الأربعاء، 25 مارس 2015

الفصل (ن2) – إرنست رينان - الجزء الثاني- كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (ن2) إرنست رينان Ernest Renan - الجزء الثاني

         تقديم وترجمة: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
رد مسيو تشارلز مِسْمَر[1] Charles Mismer على إرنست رينان
هذا الرد على إرنست رينان هو أفضل ما وجدنا من ردود، حتى أنه أغنانا عن تأليف ردٍّ جديد عام، بعد أن شرعنا فيه، أللهم إلا من ردود خاصة، كما فعلنا في ردنا على طعن رينان في الشيخ رفاعة الطهطاوي رحمه الله. وقد فاق رد مسيو "مِسمر" رد جمال الدين الأفغاني الذي نعده رداً مُخزياً، في مُجمله، وإن وفَّى قليلاً، إلا أن نكص كثيرا.(سننشره في فصلٍ خاص عن جمال الدين الأفغاني بكتابنا هذا إن شاء الله)، والغريب كل الغرابة أن يدافع الأفغاني عن رينان في تعليقه الاستنكاري[1] على رد مسيو مِسمر الذي سنقرأه بعد قليل! .. ثم يكتب رده على رينان الذي يماليه فيه كثيراً، ويشتهر رده، ويصبح مثار جدل بين مؤيد ومعارض، وينسى الناس رد مسيو مِسمر! .. في حين أن رد الأفغاني هو الأحق بالنسيان، لأن القيمة هي التي تُعلي أصحابها، وتهبط بآخرين. 
هذا ولم نستطع الوصول لجريدة البصير التي نشرت أول ترجمة قام بها (حسن أفندي عاصم) لمقالة مسيو "مِسْمَر" حسبما أفاد (أحمد أمين، في كتابه "زعماء الإصلاح")[1]، ولم نعثر على أي ناسخ لتلك الترجمة. كما أننا لم نجد لمقالة المسيو "مِسْمَر" ترجمة  عربية لاحقة إلّا واحدة، منسوبة إلى (علي يوسف)[3]، ولم تكن كاملة لفقدها صفحتين من بداية المقالة، كما أن فصاحتها اللغوية لم تشفِ غليلنا، لذا قمنا بإعادة ترجمة أصل المقالة، والموجودة على النت على هذا الرابط:
وفيما يلي نص ترجمتنا الخاصة بحسب الصفحات (مع مراعاة الفقرات):

المذهبية الإسلامية والعلم[2]
تشارلز مِسْمَر Charles Mismer

مجلة (الفلسفة الوضعية، سنة 1883، عدد 6، شهري: مايو-يونيو، ص 437-453)
[ص 437]
تحت هذا العنوان، ألقى رينان محاضرة بالسربون أمام الجمعية العلمية الفرنسية، وفيها تألق رينان بطرازه الرفيع، وأكّد ما عُهد عليه من براعة أدبية أكاديمية، وخاصة في مؤلفه الشهير عن حياة المسيح. وقد احتفى رينان بهيئة المؤتمر، مما كان له أثر إيجابي في استحسانهم كلامه، وهو أمر مستغرب أن يقع فيه هذا الجمع من العلماء المرموقين. ومن حيث تحرِّي الدقة فيما جاء في المحاضرة من معلومات تاريخية، فلا يوجد له أثر، ويقال نفس الشيء على الصرامة المنطقية. ويمكننا أن نقول بأبسط العبارات، أن المحاضر لم يكترث بتجنب التناقضات، وعلى النحو الذي يتشدد فيه العلماء في طرقهم العلمية ومعاييرهم البحثية. ويمكن وصف هذه المحاضرة بأنها لا تزيد على منظومة بلاغية فصيحة، وقد بنى صاحبها عباراته على التلميحات اللازعة، وكانت طريقته أقرب إلى مناشدات المحامين أو الخطب البرلمانية التي تسحر وتأسر مستمعيها، حتى أن من تسيئه المحاضرة لا يجد من اعتراض إلا أن يتعجب قائلاً: ما أبلغ هذا البلاء!
ولا يغيب وجاهة السؤال الذي قرر رينان الإجابة عنه في معنى من معانيه: ألا يُعد عدم توافق الإسلام مع العلم واحداً من أكبر مشكلات العصر، وأنه من المعضلات العويصة التي يتطلب علاجها دراسات تحضيرية مستفيضة يقوم به عقل محايد ويتحلى بالنزاهة؟ - إلا أنه ليس لأحد أن يتناسى ارتباط فرنسا بهذه المسألة، من حيث أنها تسيطر على المسلمين في الجزائر وتونس لما يزيد عن خمسين سنة حتى الوقت الراهن[4]، وأنها لم تجد بعد بديلاً عن نظامها الوحشي الذي يقهر أي تسوية عادلة ونهائية للتعايُش.
[ص 438]
وإذا ظلت الإدانة التي أدين بها الإسلام – بحسب عبارات رينان – على ما هي عليه بلا استئناف، وإذا منح التاريخ والفلسفة رينان من الأسباب ما تكتسب بها تقريراته شرعية القانون، فإن السياسة غير المقبولة، والتي دمرت محاولات فرنسا في البناء العلماني/المدني لمصر وتركيا، (سوف تستقوي بهذه التقريرات) وتأتي على الجزائر بالمزيد والمزيد من الازدراء والتدابير المستهجنة والمصادرات، وإلى الحد الذي يجعل من حياة العرب مستحيلة، وإلى درجة أن يعتبروننا أعداءً قتلة. وطبقاً لتقلبات التاريخ، فلربما واجهت فرنسا حرباً أوربية عظمى، وعصياناً هائلا (يقصد في الجزائر وباقي مستعمراتها)، ولا يصبح أمامها عندئذ إلا أحد اختيارين: إما أن تُسلِّم ممتلكاتها في أفريقيا، أو أن تُطبِّق على رعاياها من المسلمين التدمير/الإفناء الـمُنَظَّم مثل ذلك الذي طبقه الأوربيون على ذوي البشرة الحمراء (الهنود الحمر) (في أمريكا).
وفي بلدٍ ما حيث تكون السيادة للشعب، فإن تلك الفئة منها، والتي يحق لها حق انتخاب الحكومة، لن يكون لديها وقتٌ للتفكير في مصالحها الشخصية وما يخصها. فإذا افتقرت هذه الفئة للحنكة المطلوبة لمعالجة المواقف الخاصة، والأزمات العميقة، ستأتي أحكامها خاطئة خلاف ما يُفترض فيها من حكمة، ولا يدعمها حينئذ إلا قوة السلطان. ولن يكون لهذه الأحكام من نتائج إلا العواقب الوخيمة. وقد يصل الأمر أحياناً إلى كوارث عظمى. بل إن الأمر ليصل إلى صغار الكُتَّاب، الذين عليهم أن يتذكروا أن من واجبهم عند التصدي لما يكتبون فيه، أن وظيفتهم تستمد قوتها مما يستمد منه القاضي ورجل الدين سلطته. وعندئذ، يجب عليهم التضحية بكل شيء من أجل العدالة، مثلما يجب على رجال الدين رعاية أتباعهم.
ولا يخلو من الأسى في نفس كل فرنسي أن مكانة بلاده في الشرق قد اعتراها الخسوف ولما تكسبه من استياء المواطنين الجزائريين تجاهها. ولم يكن يسمح أي من فرانسوا الأول الذي تحالف مع (السلطان العثماني) سليمان (القانوني)، ولا ريشيليو Richelieu الذي ساند بروتستانت الألماني، المساس بحق الدولة سواء عن جهالة أو رعونة/تحيز. وكانت هذه هي الأصول التي بنت عليه الدولة الفرنسية أعرافها السياسية في الشرق. وما زالت هي الأصول التي تفزع إليها إداراتنا في المستعمرات – مستخدمة في ذلك العلم والعدل- وذلك لردم هوة الخلاف في وجهة النظر فيما يتعلق بالإسلام – بين فرنسا ورعاياها المسلمين.
ودون أن نظهر مدافعين عن الإسلام، وبضبط أنفسنا فقط للدفاع عن الحقيقة التاريخية والفلسفية فيما يتعلق بالسياسات المعاصرة (1883م)، فسوف يكون من السهل علينا أن ندعم ما نواجه به الأستاذ رينان من انتقادات.
[ص 439]
إن المدقق لا بد أن يُلاحظ أن كثيراً مما يجري في العلم المعاصر من بحوث، وما أصبحنا نمتلكه من خبرات شخصية، قد تحصلنا عليه عن طريق ممارسات تنظيرية دقيقة وطويلة لرجال وأدوات تواجدوا في الشرق. وإذا تسلحنا بالفلسفة الوضعية، فسنجد أن أنسب الصياغات – كما توصلت إليه في كتابي "أُمسيَّات في القسطنطينية Soirées de Constantinople" - إنما يكون بإعادة تقييم وتأهيل الإسلام مستعينين في ذلك بالعلم. وقد يسمح لنا المزيد من الدرس، والتنظير المعمق، أن نعالج مادة هذا الكتاب ونطبق ما توصلت إليه فيه، بأقل القليل من الإخفاقات، وتبقى الفكرة الأم في الكتاب والعصية على النقد، جلية في أذهاننا.
إن دين محمد (r - المترجم)، ومع إشرافه على القرن الرابع عشر من عمره، وبعيداً عن مسألة كونه يتعارض مع العلم، وكما تم تعليمه للناس سماعاً وممارسةً عبر القرون من جبال البرانس غرباً وحتى جبال الهيمالايا شرقاً، كما هو مشهور، وبغض النظر عن كونه يُمارس أو لا يُمارس بعدد كبير من المسلمين، فإنه يبقى الشريعة الدينية القابلة للتوافق إلى حدٍّ كبير مع الحضارة، والمنهج الوحيد الذي لا يُعارض التقدم في طريق وعر لا يمكن اجتيازه. بل إنه ليحظى بالكفاية التي توجه أهله إلى طريق عظيم، فيبعث في أفريقا وآسيا حركة تنويرية مثمرة للبشرية، على نحو شبيه بما أحدثه القرن السادس عشر من بعث شعلة التنوير في أوربا.
والآن، وقبل أن أنتقل إلى نقد ما صرَّح به الأستاذ رينان في محاضرته، فمن الضروري أن أُلخِّص تصريحاته، وذلك بنسخها على نحو حرفي بقدر الإمكان. وقد وجدت أنها تؤول إلى ست خلاصات (مسائل):
المسألة الأولى: أن هناك سوء فهم دائر حول عدد من الاصطلاحات المتَدَاولة من قبيل (العلم العربي، والفن العربي، والعلم الإسلامي، والحضارة الإسلامية)، وينتج عنه العديد من الأحكام الخاطئة، بل يصل الأمر إلى أخطاء عملية بالغة الخطورة.
المسألة الثانية: الوضوح التام لتخلف الدول الإسلامية.
المسألة الثالثة: أن هذا التخلف يعود إلى "ما يحد روح المؤمن الحقيقي بالإسلام، بما لا فكاك منه، من حاجز حديدي يحيط برأسه، فيجعله مغلقاً تماما عن العلم، وغير قادر على تعلُّم أي شيء، ولا منفتح على أي فكرة". وما يتميز به المؤمن في الحقيقة هو: "كراهة العلم، وقناعته التامة بأن البحث العلمي عديم القيمة، وعابث، ويُخلي قلب صاحبه تقريباً من التقوى"؛ ومثال ذلك: رفاعة بك (الطهطاوي).
المسألة الرابعة: يقف دين الإسلام حجر عثرة أمام التقدم العلمي والحضاري.
[ص 440]
المسألة الخامسة: أنه من العبث أن نستدعي الماضي، حيث لم يكن هناك أي حضارة عربية. إلا أنه كان هناك بالفعل في البلدان المسلمة – وعلى مدى 500 عام – علماء ومفكرين مميزين للغاية. ويمكننا القول أنه خلال هذه الفترة كان الفيضان الإسلامي أعلى في الثقافة الفكرية من العالم المسيحي. إلا أن هذا التفوق لم يكن بسبب الإسلام. فقد كان مستقلاً عن الإسلام. وإذا بحثنا لوجدناه يعود إلى النساطرة، والفرس، وكل أولئك الذين كان يزدريهم المؤمنون من فلاسفة ومتحررين[5]. كما أن الخلفاء أنفسهم كانوا بالكاد مسلمين: كانوا متحررين وشكاكا. وقفز (رينان) من بغداد إلى أسبانيا، بدون التوقف في حضارة البلاد المتوسطة، ولا حتى في القاهرة. وتجنب تماماً كل من عدا النساطرة والفلاسفة، إلا أنه جاء على ذكر اليهود، وقال أنهم تعاونوا في بناء العلم تعاوناً نشطا.
المسألة السادسة: إن ما نجح فيه الإسلام لم يكن إلا الحظ العثر (الخيبة)، فقد قتل العلم، وقتل نفسه، وأصبح مُداناً في خضم الانحطاط التام الذي آل إليه.
والآن، إذا استثنينا الخطأ والسهو في كلام الأستاذ رينان، فلنا أن نتساءل: ما هي الوقائع والحجج التي استند إلينا في تفسيره ظهور هذه الحركة الحضارية الأكثر إعجازاً في تاريخ البشرية، وبغض الطرف عن كون أصحابها عرباً أو مسلمين؟!
–"لهذا السبب كانت ابنتك بكماء!" (مثل فرنسي يُعد الأفضل تعبيرا لتفسير الأستاذ رينان الذي لا رابط فيه بين مقدماته ونتائجه، ويصف من أنهى تفسيره – كما جاء في مسرحية موليير "طبيب رغم أنفه" – بعد أن استحضر طلاسم من المقدمات المشتبكة، ولا تؤدي أبداً إلى ما انتهى إليه من نتيجة - المترجم)[6].
فمما لا شك فيه أن قرننا هذا (يقصد القرن الميلادي التاسع عشر- المترجم) قد تقدم على القرون السابقة، ولكن ليس من كل وجه، ولم يفكر أحد في مقارنة مقالة الأستاذ رينان عن الإسلام – التي نحن بصدد نقدها- مع عمل مونتسكو العظيم عن علو شأن الرومان وهبوطهم[7] (تأملات في تاريخ الرومان: مونتسكيو -  Grandeur et la décadence des Romains). ولنا رغبة في عرض لمحات عن قيمة الإسلام، إلا أننا سنؤجلها بعد الرد على تصريحات الأستاذ رينان التي لخصناها أعلى، مسألة مسألة.
(المسألة الأولى)
كان رينان محقاً عندما قال: [(أن الكلمات:) العلم العربي، والفن العربي، والعلم الإسلامي، والحضارة الإسلامية تعبر عن أفكار ملتبسة، وينتج عنها العديد من الأحكام الخاطئة، بل يصل الأمر إلى أخطاء عملية بالغة الخطورة.] بالرغم من أن هذه الكلمات لها اشتقاقات مجردة ذات قيمة في ارتباطها بالمدلول المقصود.
[ص 441]
أما الخطأ فهو بأخذ هذه الكلمات لتُعبِّر عن معنى مطلق يصف انفجار حضاري فجائي، استطاع أن يغطي من العالم ثُلُثَه؛ في حين أن العبقرية اليونانية الرومانية كادت أن تمس هذه البقعة الممتدة. ومثلما كانت شمس البرابرة (الأوربيين) تنكسف في ذلك الزمن، فإن الباقي كان غارقاً في ظلمات حالكة. وإن عاصفة من بضعة آلاف أو مئات الآلاف من الفرسان، إن جاز لنا القول، فاضت من جزيرة العرب، ما كان لها أن تبرر هذه الظاهرة الاجتماعية الإنسانية الهامة.
ولن تجدي محاولة تفسير ما حصل بأن العرب قد مدوا سيطرتهم على هذه الأمم العديدة بمعونة لا تزيد عن محض لغة، ودين غريب؛ في الوقت الذي كانت فيه هذه الأمم معادية لدمائهم، ومتعنتة لهضم طباعهم، وأبيِّة عن تحمُّل نيرهم، ثم بعد كل هذا تصل معهم إلى حد الانصهار في قالب واحد!  كل هذا يحجب الاحتجاج بالعرق عن الوفاء بفهم ما حصل. ومن حيث (التبرير بـ) القوة، فالفلسفة الوضعية تخبرنا عن حدود قيمتها، وأنها لا تفيد شيئاً عندما لا تُستخدم في خدمة الإصلاح/التقدم، حتى ولو كانت تلك القوة هي شرارة الحدث، لأنها مستقلة عن التتابع التاريخي، الشامل للتطور الطبيعي الذي تشكلت على إثره الحلقة الأولى من تاريخ تلك الظاهرة.
ورفض الأستاذ رينان أيضاً الاعتراف باصطلاح "العلم الإسلامي" و "الحضارة الإسلامية"، وعلل ذلك الحكم بالتخلف الراهن للدول الإسلامية.
(المسألة الثانية)
هذا التخلف الظاهر دفع عدد من المؤلفين إلى التقصي الـمُسهب عن أسبابه بالتحليل الزمني والأحداث التاريخية المتشابكة فاعلة كانت أو منفعلة. ولم تخرج تلك التحليلات إلا بتبريرات جدلية، لارتكانها على وقائع شكلية أو غير موثقة بما يكفي من أدلة. وبالرغم من أن الدول الإسلامية في هذا الزمن متأخرة بوضوح، إلا أن هذا لا يُثبت شيئا؛ حتى ولو حاول البعض أخذ هذا الوضع مأخذاً حرفياً. كما أن التخلف المادي لهذه الدول (لا يثبت شيئاً أيضا) حتى ولو تمثل في افتقارها إلى خطوط سكك حديدية، وتلغراف، وسفن حربية، وثروات اقتصادية .. إلخ  مثل تلك التي تحوزها الدول المسيحية. كما أنه واضح أيضاً أن الناس في آسيا وأفريقيا لا يتمتعون برغد العيش الذي يتمتع به مع الأوربيون.
[ص 442]
هل يلزم عن هذا أن يغبطنا المسلمون جميعا؟ - هل لأحد أن يقول أنهم في حالة طبيعانية قاسية بلا ماضي ولا حاضر، وأنهم لن يكون بوسعهم بناء وضع اقتصادي أفضل لمستقبلهم؟ - إن من يقول بذلك كأنه يقارن بين شركتين مستقلتين لكل منهما ميزانية محاسبية تتعين بمتعلقاتها المتغيرة مع الزمن وحجم الثروة من أصول واستحقاقات؟ أوليست الشعوب مثلها مثل العائلات في قيام سعادتها على التمتع بالصحة، والتوافق بين أفرادها على ما يتراضوا عليه من غنى وفخار؟ هل وصلنا نحن الأوربيين إلى قمة الرقي، فإن كان صحيحاً فهل نضمن أن نبقى فيه دوماً؟
وبالرغم من ملامح حركة عامة بين المسلمين، إلا أنهم ساكنون تماما على ما يبدو، فهل تتوالى عليهم الأحداث الجسام من قبلنا من حروب وثورات واكتشافات علمية، وهم هم، جموع بشرية خاملة بلا معاناة، وبلا حسرة، وبلا أمل؟
جدير بمن يريد الإجابة عن هذه الأسئلة أن يدقق بعمق ويفكر. إذ ربما يجد في سعيه التحقيقي أن هناك نظاماً أخلاقيا واجتماعيا، حتى ولو كان بسيطاً في قيمته. ومن ملامح هذا النظام أن التعاون المتبادل بين أفراد المجتمع واجب إلزامي، حيث في الصدقة مثلاً – التي نراها نحن إهانة – نجد أن من يسألها، يمارس حقاً له، ومن يعطيها يمارس واجباً عليه، وحيث يكون لكل امرأة زوجاً، ولكل طفل أباً (يعرفه)، وحيث يُفترض على الزوج أن يمهر من يريد زواجها، لا أن تمهره هي، وحيث الحمقى والبلهاء محفوظوا الكرامة، وحيث يُدان الربا والميسر والعهر والفجور بقوة القانون الديني؛ وحيث الحفاظ على النظافة جزء من العبادة، فنجد الاغتسال/الوضوء دفعة واحد يربط بين الطهارة البدنية والطهارة النفسية، وهو ما نفتقر إليه – على ما يبدو- حتى لدى طلاب جامعاتنا؛ وحيث نجد الألوف من الفضلاء – وبعباراتنا القديمة "الرواقيين" – المدعومين بالحشود الغفيرة من ورائهم، قادرون على الدفاع عن أنفسهم بقوة كما ظهر في معركة (بليفنا Plevna)، أو أن تهاجم عدوها بشجاعة كما رأينا في معركة (ممر شيبكا passes de Shipka) في وقت يعوزهم الغذاء والتوازن العسكري ولباس الحرب، وهو ما لا يتحمله أي جيش آخر. مثل هذا النظام الأخلاقي والاجتماعي، مهما كان مصدره، يجب استحضاره في الاعتبار أكثر مما نتفضل به.
[ص 443]
(المسألة الثالثة)
أكد الأستاذ رينان على أن "المسلم لا يستطيع أن يتعلم أي شيء"، وأنه "يبغض العلم". وأورد مثال لذلك، الشيخ رفاعة بيك (الطهطاوي)؛ والذي عاد من أوربا إلى مصر، بعد أن خدم إماماً للبعثة المصري (في باريس) وكتب كتاباً ليثبت أن العلم ضد الإسلام. ولكني أعرف رفاعة بك شخصياً لمقابلتي إياه في القاهرة، وقد جرى بيني وبينه ساعات من الحوار، استطعنا فيها تقييم درجات التعصب والجمود. فهذا الرجل يتمسك بالعلم ويدافع عنه لأقصى حد، وكان يمضي وقته في ترجمة كتب العلم! بل إن الكثير من الكتب العلمية الرسمية في المدارس المصرية، إما أنها من ترجمته، أو تُرجمت تحت إشرافه. وكان لابنه دوراً في حركة عُرابي.
أياً كان الأمر، فقد شهدت السنوات العشر الماضية إنجازاً جيداً. فقد ضمت البعثة المصرية في فرنسا ثلاثة من مشايخ الأزهر. عاد أحدهم لتوه إلى مصر لإنهاء رسالته العلمية للدكتوراة عن القانون المقارن، والتي يتأهل للحصول عليها من جامعة جنيف. ويعمل الثاني الآن بروفيسور للغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية، وكان يتابع منذ كان في فرنسا مدرسة تأهيل المعلمين، ويدرس الآن في دار العلوم السياسية، واسمه الأستاذ أبو نعمان. أما الثالث فهو الأستاذ حسن جلال، ويدرس بالانتساب في مدرسة سانت لويس التجهيزية للحصول على البكالورية في العلوم، علماً بأنه لم ينقطع قط عن ممارسة شعائر الإسلام أثناء دراسته كالصيام مثلاً، من الفجر إلى الليل كل يوم، وذلك عبر شهر رمضان بطوله، وذلك ما يثبت أنه لم يكن من الشكاك، ولا أنه كان من المتفلسفة. وقد أتينا على ذكر من ذكرنا بأسمائهم، وبما لهم من تأهيل عالي في العقيدة الإسلامية- ليَستفهم منهم من أراد التحقق من صدق المسيو رينان في كلامه في ذلك المؤتمر.
وفيما يتعلق بمسألة القدرات العقلية لأبناء المسلمين، ونجاحهم الدراسي، فعلى مدار سبع سنوات، كان لي شرف تدبير شئون البعثة المصرية، وأستطيع الكلام في ذلك بثقة عالية،..
[ص 444]
وليراجع من شاء مدير كلية الطرق والكباري، أو كلية الفنون والصناعات، أو الكلية الليبرالية للعلوم السياسية، أو عميد كلية القانون بـ (مدينة) إكس Aix، أو كلية الطب في مونبلييه، أو سجلات الكليات المحفوظة في باريس.
وسوف نذكر هنا فقط أمثلة سريعة للمقارنة وغرض إقامة الحجة. فهذا عثمان غالب و محمود رياض نجل رياض باشا، قضيا سبع سنوات للدراسة في باريس، وعاد الأول إلى مصر وهو يحمل لقب  الدكتوراة في الطب والدكتوراة في العلوم الطبيعية. أما الثاني فعاد يحمل شهادة بكالوريا العلوم في القانون، وقد تخرج من الكلية الليبرالية في العلوم السياسية وحاز على منحة كلية القانون في إكس Aix.
هذا الأخير هو الآن مدير مكتب وزير الداخلية بمصر، أما الأول فأصبح أستاذاً بكلية الطب بالقاهرة، والتي حصل كل مدرسيها على درجاتهم العلمية من أوربا؛ وكثير منهم كانوا فائزين بتكريم كلياتنا. ويمكننا القول – بعلمنا التام بما يجري – أن الحاجز الحديدي الذي تكلم عنه مسيو رينان وزعم أنه يمنع الفهم عن عقول المسلمين، لا يوجد إلا في مُخيلته. فالحقيقة هي أن الطلاب المسلمين متعطشون للمعرفة (مع استثناءات نادرة لا تزيد عن 4-5% على الأكثر) ولئن جاز توجيههم، لكان بنصحهم التروي في طلب العلم إشفاقاً عليهم، وليس بحثِّهم على المزيد. ولو أن المدارس الابتدائية في مصر قد استكملت قوتها التعليمية، وانتُخب منها أذكى التلاميذ وأرسلوا إلى أوربا، فلا أشك أنهم سيكتسحون مدارسنا تفوقاً ونباهة.
ولا عبرة بالتمثيل برفاعة (الطهطاوي) بيك، ولا بقاضي بغداد وما جاء بشأنه في خطاب مسيو ليارد Layard M. الذي حكى رينان ما فيه، والذي لو وعاه قارؤه، لوجده مشحوناً بفلسفة عميقة ومكرا بعيدا. وكل هذا لا ينال من قيمة الحقائق التي أوردناها أعلى، ولا يُنكر شهادة التاريخ ومعالم الآثار. كما أنه لا يخدش على وجه الخصوص إجماع  المسلمين في اعتراضهم على اتهامات مسيو رينان لهم.
(المسألة الرابعة)
طبقاً لكلام مسيو رينان فإن الإسلام لا يتقدم، وزيادة على ذلك إنه أيقونة في نفي التقدم. فإذا كان هناك ما يكفي لإثبات هذا الزعم، فلنقارن الخارطة الجغرافية الراهنة مع ما قبل مئة عام، ولنرى ماذا تقول المقارنة من تأييد هذا الزعم أو نفيه.
[ص 445]
ألم تُغتصب أراضي المسلمين من جميع أطرافها بالمعتدين عليها. ويمكن القول بأن رُبع أتباع محمد أصبحوا محكومين بمن يحتلوا أراضيهم. وفي فورة تطور النظام الاقتصادي والمالي الأوربي، أصبحت البلدان الأخرى – والتي أكثرها مسلمين- مصادر القوى الإنتاجية التي تُغذي بنوك ودول أوربا. ومن يستدل – بعد العلم بهذه الأوضاع – أن المسلمين جامدون ومتأخرون، فلا هو عادل، ولا هو أهل للحديث في السياسة. ومن كان من السياح الذين يزورون هذه البلاد على فترات من الزمن، فلابد أن يلاحظ التغير الحاصل على وجوه الناس والأشياء بوضوح، وخاصة منذ حرب القرم. ثم أن ثورة التغيير هذه واضحة كل الوضوح في الأمور العسكرية، ولا تُعدم في غيرها من أمور، وإن كانت أقل وضوحاً. فها هي الإصلاحات التجديدية التي أدخلها كل من محمد علي في مصر، والسلطان محمود في الآستانة تؤتي ثمارها دون هوادة. ويكفي مقارنة عدد المدارس وتأهيلها بين الوقت الحاضر وما كان عليه الحال سابقاً، ويُضاف إلى ذلك حجم الصحف والمطبوعات الصادرة باللغة التركية والعربية كمُؤشر للتقدم. ولا يعود تخلف الدول الإسلامية إلى عيب ذاتي في فضيلة التقدم، بل إلى التطور الآخذ في النمو لدى غيرها من الدول بمعدلات أسرع، وما يدعمها من ثروات وآليات، مع انخفاض نسبي في الأطماع الخارجية، ويُضاف إلى ذلك تميز الأوربيين بأسبقية الكشوف العلمية والتحديث بثلاثة قرون.
(المسألة الخامسة)
(ومن غرائب الأقدار أن) ألقى د. بياترا سانتا (Dr. Pietra Santa) محاضرة في السربون عن "إنجازات العلماء العرب في الطب وعلوم الصحة"، وذلك قبل يومين اثنين فقط من إلقاء مسيو رينان محاضرته، وكان ذلك في نفس القاعة التي ألقى رينان فيها محاضرته. وكانت محاضرة بياترا سانتا برعاية مصلحة الأرصاد الجوية (علوم المناخ) في الجزائر، وقد نُشر خبر هذه المحاضرة في الجريدة العلمية (la Revue scientifique) بتاريخ 31 مارس 1883. ومن يطلع عليها يجد فيها مُلخصاً كاملاً للاكتشافات الأصلية للعرب في المادة الحيوية. (وكما هو معلوم) أن التطور في علوم الأحياء يتبع التطور في العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية والكيميائية. ويُمكِّنُنا هذا الملخص من تكوين صورة واضحة عن الحالة العامة للحضارة الإسلامية في زمن العصور الوسطى المسيحية.
[ص 446]
ولو أن مسيو رينان اطلع على عمل (بياترا سانتا)، ولو أنه قرأ أعمال سيديو Sedillot و دوروي Victor Duruy، ولو بنظرة عامة موجزة، مما نُسب إلى العرب من علوم وآداب وفنون، وأدرك ما وراءه من أعمال جمة غفيرة متنوعة ومنتشرة في البلدان الإسلامية، عندما كانت أوربا غارقة في أعماق البربرية والتوحش، ربما كان سيتردد في نسبة هذه الظاهرة الخارقة للعادة، لتلك الأسباب التافهة التي نسبها إليها. إذ كيف لرجل من أهل المعرفة والفلسفة أن يمنح بعض النساطرة والفرس واليهود شرف قيام حضارة عميقة، وتتسم بالديمقراطية والعالمية، كحضارة العرب، خاصة وأنه ألمح بالثناء عليها، عندما قال: "كان العالم الإسلامي الأعلى ثقافة فكرية لنحو خمسمائة عام من العالم المسيحي"؟! ثم أن معاشرة أهل المشرق تكشف بسهولة عن طبائع متمايزة لأعراق مختلفة شكلت في مجموعها الأسرة الإسلامية. ومن ذلك ما نراه من طباع الفرس والأفغان وأهل العراق الأصليين مما يسهل تمييزه من تنميقات تحايلية خفية، وربما تصل إلى شكوك وشيء من النكران، بغض النظر عن المظهر الخارجي، وهذا ما يجعل في أعرافهم الدينية ووعيهم الوجداني شيء من المرونة لا نجده عند غيرهم.
ويمكن لنا أن نفهم طباع الماضيين مما نراه من طباع المعاصرين، وعلى أساس من عودة ظهور صفات الأسلاف atavisme- فإذا سلمنا بأن خلفاء بغداد لم يكونوا مؤمنين، وأنهم كانوا محاطين بأصحاب الفكر الحر والمتفلسفة الآخرون، فإذا افترضنا هذا، فإن الفرضية لا تعم غير بغداد ولا تنطبق – بأي معنى من المعاني – على مدن أخرى كالموصل ودمشق والقاهرة ومراكش وأسبانيا، ثم مؤخراً بخارى وسمرقند وبروسا واسطنبول. وإذا كان كل شيء في العالم الإسلامي – مما رأيناه من ضبط أخلاقي وتحضُّر ونشر للمعارف - يمكن تفسيره بأسباب خارجة عن الإسلام، فماذا كان الإسلام، ولماذا كان هناك حاجة إليه، دينٌ جديد، لأناس قرروا ألا يتبعوه؟!
وعند حديث مسيو رينان عن الفرس، قال أنهم كانوا شيعة أكثر من أن يكونوا مسلمين. وهي جملة تفيد بالمفارقة بين الشيعة والإسلام! وصحيح أن الشيعة لم يقبلوا بالخلفاء الثلاث الأوائل، إلا أن هذا لا يمنعهم من أن يكونوا مسلمين، مثلما يُعد كل من الأرثوذكس والبروتوستانت مسيحيين في نفس الديانة المسيحية. (ونسبة الشيعة إلى السُّنة في الإسلام كنسبة البروتوتستانت إلى الأرثوذكس في المسيحية)
(المسألة السادسة)
[ص 447]
طبقاً لما قاله رينان فإن الإسلام قتل نفسه بما فعله من قتل للعلم، ولكن الإسلام ما زال على قيد الحياة منذ جاء، أي منذ إثنى عشر قرناً[8]، ولم يعثر أحد له على أي موت. هذا وقد أُثر عن مسيو كوزين Cousin ذات مرة أنه قال: "أن الكاثوليكية، ما زال أمامها ثلاثة قرون تواصل فيها حياتها، فلنرفع لها قباعنا احتراما وتحية" (يقصد لتوديعها)، فأي فيلسوف هذا وأي سياسي هذا الذي يجرؤ على تعيين موعد انتهاء عمر الإسلام؟ والإسلام مثله مثل الكاثولوكية في كونه قوة يجب أن يُستثمر بكامل طاقته لصالح الناس، لا أن يرفعوا له قبعاتهم تحية وداع، على طريقة مسيو كازين المتشكك. فالإنسان البدائي قضى حياته يلعن الفيضانات والدخان والرياح والبرق (الكهرباء) وكل القوى الطبيعية، أما الإنسان المعاصر فيُفضِّل أن يستخدمها كوسائل نافعة يتقدم بها.
وإذا نجح النساطرة والفرس واليهود وهم على متن الإسلام، دون ما سبقه من حضارات، في نشرهم العلم والتقدم في العالم، هذا إذا صدق مسيو رينان في زعمه، فلماذا لا يُستخدم هو أيضاً – عند فقد ما عداه - في حشد ملايين الرجال المؤمنين به، في حركة جماعية تقود الإنسانية؟ فهذه نتيجة منطقية لمقدمات المسيو رينان، وهو الذي فضَّل أن يُنهي كلامه بأن يقول أن العلوم مفيدة، وهو كلام لا يجهله أحد.
ونراه يحاول أن يُخفف من طعونه في الإسلام، عندما راح يقول: [في الإسلام أشياء جميلة باعتباره ديناً، ولم يحدث أني دخلت مسجداً، إلا وينتابني شعورٌ حي – بل حتى أقول – ينتابني ندمٌ يقينيٌ بأني لست مسلماً]. وكأنَّ على المسلمين أن يغفروا لرينان كل الشرور التي تفوه بها تجاههم وتجاه دينهم، وفقط بهذا الاعتراف (المخادع/الماكر).
**********
اقتصرنا حتى الآن على مجرد تسليط الضوء على مخاطر ارتجال (رينان) حول الموضوع. وحان الوقت الذي نرتقي فيه بالحوار إلى أعلى مقامات الفلسفة (الوضعية) المحققة.
- من الواجب - وقبل أي شيء آخر - أن نقارن بين حقيقتين: الأولى أن المسيحية قد دخلت مسرح الأحداث في زمن أوغسطس، عندما كانت الحضارة الرومانية في أوجها، أما الثانية فهي أن الإسلام ظهر عندما لم يعد لهذه الحضارة أي أثر.
[ص 448]
- أن المسيحية نشأت في يهودا في فلسطين، ولم تتجذر فيها، بل حدث ذلك في بلاد اليونان والرومان، بين النخبة المثقفة في العالم في ذلك الحين، واستطاع مناصروها أن يدافعوا عنها بالحشد العسكري. يمكننا القول أنها ما كان لها إلا أن تُبقي على ما كان قائماً من علم وحضارة، وأن تسعى فقط إلى رعاية ما كسبته من كيان.
- أما الإسلام فقد نشأ في حضن جزيرة العرب، حيث البلاد القاحلة، ومسحة الضعة والهوان التي تكسو كل شيء، ويكتوي الناس بقبضة الوثنية من جهة، والجهل والخرافات من جهة ثانية. كما يفتقرون إلى آليات التمدن، وبعيدون عما أنجزته الحضارة اليونانية الرومانية من انجازات الفكر. ولم يكن لهم من حظ إلا في الأعمال الشعرية، وعلى نحوٍ غضٍّ بدائي.
- ثم حدث أن سقطت المسيحية، وفقدت شعلة النور التي جاءت تحملها، وتقلدت الوثنية مرة أخرى زمام القيادة، ثم ظهر الإسلام في الوقت المناسب تماماً ليقتنص الشعلة وينير بها الطريق مرة أخرى، ويصحح مسرح الحياة الاجتماعية، ويضع القوانين الكبرى للتقدم، ويحرَّم الجمود والبلادة تجاه الطبيعة والمخلوقات.
وباعتبار أن تتابع الكلم يحكمه القلم الذي بأيدينا، فسوف نتوقف هنا برهة مع أولئك المعادين للإسلام ويتخذون من نظرية التطور مساراً لهم في خضم المعلومات العلمية، كوسيلة يترقون بها بالتحليل والتركيب. وسوف نحتكم هنا إلى الفلكيين والفيزيائيين وأصحاب علوم الأرض والطبيعانيين والمؤرخين وجامعي الآثار، وسوف نسألهم جميعاً إن كان هناك من ظواهر علمية يعرفونها، وبقيت إحداها بعد اندثار كل ما هو من صنفها. ألا يُعد ذلك شهادة لها بتفوقها على ما سبقها؟!
فالإسلام ظهر بعد ستة قرون من المسيحية!
ألا يُعد ذلك دليلاً قاطعاً عندهم على أن (الظاهرة-الدين) الأحدث قد كسر حاجز الجمود في طبائع الأسباب الكامنة، فولَّد ثورة التحسين أو التبسيط في بنيته ومظاهره؟
ولو حكمنا بمعايير العلم، فمقام الفعل الإسلامي إذاً أعلى مقاما.
فالفعل المسيحي تراوح في قمة الاعتقاد بين إله واحد لا يمكن العلم بكنهه، إلى الاعتقاد في ثلاثة آلهة تمثل في أحد مظاهرها في إنسان. في حين أن دين الإسلام لاقى قبولاً واسحساناً بعيد المدى والنفع في نفوس أتباعه (في اقتصاره على التوحيد الصريح) وفي النواحي الاجتماعية والنفسية. فالإنسان في مجتمعه يشبه العضو في الجسد الحي، وفي المسيحية لا نجد الانسجام بين العضو والجسم، ولكن الإسلام جاء في تصميم جديد وكأنه خُلق خصيصاً ليعالج مسألة التوافق هذه حتى جعل الإنسانية أسرة واحدة، في الوقت الذي عملت الديانات السابقة على فوضى دموية وتحولت جموع الناس بسبب الإسلام إلى الحرص على العلم بعد أن كانت تعاني قبله من شيوع الجهل.
[ص 449]
وإذا وجهنا كلامنا الآن للقراء ذوي الخبرة بالتاريخ، فيكفينا أن نستحضر حالة العالم في القرن السادس الميلادي، حيث كان السائد فيه شيوع البربرية، ومن كان من النبهاء، فكان مُستهلكاً في الجدالات الدينية. ونتج عن المد المسيحي ردود أفعال وتعقيبات غاية في الشذوذ. فشاع كل ما يخطر على البال من مبالغات، وكل مشاعر مفرطة في فهم الأناجيل، سواء كانت نوايا عند أصحابها، أو استدلالات يدافعون عنها. وكانت الأرض التي اكتسحتها المسيحية ميدان حرب سالت فيها الدماء بغزارة، وكان النزاع فيها على أشده حول الله (U - المترجم)، هل هو واحد أو ثلاثة؟ وهل هو الوجود والطبيعة؟! وكان أدوات القتال متاحة لمن تسلح بها. وفي نفس الوقت كان الفساد والتحلل يفتك بالنظام الاجتماعي. فكان هناك القوط (قبائل جرمانية) والهون (قبائل رحل من مناطق روسيا الحالية) والفرس، واجتمع هؤلاء جميعاً على تخريب البنية السياسية الذي بناها الرومان. ومما لا شك فيه أن الإنسانية إذا كان في قدرها أن تبحث عن منقذ لها من هذا الخراب، فكان ذلك الزمن هو زمن ظهور محمد (r-المترجم)
وإن كان من مسألة يجب التصدي لها عن محمد، فهو ذلك الافتراء الذي يزعم قائله أنه كان دجالا، ثم لا يستطيع في نفس الوقت أن يبرر نجاح محمد في مهمته. أما عند أصحاب الفلسفة الوضعية (التحقيقية)، فالرجال العظماء حقاً هم الذين تتحدى أعمالهم تقلبات الزمان، وتتحول إلى قوى فكرية كبرى تناضل من أجل الصالح العام، أو تشحن قلوب أهل زمنها بالمثل العليا، أو تُرضع الإنسانية حتى تشبعها رحمة، فتمنحها ما يستشعر أبناؤها حاجتهم إليها.
وربما يعبر عن تطلعات الفهم الإنساني– وقت ظهور محمد – أنها حالة ضبابية متخبطة هائمة على وجهها. فماذا كانت مهمة محمد؟
[ص 450]
- كأنه رأى أن الإنسانية قد ضلت طريقها – في بحثها عن معنى للحياة- في تشتتات لاهوتية، فقرر أن يستدعي من الإنسان الروح العاقلة، ثم يبعث فيها الحياة لتأتلف مع سنن الوجود، وفي إطار ثقافة عصره، وبعيداً عن تلك الآلهة الخيالية من أب وإبن وروح قدس، والتي كرست حرمان أنصارها وأججت نزاعاتهم الدموية، فدعى إلى الإله الواحد، الإله الأكبر. حتى أنه يمكننا أن نقول بحق أن تصوره عن الإله هو القاعدة الأساسية في كل إنجازاته.
وطبقاً لملاحظة أحد كبار الكتاب، فإن هذه الخلاصة الفكرية التي أفرزها الإجهاد في دراسة تاريخ معبودات البشر théogonies وما فيه من سقم، كان لها عين تلك الفضيلة المتمثلة في "الوحدانية"، و(أراها) هي التي نطق بها شفاه محمد! وما كان منه لما نطق بها إلا أن دمَّرت  (كلماته) كل معابد الأصنام القديمة، وأضاءت ثلث العالم جملة واحدة.
وما أخذه رينان من عبارات خلفاء بغداد وما فيها من تلميحات الشك، ليصنع منها طعناً على الإسلام، فكان تجاوزاً صريحا. فهذا النوع من الشك يستقيم تماماً مع القرآن، حيث يستنكر التسليم قبل البرهان، فنقرأ فيه: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ](يونس:99)، ونقرأ: [وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ](المائدة:47)، ونقرأ: [وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ](العنكبوت:46)، ونقرأ [لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ](الحج:67).
ومن الواضح من هذه النصوص أن الإسلام كان رسالة متسامحة وتوافقية بين أتباع الكتب السماوية. والحقيقة أن الإسلام اعترف باليهود وأنبيائهم، وسمح للمسيحيين بالعبادة الذي كان عليها عيسى وأمه؛ وترك العرب وشأنهم على ما توافقوا عليه من أعرافهم الحياتية فيما لا يخالفهم فيه الإسلام؛ وكل ما أتى به الإسلام فكان منهجاً للخلاص، وفي إطار اتباع أركان العبادة، وعلى طريق الضبط الأخلاقي والإيماني بالإله الواحد.
وتتجلى المعاني التي أتى بها محمد بوضوح فيما فعله عندما أمر بهدم الأصنام عند الكعبة، وعندما نادى في الناس (يقصد خطبة الوداع): [جاء الحق وزهق الباطل وخنس، لا وثنية بعد اليوم ولا فضل لأحد على أحد بعصب ولا أب، كلكم لآدم وآدم من تراب، وما خلقكم الله إلا أخوة]
أوليس من الغريب أن نكون في قرن الفكر الحر والمتحرر ولا يزال المعنى الحقيقي للإسلام مجهولا؟! لقد استطاع نابليون بونابرت أن ينفذ إلى حقيقة الإسلام، كما عُرف عنه في تواجده في مصر، عندما قال أن [المسيحية تهديد والإسلام وعد]. ونتذكر أيضاً ما قاله أحد الكتاب [ماريتشي Louis (or Ludovico) Maracci (1612-1700)] قبل قرنين عن محمد عندما كتب: [ما جاء به محمد جعل لكل شيء معنى ومغزي أكثر مما جاءت به المسيحية]. لكل هذا يبدو لنا أن الإسلام يُعد أكثر اتساقاً مع الرؤية الحديثة للقوانين التشريعية ولسنن الوجود.
[ص 451]
إلا أن ماريتشي في استطلاعه الأول عن الإسلام لم يصل إلى التفسير الصحيح لنمو الحركة العلمية التي صاحبته. ومن أراد العثور على التفسير الصحيح، فسوف يجده في القرآن والحديث. كقوله: "وقّر من كان في سن أباك، الذي يعلمك شيئا"، وكقوله: "اطلبوا العلم ولو في الصين"، وعندما سُئل:من الذي نوله علينا؟ قال: "الأعلم"، ولما سُئل: من الأعلم؟ قال: "العالم الحقيقي يجب أن يعلم كل شيء".
فمن يقل أن هذه مقولات نظرية، ووضعها الموضع العملي أمر يتطلب الإثبات. نجيبه بأن يسأل السياح الذين زاروا أي من أقطار العالم الإسلامي، فإنهم يجيبونك بأنه حيثما تجد مسجداً، فإنك تجد معه مدرسة. ولطالما كان التعرف على هذه الحقيقة أمراً جللاً لما يفعلونه في عوائدهم عندما يُدخلون أطفالهم إلى المدرسة أول مرة، فيصنعون وليمة لذلك ويطعمون الطعام. (هذه عادات المسلمين في القرن التاسع عشر الميلادي /الثاني عشر والثالث عشر الهجري - المترجم)
وطبقاً للقرآن، فإن عمود الإسلام هو توحيد الله، وقطبيه هما الأخوة الاجتماعية، وإصلاح ذات البين أنى يتطلب الأمر ذلك، وكل هذا عن علم ودراية. ولا أراني أحتاج للمزيد من أدلة العقول على اقتران العلم بالقرآن والذي مثَّل ثروة الإسلام الرائعة. هذه الثروة التي قال رينان أنها بحدود خمسمائة عام، إلا أنها تزيد في الحقيقة عن ذلك كثيرا. فعندما سقطت كل من بغداد وغرناطة لم يحدث أن توقفت عظمة الإسلام. فبعد هذه الأحداث تولى أمر المسلمين السلطان سليمان القانوني (سليمان العظيم)؛ فارتقى الإسلام به مرقاً جديدا وأوجاً بعيدا، وبلغ عدد من شملهم سلطانه عند موته ما بين مئة إلى مئة وعشرين مليوناً من النفوس، وفرض على العالم احترامه وإكباره بقوته العسكرية، وقوة مؤسساته، وعبقرية رجال دولته، وإشعاع حضارته. ولم يقع اضمحلال الإمبراطورية العثمانية إلا فيما بعد موقع فيينا 1683م على غير توقع، مثلما كانت معركة روكروي Rocroi الفيصل الذي اضمحلت بعده دولة الإسبان.
والجدير بالاعتبار، ومن أجل إنصاف الإسلام، أن نعترف بأنه حقق تحت حكم الترك من العظمة، مثل ما حققه تحت حكم العرب. أما سجناء الأفكار والأحكام المسبقة، الذين يجهلون جهود الترك فيما طرأ على الإسلام من تغييرات إيجابية على المسرح العالمي، فننصحهم بقراءة المؤلفات المشهورة لمنتكوكلي  Montecuculli مثل Commentarii bellici، والتاريخ العام للدولة العثمانية    Tableau général de l'empire ottoman الذي نُشر في القرن الماضي، وكلاهما من معالم التأليف والآثار.
[ص 452]
وبحلول العام 743م، أي بعد مرور مئة وإحدى عشرة سنة من وفاة محمد (r - المترجم) كانت الإمبراطورية الإسلامية أكبر من إمبراطورية الإسكندر الأكبر، وتقارب اتساع إمبراطورية يوليوس قيصر. وفي سنة 1566م، أي سنة وفاة سليمان القانوني، كانت الإمبراطورية الإسلامية أكبر كثيراً من الإمبراطورية الرومانية. أي أن هذه الإمبراطورية حققت تصاعداً متصلاً لفترة شاكلت الألف سنة على الحقيقة. ولا يخفى على أهل الخبرة بأن التفوق السياسي والعسكري لا قوام له إلا بالعلم، ومن ثم ينبغي أن يُقرّوا بلا إشكال أن الإسلام قد احتضن العلم. ويعلم أهل الخبرة أيضاً أن الأديان والإمبراطوريات بانفرادها تخضع لقانون الصعود والهبوط والموت، ومن ثم يتفهمون أيضاً أن الإسلام ليس استثناءاً لهذا القانون. ولكن قبل أن يضمحل التفوق السياسي الإسلامي كان قد أدى دوره التاريخي، ومثَّل الجسر الذي ردم هوة العصور الوسطى المسيحية، فربط بين الحضارة الرومانية عند انهيارها ومرحلة النهضة الأوربية وإحياء العلوم وصعودها. وإذا لم يؤخذ الإسلام بالاعتبار في هذا السياق، فسيبقى قانون التقدم الإنساني غير مفهوم في تتابعاته التاريخية على مدى تلك القرون. وللإشادة بهذا الدور العربي، سماه المسيو لييتريه M Littre بالحضارة العربية التنويرية الصغيرة.
ومرة أخرى، سيكون من التفكير الصبياني إيعاز العلم العربي لغير العرب، حيث لا سبيل إلا إيعازه إلى العرب الذين فتحوا ثلث العالم في لمحة خاطفة تقريباً من عمر البشرية. ولا يمكن تفسير النجاح الفوري للإسلام إلا باعتناق الأمم المجاورة للعرب، والذين اتصلوا به، له فور معاينته. فهذا مذهب الآريوسية المسيحي، وباقي الطوائف الصغيرة التي كانت تدافع عن وحدانية الله، تلاشت في الإسلام مثلما تتلاشى الجداول الصغيرة في النهر الكبير.
والآن، إذا أردنا أن نُمحِّص أسباب تدهور الشعوب الإسلامية، فيكفي أن نلاحظ أنهم نكصوا عن النجاح فقط عندما كفوا عن خوض غمار التساؤلات العلمية، ومواصلة فتح العالم. ويظهر التاريخ بوضوح أن النجاحات العلمية المعاصرة قد أنجزت رغماً عن المسيحية، في حين أن عين الوجود الإسلامي كان رفيقاً لحركة قانون التقدم (العلمي). وأي مُحقِّق تاريخي لا بد وأن يَخلُص إلى المعيار الثنائي الآتي؛ فالنفور بين المسيحية والعلم كان وما زال قائماً حتى اللحظة؛ فالأستاذية في علم ما تستدعي تباعد صاحبها عن المسيحية، في حين أن المسلم لا يصبح جاهلاً إلا إذا انطفأت شعلة إسلامه. وما لم يكن هذا هو التحليل الصحيح، فكيف ننسب حضارة للمسيحية بعد أن مضى عليها خمسة عشر قرناً بلا حضارة، فأين كانت؟! – ثم كيف ننسب إلى الإسلام تدهور الشعوب الإسلامية وانحطاطها، في الوقت الذي أقامت فيه حضارة لم يرى العالم مثلها على مدى ألف سنة، وكانت الأكثر عالمية، والأكثر ديمقراطية (شورى) على الإطلاق، وكان السبب المباشر والوحيد لنجاحها ليس إلا تَمَثُّلها للمفاهيم القرآنية؟!
[ص 453]
فهل مات الإسلام، وهل لنا أن نعتبر التشنجات الحاصلة في أتباعه الآن حالة احتضار؟! – لا يجيب على هذا السؤال بالإثبات إلا قليل الفهم. الإجابة الصحيحة هي: لا. فهذا الجمع الديني والذي ينتمي إليه ملايين الرجال، المستعدون للتضحية بكل شيء للدفاع عنه، لا يمكن أن يختفي، بل إنه سيعيش طويلاً.
ولا يخفى على كل ذي بصيرة أن الأعراض المتلاحقة، مثل الموت المحزن للسلطان عبدالعزيز، كما هو معلوم، والتمرد الذي قام به أحمد عرابي، كلها أمارات على إعادة لم الشمل، وتوحيد الكلمة. وهذا ما تجري به الأقلام، وتأتلف عليه القرائن. وإذا تنبأنا بمستقبل الأحداث، وبما تسير عليه الأمور على مدار خمس عشرة سنة، فإنه من غير المستبعد أن يستعيد الإسلام فواقه، ويخرج عن سباته. هذه الظاهرة، التي تتسق تماماً مع ما يجرى من انهيار النظام الأوربي المنصرم، جديرة بلفت انتباه المفكرين. وفيما يخص السياسيين المهتمين بالشأن الإسلامي، إذا ترفعوا عن أن يقعوا فريسة للأوهام الخادعة، فمن الحكمة لهم ألا يبنوا سياساتهم على تحيزات مسيو رينان التي رأيناها في محاضرته، (فيطمعون في الشرق). بل ننصحهم أن يتمعنوا في تلك الكلمة التي نطق بها أحد السلاطين العثمانيين، وذلك حين قال: [إن القوة تمد أطراف الإمبراطورية، ولكن العدل وحده هو الذي يحفظها.]
أمّا ما يجب أن يعيه تماماً أولياء الأمر من المسلمين، أن الدفاع عن الماضي، يحفظ الحاضر، ويُؤمِّن المستقبل، ولتحقيق ذلك، عليهم ركوب متن العلم، أما أي شيء آخر فسيأتي في الدرجة الثانية في الأهمية. وأول ما ينبغي بناؤه فهو المؤسسة التعليمية، سواء كان ذلك في الشرق أو في أوربا، فبالعلم تحيا الجموع المؤمنة، طبقاً لما أتى بها الإسلام من مفاهيم قرآنية، ويصبح تحقيق ذلك مسألة حياة أو موت.
تشارلز مِسمَر



[1] (تشارلز مسمر Charles Mismer) كاتب ومفكر فرنسي من سكان الجزائر، له العديد من المؤلفات، وكان رئيس البعثة المصرية بفرنسا زمن إلقاء رينان لمحاضرته (1883م) التي عليها مدار الحوار.
[هذا وقد ترجم هذا الرد لمسيو مسمر أحد الطلبة المصريين بباريس إلى العربية، هو (حسن أفندي عاصم)، ونشر ترجمته هذه في جريدة البصير، وهو نفس الشخص الذي ترجم محاضرة رينان نفسها في طبعة على الحجر في القاهرة بدون تاريخ. المصدر: (أحمد أمين، زعماء الإصلاح، ص 88)].
وقيل أن [جمال الدين الأفغاني إطلع على هذا الرد، وانزعج به، وأعقبه برد عليه في نفس الجريدة بتاريخ 3 مايو 1883م، المصدر (سلسلة الأعمال المجهولة لجمال الدين الأفغاني، علي شلش، رياض الريس للكتب والنشر، لندن 1987، ص 119-120)]. ونورد هنا ما أورده علي شلش على لسان جمال الدين الأفغاني، في معرض رده على رد مسيو تشارلز مِسمر:

عنوان مقال الأفغاني: الإسلام والعلم فاعتبروا يا أولي الأبصار
[قال علي شلش في تقديمه للمقال: (ظهرت هذه المقالة بجريدة "البصير" في 3 مايو 1883، وكان الأفغاني قد رد على الفيلسوف رينان حول موضوع "الإسلام والعلم"، ولكن رده لم يُنشر بالعربية. ثم نشرت "البصير" رداً آخر على رينان بقلم "أحد أفاضل الفرنسيين الجزائريين"، لم تذكر اسمه. ويبدو أن هذا الرد الأخير أثار الأفغاني)
وجاء نص مقال الأفغاني كالآتي:
إن رينان الفيلسوف قد ألقى في باريس، كرسي الحرية، خطاباً جعل موضوعه الإسلام والعلم، وأظهر فيه أفكاره التي ذهبت به إليها الشواهد التاريخية. وما حاد في خطابه عن سنة الأدب، وما تجاوز حدود الكمال الذي يقي به وجوب احترام الأمم في ما تنتحله دينا.
ومع ذلك، فقد امتعض كثير من عظماء الأمة الفرنساوية وتجهموا من مقاله، وحسبوه خروجاً عن النصفة، ومروقاً من محيط العدل في الحكم، وتعدياً على حقوق من يجب رعايته عليهم من المسلمين عموماً، وسكان الجزائر وتونس خصوصا، حتى قام من هذه الأمة الشريفة من له الكلمة العليا في الحكومة، وكتب مقالة تذمر فيها من خطاب رينان (من الواضح أنه يقصد مسيو مسمر في مقالته المترجمة أعلى)، وبيّن هفواته وأقام الأدلة على سقطاته، وذاد عن الديانة الإسلامية، ودافع عن المسلمين، وأبان ما كانوا عليه من الدرجة الرفيعة في الآداب والفلسفة. وما دعاه إلى مقالته هذه إلا فضيلة مراعاة الأمم في أديانها، وحسن السياسة (ليس صحيحاً كلام الأفغاني هذا، وإنما درء الكذب والافتراء والتحيز وليس الأمر مجرد تلطف مع أهل دين حق كان أو باطل، ولا مداهنة سياسة!!!). وما يقدر أهل الكمال أحد حق قدره إلا إذا نظر إلى الأمة الإنكليزية، وتتبع معاملاتها مع المسلمين في الهند. إن المسلمين تحكم خمسين مليوناً من المسلمين. ولا ترى لهم على نفسها حقا، ولا يختلج ببالها وجوب مراعاتهم، ولا احترام ديانتهم. إن قسس الابروتوستانت المغرورين يقومون في شوارع البلاد الهندية على سوقهم، ويطعنون في الديانة الإسلامية طعناً تقشعر من الأبدان، ويفتعلون من الأراجيف ما تصطك منه الآذان، ويختلقون أقوالاً يستبشعها الأوباش، وينسبون إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في رسائلهم من الشنائع والفظائع ما تنبو عنه الطباع. وكل هذه بمرأى من الحكومة، ومسمع من الأمة الانكليزية. وما تسمع من أحد منها إنكارا، ولا ترى في وجوهها من هذه التعديات اغبرارا.
و"ميزان الحق"، و"المسيح الدجال" (عنواني كتابين)، وغيرهما من الرسائل المحشوة بالسب والشتم والقذف في شارع الديانة الإسلامية تنبئك عن كيفية معاملة الانكليز مع مسلمي الهند، ونهج مراعاتهم. وإذا قام أحد من علماء المسلمين لأن يعارض هؤلاء القسس بكتب رسالة، أو إلقاء مقالة يُلقَي عليه القبض بدعوى إثارة الفتنة، ويرسل بلا محاكمة إلى جزائر أندمان (جزر نائية في المحيط الهادي)، إن المولوي رحمه الله الهندي ما هرب إلى مكة المكرمة إلا بهذه التهمة التي تسببت عن المباحثات الواقعة بينه وبين القس فندرك الابروتوستانتي. وإن جواداً الساباط ما فرَّ ليلاً من الهند إلى جاوة إلا لتأليف البراهين الساباطية رداً عن دينه ورداً لأراجيف القسس الانكليزية.
فانظر أياها البصير إلى التفاوت الكائن بين هاتين الأمتين، وأنصف.]إنتهت مقالة الأفغاني. ولا نراها إلا تلبيساً للأمور. فليست لجرائم الانجليز أي علاقة بافتراءات رينان في محاضرته التي هاجم فيها الإسلام والعرب. ولا يبيع حق دينه في دفع افتراءات رينان ليكسب شيئاً إلا مداهن، وأين هو الأفغاني مما فعله الفرنسيس يوم قتل نابليون سُبع الشعب المصري – بحسب إحصاء (محمد عمارة)، وأين هو من جرائمهم بالجزائر منذ احتلالها 1830 حتى بعد موت الأفغاني بزمن مديد! لذلك نُقَدِّم مسيو "مسمر" في قول الحق عن الإسلام والعرب ونُؤخر الأفغاني، ونرفض مقالته تلك في جريدة البصير جملة وتفصيلاً. أما عن الرد الشهير والمخزي للأفغاني على إرنست رينان فنؤجل الحديث عنه إلى الفصل [(ج1) جمال الدين الأفغاني من كتابنا الذي نحن بصدده (براءة التفسير والإعجاز العلمي من الشكوك عليه)].

[2] قال مسيو مسمر في هذه الحاشية: [إن سؤال المناظرة الذي قطعه كل من رينان ومعاوننا (لم يتضح لي من هو معاونه - المترجم) ما يزال مفتوحاُ، وسوف نطرق كل الأبواب التي قد تسمح لنا بالحصول على معلومات واقعية جديدة، وسوف نجتهد في الدفاع عن أحد الرأيين المتناظرين.]

[3] أفاد بذلك مجدي عبد الحافظ في كتابه (الإسلام والعلم - مناظرة رينان والأفغاني، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005، ص 127)، وأورد نص ترجمة علي يوسف على نقصانها أول صفحتين.

[4] كان هذا في 1883 – واستمر حتى عام 1962 أي أن هذا الاستعمار دام حوالي 130 سنة (صاحب المدونة والمترجم)

[5] الكلمة الأصلية farmaçouns تعني(ماسونيون)! ونرجح أن مسمر كتبها ويقصد متحررين.

[7] له ترجمة حديثة بعنوان "تأملات في تاريخ الرومان – أسباب النهوض والانحطاط"، نقله من الفرنسية إلى العربية عبدالله العروي عن طبعة 1748، المركز الثقافي العربي، 2011م-1432هـ. وهو مُتاح على الرابط:
كما أن له ترجمة قديمة قام بها حسن أفندي جبيلي، أحد طلبة مدرسة الألسن المصرية، مطبعة المدارس الملكية، سنة 1293هـ
(نقلاً عن: الإسلام والعلم-مناظرة رينان والأفغاني، هامش ص129)

[8] مر على الإسلام 1261 سنة ميلادية عند كتابة هذه العبارة من صاحبها، أي: الفرق بين تاريخ المقالة 1883م وبداية التاريخ الهجري 622م- المترجم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق