قيل في شأن الدكتور "زكي
نجيب محمود" - رحمه الله تعالى- مع التفسير والإعجاز العلمي في القرآن[3]،[2]،[1]: "يبين د. زكي نجيب محمود خطورة هذه الدعوى الذاهبة إلى محاولة استخراج الحقائق
العلمية من القرآن، ويرى فيها انحرافا شديدًا عن النظرة العلمية، وهذه الدعوى إذا سمعها
الجمهور وطلاب العلم وكبار العلماء كان لها أكبر الأثر في فساد العلم، وانحراف الفكر
السليم عن المنهج العقلي."
نقول: حكم زكي نجيب
محمود على دعوى استخراج الحقائق العلمية من القرآن بالفساد! وأوعز هذا الفساد إلى
انحراف هذه الدعوى الشديد عن النظرة العلمية، وعن المنهج العلمي! ... ما معنى هذا
الكلام؟
معناه أن
مرجعية الحكم لدى زكي نجيب محمود هي الشائع من نظرة علمية ومنهج علمي غربي! لأنهما
يمثلان - دون منازع أو بديل - جناحي العلم الحديث. ولكن العلم الحديث قام وصِيغ
وبُنِي على استبعاد الدين، أي دين، واعتباره دوجما من دوجمائيات المجتمعات. وأفضل
أحوال الديانات في هذه النظرة العلمية التي يجلُّها د. زكي نجيب محمود ويجعلها
المرجع في المسألة، أنها تُعزَل عن العلم، وتُحبس في القلوب، ودور العبادة،
والدراسات الدينية وما يرتبط بها، وذلك لعدم جدواها في العلم الحديث، واتقاء أذاها
الداعي إلى التفرق والتصارع لكثرة الديانات وعدم التقائها إلا على كلمة غامضة
تُدعى "روحانيات"!.
قد يصح هذا
الكلام على ديانات لا مرجعية إلهية لها كالبوذية وأمثالها، وقد يصح على ديانات
إلهية فقدت مصادرها الموثوقة كاليهودية وما صدر عنها وألحق بها، وذلك إما بالعبث الإنساني
أو بالترجمات المتتابعة والمجهولة الصدق. ولكن، كيف يصح هذا الكلام على الإسلام
الذي حُفظ مصدره الأصلي – القرآن - أشد مما حفظت معايير الأطوال والأوزان والأزمان
في أشد معامل البحث العلمي رصانة وأمانة؟!
إن تعميم
التشكيك في القيمة العلمية – أي المفيدة للعلم الصادق – للقرآن، والمستبطن في
اعتراض زكي نجيب محمود أعلى، ظلم شديد لمصداقية القرآن، وصريح إفاداته عن مخلوقات
الله تعالى وسننه المبثوثة في الخلق، وحكمٌ جائر يجمع بينه وبين ما أدانه القرآن
نفسه من آثار الديانات المنحرفة والضالة، وكل ما يَتَّبعُه الناس عن عماية.
فإن قيل: أن
النظرة العلمية الحديثة، والمنهج العلمي المشهود له، يختلف من حيث النوع مع نظرة
القرآن ومنهجه، وليس من حيث المصداقية؛ من حيث أن القرآن دين يعالج القلبيات
والاعتقادات والسلوكيات الإنسانية الدينية، أما النظرة والمنهج العلميين فيعالجان
الموجودات من طبيعيات ومخلوقات وسننها، وشتان ما بين الصنفين من افتراق، ومن ثم من
منهجين يعالجانهما.
قلنا: أن
الحكم على القرآن بخلوه من إعلام الإنسان بشيء عن الطبيعيات والمخلوقات وسننها،
حكم لا سند له، إلا أوهام وظنون من لم يـُحط بالقرآن علما، ومن يصادر على ما ينبغي
أن يحتويه القرآن وما لا ينبغي. وتَقُول النظرة العلمي والمنهج العلمي الغربي الذي
يتبناه زكي نجيب محمود، ومن سار على دربه في ذلك، أن الأحكام تقريرات لا قيمة لها
ما لم تستند إلى الواقع الذي تتحدث عنه. وهنا الواقع محل النزاع هو القرآن، فهل
حصرت هذه النظرة وهذا المنهج آيات القرآن وأثبتت خلوها من الحديث عن الطبيعيات
والمخلوقات وسننها؟! – إما أن يجيب أصحاب هذا المنهج بنعم، فيلزمهم البرهان، وإلا
فعليهم ألا يعترضوا على التفسير والإعجاز العلمي، بما لم يقطعوا معه بنفيه، ولم
يحصوه بتمامه، وإلا كان كلامهم خوضٌ فيما لا علم لهم به، أو بعبارة الوضعية
المنطقية التي تبناها زكي نجيب محمود طوال
حياته الفكرية:("لغو" nonsense).
واستكملت
صاحبة المقالة، فقالت: "ويتلخص نقده (أي: زكي نجيب محمود) في نقطتين:
الأولى:
أن القرآن الكريم هو كتاب مُنَزَّلٌ لتوضيح عقيدة وشريعة، وقد يكون منه بعض
الإشارات إلى حقائق علمية، إلا أن ورودها لم يكن بقصد أن تكون نظرية علمية، وإنما
وردت لتخدم القصد المتفق مع سياق ورودها.
هنا يأتينا
زكي نجيب محمود – على لسان المتكلم باسمه أو عنه- بمثال مما طلبنا، أو بمخرج من
مأزق يتجنب الوقوع فيه ، فيقول أن الطبيعيات، أو ما سماه بعض الإشارات إلى
حقائق علمية، إن جاءت في النص القرآني، فإنما لتخدم القصد المتفق مع سياق
ورودها. ولكن، ما مدى صدق هذا الحكم منه؟! هل استقرأ آيات القرآن فوجدها كذلك؟! أم
أن حكمه ليس إلا قناعة مسبقة يُسقطها من يتبنى هذا المنظور على القرآن؟! – فإذا
سألناه مثلاً عن المراد من مستقر الشمس في قول الله تعالى "وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ"(يس:38)، ما
هو؟ - فمن المتوقع أن يقول: لتخدم حكمة تقدير الخالق لمخلوقاته باعتبار الشمس أكبر
وأهم ما يراه الإنسان ويتطفل عليها الأحياء في وجودهم. فإن ألححنا في السؤال عن ما
هو ذلك المستقر! فلربما قال أنه مجاز عن ثبات سنة الجريان، ورتابة الأحداث
الكونية. فإن أرضته هذه الإجابة، فلن ترضي علماء الفلك والكونيات المعاصرين الذين
محَّصوا الأجرام وجريانها، ويعلمون أسرار حركتها، وعلل روابطها، ومآل مواقعها. فإن
استثقل زكي نجيب محمود هذه المسائل وتفاصيلها، واشتباك معانيها، واستنباط أحكامها،
فليُرفق بنفسه عن الخوض في صعاب الأمور، لأن أصحاب هذه المسائل وأهلها لا يتأذون
مما تأذى، ولا يستعصي عليهم ما عليه استعصى. ولو كان القرآن هو المشترك المفهوم
لكل المسلمين، مثلما يريد زكي نجيب محمود من مثل هذ الآيات، لكانت علوم القرآن
والنحو والفقه وأصوله وقواعده والجرح والتعديل، والمعاجم، والفروق، والفِرق، ..
إلخ من التكلف المفسد للفطرة السليمة التي يكتفي فيها قارئ القرآن بسطحيات الفهم
ليعلم دين ربه! ولسقط بناء السنين، واجتهادات العلماء المرموقين، وأئمة الفهم في
الدين!!!
وإذا كان "مستقر
الشمس" مثالاً واحدا فقط، أثبتنا به خطأ الحكم الذي أصدره زكي نجيب محمود على
القرآن، فكيف به إذا علم أن هناك المئات من مثل هذا المثال، ما زالت محل نظر، وتتطلب
الاجتهاد والفهم والتمحيص؟! – ونتساءل: كيف يحق لإنسان يؤمن بالقرآن ويعلم أنه
منزل من الله سبحانه، وقد أرسله رسالة إلى الناس، أن يُعطِّل فهم شيء من آياته
لأنه استكفى بشخصه، واستثقل بطبعه حمل المزيد. ثم إن الرسالة رسالة الله، وهو
سبحانه صاحب القصد منها، ولسنا إلاّ بعض المتلقين لها، وما زلنا نستفهم مقاصدها،
ونستعلم أوامرها، ونستهضم فوائدها. كما وأن الرسالة ما زالت في طريقها إلى أناس لم
يخلقهم الله بعد، يأتون بعدنا، أو من غير جلدتنا، فما أدرانا ما حمل القرآن لهم من
رسائل وفوائد؟!
إن مشكلة هذه
الأحكام المبتسرة عن القرآن، مشكلة من صميم المنهج العلمي الغربي، وقد اعترف بها
المنهجيون منهم، وأقروا بتأزم العلم الغربي بسببها، ونقصد بذلك "الاستقراء
الناقص"! وخلاصته أن يستقرئ العالم بعض النماذج من ظاهرة ما، لعدم قدرته على
حصر جميع عيناتها والإحاطة بكل خصائصها، ثم يصدر حكماً يشمل هذا البعض، لعدم علمه
بالكل، ثم يعمم الحكم على الكل! فيظل الإشكال قائم! ونقصد مصداقية الحكم الاستقرائي
الناقص على نماذج الظاهرة غير المعلومة للباحث؟! – وهذا عين ما فعله زكي نجيب
محمود عندما عمم حكماً على أديان لا حق في مجملها، ولا تمام في الحق إلا في أحدها.
ثم أسقط حكمه المجمل على القرآن، رغم تميزه بمطابقته للحق، وإلا لما كان المؤمنون ليؤمنوا به على أنه كلام الله سبحانه. ومما زاد الحكم تهافتاً أن العلم بمقاصد القرآن نفسه كان استقراءاً
ناقصاً، لأنه لم يحط بجوامع المقاصد، فكان الحكمُ نقصاً في نقصٍ.
وتستكمل صاحبة
المقالة، فتقول: النقطة الثانية (من نقد زكي نجيب محمود): أن العلم بحكم
طبيعته يصحح نفسه بنفسه، والحقائق فيه متغيرة، والوقائع تنكشف باستمرار، ونظل
نلاحقها بتغيير القوانين العلمية، فإذا ارتبط العلم بالعقيدة فمن ذا الذي يرضى
لعقيدته الدينية أن توضع في هذا المنظور المتغير مع تعاقب العصور؟! فالعلم متغير،
وكل عصر جديد يصحح أخطاء العلم في العصر السابق، إما باكتشاف جديد، أو دقة الأجهزة
التي تضبط الاكتشافات، فالعلم متغير والعقيدة الدينية ثابتة، والدين ثابت منذ
ظهوره، ومع مرور الوقت يظل أيضا ثابتا، والعلم متغير ومتطور عبر الزمان."
نلاحظ هنا
ارتباكا في الاصطلاحات، وتشويشا في المعاني، فنعمد أولا إلى تفكيكها ثم تجليتها،
ثم إعادة ترتيبها.
العلم
(الحديث): ليس إلا تأويل العلماء للظواهر الواقعية، ومن ثم فتصحيحه يعني تصحيح
العلماء لتأويلاتهم بإعادة تنقيحها وتركيبها، لتصبح أشد رجحاناً وأقرب إلى وصف
الظواهر في حقيقتها الواقعية.
القرآن
(بين دفتي المصحف): هو النص الإلهي الخالص، وأي تفسير أو تأويل له – فيما وراء
المحكمات من آياته، والتي لا تتطلب تأويلاً لصراحة معانيها - فهو قول بشري قابل
للمراجعة بما هو أشد رجحاناً، وأقرب إلى شرح نصوص الآيات في عيون معانيها
الحقيقية.
الحقائق
الكونية:
هي التي يكتشفها العلم الحديث بالنظر التحليلي للموجودات رصداً وتجريباً، وهي ما
لا سبيل إلى تغيرها إذا تعينت وتأبَّت على النقد، مثل كروية الأرض ودورانها حول
محورها، ودورانها والشمس والكواكب التابعة حول مركز كتلة المجموعة، وأن سرعة الضوء
كذا، وأن .. وأن، ... إلخ
الحقائق
القرآنية:
هي الدلالات الحقيقية التي تشير إليها آيات القرآن. وآياته نوعان: المحكم
والمتشابه. أما المحكم فمعانيه لها حكم (النص)، وهو ما وضع له العلماء القاعدة
الأصولية التي تقول: "لا اجتهاد مع النص"، ويقصدون بالنص هنا ما كان جلي
المعنى، بما لا سبيل معه لغير هذا المعنى الواحد والواضح منه، ومن ثم، فلا تبديل
ولا اعتراض. وفقط في هذا النوع المحكم من الآيات تقع العقيدة الدينية، ولا يقع شيء
منها في المتشابه من الآيات، لأنها عقيدة ولا تتبدل.
أما الدلالات
الحقيقية للنوع الثاني الذي هو المتشابهات، فهذه هي التي يختلف فيها النظر بين عصر
وآخر، وثقافة وأخرى، وبقدر ما تستبين معانيها، وتتعضد بالكشوف والاستنباطات
الجديدة، بقدر ما يقل تشابهها، وتقترب من رتبة الـمُحكمات مع مرور الزمن، إذا تهذب
لها معنى واحد فريد، وبما تقوم عليه الأدلة الدامغة، وتتآلف البراهين على واحدية
المعنى لها، وكونه مراد من الآيات.
وبناءاً على
هذا التحليل، تكون عبارة زكي نجيب محمود التي قال فيها "العلم يصحح نفسه
بنفسه" صحيحة،
والعبارة:
"الحقائق فيه متغيرة" غير صحيحة، إلا إذا كان يقصد الحقائق
المظنونة!، ولكن، كيف تكون حقائق مظنونة؟! ... لا سبيل إلى ذلك، إلا أن يقصد
أطروحات، ... ومعلوم أن الأطروحات رتبة أدنى من الحقائق، لأنها قد تتبدل وتسقط أو
ترتقي إلى الحقائق بمزيد من أدلة!
أما العبارة:
"الوقائع تنكشف باستمرار" فصحيحة،
والعبارة:
"نظل نلاحقها بتغيير القوانين العلمية" غير صحيحة على العموم،
لأن هذا يعني محض استبدال قانون بقانون مختلف، وصوابه أن يقال: أن صياغة القانون
الأحدث أقرب إلى الحقيقة من الأسبق، مثل النسبية العامة مقابل جاذبية نيوتن، مثلاً
لا تحقيقاً، أو يحدث أن تكون صياغة القانون الأحدث مكافئة للقانون الأسبق، ولكل
منهما مجال تطبيق يتيسر فيه الحصول على النتائج من أحد الوجوه دون الأخرى، مثل
ميكانيكا الكم في صياغة شرودنجر أو صياغة هايزنبرج. أو يقال أن القانونين متنافيين
في ظاهرهما، ويستوجب الأمر تجربة فاصلة للحكم بينهما، أو ربما أكثر من تجربة، مثل
القول بأن جسيمات المادة أمواج خالصة، أو جسيمات خالصة، .... وفي هذا الأمر تفصيلات
واختلافات تنظيرية، ربما لا تفترق كثيراً عن اختلافات المذاهب الفقهية في تعليل
الأحكام، والاستنباط والقياس. فإن كان محض وجود التنظيرات المتفاوتة تُسقط
النظريات الطبيعية من حسبان الحقيقة (إذا افترضنا جدلاً صحة التسمية، ونريد منها
الأطروحات الراجحة)، فالقائل بذلك يسقط من حيث لا يدري تنظيرات الفقهاء، ومن ثم،
الحقيقة الفقهية أيضاً. ... وهو أمر لا يستسيغه الفقهاء، مثلما أن إسقاط الحقائق الطبييعة
الراجحة أمر لا يستسيغه علماء الطبيعيات. ... ويصبح الأمر في النهاية متكافئ في
وجوب الأخذ بالراجح من الأقول المدعومة؛ فقهية كانت أو طبيعية.
أما العبارة:
"الدين ثابت والعلم متغير ومتطور" فغير صحيحة على عمومها، لأن
المقارنة بين الدين والعلم لا تستوي، فالدين، وهو هنا الإسلام، قرآن محكم ومتشابه،
وتأويل بشري للمتشابه منه. كما وأن العلم الحديث حقائق ونظريات.
فالمحكم من
القرآن تفسيراً، هو فقط ما يمكن مواجهته بالحقائق الكونية، أي التي ثبتت معانيها،
أما التأويل
البشري للمتشابه من القرآن فهو فقط ما يمكن مواجهته بالنظريات العلمية.
ويمكن مواجهة
المحكم من القرآن تفسيراً بالنظريات العلمية لتقييم قيمة تلك النظريات تصحيحاً أو
رداً.
ويمكن مواجهة
المتشابه من القرآن تأويلاً، مع الحقائق الكونية، فتتقيم تأويلات المتشابه
بالحقائق الكونية، فترتقي قوة أو تترجح بتأويل آخر أقوى.
ويمكن مواجهة المتشابه
من القرآن تأويلاً بالنظريات العلمية، فيستقوي هذا بهذا، ويضيق نطاق التشابه في
كلا الطرفين، وربما يؤدي ذلك إلى الإحكام؛ أي انتقال المتشابه إلى المحكم.
وهذه هي قواعد
المواجهة/الاشتباك بين الإسلام والعلم الحديث.
يضيف المقال
ويقول: "أن دعوة
استخراج الحقائق العلمية من القرآن ستؤدي إلى أمر من أمرين: إما أن يثبت العلم
الطبيعي، وهذا محال، وإما أن يتغير الدين بتطور العلم، وهذا محال أيضا؛ ولذا أوجب
علينا احترام الحقائق العلمية التي لا سبيل إلى نكرانها، حتى إذا وجدناها كأنها
تتعارض مع نصوص العقيدة في ظاهرها وجب النظر في تأويل تلك النصوص تأويلا يقبله
العقل، وتقبله اللغة العربية في الوقت نفسه."
نقول: القول
بحتمية ثبات العلم الطبيعي، أو تغير الدين الإسلامي دون احتمال ثالث، إذا ما قبلنا
استخراج الحقائق العلمية من القرآن، قول لم يرى من ألوان الطبيعة إلا الأسود
والأبيض. أي أنه تبسيط مخل لحيوية العلاقة بين القرآن وواقع الخلق الذي يدرسه
الإنسان بالنظر والتحليل. لذا، سنحلل لونيها الأسود والبيض، أقصد: ثبات العلم الطبيعي،
أو تغير الدين الإسلامي ليتبين أنهما يحتويان فيض من التفاصيل اللونية.
القول بـ
"ثبات العلم الطبيعي" وأنه محال! يجافي طبيعة التصور الواقعي لتطور
العلوم. فالحقيقة أنه لا العلم الطبيعي يمكن ثباته كثبات منظر طبيعي في لوحة
جدارية، ولا أنه متبدل على نحو يتغير فيه المنظر على نفس اللوحة الجدارية بين جيل
وآخر بما يجعلهما منظران مفارقان متباينان. ... والحاصل أن المنظر الجداري للواقع
الطبيعي يزداد في وضوح الرؤية في بعض ألوانه، وتتكشف فيه تفاصيل جديدة لم تكن
معلومة من قبل، وتتداخل أو تتميز بقع لونية منه بما يستوجب مزيد من التقصّي
والتحري، ومع كل هذا تظل اللوحة هي هي، وموضوعها هو هو. ... ففيها ثوابت، وفيها
متغيرات، ومتنقحات، ومتزايدات. فالأمر ليس نعم ولا، بل تفاعل يتكشف الحق فيه بمزيد
من الرؤية، وينخذل الباطل فيه بوضوح البؤرة، وتنضاف مناطق عمل جديدة بما يتطلب
إعادة كَرَّة البحث والتنقيح.
كما وأن القول
بـ "تغير الدين الإسلامي" وأنه محال، لون مبهم، وكلام مجمل، أراد صاحبه
الحق فيه، ونحن معه، ولكنه وقع في إقرار باطلٍ فيه، ولسنا معه. فالقول بأن استخراج
معلومات علمية كونية وطبيعية عن الخلق من القرآن تؤدي إلى تغير الدين الإسلامي،
قول ملتبس، ومشوش، ويجب إعادة ترتيبه! فالدين الإسلامي ذو أساس راسخ، يتعين من
محكم الآيات، وتقريرات النبي – صلى الله عليه وسلم - الصريحة من أقوال وأفعال. ولا
ريب أن هذا الأساس لا تغيير فيه، ولا يعمد إلى ذلك إلا الـمُبطلين الذين ينكشف
أمرهم إذا ولجوا هذا الأساس الراسخ، بنوايا سيئة، وتفسيرات مفضوحة، ... وهذا
الأساس من الدين لا يشمل آيات القرآن التي تتناول الخلق وسننه وبديع صنعته. وهذا المنحى
الأخير، أي الخلق وسننه، هو ما نجد له من آيات القرآن ما يفيض عن تصورنا المحدود،
وما يغنينا عن السياحة الباهتة في الخيال المجرد بحثاً عن أسرار الخلق فيها، وآيات
المبدع لها سبحانه، ودلائلها على حكيم خلقها فيها. والظن بأن تصحيح هذه الآيات
لمفاهيمنا، إذا تلاحقت بالكشوف العلمية الجديدة، يؤدي إلى "تغير الدين
الإسلامي" قول جافي، حاد، قاطع في وصف أمواج ناعمة رائقة موّارة مسكوبة. وشتان
ما بين الوصف واعتلاله، والموصوف وروعته وجماله!!!
ونتج عن هذا
الوصف الجافي ثنائي اللون، خلوصه إلى نتيجة واحدة متأزمة توهمت التعارض بين الأسود
والأبيض وقال: "حتى إذا وجدنا (الحقائق العلمية التي لا سبيل إلى نكرانها)
كأنها تتعارض مع نصوص العقيدة في ظاهرها، وجب النظر في تأويل تلك النصوص تأويلا
يقبله العقل، وتقبله اللغة العربية .." ... وهي صورة لا تختلف عما قاله
الفخر الرازي وغيره من المتكلمين قبل مئات الأعوام، وتأزمت معه إشكالية النقل
والعقل، وردّها أهل التراث والنقل في وجوه المتأولة. أما في زمننا هذا فإن المعاني
الطبيعية قد تفتقت، وأرض الفكر العلمي قد حُرثت، وجديد المعلومات قد بُذرت، وثمار
آيات الخلق والقرآن قد تكشَّفت وأينعت، فلم يعد الأمر مقصوراً على وجوب جر آيات القرآن لتلاطف
تعارضاً موهوماً، وتُساير مُتزعِّماً مغروراً، وبما يصبح معه العلم الغربي قائداً
والقرآن وتفسيره مقوداً. ... بل إن الصورة بجملتها – وكما عرضها زكي نجيب محمود –
غير مُعبِّرة عن واقع العلاقة الراهنة بين العلم والقرآن، بل هي مطموسة، مشوشة، بل
ومضللة لحدٍّ بعيد. فالأدلة الباعثة على تأويلات جديدة في آيات الخلق في القرآن لم
تعد أقوال فلان من الحكماء الموهومين، ولا دعاة العقل الخالص من المتفلسفين، ولا
ظنون الظانين، ... بل أصبحت منطوقات المخلوقات، وتعبيرات الظاهرات، وتغريدات السنن
المتناغمات. فأصبح خلق الخالق صداحاً بآيات القرآن، وأصبحت آيات الباري تصويرات
نراها كالأعيان، فتكاملت معزوفة الخلق والوحي في مشهد نابض، لا يُنكره إلا من حُرم
حواس العلم الرهيف، ومعاني السمع اللطيف.
وعن علاقة
القرآن والعلم، يقول المقال: " أن للمسلم كتابين: كتاب القرآن
الكريم، وكتاب الكون العظيم، فمن القرآن يستمد المسلم المبادئ والقواعد التي يقيم
حياته السلوكية على أساسها، ومن الكون يستمد المسلم وغيره قوانين العلم، وكلاهما
مقروء للناس بمقادير ودرجات، ولكل كتاب عالم مختص به. ويجب على العالم في كل مجال
أن يقصر بحثه على مجال علمه، فلا يتجاوزه فيما لا يفهمه"
نقول: في هذا
التصور، تنجلي ازدواجية الحياة الفكرية التي استلبت مفكري المسلمين وعلماءَهم،
فجعلت لهم – إن استبقوا إيمانهم- قلباً مع الإسلام، وقبلته بيت الله الحرام في مكة
المكرمة، وعقلاً مع الغرب، وقبلته هارفارد وأخواتها. إن هذا الفصام ليمزق أهل هاتين
القبلتين، كما قال تعالى "مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ
فِي جَوْفِهِ"(الأحزاب:4)، ومن ورائهم حشود من المتعلمة والشباب التائه!!
.... لماذا؟! لأن القرآن الكريم لا يقتصر على السلوك كما قال زكي نجيب محمود، بل
إنه ليكسب قارءه تصوراً حتمياً للوجود واقعاً ومآلا، له هيئاته وسننه، .... وهذا
التصور يعاند ما يمليه العلم الغربي المحكوم بين جنبيه بما يستغني عن، بل ويستخف بـه
، من إرادة عليا، وأن سنن الكون مسنونة مقدوره، فاعلة مع كونها مفعولة.
كما وأن العلم
الغربي، قد استحوذ على السلوك من بين ما استحوذ عليه في حمى جامعاته ومؤسساته،
فجعل السلوك والشعور والأخلاق ومبادئ الحياة مادة للدراسة، واستعلى بكلمته العلمية
بزعمه، ليُسَوّدها على ما عداها من أديان تُوجِّهها، وقد أفَلَت شموسها كما يزعم.
وأصبح ترك الميدان للعلم الغربي والفرار بالدين فراراً من الزحف، وليس كما يظن زكي
نجيب محمود، حماية للدين والعلم جميعا!!
لذلك، فإن
الصورة بين جانبي المعرفة عند عالم الطبيعة المؤمن، أو المفسّر الطبيعي، ليست
بالبساطة المعرفية التي يظنها زكي نجيب محمود حين يقول: "إن كان يمكن
لعالم الطبيعة - بعد أن ينتهي من معرفة الكون- الإيمان أكثر برب الكون؛ فيكون
إيمانه حينئذ نورا على نور، ويكون قد جمع بين العلم والإيمان. والعلم يمكن أن يكون
إسلامياً عن طريق الوقفة العامة التي يقفها المسلمون من الكون؛ فيرتب العلوم
الجزئية في وحدة تضمها على نحوٍ ما، تُحقق للمسلم نوعاً من التوحيد بين عناصره
الداخلية والعلوم الجزئية الكثيرة، ويكون هذا هو التوحيد الحقيقي." ويصبح
ترتيب العلوم الجزئية في وحدة تضمها على نحو ما، كما يقول، شكل من أشكال التكامل
لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال أبجدية مشتركة حتى يتحقق ذلك التوحيد الكلي الذي
يتكلم عنه. ويصبح السؤال هو: كيف يمكن إنشاء أبجدية مشتركة للمعرفة التوحيدية دون
توحيد المقايسة commensurability بين مقولات القرآن ومقولات الظاهرات الطبيعية في إطار صياغة
العلوم الحديثة لها؟! .... وغني عن البيان أن تحقيق هذا التوحيد وتلك الأبجدية لا
يمكن إنجازه إلا بشكل من أشكال التفسير العلمي والرؤية الموحدة لتفسير الظواهر.
... والنتيجة أن زكي نجيب محمود يعود ليدخل صرح التفسير بعد أن ظن أنه أوصده؟! ..
مفارقة كبيرة لم يكن ليتوقعها صاحبها!
وفيما اشتهر
بأسلمة العلوم، يرفضه زكي نجيب محمود ويستدل على رفضه بعدد بالأسباب:
"1 -
أن في هذه الدعوى مصادرة على المطلوب؛ لأنها تشترط على الباحثين أن يقروا بنتيجة
قبل أن يسيروا في بحوثهم، وهو أن تأتي نتائج أبحاثهم متفقة مع العقيدة الإسلامية.
2 - أن في هذه الدعوة ميلاً عاطفيا يدفع الإنسان إلى عدم التزام
الموضوعية.
3
- أن في هذه الدعوة نوعا من التعصب، لا يرينا من الموقف إلا ما نتمناه، وفي العلم
يجب أن تذكر الحقيقة كما هي في الواقع.
4
- أن في هذه الدعوة خطورة أن يتحول العلماء إلى تلاميذ يكرسون كل مجهودهم لقراءة
كتب الأسلاف، بدلا من الاطلاع على أحدث ما وصل إليه الغرب في مجال هذه العلوم.
5
- أن المنهج الواجب استخدامه في العلوم الإنسانية هو المنهج التجريبي، وهو منهج
واحد عند الجميع باختلاف عقائد أصحابه الدينية.
6
- أن طبيعة هذه العلوم متجددة، لأن مشكلات الحياة تتجدد باستمرار، ولا نستطيع أن
نقف عند مشكلات المسلم القديم؛ فالذي قابله ابن خلدون مثلا من مشكلات غير ما يلقاه
الباحث العلمي الآن.
7
- أن النتيجة التي نصل إليها في هذه العلوم هي نتيجة علمية؛ لأنها التزمت بالمنهج
العلمي، بصرف النظر عن موضوعها أو عالمها، وتطبق على الإنسان في كل مكان بصرف
النظر عن عقيدته."
نقول: من
الجيد أن يثير زكي نجيب محمود هذه الاعتراضات، ليس لوجاهتها، بل لأنها ما زالت إشكالات
عالقة في أذهان الكثيرين، من مسلمين وغيرهم. غير أنها موهومة، وسرعان ما ينقشع
ضبابها بشيء من الجلاء الفكري لمفاصلها.
1- ففي قوله:
" أن دعوى أسلمة العلوم مصادرة على المطلوب؛ لأنها تشترط على الباحثين أن
يقروا بنتيجة قبل أن يسيروا في بحوثهم، وهو أن تأتي نتائج أبحاثهم متفقة مع
العقيدة الإسلامية "
نستغرب بشدة
هذا الطرح الاعتراضي، ولا نرى له من وجاهة إلا إذا ظن قائل العبارة أن العقيدة
الإسلامية تفتقر إلى الاستدلال البرهاني الدامغ على صدقها، أو بعبارة حديثة: أنها لا
سند علمي لها! ... هنا فقط يكون له الحق في استنكار أسلمة العلوم، على اعتبار أن
العلم لا يمكن أن يقوم على أي مبدأ اعتقادي قلبي (إسلامي أو مسيحي أو يهودي أو هندوسي
... إلخ)، فنجد عندئذ (مَسْيحة العلوم، أو هودنة العلوم ...إلخ ) ولكن هل هذا
الفرض المركزي بالاعتقاد القلبي في عبارته صحيح؟! ... الإجابة:.. لا.. ليس صحيحا.
... ، وإذا سأل سائل: لماذا، ومعلوم أن الإسلام دين كما أن المسيحية دين؟ ...
والإجابة هي: أن الإسلام دين خالص لا دَخَلَ فيه، وقد قامت عليه البراهين الدامغة
على صدقه، وبما لا يشوب مصادره (القرآن وما يتأيد به من السنة الصحيحة) أي شائبة.
فإذا كان
الإسلام له أدلته المستقلة على صدقه، وأعظمها القرآن ذاته، فيصبح اعتماد القرآن
مصدراً للعلم وأرضية لأسلمة العلوم عملاً مبرراً، بل ضرورياً. ولا تتحرَّج عندئذ
أسلمة العلوم من اعتماد القرآن مصدراً لا شك في صدق أقواله ذات العلاقة بالعلوم الجاري
أسلمتها (تصحيحها). ويصبح الحديث عن صدق آيات القرآن ووجاهة اعتمادها مصدراً
مباشراً– في أقل درجات التشبيه- شبيه باعتماد قانون من القوانين الهندسية في علم
الفيزياء. حيث يجد من يشاء الاطمئنان إلى صدقها براهينها في علم الهندسة، وكذلك
القرآن، فمن شاء أن يطمئن إلى مصداقيته، فليرجع إلى أدلة الوحي والنبوة. فإن فرغ،
فعليه أن يعتمد القرآن مصدراً قاطعاً في ما يصرح به نصاً، أو ترجيحا. فإن لم يفعل،
وكان لهذا التناول تأثيرٌ على صياغته العلمية لما يتناوله، فحتماً هو متشكك في
نفسه، كالمتشكك في أن 1+2=3، أو يمنعه مانع ولا يستطيع مقاومته لضعفه.
فإن قال زكي
نجيب محمود: ولكن كل ديانة مما ذكرت تقول نفس الشيء، فماذا نفعل؟ ... نجيبه ونقول:
أن للبرهان سلطان، ولا يمكن أن ينتصر برهانان متعاندان. فالمصدر الديني الأصدق
واجب الاعتماد، وبإسم العلم. وهل ينتهج العلماء غير نصرة النظرية الأقوى برهاناً،
فما الحرج إن طبقوا نفس المنهج في مقارعة المصادر الدينية المتنازعة؟!
2- ثم يأتي
زكي نجيب محمود بمبرر ثان لاعتراضه على أسلمة العلوم ويقول: "أن في هذه
الدعوة ميلا عاطفيا يدفع الإنسان إلى عدم التزام الموضوعية". .. ونجيبه
أننا لا ننكر ذلك، .. كما أنه لا ينكر أيضاً أن الميل العاطفي نفسه موجود في نوازع
كل باحث لما يميل معه قلبه، وليس له عليه برهان! .. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما
كان لمسألة الموضوعية objectivity في العلم تلك الأهمية التي حرص أهله على تجليتها كلما أمكن.
ومعلوم أن هذا الميل العاطفي يُحجب بالنقد والتمحيص، وآليات المنهجيات العلمية من
التحكيم العلمي، والمراجعة الـمُعمَّاة للأبحاث قبل قبولها للنشر. ... ونضيف أن
هذا السبب بعينه هو الذي دفعنا إلى مراجعة كثير من مزاعم الإعجاز العلمي ونشرناها
على مدونتنا، وذلك بعد أن تبين لنا خطؤها، وقامت عندنا الأدلة على ذلك، ... ولا
يخفى أن الميل العاطفي كان فاعلاً في دفع أصحاب تلك الدعاوى إلى نشر دعاويهم قبل
الاحتراز عن الأخطاء العلمية فيها. ولكن المنهج النقدي يقينا شر هذا الميل، مثلما
يفعل مع أي علم آخر مما يُحتفى به من علوم حديثة، ولا فرق.
3- ويندرج مع
الاعتراض السابق لزكي نجيب محمود اعتراضه الثالث الذي قال فيه [أن في هذه
الدعوة نوعا من التعصب، لا يرينا من الموقف إلا ما نتمناه، وفي العلم يجب أن تذكر
الحقيقة كما هي في الواقع]، ويعالج هذا الأمر في مسائل أسلمة العلوم مثلما
يعالج في غيره من علوم، إذ أن العيوب الإنسانية يسهل فضحها، لأن سلطان العلم ذو
سطوة، والحجج الرصينة مفحمة مهما علا صوت الهوى والتعصب. وهذا ما فعلناه في نقدنا
على دعاوى
الإعجاز التي وسمناها بالمتهافتة، وما استطاع أصحابها، ولا مناصريهم الرد إلا
عادوا منحاذين أو جاهلين، فرجعوا صفر اليدين منخذلين. فالحق أولى بالاتباع، ولا
ينتصر دين الله تعالى بالباطل أبدا.
.. ثم ماذا أراد زكي نجيب محمود بقوله أنه [في العلم يجب أن تذكر الحقيقة كما هي في الواقع]! - هل يقصد أن مقولات القرآن في شأن الظواهر الكونية ربما لا تطابق الواقع، ولهذا يجب استبعادها؟! ... نقول: إن رجحت أفهامنا لمراد آيات القرآن - دون تقصير أو قصور في الفهم- أصبح اعتمادها واجباً، وكأننا نرى معاني الآيات رأي العين، وإلا كان إيماننا بالقرآن زائفاً، حتى ولو أقسمنا على صدقه. إذ لا إيمان بلا تحقيقه عملاً واقعا عند الاختبار. فمن آمن بالقرآن ثم نجده يُرابي في أمواله، فهو لا محالة كاذب في إيمانه، وإن أقسم وأقسم. ونعيد لنؤكد أن الإيمان هنا إيمان عن حُجة وبرهان، مثلما أن وقوع العقاب على أصحابه يوم الحساب، عقاب عن حُجة وبرهان.
4- وفي اعتراض
رابع يقول زكي نجيب محمود: "أن في هذه الدعوة خطورة أن يتحول العلماء إلى
تلاميذ يُكرِّسُون كل مجهودهم لقراءة كتب الأسلاف، بدلا من الاطلاع على أحدث ما
وصل إليه الغرب في مجال هذه العلوم." .. نجيبه أن العلماء علماء ما بقوا
طلاب علم. ثم ما الحرج في قراءة كتب الأسلاف؟! ... ألا يقرأ الغربيون كتب اليونان
حتى يومنا هذا، ... ألا يوازنون بين مقولات القدماء والمحدثين – ومنهم زكي نجيب
محمود نفسه- في تخصصاتهم؟! .. هل يرجع هذا الاعتراض إلى الإشفاق على العلماء، أم
سوء الظن بهم أن يقرؤوا فقط كتب الأسلاف. ... ثم من قال أن أسلمة العلوم تدفع فقط
إلى قراءة كتب الأسلاف. ... إنْ ظن صاحب الاعتراض ذلك، فلا بد أن الأمر قد تشوش
عنده في منهجيات أسلمة العلوم، والتي في موجزها تدعوا إلى تهذيب العلوم الحديثة مما
يتعارض بجلاء مع كتاب الله تعالى. فكيف يقال أن هذا يعيق الاطلاع على أحدث ما وصل
إليه الغرب في مجال العلوم، وما من معنى لأسلمة العلوم إلا تمحيص هذا الأحدث من
العلم؟! .. كما وأن قراءة كتب الأسلاف هام لتنقيتها من أوهام الثقافات القديمة، التي
تداخلت مع الحق الذي أتى به وحي الله، فكان التمييز بين الحق والباطل ضرورة،
لتنقية الماضي الطاهر من عوالق التاريخ.
وأخيراً تثيرنا
عبارة زكي نجيب محمود، بالاعتراض على التتلمُذ على كتب الأسلاف – وفي كثير منها
الخير – ودعوته المنفتحة للتتلمذ على كتب الغرب المعاصر، وفي الكثير منها الباطل!
.. ولا شك أنه لا حرج في مبدأ الاطلاع على كل مصدر علمي، ولكن الحرج كل الحرج في
الإعراض عن الحق لكونه قد وصلنا عن طريق الأسلاف، وعدم التوقي من الباطل لأنه من
الغرب المحتفى به. فأي ظلم علمي تدعونا إليه هذه العبارة، وأي تعصب للغرب تمثله، في
وقت يزعم صاحبها اتقاء التعصب للأسلاف وللاعتقاد الديني باسم العلم؟! .. بل ويدعونا - دون تصريح - للتعصب للأغراب وللاعتقاد اللاديني، المبثوث في العلم الحديث، وباسم العلم أيضاً! .. مفارقة أيَّما مفارقة!!!
5- وفي
الاعتراض الخامس يقول زكي نجيب محمود: "أن المنهج الواجب استخدامه في
العلوم الإنسانية هو المنهج التجريبي، وهو منهج واحد عند الجميع باختلاف عقائد
أصحابه الدينية". .. نجيبه: ومن قال أن أسلمة العلوم لا تستخدم التجريب،
واختبار الواقع، وسؤاله، والإنصات إليه. ومعلوم أن التجربة تخبر بما يتعلق بها
وبلغتها دون عقائد الناس القلبية، فهذا بديهي، .. إلا أنه ما من عصمة وراءها حيث يأتي
الملحد فيُلبس مقولات التجريب بلباس الإلحاد وهذا باطل، ويأتي الهندوسي ويُلبس هذا
التجريب بتصورات عقيدته الدورانية في الاستنساخ وهذا باطل، ويأتي كل ذي مذهب ليرى
التجريب في إطار صورة العالم المرتسمة في صفحة قلبه العقائدية. .... وما نراه من
كلام زكي نجيب محمود أنه على المسلم وحده أن يجرد التجربة من أصدق العقائد
على الأرض! وبماذا؟ بحجة براءة التجريب من العقائد، حتى لو كانت العقيدة الصحيحة؟!
... وهذا أغرب ما يمكن أن نسمعه من مؤمن. ... ولا ننكر أن العلم الحديث قد استطاع
بتر صريح هذه العقائد المشوهة من الظهور في الدوريات العلية الرصينة، إلا أن
أشباحها تجيء وتروح بين السطور، وتفعل فعلها الأثيم على أوتار القلوب، ولا يفطن إليها إلا ذوي الألباب. ... ولا ننكر أيضاً أن كثيراً من تصورات المتدينين
من المسلمين قد شابها فساد التصورات الثقافية للأسلاف، وبما أملته عليه عصورهم وما
فيها من خلط ووهم بالكون والخلق... وهذه التصورات الفاسدة تتطلب التهذيب أيضاً،
ولا يمكن ذلك إلا بإنشاء علماً رصيناً بين الحق المنطوق بالتجربة، والحق المنزّل
بالوحي. .. وليس هناك من حق أجلى إذا اجتمع له هذان المصدران لأي باحث، مهما علا
قدره وامتاز اتقانه، وهذا هو "أسلمة العلوم" كما ينبغي لها أن تكون.
6- يقول زكي
نجيب محمود: "أن طبيعة هذه العلوم متجددة، لأن مشكلات الحياة تتجدد
باستمرار، ولا نستطيع أن نقف عند مشكلات المسلم القديم؛ فالذي قابله ابن خلدون
مثلا من مشكلات غير ما يلقاه الباحث العلمي الآن" !!! ... نقول: ومن قال
أن أسلمة العلوم هي إعادة ترديد ما قيل؟! .... إن أسلمة العلوم وما تتطلبه من تفسير
علمي هو أن يتسلح الباحث المسلم بذخيرة الوحي الذي جمع بين دفتيه احتياجات المسلم
المفاهيمية حتى قيام الساعة، ويكتسب من الخبرات الماضية ما يستطيع حمله والتأهل
به، فيقتحم بذلك عراك الحياة، وقد أصبح في أعلى درجات الإعداد المعرفي والخبرة
المعلوماتية عن تجارب السابقين، لخوض معارك تجريبية وتحليلية وتصورية جديدة. فيعالج
مسائل اليوم أفضل مما كان لو كان خالي الوفاض من هذا الإعداد وهذه الخبرة.
7- ويختم زكي
نجيب محمود اعتراضاته ويقول: "أن النتيجة التي نصل إليها في هذه العلوم هي
نتيجة علمية؛ لأنها الْتَزَمَتْ بالمنهج العلمي، بصرف النظر عن موضوعها أو عالمها،
وتطبق على الإنسان في كل مكان بصرف النظر عن عقيدته". .. فنجيبه ونقول:
أن إعادة القول بأن نتائج العلوم المستقلة عن الإسلام علمية لأنها تتبع المنهج
العلمي، ليس إلا مصادرة على المطلوب. حيث أن مدار الحديث بطوله وعرضه على أن هذه
العلمية التي يحتفي بها المتكلم إنما هي علمية مبتورة، وأنها أفضل إذا تدعمت بكلام
الخالق سبحانه في عيون مسائل البحث، مثلما أن معادلتين أفضل من معادلة واحدة في حل
المسألة الرياضية، فكذلك إضافة مصدر الوحي إلى مصدر الوقائع - المتحري عن البحث فيها
- يجعل الوصول إلى علاج مسائل البحث أكثر إضاءة وأبعد عن الغموض والتشويش. ولا
يقول معترض أن معادلة واحدة أفضل إلا إذا كان على غير ثقة في معادلة الوحي، وهذه
هي عقدة المعترضين على أسلمة العلوم، وفي مقدمتها التفسير العلمي. ... وأنهم مبيتوا
النية على الاعتراض، مع علمهم أن هذا الإجراء منهم يخالف مبادئ المنهج العلمي الذي
يدَّعونه، ونقصد مبدأ الموضوعية الذي كان أحد اعتراضاتهم، ، فإذ بهم يقعون فيه، إضافة
إلى اجتزاء المصادر وتحكيم الهوى فيما يأخذ الباحث منها وما يدع.
المؤلف