المناطق التي غزاها الإسلام. ولنا أن نسأل: ما الذي كان عربياً فيما نُسميه العلم العربي في حقيقة الأمر؟ - إنها اللغة، ولم تكن إلا اللغة. إن الغزو الإسلامي حمل لغة الحجاز إلى أطراف الأرض جميعاً. لم تكن اللغة العربية، إلا كما كانت اللغة اللاتينية، أي حاملة المشاعر والأفكار بلا أي ارتباط بمنطقة اللاتين القديمة Latium[11] (الواقعة غرب إيطاليا). ولم يكن ابن رشد، وابن سينا والبتاني[12] إلا عرباً، مثلما كان روجر بيكون، وفرانسيز بيكون، وسبينوزا لاتينييناً. ومن الخطأ الجسيم أن نمنح جزيرة العرب مزية العلم العربي والفلسفة العربية، مثلما هو الحال لو منحنا مزية كل الآداب المسيحية اللاتينية، وكل إنتاج الفلسفة السكولائية، وفلسفة عصر التنوير، وجميع علم القرن الخامس عشر، وجزء من القرن السادس عشر، لصالح مدينة روما؛ وفقط لأن كل هذا كان قد دُوّن باللغة اللاتينية. ومن الجدير بالملاحظة البارزة، أنه من بين الفلاسفة الذين نُسميهم عرباً، لم يكن هناك إلا واحداً فقط، هو "الكندي"، ذو أصل عربي؛ وكان كل الآخرين إما فُرساً أو من أهل ما وراء النهر، أو أسبانا، أو من مواطني بُخارى، أو سمرقند، أو قرطبة، أو إشبيليا. وليس فقط أن هؤلاء الرجال لم يكونوا عرباً بالدم، بل لم يكونوا عرباً بأي منحى عقلي. وكل ما فعلوه أنهم استخدموا اللغة العربية، وإن كانت قد كبّلتهم، مثلما أن مفكري القرون الوسطى قد كبلتهم اللغة اللاتينية، وأنهم قد عدلوها لاستخدامهم الخاص. فالعربية التي تحتمل بشكل جيد للشعر، وبعض أشكال البلاغة، لم تكن آلة مناسبة أبداً  للميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة). فقد كان الفلاسفة العرب، ورجال العلم العرب، بشكل عام، كتاباً سيئيين.
(17) هذا العلم إذاً لم يكن عربياً. فهل كان على الأقل، علماً إسلامياً؟ - هل كان للمذهب الإسلامي أي وصاية، يكون قد رعى بها البحث العقلي؟ - لم يحدث هذا بأي حال من الأحوال. هذا التقدم الرائع في التعليم كان بِكُلِّيته من فعل الفرس، والنصارى، واليهود، والحرانيين، والاسماعيليين، والمسلمين الذين تمردوا داخلياً على دينهم. فكل ما جنته السلطة الدينية الإسلامية كان إلقاء اللعنات. فالخليفة المأمون الذي أبدى كل حماسة لإدخال الفلسفة اليونانية كان قد نالته لعنة لا رحمة فيها من قبل رجال الدين، كما أنهم قد برروا المصائب التي تتالت على سلطته على أنها عقاب، لِما تسامح فيه من عقائد غريبة عن الإسلام. ولم تكن حالات نادرة تلك التي أُحرقت فيها كتب الفلسفة والفلك في الأماكن العامة، أو أن تُلقى في الآبار، أو خزانات المياه، وذلك لإرضاء عامة الناس الملتفين حول أئمتهم. وسُمّي الذين تبحروا في هذه الدراسات بالزنادقة (غير المؤمنين) ، وكانوا يُرجمون بالحجارة في الطرقات، وكانت تُحرَّق عليهم بيوتهم، وكثيراً ما كانت السلطات تحكم عليهم بالموت إذا رغبوا في تأمين أي شعبية لآرائهم وسط العامة.
(18) كانت المذهبية الإسلامية في الحقيقة تضطهد دوماً العلم والفلسفة، وانتهى الأمر بأن خنقتهما. ومن الضروري أن نميز هنا بين فترتين زمنيتين في تاريخ الإسلام، الأولى: منذ بداياته وحتى القرن الثاني عشر، والثانية: منذ القرن الثالث عشر وحتى أيامنا هذه. ففي الفترة الأولى، كان الإسلام يتعرض لتقويضه من جهة بالطائفية، ومن جهة أخرى بالتلطيف من قِبل جماعة من خارج السلطة الرسمية المتشددة؛ سُموا بـ "المعتزلة"، والذين كانوا أقل تنظيماً وتعصباً ممن جاء بعدهم عندما آلت الأمور إلى أيدي أعراق من التتار والبربر، والذين كانوا أكثر غلظة، ووحشية، وفاقدين للذكاء. وقد استقت المذهبية الإسلامية هذا الوضع الغريب من أتباعها، وفيه كانت تزداد العقيدة تشدداً مع الوقت. فالعرب الأوائل الذين شاركوا في هذه الحركة المذهبية كانوا بالكاد يؤمنون برسالة النبي. وعبر مرور قرنين أو ثلاثة، قلَّما كانت الشكوك تتستر. ثم جاء عصر التزمت المطلق، وبدون أي فصل بين الروحانيات وما هو زمني؛ عصر القهر، والعقوبات الجسدية. ووصل هذا النظام أخيراً إلى حالة من السوء، لا يتخطاه فيها، فيما يخص الاضطهاد، إلا محاكم التفتيش الأسبانية. ولم يحدث أن جُرحت الحرية بهذه الحِدّة من قبل نظام اجتماعي، يسود فيه الدين على الحياة المدنية. وقد رأينا في العصر الحديث مثالين فقط لمثل هذ النظام – الأول: كان في الدول الإسلامية، وكان الثاني: الدولة البابوية السابقة، أيام كان لها سلطة الحكم الزمني. وجدير بالذكر هنا أن البابوية الزمنية فرضت نفسها فقط على دولة محدودة جداً في رقعتها، في حين أن المذهبية الإسلامية كبّلت أجزاءاً رحبة من الأرض، وقد حافظت فيها على الفكرة الأشد معارضة للتقدم؛ وذلك في دولة أُسست على وحي زائف، ومجتمع يحكمه اللاهوت.
(19) إن المتحررين منا الذين يدافعون عن الإسلام، لا يعلمون طبيعته الحقيقية، إن الإسلام يمثل أقرب الاندماجات التي رأيناها بين الروحي والزمني؛ إنه سلطة العقيدة المتزمتة، التي تفرض قيوداً حديدية لم تتحمل البشرية مثلها. وأكرر أنه في النصف الأول من العصور الوسطى، دعم الإسلام الفلسفة لأنه لم يستطع منعها؛ ولم يستطع ذلك لأنه كان فاقداً لِلُّحْمَة والتماسك، وكان غير مجهز بما يكفي ضد الإرهاب الذي يمكن أن يهدد كيانه. فقد كانت الشرطة – كما ذكرت – في أيدي النصارى؛ وكان معنية بالدرجة الأولى بملاحقة محاولات أتباع علي[13]. وقد نَفَذ من بين أصابع هذه القبضة الدينية ااـمُفككة نسبياً جملة من الأشياء. ولكن، عندما أصبح تحت إمرة الإسلام، جموعاً من المؤمنين المتحمسين، أصبح بإمكانه تدمير كل شيء. فكان الإرهاب الديني وكانت الهرطقة هي الرايات التي تـَمَيّزت بها أيامه. كان الإسلام متحرراً يوم كان ضعيفاً، وعنيفاً عندما كان قوياً. فلا تدعوا – أيها الزملاء- إلى مكافأته إذاً على ما لم يستطع أن يكبته. لأننا إذا كافأنا الإسلام على العلم والفلسفة التان لم يبيدهما منذ نشأته الأولى، كنا كالذي يكافئ اللاهوتيين على اكتشافات العلم الحديث. فهذه الاكتشافات قد أُنجزت رغم أنف اللاهوتيين. كما وأن اللاهوت في الغرب لم يمارس الاضطهاد أقل من ممارسات المذهبية الإسلامية؛ كل ما في الأمر أنه لم ينجح في ذلك، ولم يستطع أن يسحق الروح الجديدة، مثلما حدث وداست المذهبية الإسلامية على الروح الحرة في الأراضي التي غزتها. في أوربا الغربية، لم ينجح الاضطهاد اللاهوتي إلا في دولة واحدة، هي أسبانيا. فكان هناك نظاماً فظيعاً من الكبت خنق الروح العلمية. ودعونا نتعجل بأن نقول أن هذه الأرض النبيلة سوف تثأر لنفسها. وكان على البلاد الإسلامية أن تمر، بما سبق وحدث في أوربا، في محاكم التفتيش، على يد فيليب الثاني Philip II.، وبيوس الخامس Pius V.، ونجحا فيما خططا له من اعتقال العقل الإنساني. وبصراحة، فإني أواجه صعوبة شديدة  لأن أكون ممنوناً لأناس لِـما توقفوا عنه من شر؛ لأنهم لم يستطيعوا إلا التوقُّف. لا، كان للأديان بحق ساعات عظيمة وجميلة، وذلك عندما واست الضعف الإنساني ورعته، ولكن لا يجب أن نُطريهم فيمن وُلد رغماً عنهم، بل من حاولوا خنقه في مهده. وكما أننا لا نرث ممتلكات الناس الذين نقتلهم، فكذلك علينا أن نمنع أهل الاضطهاد من جني ثمار الأشياء التي حاولوا اضطهادها.
(20) هذا هو الخطأ الذي نحن واقعون فيه؛ أقصد: ما نُبديه من الكرم الزائد عن الحد، وذلك عندما نُوعز إلى الإسلام حركة نتجت رغم أنف الإسلام، وأن الإسلام وقتئذ كان في أتم سعادة لو أنه استطاع منع هذه الحركة. إن إلحاق الشرف بالإسلام على ما أنجزه ابن سينا وابن زهر وابن رشد، يكافئه إلحاق الشرف بالكاثوليكية على ما أنجزه جاليليو. إن اللاهوت أعاق جاليليو، ولكنه لم يكن بالقوة الكافية التي تمكنه من تقيده تقييداً تاماً. فليس هذا سبب إذاً لكي نكون مدينين له بأي امتنان. وإني لأبعد ما أكون – فضلاً عن أن أتكلم – عن تلك المرارة، ضد أي من الرموز التي سعى الضمير الإنساني لأن يتخلّص منها، من بين كل المشاكل العويصة التي واجهته من أحداث هذه الدنيا، ومن قدره. إن المذهبية الإسلامية لها جمالياتها باعتبار أن الإسلام دين. ولم يحدث أني دخلت مسجداً، إلا وينتابني شعورٌ حي – بل حتى أقول – ينتابني ندمٌ يقينيٌ بأني لست مسلماً. ولكن المذهبية الإسلامية قد آذت كثيراً العقل الإنساني. إن العقول التي أطفأ الإسلام عنها النور، كانت مغلقة بالفعل - من دون شك - بفعل قيودها الداخلية؛ إلا أنه اضطهد الفكر الحر، ولن أقول أنه كان أشد عنفاً من أديان أخرى غيره، ولكني أقول أنه كان أكثر فاعلية. إنه جعل من البلاد التي غزاها، حقلاً مُغلقاً عن الثقافة العقلانية، فحرم العقل منها.
(21) إن الشيء المتجذر في المسلم، حقيقةً، والمميز له عن غيره، أنه يمقت العلم، وأنه على قناعة بأن البحث العلمي طائشٌ  أو عديم الجدوى، وأن أهله لا يتحلَّون في الغالب بالتقوى. فنجد موقفه من العلوم الطبيعية، أنها محاولات تبحث عن منافسة الله في سلطاته، وفي العلوم التاريخية، أنها ربما تبعث الهرطقات القديمة حيث يجري تطبيقها، وخاصة في أزمان داخلية في تاريخ الإسلام. ونجد واحداً من أشد الأدلة المثيرة للفضول في إثبات ذلك؛ حالة الشيخ رفاعة (الطهطاوي)؛ والذي أقام في باريس لعدة سنوات، باعتباره واعظاً للبعثة المصرية؛ وبعد أن عاد إلى مصر، كتب كتاباً مليئاً بالملاحظات العجيبة عن المجتمع الفرنسي. وكانت فكرته الأساسية عن العلم الأوربي، وباعتبار مبدأها الأساسي – قبل أي شيء- القائل بدوام القوانين الطبيعي، أنها هرطقة من أولها إلى آخرها، وأنه يجب الإقرار، من وجهة نظر الإسلام، أنه لم يكن مخطئاً بالكلية. إن الاعتقادات الموحى بها، تتصادم مع البحث العلمي المخالف لها. ولم يكن من نتائج العلم ما يمحو ما هو إلهي بالكلية، ولكن بأن يضعه على مسافة أبعد من العالم ذو الجزئيات التفصيلية، التي صدق الناس ذات مرة أنهم رأوها. إن الخبرة العلمية تعمل على تراجع الفعل الماورائي ، وتحد من نطاق عمله. ولكن هذا الفعل الماورائي هو أساس علم اللاهوت. وإذا ما وجدنا من الإسلام عداء للعلم، فلا غرابة في ذلك، لأنه ينسجم مع نفسه بهذا المعنى. ولكن، أن يكون الانسجام والتوافق الداخلي صارماً إلى هذا الحد، يصبح الأمر معه شديد الخطورة. ولسوء حظ الإسلام أنه كان ناجحاً. فعندما ذبح الإسلام العلم، فإنه ذبح نفسه، وأدانها أمام مرأى ومسمع العالم أجمع، بأنه واقع بالفعل في دونية تامة.
(22) وإذا ما بدأ الإنسان بفكرة أن البحث العلمي شيئٌ ينتهك حقوق الله، فإن هذا الإنسان يصل بالضرورة إلى تعطيل عقله، وإلى فقدان الدقة، وإلى سقوط أهليته في العلم بالصرامة المعرفية. ويغلق المسلم دائماً كلامه بقوله "الله أعلم" – وأقول: أنه لشيء جيد أن يؤمن الإنسان بالله، ولكن ليس إلى هذا الحد. وقد حدث أن أقام السير (هنري لايارد Henry Layard) في مدينة الـمَوصل إقامة مؤقتة، خالي الذهن وقتها، وأراد أن يتقصَّى عن بعض المعلومات عن المجتمع في تلك المدينة؛ سواء عن تجارتها، وعن تقاليدها. فتوجه إلى القاضي، الذي رد عليه بالآتي:
[فخامة الصديق، السعيد بين الأحياء! .. ما سألتني عنه عديم القيمة، فضلاً عن ضرره. ورغم أن معظم أيامي قضيتها في هذه البلدة، فلم يخطر على بالي أبداً أن أعد البيوت، ولا أن يخطر ببالي كم  هو عدد الأنفس فيها. وفيما يخص التجار، وما يضعه هذا التاجر على بغاله، أو ذاك التاجر في سفينته، فهي أمور لا تعنيني على الإطلاق. وأما عن تاريخ هذه المدينة المنصرم، فالله (سبحانه) وحده أعلم به، وهو وحده الخبير بكم كانت ذنوب أهلها قبل أن يفتحها الإسلام، وقد يكون العلم بذلك مؤلما لنا.
:ياصديقي، يا عزيزي، لا تسعَ إلى علم ما لا يعنيك، فقد جئت لتقيم بيننا، وقد رحبنا بك؛ فلترحل بسلام! وحقيقةً، إن كل ما سمعته منك لم يُؤذني؛ لأن من يتكلم غير من يسمع، وكما هي طبيعة المرء من قومك، فقد رحلت أنت إلى بلاد عديدة، إلا أنك  ربمالم تحظَ بالسعادة - التي تنشدها - في أي مكان. فنحن (والحمد لله) قد ولدنا هنا، وليس لنا رغبة في أن نرحل عنها.
إنصت إلي يا بني: ليس هناك حكمة أشد من أن تؤمن بالله. فهو الذي خلق العالم؛ فمَن نحن حتى نسعى للمساواة معه حتى ندقق في غوامض مخلوقاته؟!  - أنظر إلى هذا النجم الذي يجري حول هذا النجم. وأنظر إلى هذا النجم المذنَّب. فكم من السنوات تنقضي وهو في طريقه آتياً، وكم منها ينقضي وهو راحل. أتركه يا بني؛ إن من خلقه بيده، يعلم جيداً أين يسوقه ويوجهه.
:وربما أنك ستقول: "يا رجل، إذهب عني، فأنا أحكم منك، وقد نظرت في أشياء أنت لا تعلمها." فإذا كنت تظن أن هذه الأشياء جعلتك أفضل مني، فأهلاً بك مرتين، ولكن، فيما يخصني؛ أحمد الله أني لا أبحث فيما لا يعنيني. ولا أتعلم أشياءَ لا تهمني، وها أنت قد رأيت مني أني أكره مثل تلك الأشياء. فهل المزيد من العلم سيمنحك بطناً ثانية، وهل عيناك التي تتطفل بها في كل مكان ستهديك إلى طريق الجنة؟
:يا صديقي، إذا كان في قدرك، ورغبت أن تكون سعيداً؛ فليكن ذلك في تصريحك بأنه "لا إله إلا الله"، وأن تتجنب أن تقترف إثماً، وألا تخشى أحداً، حتى ولو كان الموت نفسه، وأن تظل على ذلك حتى تأتي ساعتك.
(23) واضح أن هذا القاضي كان شديد التفلسف، وإن كان على طريقته. ولكن، لاحظ الفرق. ويمكنا أن نعتبر رسالة القاضي ساحرة؛ إلا أنه – على النقيض – يَعتبر رسالتنا أمراً بغيضا. هذا بخلاف أن هذا الأسلوب في التفكير - فيما يخص المجتمع – يُعتبر تفكير قاتل. ومن بين ما في سلسلة العقائد الشريرة التي تؤكد فقدان الروح العلمية، نرى بوضوح: الفكر الخرافي، والدوغمائية. وهذه الدوجمائية أسوأ بالتأكيد من الفكر الخرافي. فالشرق ليس خرافياً في تفكيره؛ ويكمن أشر ما فيه في الدوغمائية الضيقة، التي فرضتها مجموع قوى المجتمع. إن هدف الإنسانية لا ينبغي أن يركن إلى الاستراحة في جهل مستقيل عن الأشياء؛ بل لا بد لها من خوض حرب لا تعرف التسامح مع الباطل، و لا بد لها من كفاح متواصل مع قوى الظلام.
(24) إن العلم هو الروح الحقيقية للمجتمع، لأن العلم هو العقل. إنه يصنع التفوق العسكري والصناعي. وسيأتي اليوم الذي يصنع العلم فيه تفوقاً اجتماعياً أيضا؛ بمعنى: أن يصل المجتمع إلى منزلة تتوافق فيها جملة العدالة في المجتمع مع جوهر الكون. فالعلم يمنحنا القوة التي تخدم العقل. ويوجد في آسيا بالفعل عناصر بربرية مكافئة لتلك التي تكون منها جيش المسلمين الأوائل، وتكونت منها الجحافل (البشرية) الكبرى لـ (أتيلا الهوني Attila)[14] و(جنكيز خان Genghis Khan) ولكن العلم أغلق عليها الطريق. ولو أن عمر (ابن الخطاب) أو جنكيز خان قد وجدا أمامهما من المدفعية ما تصدهما عن التقدم، لما كان لهما أن يتمكنا من عبور حدود الصحراء التي جاءوا منها. ولا ينبغي علينا أن نقف عند تشوهات زمنية مؤقتة. ألم تُذم الأسلحة النارية في بداية عهدها، وغفل الذين ذمُّوها عما سيظهر لاحقاً من مساهمتها الكبيرة في انتصار الحضارة؟ - فمن جهتي، فأنا على قناعة بأن العلم خير، وأنه وحده يمكن أن يمنحنا الأسلحة التي نواجه بها الشر الذي يأتي في صحبته؛ وأنه في النهاية لن ينفعنا إلا التقدم؛ - وأعني التقدم الحقيقي بالفعل – الذي لا ينفصل عن احترام الإنسانية والحرية.
[انتهت المحاضرة]
أنظر الجزء الثاني: (الرد على محتوى محاضرة إرنست رينان، وتفنيد مزاعمه العارية عن الصحة).
المؤلف 



[1]  غوستاف لوبون، "حضارة العرب"، ترجمة: عادل زعيتر، مطابع عيسى اللحلبي وشركاه، 1969، ص 577- 579.
[2]  السابق، ص 579

[3] Ernest Renan,”l’Islamisme et la Science Conference Faite a La Sorbone Le 29 Mars 1883”, Calmann Levy, Editeur, Paris, 1883.
[4] Ernest Renan. “The Poetry of the Celtic Races and Other Studies”, The Walter Scott Publishing Co. LTD, London 1896, pp. 84-108. https://archive.org/details/poetryofcelticra00renauoft

[5]  
(1) الإسلام والعلم (مناظرة رينان والأفغاني)، ترجمة ودراسة مجدي عبد الحافظ، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005، ص33-49.
(2) "النصّ الحقيقي والكامل للمناظرة بين رينان والأفغاني"؛ ترجمة (محمد الحداد)، وهي موجودة على الإنترنت على الرابط الآتي:

[6]  suffix "-ism" (in Islamism)
- Means "doctrine, theory, system of principles". (Source: http://en.wikipedia.org/wiki/Christianism)
- Used to form nouns that refer to social, political, or religious beliefs, studies, or ways of behaving (Sourse: http://dictionary.cambridge.org/dictionary/british/ism_2)

[7] اعتباراً من هذا الموضع، سقط من ترجمة (مجدي عبد الحافظ) باقي الفرقة (5) وكامل الفقرة (6).
[8]  أخطأ (مجدي عبد الحافظ) هنا واستبدل (مئات السنين) بما جاء في أصل المحاضرة، وهو (قرن: أو مئة سنة). ويبدو أن ذلك كان السبب في سقوط أغلب الفقرة (5) وكامل الفقرة (6) لأن بداية الجزء المفقود جاء فيه الحديث عن (...عدة قرون).
[9] خلط (محمد الحداد) في ترجمته لنص المحاضرة بين (قنسطنطين الأفريقي  Constantine the African) و (ليون الأفريقي Leo Africanus)، وهما شخصان مختلفان وبينهما 400 سنة على الأقل.
[10] خلط (محمد الحداد) في ترجمته؛ بين (مواقيت الصلاة) و(اتجاه الصلاة)، والصحيح هو الأخير.
[11] أخطأ كل (محمد الحداد) و (مجدي عبدالحافظ) في ترجمة منطقة اللاتين Latium الذي كانت تقطنه قبيلة اللاتين، وترجماها بـ ( مدينة روما)، رغم أن المنطقة تشمل موقع المدينة بعد أن أصبحت عاصمة الدولة، إلا أنها أرحب منها، وتشبه لحدِّ ما، منطقة الحجاز بالنسبة لمكة المكرمة.
[12] أخطأ (مجدي عبدالحافظ) في ترجمة (البتاني) وكتب (الباطني).
[13] ترجم كل من (محمد الحداد)، و(مجدي عبد الحافظ) des Alides بالعلويين، والمعروف أن العلويين المعاصرين، كانوا معروفين بالنصيرية، وأن تسميتهم بالعلويين لم يجئ إلا حديثاً فقط (القرن العشرين)، أي بعد زمن المحاضرة بعقدين على الأقل، ولعدم الخلط بين "النصيرية" ومن يقصدهم صاحب المحاضرة من des Alides – والذي جاء في الترجمة الإنجليزية بـ followers of Ali، أي (أتباع علي)، اخترنا هذا الوصف الأخير، أي "أتباع علي"، لأن الراجح أنه يقصد أشياع علي ابن أبي طالب (رضي الله تعالى عنه) أيام الفتنة.
[14] سقط ذكر (أتيلا) في ترجمة (محمد الحداد).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق