تقول (أ. د.) يُمنى طَريف الخولي:
بديهي أن الدين يتربع على قمة اللاعقلانية
وغني عن الذكر أن العلم يتربع على عرش من عروش .. التناول (العقلاني) ؟؟؟!!!
(قالت: [عرش من عروش] لتحجز للفلسفة التي تنتمي إليها عرشا ثانياً بجانب عرش العلم، وإلا تكون قد أهانت مهنتها (أي: الفلسفة) .. أما الدين فلا بأس أن يكون في أسفل دركات العقلانية !!! .. مادام أنه يتربع على قمة اللاعقلانية بحسب قولها ؟!)
نقول: ما نرى قولها هذا إلا قولٌ فج، جارحٌ، قادح في حق عقلانية الإسلام. حيث أن
صفة "اللاعقلانية" إذا صدمت أذن المتلقي فإنها تنتقص من موصوفها، وتزدريه،
وتستخف به بجانب ما هو عقلاني ،وتخلع عنه قيمة عظمى تتمثل في مجافاته للعقل، ومجافاة
العقل له، وسحب ثقته منه، ثم ما يتبع ذلك من عدم توقيره إياه. وأقل ما يُقرأ من
هذا الوصف أنه إعلان خصومة بين العقل والدين – هكذا كل دين وأي دين – سواء كان صادقا أو كاذبا.
ثم أن صاحبة العبارة تضع هذا الموصوف في مرتبة دنيا، دون مراتب خصصتها الكاتبة
لموصوفات أخرى، أهمها العلم الحديث والفلسفة التي تنتسب إلى سوقهما في إطار "فلسفة
العلم". فهل تُجمِّل الكاتبة بضاعتها ومهنتها، وترفعها على كل بضاعة حتى لو
كانت الدين؟! وهل الدين مهنة أو فن من المهن أو الفنون، يدخل في سوق المضاربة بين
المتباهين بمهنهم وفنونهم؟! – رغم امتهان البعض مهنة لهم على جناحه - وإن كانت،
فمن ذا الذي يجرؤ – من المؤمنين- على ألا يُقدِّم العلم بالله تعالى وهديه ونوره في
كل ما يعرض للإنسان من شئون، بما فيها العلم ذاته، على غيره من علوم البشر؟! وكيف
يَسِم إنسانٌ - كائنا من كان - العلم بالله ودينه بأنه علم لاعقلاني، ويسم علماً
من علوم البشر بأنها علوماً عقلانية؟!
ورغم أن لفظ اللاعقلانية في صدى المعنى إذا
أُطلق وردَّدته الألسن، لا يختلف اثنان على أنه مضاد العقلانية. أي: (ما لا يقبله
العقل لخلوه من المعنى المعقول)، إلا أن صاحبة هذه العبارة الذميمة جاءت تبرر
استخدامها له بأنها تقصد منه (ما يَقصُر العقل عن فهمه، لقصور العقل عن تصوره).
وهذا سكب لمعنى شديد القدح بالدين (يفوقه العقل) في كوب حسن (يفوق العقل) فينطلي
على الغفل من الناس، وإن صدق كلامها في المعنى الثاني وبرئ من التلبيس، فكان أليق بها
عندئذ أن تصف الدين بأنه "فوقعقلاني"، وليس "لا عقلاني". وإن
لم تنتبه إلى الفرق بين المعنيين، ففعلها ليس إلا جمع بين مختلفين، أحدهما مذموم؛
أدنى من العقل، والآخر ممدوح؛ أعلى من العقل. وهو مسلك ملتبس عند أهل العلم؛ العالِمين
بوجوب التفريق بين المختلفات إذا أدى الجمع إلى إشكالات. ولا نتهم الدكتورة يُمنى
الخولي بالقصد العمد لذلك، أو أنها استقلت بهذا المعنى - والذي تبين أنها ناقله له
- إلا أنها تتحمل تبعات قلمها ونُقولاتها متى اعتمدتها.
وللوقوف على تبرير الدكتورة يُمنى الخولي لمقصدها
من "اللاعقلانية" التي ذكرتها، نستحضر كامل سياق كلامها والشارح لمعنى
العقلانية (التي تؤمن بها كما تقر بذلك)، واللاعقلانية (التي لا تؤمن بها إيماناً
علمياً - بقياس الخُلْف لما أقرت به)، ثم نبحث في مصداقية كلامها وكيف أنها تتأبّى
على اللاعقلانية الذميمة ثم تسم بها الدين، بل تزيد الأمر فجاجة وتقول أن الدين
يتربع على عرش اللاعقلانية، في الوقت التي جعلت العلم (البشري الصياغة) يتربع على
عرش من عروش العقلانية؛ أي أنها باعدت بين العلم والدين الموحى به أيما مباعدة
فجعلتهما قطبان نقيضان كأشد ما يكون التناقض! .. ولنُبحر الآن في لُجة كلامها.
تقول يُمنى الخولي:
[العقلانية هي – ببساطة – الإيمان بالعقل باعتباره القوة المدركة
التي يمتلكها الإنسان والقادرة على الإحاطة بكل شيء، وإليه يرتد كل شيء. والمذهب
العقلاني المعتدل – وهو مذهبنا – "يؤمن بالعقل ويؤمن بالوجود، وبقدرة العقل
على تعقل الوجود".
وبالعقلانية يرتد الزمان، كما ترتد كل إشكالية أخرى – إلى الوعي التصوري، الذي
يتناول موضوعه برده إلى تصورات ومفاهيم، هي حدود أو أطراف تربطها علاقات منطقية.
إنه إذن تناول موضوعي objective، أو بمصطلح معاصر أكثر دقة وصواباً نقول إنه
تناول بين- ذاتي inter-subjective،
أي يمكن للذوات جميعاً أن تدركه بنفس الصورة. وغني عن الذكر أن العلم يتربع
على عرش من عروش مثل هذا التناول (العقلاني).
واللاعقلانية تعني
نقيض هذا؛ أن العقل قاصر، وأن عملياته التصورية متناهية، ومحدودة بأطرافها
وعلاقاتها. إنه إذاً عاجز عن إدراك اللامتناهي، وعن إدراك الزمان بهذا المنظور
المنطلق. ويغدو الحدس لدى هذا المنظور هو الطريق الوحيد لإدراك الحقيقة الكامنة من
وراء (أو بعد أو خلف أو داخل ) عالم الظواهر الخارجية؛ الحقيقة المغلقة في وجه
العقل التصوري، والآرحب من آفاقه، والأشد حيوية وخفقاناً من أن تنحصر بين قواعد
المنطق الباردة الجافة، ولا سبيل إلى إدراكها "إلا عن طريق الحدس وحده، ذلك
الحدس الذي يتم فيه تجاوز كل تفرقة بين الذات والموضوع"،
ويغدو كل موضوع ذاتياً وكل حقيقة ذاتية. والزمان كذلك ليس حقيقة موضوعية خارجية
كما يتوهم الفلكيون والعلميون والفلاسفة العقلانيون، بل هو ديمومة داخلية ذاتية،
لا ينفذ إلى جوهرها العقل. والحدس يشير إلى قوة أخرى أكفأ منه وأكثر فاعلية،
وتختلف أسماء هذه القوة باختلاف مذاهب الفلسفة اللاعقلانية. وهي عادة هروب من هذا
العالم المتموضع المتشيء، الذي بلغ غاية التشيؤ مع العلم النيوتوني الميكانيكي،
إلى عالم آخر أرحب وأخصب وأليق بالإنسانية المأمولة للإنسان، فيجد فيه كل ما ينشده
ويتمناه كالحرية والخلود، فيرضي عواطفه ومشاهره، ويهدهد أحاسيسه. وبديهي أن
الدين يتربع على قمة اللاعقلانية.]
هذا هو كلامها، وهذه هي أحكامها!!
****************
مزالق أحكام يمنى
الخولي:
أولا: الحكم على الوحي الصادق (الإسلام)
حكماً مجملاً باستقراء مجمل الفكر الروحاني الإنساني:
وذلك أنها تتكلم عن الدين عامةً، ورغم أنه
يشمل كل دين بما فيه الإسلام، إلا أنها – ومن تنقل عنهم، وخاصة صاحب كتاب
"الزمان والأزل": (والتر ستيس)- عمت هذا اللفظ بمحمولات اشتهر أنها
الأصل في كل دين، وبالأحرى استهدفت "القاسم المشترك" بين كل ما يتخذه
الإنسان ديناً، سواء صدَّق الوحي الصادق ذلك الدين أو كذبه، وذلك هو الجانب
الروحاني الصوفي mysticism
الذي يسعى العابد/الهائم فيه إلى تجاوز الموجودات استشرافا للوصول إلى من أو ما أوجدها
أو ما وراءها، ومن ثم تجاوُز عالم المحسوسات والتجريبيات والمنطقيات وما انبنى
عليه من علميّات ... ووصولاً إلى العالم الما ورائي ...، علَّه يجد فيه ما غمُض
عليه من استشراف إجابات ... وما هو بحاصل على شيء في غياب من الوحي الصادق.
ومن أمثلة هذا الاستقراء الأبتر– فيما بين
أحد الهنادكة وأحد المسيحيين من تشابه اعتقادي - على لسان (والتر ستيس)، الذي تنقل
عنه يمنى الخولي،
يقول:
[لو نظرنا إلى هذا الاتفاق المستقل تماماً بين المسيحي والهندوكي، لوجدنا فيه أكبر
شاهد أو أسطع دليل على أن ديانات العالم الكبرى – مهما يكن من اختلاف مذاهبهما حول
بعض التفاصيل – إنما تنبع من مصدر واحد بعينه، ألا وهو الوعي الديني الشامل
للبشرية، أو الحافز الكلي الصادر عن عيان صوفي واحد بعينه].
ورغم أن صاحب هذه
العبارة يقر باختلاف الأديان، إلا أنه
يبرر وحدة الرؤية الصوفية ويُشبِّها بوحدة الشعور الجمالي لدى الثقافات المختلفة،
ويضع فيها فحوى الدين الذي يعمم أحكامه، ومن ورائه يمنى الخولي، يقول:
[قد يكون من المبالغة أن نقول إن هذه
الخبرة واحدة بعينها بالنسبة إلى حميع البشر، أو أن نزعم أن التجربة الباطنية لدى
الصوفي البوذي هي بعينها التجربة الباطنية الموجودة لدى الصوفي المسيحي. وآية ذلك
أن الخبرة الحسية نفسها، وهي الخبرة التي يرتكز عليها العلم الطبيعي، بعيدة كل
البعد عن أن تكون واحدة بالنسبة إلى البشر جميعا. ومع ذلك، فقد لا يكون من
المبالغة في شيء أن نقول أن الخبرة الصوفية في كل مكان ذات طابع واحدي، مثلها مثل
الخبرة الجمالية التي هي في كل مكان ذات طابع واحدي أيضاً. .. الموسيقى أيضاً لغة
كلية شاملة. .. (الفن هو الفن، والإحساس بالجمال هو الإحساس بالجمال، وهكذا الحال
أيضاً بالنسبة إلى الديانات)]
..
ويتعمق في تبرير واحدية تصوره عن الدين، في قوله:
[ماهية الدين إنما تنحصر في الخبرة
الدينية، لا في أي معتقد كائناً من كان، وأن كل ما اصطلحنا على تسميته بإسم
العقائد أو المذاهب الدينية لا يخرج عن كونه نظريات تدور حول الخبرة الدينية].
ويشرح هذه العبارة في صورة أشد صراحة ويقول:
[الدين واحد بالنسبة إلى البشر قاطبة، وهو
ما لا بد من التمييز بينه وبين النظريات الدائرة حول الدين، والتي تتكون منها
المعتقدات والفلسفات المتنوعة. إننا هنا بإزاء الأمر الأوحد (يقصد ذلك الدين
الواحد) الذي له أهميته بصدد "النجاة". وأما النظريات فإنها لا تُخلِّص
أحدا، ولا تُهْلِك أحدا. ومعنى هذا أن المهم بالنسبة إلى النزوع الديني إنما هو
الهدف الأقصى، أو التسامي الصوفي الذي لا يوصف، أو حالة النعيم القصوى: وهو ما
سمته البوذية بإسم النرفانا، بينما أطلقت عليه المسيحية إسم السماء أو الله].
ونتساءل: هل يستقيم هذا التوصيف مع دين
الإسلام المتمثل في كتابه الأعلى "القرآن"، وهل يستقيم مع المسلم في
معتقده في الخالق جل وعلا وما أُخبر به عن ذاته العلية وأسمائه الحُسنى، والخلق
وآيات الله تعالى فيه ؟! .. وهل يستقيم أن يُستقرأ الدين – كل الدين - من حدوس
الناس به، وأوهامهم حوله، أم ممن أنزله بحق، سبحانه؟! .. وهل يستقيم أن تقبل يُمنى
الخولي أن يقال عن الإسلام – المتمثل في النص الإلهي المنزل من السماء - أنه محض
نظرية من بين النظريات الدينية، لا تُنجي ولا تُهلك – وباصطلاح القرآن: لا تنفع
ولا تضر؟! – اللَّهم نبرأ إليك من هذا.
لا .. لا يستقيم.
فلو أن (يُمنى الخولي) خصصت كلامها فيما
تعنيه من فحوى الدين أو التدين الذي أرادت الحديث عنه، أي ذلك القاسم المشترك بين
كل الأديان الذي أراده من تنقل عنه، ألا وهو التصوف الروحاني، أو الفكر الباطني mysticism،
وقالت: [يتربع الفكر الصوفي أو الباطني على قمة اللاعقلانية (بمعنى أنه يستغني
عن أدوات العقل القاصرة في الوصول إلى مبتغاه)] باعتباره المقصود العمد من كلامها،
لكانت أقرب إلى الحق، ولكُنَّا أول من يناصرها ويؤازرها. ولكنها لم تفعل، وعمت
بكلامها الإسلام، وحكمت حكماً جائراً يلتقطه المغرضون، ويضل به الحائرون، ويتأذى
منه المؤمنون.
ومما يؤكد ما ذهبنا إليه في هذا التحليل:
1- تسمية صاحب كتاب الزمان والأزل – الذي
أحالت يمنى الخولي إليه - هذا الجانب الصوفي من الأديان بـ:
(الطبيعة الأساسية للدين) فتمثلت يمنى الخولي مضمون هذه التسمية في كلامها وربما
معتقدها، لأنها لم تنقل ما نقلت على أنه كلام الغير، بل على أنه ما تؤازره من رأي.
2- قولها:
[الرومانتيكية .. أقوى تمثيل وأوضح بلورة للاعقلانية، التي تتوغل جذورها على الخصوص
في نزعات التصوف الفلسفي والديني، المعتمدة على المواجيد، والمُزْدَرية لأحكام
العقل وشهادة الحس]. علماً بأن تعريف الرومانيكية/الرومانسية (في المعجم الوسيط
مثلا) هو: [نزعَةٌ
في جميع فروع الفن تُعرَف بالعودة إلى الطبيعة وإيثار الحسّ والعاطفة على العقل
والمنطق والإعلاء من شأن الخيال.]
3- قولها:
[على الإجمال لدينا زمنان:
الزمن اللاعقلاني الوجودي الوجداني الباطن
الداخلي الذاتي الكيفي النفسي.
الزمن العقلاني الكوزمولوجي الفلكي الطبيعي
الظاهر الخارجي الموضوعي الكمي العلمي].
4- قولها:
[ألقى الفيلسوف أفلوطين بالزمان في قلب التجربة الصوفية الحدسية، معرضاً عن
التصور العقلاني له، ورافضاً إياه رفضا باتاً، وطارحاً أول صياغة فلسفية متكاملة
ومهيبة للزمان اللاعقلاني]، وأيضاً قولها:
[(تتسم فلسفة أفلوطين) بالصوفية الحدسية الساطعة واللاعقلانية المتفجرة].
وهذا المسلك التصنيفي
الحاشر كل دين – بما فيه الإسلام - تحت مظلة الروحانيات الصوفية، ثم إصدار حكماً
وحدوياً على الأديان جميعاً من هذا المنظور، يُعد اختزالاً جائراً كل الجور، يسم الإسلام
بعيوب أتى الإسلام نفسه لمناهضتها، وكشف زيفها وجنوحها عن الحق. ومثل هذا المسلك
مثل اختزال "الإنسان" في "الحيوانية"، أو اختزال "الحياة" في "الشهوانية"، أو حتى اختزال "الطبيعيات" في "التجريبية"، في وقت نعلم فيه أن التجريبية لا تستغني عن التأويلات والتنظيرات، أو
اختزالها في "التكميم الرياضي"، رغم أنها لا تستغني عن التصور والتمثيل، وإلا أصبحت
رياضيات صماء بحتة، أو اختزال الرياضيات في العدد وإهمال العلاقات، ولأصبحت فقط
نظرية في الأعداد، أو أو .. ولا يخفى على أصحاب العقول البصيرة تبعات هذه
الاختزالات الجانحة من أحكام تشويهية تضليلية.
****************
*******************
ثالثاً: تأليه العقل:
وذلك في قولها: [العقلانية هي – ببساطة –
الإيمان بالعقل باعتباره القوة المدركة التي يمتلكها الإنسان والقادرة على الإحاطة
بكل شيء، وإليه يرتد كل شيء.].
نقول: هذا الاعتبار المغالي للعقل (بوصفه: القادر
على الإحاطة بكل شيء، وإليه يرتد كل شيء) يؤلهه بما لا نهاية له من القدرة على
الفهم، بلا ضبط ولا شرط. وهذا عين الجنوح البعيد كل البعد عن الاعتدال. ثم أن عقل
هذا شأنه لا أمان له، لما هو معلوم من تعارض عقول الفلاسفة أنفسهم، ويحتاج إلى عقل
أعلى يكبح جماح عقولهم المتضاربة ويحكم بينهم. فاسم العقل مشتق من إمساك صاحبه عن
الشرود بعيداً، فيعصمه الضلال، مثلما أن عقال البعير يقيد حركته لألّا يهيم على
وجه. فهل هناك عقل ثانٍ وراء هذا العقل الأول؟! .. فإن كان، .. فلا بد أن الثاني
أعلى وأحكم من الأول، .. فإن كان الثاني ليس بالأحكم المطلق، فلابد أن وراءه عقل ثالث
أحكم .. وهكذا إلى ما لا نهاية .. أليس هذا هو اللانهاية التي وسمتها يمنى الخولي باللاعقل،
وقد وقع فيها الفلاسفة قديماً ووصلوا إلى طبقات عقلية (من عشرة عقول) بعضها أعلى
من بعض، وجعلوا الأعلى هو مصدر الموجودات (وربما عنوا بها الله، سبحانه وتعالى عن
تخبطات الناس في شأنه) .. أوليس هذا بالحدس. .. وأي حدس هذا؟! .. حدس الدين أم حدس
الفلاسفة؟! .. حدس عقلانية الفلسفة أم لاعقلانيتها ؟! ... فمن أحق بإدراجه في
اللاعقلانية (المجافية للعقل) والجديرة حقاً بتسميتها لاعقلانية إذاَ ؟!!!
************
رابعاً: مصادرة على المطلوب:
في قولها: [بالعقلانية يرتد الزمان، كما
ترتد كل إشكالية أخرى – إلى الوعي التصوري، .. يمكن للذوات جميعاً أن تدركه بنفس
الصورة]
نقول: تؤكد لنا علوم فسيولوجيا الحواس
والعلوم العصبية أن الإحساس بالزمن time perception يختلف عند الإنسان بحسب عمره،
فهو أسرع عند الأطفال، ويتباطأ مع العمر، حتى يكون أبطأ عند كبار السن بفرق واضح.
كما أن الإحساس بمروره يتفاوت بحسب الحالة النفسية التي يعانيها الإنسان. وكذلك
يختلف بشدة بين أنواع الكائنات الحية، فيتباطأ بوضوح عند الكائنات كبيرة الحجم،
بينما يتسارع جداً عند صغار الحجم منها كالطيور الصغيرة.
إذا كان ذلك كذلك، فأي مرجعية استندت إليها
يمنى الخولي حتى تقول أن الذوات جميعاً – حتى لو اقتصرت على الإنسان - تدرك الزمن
بنفس الصورة؟!
إن تصريحها هذا ليس إلا حدساً منها بلا أصل
علمي، ويعاند العلوم التجريبية والمعملية، والأغلب أنها أرادت به أن تدعم به قناعة
سابقة بقدسية زمنية يسقطها العقل (المتفلسف المتأله الذي "يرتد إليه كل شيء –
بحسب كلامها"). إنها إن تفعل ذلك تكن مصادرة على المطلوب، الذي هو: (هل تدرك
الذوات مرور الزمن بنفس الصورة؟) وهذا المطلوب أجابت عنه العلوم المتخصصة بخلاف
مراد الفلسفة العقلانيون الذي تنتمي إليهم يُنى الخولي.
***************
خامساً:
اختلاق مصدر معرفي إسلامي لا أصل له (الحدس):
في
قولها: [الحدس لدى هذا المنظور (اللا-عقلاني/الديني) هو الطريق الوحيد لإدراك
الحقيقة الكامنة من وراء (أو بعد أو خلف أو داخل) عالم الظواهر الخارجية؛ الحقيقة
المغلقة في وجه العقل التصوري، والآرحب من آفاقه].
نقول: تقول يُمنى الخولي هذا الكلام في وقت ليس في
جعبة الفلاسفة إلا الحدس والتخمين في مزاعمهم عن الوجود والموجودات أو حتى عن
فهمهم للدين. ناهيك عن العلم الحديث الذي اخترقه الحدس/الظن فكان مصدراً رئيسيا مع
التجريب في تركيب تصورات عن الكون وأصل ومصائر موجوداته.
وكمثال من مرجع يمنى الخولي (الزمان
والأزل، لوالتر ستيس)، يعرفنا (ما هو الدين) على لسان (وايتهد) فيقول:
[إن الدين عيان لشيء يقوم فيما وراء المجرى
العابر للأشياء المباشرة، أو خلف هذا المجرى، أو في باطنه؛ شيء حقيقي ولكنه مع ذلك
لا يزال ينتظر التحقق؛ شيء هو بمثابة إمكانية بعيدة، ولكنه في الوقت نفسه أعظم
الحقائق الراهنة؛ شيءٌ يخلع معنى على كل ما من شأنه أن ينقضي ويزول، ولكنه مع ذلك
يند عن كل فهم؛ شيءٌ يُعد امتلاكه بمثابة الخير الأقصى، ولكنه في الآن نفسه عصيٌ
بعيدُ المنال؛ شيء هو المثل الأعلى النهائي، ولكنه في الوقت نفسه مطلب لا رجاء فيه."]
.. ومن تعقيبات (والتر ستيس) نفسه على هذه العبارة قوله:
[الدين إنما هو تعطش النفس إلى المستحيل؛ إلى ما هو بعيد المنال؛ إلى ما يفوق
التصور. ] .. [الدين هو النهم الذي هيهات لأي وجود، ماضياً كان أم حاضرا أو
مستقبلاً، بل هيهات لأي وجود فعلي أو لأي وجود ممكن، في هذا العالم أو في أي عالم
آخر، على الأرض أو فوق السحب والنجوم، مادياً كان أم نفسياً أم روحيا؛ نقول هيهات
له أن يُشبعه].
نقول: أي الفريقين أحدس من الآخر: الإسلام
المكنون في قرآنه، وآياته البينات كأقصى ما يكون البيان في العقيدة، أم ما عداه،
كالفلسفة التي غمرها الحدس، أو العلم الحديث الذي لم يخلو من حدس هنا أو هناك؟!
أمَا كان ينبغي أن يُستفهم عن (ما هو
الدين) من مصدره؟! .. أوليس عمود الدين وقطب الرحى منه هو الوحي المكنون في حرف
القرآن؟! .. فكيف يُعرِضُ الفلاسفة عن تعريفه للدين ويسعون هم والمتفلسفة من أهل
العلوم الطبيعية أو ما شاكلهم ليقدمون لنا حدوسهم للدين كتعريف له؟! .. ثم ماذا؟
.. يسمون الدين بأنه حدسي المعنى والمآل، ويسمون ذلك باللاعقلانية . والحدس حدسهم،
والوصف هم أولى به من غيرهم، لأنهم هم من يمارسه بكل قوة! .. بل يعترف والتر ستيس –
الذي تنقل عنه يمنى الخولي – بأن وسم الدين في قالبه اللاهوتي (التشريعي) بالحدس
يخدشه، ويقول:
[قد يبدو القول بأننا لا نستطيع أن نعرف
الله عن طريق العقل التصوري، بل عن طريق الحدس الصوفي وحده. بمثابة حكم على علم
اللاهوت بأنه مجرد "لغو من القول" ...].
هنا يبرز والتر ستيس أوعى من يُمنى الخولي،
حيث يميز بين اللاهوت كعلم شرعي بأحكامه وتشريعاته، فيبرئه من الحدس، وبين التصوف –
ويخصه بلفظ الدين - فيقصر عليه الفعل الحدسي، يستكمل ويقول:
[الدين ليس هو اللاهوت (يقصد التفصيل
المعتقدي والتشريعي)، وحينما يقال أن معرفة الله ليست ممكنة أللهم إلا عن طريق
الحدس، فإن معرفة الله التي يدور حولها الحديث هنا، إنما هي ذلك الإحساس الباطن
بالله الموجود "في أعماق القلب"، أعني الخبرة الصوفية التي هي في الواقع
صميم الدين.] ..
فالحديث إذاً هو عن التصوف كما ذهبنا في
تحليلاتنا أعلى، والذي يتمثل في معرفة المتصوف بالله عن طريق نوازع النفس وما تشطح
بصاحبها على وجهه. وإن كان الأمر كذلك، فليس له على الإسلام من حجة في دعوى
اللاعقلانية. لأن الله قد عرفنا في وحيه الصادق بأسمائه العلى، بلا حدس ولا شطح.
فإن كان والتر ستيس لا يعلم هذا فهذا شأنه، أما يُمنى الخولي، فلا بد أنها تعلم،
وكان عليها أن تميز بين الدين والتصوف، وبين عقلانية الدين، ولا عقلانية التصوف
إذا شاءت، ولا براءة لها مما برأ والتر ستيس نفسه منه.
ولا نبرئ بعض أهل الديانات، ومنهم فئة من الإسلاميين،
في عدم تأثرهم بحدوسهم التي تؤججها المناخات البيئية أو المذهبية أو الثقافية. غير
أن الدين الخالص (بعقائده في الإله جل وعلا وتشريعاته وبيانه) والمتمثل في كلام
الله تعالى، إذا فُهِم حقَّ فهمه، فلا قِطمير فيه من حدس. ولا سبيل إلى اتهامه
بذلك – وليأتنا الخادش لديننا بدليل أو برهان إن صدق زعمه، إلا ممن قام اتهامه على
حدسه هو، فهو منه لا عقلانية، ومثله لا يؤبه بكلامه.
**************
عودة إلى فهرس كتاب:
براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
Alif: Journal of Comparative Poetics,
No. 9, (1989), pp. 8-70.
Published by: Department of English and Comparative Literature, American
University in Cairo and American University in Cairo Press
Stable URL: http://www.jstor.org/stable/521594
هو والتر ستيس في كتابه "الزمان والأزل: مقال في فلسفة الدين".