الاثنين، 4 نوفمبر 2013

الفصل (أ8) - بنت الشاطئ - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ8) بنت الشاطئ (عائشة عبد الرحمن)
بقلم: عزالدين كزابر


بنت الشاطئ (عائشة عبد الرحمن)
بسم الله الرحمن الرحيم
اشتهر عن بنت الشاطئ(*) أنها عارضت الإعجاز العلمي في القرآن. وبمراجعة كتاباتها في ذلك، وخاصة كتاب "القرآن وقضايا العصر"[1]، والذي هاجمت فيه مصطفى محمود بعد نشره لكتابه "القرآن .. محاولة لفهم عصري"، وجدنا أن بنت الشاطئ كانت أقرب إلى التأييد المشروط، مع شيء من التردد، منه إلى الرفض والهجوم كما اشتُهر عنها. والحقيقة أنها لم تهاجم التفسير العلمي الرصين، وقد صرَّحت بما يعني أنها ما كانت لتهاجمه لو التزم حَمَلَتْه بالضوابط وقيود الرصانة العلمية والأهلية، بل هاجمت ما خرج إلى الناس تحت عنوان التفسير العصري. ورغم الاشتراك في الموضوع بين عنوان "التفسير العلمي" و"التفسير العصري"، إلا أن الفرق بينهما ليس بالقليل. فالتفسير العصري أقرب إلى موضة في العصر الذي نشأ فيه، وبذهاب العصر تذهب موضاته، ويحمل في مضمونه الخفة والبهرجة والاستثارة والمعاني العابرة وغياب الدقة والتوثيق والأدلة والرصانة العلمية. هذا في حين أن مستند التفسير العلمي "العلم" وليس إلا العلم، حتى وإن شابته مناخات وصياغات فكرية مؤقتة، أو عابرة. ومعلوم أن "العلم" – من حيث هو علم مطابق للمعلوم، أثبت وأبقى، حتى ولو تبدلت أنماطه بما يطرأ عليه من مزيد تمحيص وتدقيق. ورغم هذا المبدأ النبيل من جهتها – يرحمها الله – إلا أنه قد ألمَّ بها التردد في هذه المعاني الجديدة، وحرج تداخله ومدى مواءمته مع القالب الفكري التراثي الذي لم يكن يعلم شيئا عن هذه المستجدات العلمية. وهو نفس الحرج الذي وجدنا عليه من قبل الشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ القرضاوي، والشيخ شلتوت، وسيد قطب – تقبل الله اجتهادهم جميعاً –".
ومن تعليقاتها التي زكَّت وتقبَّلت فيها مبدأ التفسير والإعجاز العلمي قولها[2]:
"قد أفهم أن يتكلم طبيب فيما يفهمه من آيات قرآنية يمكن أن تتصل بالطب، وأن يكتب خبير زراعي فيما يفهمه من آيات القرآن في النبات والفاكهة والزرع ولواقح الرياح، وأن يلتفت خبير كيميائي إلى آية القدرة الإلهية في تسوية بنان الإنسان لا يشتبه ببنان غيره من ملايين البشر، وأن يقف جغرافي عند آية القدرة في البحرين يلتقيان: هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج، وبينهما برزخ لا يبغيان، وأن يقف عالم فلكي عند آية القدرة رفعها الله بغير عمد ترونها، وما في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار من آيات لأولي الألباب. قد أفهم هذا ومثله."
ولكنها توجست، وتمنعت عن قبول ما تبهرج وتزين من تفسيرات عصرية، فتابعت وقالت:
"ولكن الذي لا أفهمه، وما ينبغي لي أن أفهمه، هو أن يجرؤ مفسرون محدثون[3] على أن يخوضوا في كل هذا، فيخرج أحدهم على الناس بتفاسير قرآنية فيها طب وصيدلة وطبيعة وكيمياء، وجغرافيا وهندسة وفلك وزراعة وحيوان وحشرات وجيولوجية وبيولوجيا وفسيولوجيا وأنثروبولوجيا! إلاَّ أن أتخلى عن منطق عصري وكرامة عقلي، فآخذ في المجال العلمي بضاعة ألف صنف معروضة في الآسواق! وإلا أن أتخلى عن كبرياء علمي وعزة أصلي، فأعيش في عصر العلم بمنطق قريتي حين يفد عليها الباعة الجائلون بألف صنف، يروج لها ضجيج إعلاني بالطبل والزمر، عن كل شيء لكل شيء، أو (بتاع كله)، في فكاهتنا الشعبية الساخرة"
هذا هو إذاً بيت القصيد في معارضة بنت الشاطئ للإعجاز العلمي، وفحواه أنها لم تجد هذه الأهلية التي تُوقِّرها، وما يتبعها من رصانة وموضوعية ودقة علمية، بل وجدت ما ازعجها واعتبرته عَبَثاً يتشبَّه بالعلم، وأتت بأمثة منه فقالت[4]: "أن نُفسِّر لفظ ساعة في قوله تعالى "يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ"(الروم:55)، بدلالتها الاصطلاحية على ستين دقيقة، أو كما قال المفسر الصحفي (تقصد مصطفى محمود): "مجرد ساعة زمان، وكأنهم كانوا في غفوة أو نومة عصاري بعد أكلة ثقيلة"" (فهذا مما لا يمكن قبوله)[5]. ونرى أن بنت الشاطئ لم توفق في هذا المثال، لأن نص الآية "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ"(الروم:55) يميز بين الساعة الأولى بمعنى القيامة، والساعة الأخرى بمعنى الزمن المنقضي بمقدار الساعة التي كانت عند العرب جزء من إثنى عشر جزء من طول النهار، وهي فترة زمنية قريبة جداً من ساعتنا المعاصرة، غير أنها تزيد عنها في الصيف بضع دقائق وتقل عنها في الشتاء مثلها، يُراجع في ذلك دراسة "توقيت وتوقيت، أعجمي وعربي" ، لذلك لم نرى في هذا الموضع بالذات خطأً ذي بال من مصطفى محمود، يرحمه ويرحم الله تعالى بنت الشاطئ.
وقالت[6]: "المفسر العصري لا يرى بأساً من أن يفسر لنا لفظ (يعشو) مثلاً بلفظ (ينصرف)[7] في آية الزخرف: " وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ"(الزخرف:36)، حين ندري من لغة القرآن، فرقاً بعيداً أقصى البعد بين الأعشى والمنصرف، فتفسير أحدهما بالآخر ليس إلا خبط عشواء."
نقول أن مصطفى محمود لم يضع كتابه الذي جاء فيه هذا القول باعتباره كتاباً في التفسير العلمي، فضلاً عن أن يكون في الإعجاز العلمي، ولا أنه تعمد استقصاء المعنى اللغوي والشرعي على نحو احترافي مثلما هو عليه الحال في كتب التفسير المتخصص، وما قصده كان إعطاء القارئ المعاصر مقاصد قرآنية كلية مدعومة بمسحة تفسيرية ذات رؤية علمية معاصرة غير استقصائية. ثم أن (مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) يؤول بما فيه من تعامِي عن الحق إلى الإنصراف عن القرآن وما فيه من هدى. وهو المعنى الذي ذكره مصطفى محمود. ولا يبدو أنه مستنكراً على نحو ما يُفهم من نقد بنت الشاطئ له.
وقالت[8]: "ويفسر قوله تعالى لنبيه موسى عليه السلام: "فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى"(طه:12)، بأن (المقصود بالنعلين هما النفس والجسد، فلا لقاء بالله إلا بعد أن يخلع الإنسان النعلين: نفسه وجسده، بالموت أو بالزهد، والله يصورهما كنعلين لأنهما القدمان اللتان تخوض بهما الروح في عالم المادة). وذلك لا تعرفه لغة القرآن، ولا لغة العلم، من أي سبيل."
نقول: يفترق السياق الذي جاء في كلام مصطفى محمود بعض الشيء عما يُفهم من كلام بنت الشاطئ، فالعبارة المنقولة لم تكن تفسيراً لمصطفى محمود، بل نقلها هو عن المتصوفة، وقال[9]: [يفسر بعض المتصوفة كلام الله لموسى في القرآن: " فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى"، إن المقصود بالنعلين هما النفس والجسد ...] ... إلا أن مصطفى محمود لا يرى غضاضة في قبول هذا المعنى باعتباره تأويلاً مقبولاً ويقول: [قد يعترض معترض قائلاً ... وما الضرورة لصرف اللفظين عن معناهما الظاهر؟ .. والواقع أن هناك ضرورة .. فالحضرة الربانية لا يكفي لدخولها خلع النعلين ... وإنما التجرد الكامل هو شرطها دائما، وهو أقل ما يليق بالحضرة الجلالية .. ولا يتم التجرد إلا بخلع شواغل النفس والجسد .. فالمعنى هنا وارد والتأويل له ضرورة، وهو لا يناقض المدلول الظاهر للألفاظ.]
ولمعرفة موقف "مصطفى محمود" الصريح، من التأويل عموماً، والتفسير الباطني خصوصاً، نقرأ له يقول[10]: [(لنا) موقف من التفسير لا بد من التزامه .. هو الالتزام بحرفية العبارة ومدلول الكلمات الظاهر، لا ننتقل إلى تأويل باطني إلا بإشارة وإلهام من الكلمات القرآنية ذاتها فنفسر القرآن بالقرآن ظاهراً وباطنا، على ألا يتعارض تفسيرنا الباطن مع مدلول الكلمات الظاهر أو يكون نافياً له .. ولا يكون التفسير الباطني مقبولاً إلا إذا كان مؤيداً ومؤكداً للمعنى الظاهر.. ولا ترخيص فيه إلا بضرورة، وهذه هي الحدود التي تمليها طبيعة هذا الكتاب المحكم .. الذي لا يتقدم فيه حرف على حرف إلا بسبب عميق وضرورة لازمة.][11] وهذا الموقف من مصطفى محمود يبُرؤه من تجاوز الحدود في التأويل، بل ويشيد بدفاعه الرصين، وبراعته في فضح الكذابين[11].
تواصل بنت الشاطئ، وتقول[12]: "من وجوه الدقة في النص القرآني إستحالة تفسير صيغة من صيغه أو عبارة من عباراته، مبتورة من سياقها الخاص في الآية والسورة، ومن سياقها العام في المصحف كله، على نحو ما فعل المفسر العصري، في استشهاده ببعض الكلمات مبتورة من سياقها، ليأخذ منها دليلاً فاسداً وشاهداً يحيله السياق، كمثل عبارته في ص 51، وقد تكررت في ص 176-177: (والله يقول عن كلامه، عن القرآن،: " وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ") بتر الجملة من سياقها، فحملها على كلام الله، وإنما هي في المتشابه منه فحسب، بنص الآية: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ"(آل عمران: 7)"
ومرة أخرى نرى أن سياق كلام مصطفى محمود قد حُمل على غير معناه، فعبارته (ص51) تقول:
[و الله يقول عن كلامه: (( و ما يعلم تأويله إلا الله..)) (آل عمران: 7)، ويقول عن القرآن: (( ثم إن علينا بيانه)) (19 – القيامة)] وهذا يدل على أنه لا يطابق هنا بين دلالة مراده هو من "كلام الله" والقرآن!!! فكيف ساوت بنت الشاطئ بين الدلالتين؟! ... وعليه، تكون قد جاء بمطابقة لم يقصدها مصطفى محمود.
ولمعرفة ما يقصده هنا، نقرأ الفقرة السابقة على ما أوردناه من عبارة، يقول: [القرآن له أسلوبه المختلف عن كل الأساليب.. و هو حينما يشير إلى مسألة علمية لا يعرضها كما يعرضها ( أينشتين) بالمعادلات.. و لا كما يعرضها عالم ( بيولوجي) برواية التفاصيل التشريحية.. و إنما يقدمها بالإشارة والرمز والمجاز والاستعارة واللمحة الخاطفة والعبارة التي تومض في العقل كبرق خاطف، إنه يلقي بكلمة قد يفوت فهمها وتفسيرها على معاصريها.. و لكنه يعلم أن التاريخ والمستقبل سوف يشرح هذه الكلمة و يثبتها تفصيلا. (( سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)) (53 – فصلت)
و الله يقول عن كلامه: (( و ما يعلم تأويله إلا الله..)) (آل عمران: 7)، ويقول عن القرآن: ... ]
فالذي قصده من قوله (كلامه - سبحانه وتعالى) ما أوضحته عبارته التفصيلية عن (أسلوب القرآن المختلف عن كل الأساليب المألوفة للبشر في إشارته إلى المسائل العلمية) وليس (القرآن) كما فهمت بنت الشاطئ!
أما في ص175-177، فجاءت عبارة مصطفى محمود (بعد أن يسرد آيات سورة الكهف (93-99)عن ذي القرنين ويأجوج ومأجوج) كالآتي:
[ها هنا قصة غامضة يتخبط فيها المفسرون – يقصد عن يأجوج ومأجوج – (ويعدد بعض ما قيل في شأنهم وهل هم الصين المعروفة الآن أو لا؟، ثم يقول:) هي أمور تثير الخيال .. وهي نبؤات تتداعى الواحدة لتؤيد الأخرى، ولا نملك إلا الصمت .. فمثل هذه التأويلات لا يحق لنا أن نُؤلها، والوحي يقول لنا عن القرآن "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ"] ... وغني عن البيان أنه يقصد الآيات من القرآن التي تتطلب التأويل، أو ما لا نعلم تأويلها. ومن ثم، فالرجل لم يتجاوز الحد المقبول كما تراءى لبنت الشاطئ!
وقالت[13]: "فجأة من حيث لا نتوقع ظهر تفسير عصري لكاتب صحفي، ... يُخرج للناس ما غاب عن النبي الأمي وقومه البدو، من عصريات التكنولوجيا وحديث الطبيعيات والرياضيات وملاحة الفضاء... ونتورط من هذا إلى المزلق الخطر، يتسلل إلى عقول أبناء الأمة وضمائرهم، فيُرسِّخ فيها أن القرآن الكريم إذا لم يقدم لهم (ما لم يفهمه النبي الأمي من بيولوجيا وجيولوجيا وكيمياء عضوية وعلم أجنة وتشريح وأنثروبولوجيا ...) فليس صالحاً لزماننا ولا جديراً بأن تسيغه عقليتنا العلمية أو يقبله منطقنا العصري. .. هكذا بإسم العصرية، نغريهم بأن يرفضوا فهم كتاب الإسلام بعقلية نبي الإسلام وصحابته، ليفهموه في تفسير عصري من بدع هذا الزمان. .... وبإسم العلم، نخايلهم بتأويلات محدثة، تلوك الفاظ ساذجة صماء عن الذرة والإلكترون وتكنولوجيا السدود وبيولوجيا الحشرات وديناميكا الصلب وجيولوجيا القمر..."
نقول أننا لا نوافق بنت الشاطئ على تصويرها للعلاقة بين القرآن والعلم الحديث بهذا المنظور، منظور التبعية المصطنعة التي يختلقها بعض المفسرين الجدد، الذين نُسمِّيهم "الإعجازيين"، والتي يجرُّون بها القرآن وراء العلم. وهذا المنظور زائف حتى وإن رأت بنت الشاطئ أن هذا هو الدافع الحقيقي – وما هو بحقيقي- وراء التفسيرات العلمية المستحدثة لآيات قرآنية عديدة. قد يفعل بعض المفسرين المتهافتين هذا، ولكنهم استثناء، ولا يمثلهم مصطفى محمود. بل إن من أتى بعده قد حشر من التفسيرات في كتاباته ومحاضراته ما يمثل هذا النموذج السيئ بصورة فجة، وتستحق كل إدانة وزجر لما فيها من مستويات متدنية من التهافتات المستهجنة، التي نبرئ القرآن منها.
إن ظهور معاني جديدة في القرآن، وقد تصادف أن الإنسان المعاصر يصنفها في علوم براقة جديدة مثل (بيولوجيا وجيولوجيا وعلم أجنة وتشريح وأنثروبولوجيا وو...) ليست اختلاقاً إنسانياً مبتوراً من الواقع، بل إنها صورة تفرض نفسها على قارئ القرآن الذي ألمَّ ببعض المعارف في هذه العلوم. أما إن كان قارئ القرآن قد خلت جعبته من هذه المعارف، فهو بعيد عن تصور هذه المعاني. وهذا القول يجعل من العلم بالخلق عند المؤمن بالقرآن دافعاً على تشويه تصوراته، ويصبح الجهل بها حصناً لتصورات الأقدمين من المؤمنين، حتى وإن كانوا هم من أقام رب العالمين الدين على أكتافهم! ولو كان الأمر كذلك لما حثنا القرآن على النظر في الخلق، ومعاودة النظر، بغية الاعتبار والوقوف على مصداق القرآن، وحكمة الخالق سبحانه فيما خلق وأنزل!
وهذا المنظور الذي صورته بنت الشاطئ بقولها أنه: (بإسم العصرية، نغري (أبناء الأمة) بأن يرفضوا فهم كتاب الإسلام بعقلية نبي الإسلام وصحابته، ليفهموه في تفسير عصري من بدع هذا الزمان) منظور خاطئ بكل المعايير. فليس هناك إغراء متعمد في أصل الموضوع، حتى وإن تعمده أو جنح إليه بعض الجهال أو المتهافتين. إنه أمر واقع لمن أحاط بمعارف العصر، لا يستطيع منع نفسه منه إلا إذا استطاع جليس بائع المسك أن يمنع نفسه من اشتمام روائحه العطرة. أما من لم يدخل على أهل العطور فيستنكر وصف عطورهم، فهو وشأنه. ... ثم أن تعميم القول على عموم (كتاب الإسلام) في وقت تختص التفسيرات الجديدة فقط بما يتعلق بالمخلوقات التي أنبأت عن نفسها بجديد من العلم، فهو تعميم يشحن القارئ ضد هذا المنحى الجديد وكأنه تبديل لدين الله! ... وما هو كذلك، ... بل إنه لا يعدو أن يكون مزيد من الفهم فيما كان متشابهاً من آيات الخلق. أي أنه محمدة للمجتهدين فيه، ... فإذا بكلام بنت الشاطئ تجعل منه مذمّة، يلام عليها أصحابها في شخص أحدهم. ويصبح عندئذ قول بنت الشاطئ (بتصرف)[14]: " (إن هذا المسلك) ضحك على العقول ببدع من التأويلات تقدم للناس من القرآن كل علوم الدنيا وعصريات التكنولوجيا." قولاً في غير محله.
وقالت أيضاً[15]: "في ضجيج هذه الألفاظ الطنانة وخلابة ما يقدمه التفسير العصري .... تتعذر الرؤية الثاقبة التي تميز حقاً من باطل، وعلماً من دجل، وإيماناً من زخرف قول، وبهرجة بدعة، ويفوتها أن تفصل بين منطق تفكير علمي وجرأة ادعاء وطبول إعلان ...."
هنا ننتبه إلى مشكلة تبرزها قضية (التفسير العلمي لآيات القرآن) وتعترف بها بنت الشاطئ. ألا وهي تعذّر (الرؤية الثاقبة التي تميز حقاً من باطل، وعلماً من دجل ..). وبدلاً من الإقرار بالمشكلة، جعلت منها بنت الشاطئ نتيجة لفساد كامل المشروع التفسيري الجديد. والصحيح أن هذا المشروع يستدعي معالجة جديدة! ولكنها معالجة غير واضحة المعالم لمن يريدها، ويتعذر رؤيتها كما تبين من كلام بنت الشاطئ. وكان الأولى من استنكار العلة وأسبابها السعي للبحث عن طرق علاجها، لا قتل المريض بها! ... هذا إن كانت مرضاً، أما إن كانت فتحاً جديداً وفهماً فريدا، فاستثمارها بالحق واجب، والصد عنها صد عن سبيل جديد من سبل الله تعالى!
أما عن تلك المعالجة التي يمكن أن يزول معها التشويش الموصوف، والذي يتعذر معه الرؤية الثاقبة في التمييز بين الحق والباطل في موضوع التفسير العلمي، فهو النزول إلى أرض الواقع، ومعالجة مسائل الموضوع مسألة مسألة، وإعادة التصنيف والتبويب والتأصيل، والتنقيب عن كل نوع في أسبابه وعلله وما قاله القرآن عنه، وما نطق به الخلق عن نفسه. إنه فقه جديد، ومسائل جديدة، ... ولكنها جميعاً متجذرة فيما قال الله تعالى في كتابه، وما خلقه سبحانه من خلق وأبدعه من إبداع. .. ولا بد حتماً أن تكون الرؤية متعذرة لمن اكتفى فقط بالجلوس وراء المدونات القديمة، يريد أن يرى من خلالها ما لم يره كاتبوها. .. إن الأمر ليتطلب مدونات جديدة ينظر أصحابها نظر العين والعقل في مسائل اجتهادهم؛ يستفهمون كتاب الله عنها، ويستأنسون بما كتبه الأولون. وفي نفس الوقت، لهم عين أخرى تنظر إلى خلق الله وسننه، فتختبر وتحلل وتستدل ... وفقط عندئذ تبدأ المسائل في التفكيك، وتبدأ العلل في البزوغ، والرؤية الثاقبة في الشروق، وينجلي الضجيج والطنين، وتطرب الآذان لمعاني الآيات، وألحان المخلوقات.
وقالت بنت الشاطئ[16]: "السؤال الخطير الذي تواجهنا به القضية هو: هل نفهم القرآن كما بينه نبي الإسلام، أو كما يفهمه مفسر عصري من الصحفيين. ... لننظر في هذا التفسير العصري، من حيث هو نموذج ومثال لما يخوض فيه من يتكلمون في القرآن بغير علم، وما يتعرض له الفهم الإسلامي من بدع التأويل بالرأي والهوى."
نقول: إن نبي الإسلام – صلى الله عليه وسلم- لم يفسر متشابه آيات القرآن، وما يُفهم من عموم كلام بنت الشاطئ خلاف ذلك، ولو صدق كلامها لأصبحت هذه الآيات مُحكمات، وانغلقت معانيها، ثم أين هو تفسير النبي لهذه الآيات التي تُعد بالمئات. وأغلب الآيات العلمية تقع في باب "المتشابهات" من القرآن. أما استنقاص بنت الشاطئ من مصطفى محمود بتكرار وصفها له بأنه (مفسر عصري من الصحفيين) فلن نعوِّل عليه كثيرا. ولا نستطيع أن نلوم الرجل وهو يطرح كتاباته ويعنونها بـ (محاولة لفهم ..)! وكان الأَولى بأُولي العلم الذين يحجرون على محاولات الناس للفهم بأن يبينوا لهم ما استغلقت معانيه، أما إن كانوا هم أنفسهم لا يعلمون إجابات الـمُستَفهم عنه، ويعترفون بأن (الرؤية الثاقبة التي تميز حقاً من باطل، وعلماً من دجل) في هذه المسائل متعذرة عليهم، فالأجدر بهم أن يطرحوا المسائل للتفقه الأكاديمي، والتداول البحثي، ... لا أن يسخروا من السائلين، الباحثين عن الفهم،...  فهماً يطمئن معه القلب، وتأتلف فيه معاني ما أنزل الله تعالى من كتاب، وما خلق من خلق.
والغريب أن عنوان الكتاب، "القرآن: محاولة لفهم عصري" كان اقتراحاً من بنت الشاطئ على مصطفى محمود بعد أن ناقشها في مادته، ووافقته على محتواه، قبل نشره، وقد التزم كما قال بكل تنقيحاتها على الكتاب، وذلك حسب ما جاء على لسانه[24].
وقد حاولت بنت الشاطئ أن تبرر سلوك أصحاب التفسير العصري ودوافعهم النفسية، فقالت[17]: "حين كانت القضية الكبرى المطروحة على الأمة في صدمتها بالتفوق المادي لحضارة الغرب الحديث، هي أن تأخذ بأسباب العلم لتستأنف خطاها من حيث وصلت إليه في العصر القيادي للحضارة الإسلامية، ظهرت محاولة ساذجة لتفسير القرآن تفسيراً علمانياً نطمئن به إلى أننا سبقنا عصرنا إلى كل ما يتطاول به الغرب علينا من علوم حديثة! ... فقدم الشيخ طنطاوي جوهري تفسير (الجواهر)"
ولنا هنا مأخذين: الأول، أن تشخيص أعراض ظاهرة التفسير العلمي في غير محلها، حتى وإن صادفت شيء من الصدق عند بعض المتهافتين على الإعجاز العلمي. فليس الباحث عن فهم آيات القرآن فيما تكلمت عنه من ظواهر، وقد بدى فيها من العلم جديداً، بالذي يُتَّهم بأن دافعه هو الصدمة الحضارية.
أما المأخذ الثاني، فهو أن تسمية "التفسير العلماني" جنوح وتشويه فج لـ "التفسير العلمي". والفرق بين العلماني والعلمي كما الفرق بين الـمُعرض عن دين الله، والقابض عليه. إلا أن تكون بنت الشاطئ لا تميز بين التسميتين، ويصبح لديها مشكلة – يرحمها الله – في توصيفها وتسميتها للمسألة.
وقالت[18]: "كان الظن ألا مجال لمخدر في هدير العصر ودوامة المعركة، وإذا بمفسرين عصريين لا دراية لهم بعلوم العربية والقرآن، ولا بعلوم العصر، يتسللون بالمخدر إلى الميدان، فيتسلطون على الجماهير بتفاسير عصرية تجذب أسماعهم بكلام خلّاب عن سبق القرآن إلى نظريات الرياضيات وعلوم البيولوجيا والجيولوجيا وإرتياد الفضاء وغزو القمر."
نقول: إن التمييز بين جدية الأمر في شأن التفسير العلمي، والتوظيف السَّيء له، ضرورة توجب على أولي الأمر من العلماء تحمُّل مسئولياتهم وتبعاتهم. فإن لم يفعلوا، تداخل الحق والباطل، ولم يدرِ أهل الحق التوظيف السيء من الحسن، والمتطفلين من الجادين. وكل شأنٍ من شئون الناس فيه هذا وذاك. فهذا الدواء، إن لم يشفك أمرضك. وليس إمراضه لإنسان بالذي يوجب تحريمه، إلا إذا كان إمراضه أكبر من نفعه. فإن تأخر أولي الأمر في تحمُّل تبعاتهم، فالإثم عليهم، ولن يتوقف دولاب الحياة عن الحركة إذا توانى عن اللحاق بها بعض أهلها. أما إن كان المتأخرون عن اللحاق هم أولو الأمر، فحتماً سيتقدم غيرهم لقيادة المسيرة، ولا فائدة عندئذ من التسخيف بهم، .. بل سيلام عندئذ المتأخرون الجديرون بالتقدم، مثلما يُذم المتقدمون الجديرون بالتأخر.
وقالت[19]: "إن تحديات عصرنا، قومية وحضارية، هي التي تضعنا أمام ما يروج فينا عن تأويلات عصرية للقرآن لنحدد موقف الدين والعلم من هذه التأويلات التي تقتحم الغيب وتفتي الناس في العلم والدين بغير علم، وتلهيهم بأنباء الجن والشياطين والملائكة، وتشدهم من صميم معركة البقاء والمصير، إلى هذه المعركة الجانبية بجدلها المثار حول فهم القرآن وتفسيره. وبقدر ما تقسو هذه التحديات ، تشتد حاجتنا إلى تأمين هذا الموقع الفكري الخطر، من حيث لا نستطيع أن نسير مع حركة الزمن ودفع التقدم وحتمية التطور، إذا ظل تأويل كتابنا الأكبر مباحاً لكل ذي هوى أو رأي، يلوي نصوصه لياً، لكي تلبي حاجة في نفسه."
ولنا هنا ملاحظتين، الأولى: تم في هذه العبارة حصر التأويلات العصرية للقرآن وكأنها فقط فيما يقتحم الغيب، ويمثل من ثمَّ أنباء الجن والشياطين والملائكة، أما الواقع والتفاعل معه فكأنه خارج منظومة التفسير العلمي. وأن هذه التأويلات حول فهم القرآن وتفسيره لا تمثل إلّا معركة جانبية. أما المعركة الرئيسية فهي قومية حضارية، لا دور لتفسير القرآن وتأويلاته المعاصرة فيها. ... ويعتبر هذا التصور – لبنت الشاطئ ومن تُمثِّل آراءهم من جملة العلماء وهم الأغلبية - جزء من مشكلتنا الحقيقية. إذ أن دين الله في هذا التصور يصبح جانبي الأهمية، ويُؤخَّر ليحل محله دين آخر – ما دام أن دين المرء هو المحرك الحقيقي له – وهذا هو ما تُصرِّح به صاحبة الكلام. وما ذلك إلّا "التحديات القومية والحضارية" وبمعزل عن القرآن وتفسيره!!!
الملاحظة الثانية: يمثل قولها (تشتد حاجتنا إلى تأمين هذا الموقع الفكري الخطر) الاعتراف بوجوب التصدي لمسألة التفسير العلمي بالعلم والحكمة، لا الاقصاء والتغريب. بمعنى أن بنت الشاطئ قد أعادت القضية أخيراً للتحكيم، تحكيم الخبرة، والعلم، وقضاءاً علمياً نزيهاً لا يحابي ولا يظلم، .. فقالت في موضع لاحق[20]: "من القضايا ما يحتاج إلى خبرة طبية أو اقتصادية أو فنية لا علم للقضاة بها، فيُندب الخبراء لفحصها وتقديم تقاريرهم عنها، ويظل الحكم في القضية لرجال القضاء وحدهم، دون الخبراء من الأطباء أو المحاسبين أو المهندسين أو الزراعيين أو ... ."
وقد يستغرب القارئ عن إمكانية وجود قضاءاً علمياً، يصدر حكماً بـ "علمية" أو "لا علمية" دعوىٍ ما من الدعوات التي تتشح بوشاح العلم! والحقيقة أن هذا النوع من القضاء وارد وإن كان نادراً. وخير مثال له، ذلك الحُكْم المفحم، والقاضي البليغ الذي أصدره، في حق كتاب طه حسين الشهير: "في الشعر الجاهلي". وسوف نُعرِّج على هذه القضية عند تناولنا لموقف طه حسين من التفسير والإعجاز العلمي. غير أنّنا نرى أن الفصل بين القاضي العلمي والخبراء يعيق الوصول إلى الأحكام النزيهة، وأنه لن يزيد عن إرشادات توجيهية في البحث العلمي بما لا يختلف كثيراً عن إشارات مرور الطريق لسائق السيارات ... وهو وصفٌ لا يتحقق معه المطلوب إن صدق.
هذا وقد أتت بنت الشاطئ على أمثلة عديدة مما رأت أنها تجاوزات. ومن غير المستغرب أنها ظهرت من العلماء الراسخين في العلم، إلا مما استوجبه الأمر من حداثة المسألة، ووجوب التروي في الحكم على مفرداتها. ومما يُزَكِّي موقف بنت الشاطئ في مثل هذا الهجوم غياب الأدلة العلمية عند أصحاب دعوى التفسير والإعجاز العلمي، على العموم، دون شخص مصطفى محمود الذي ضحَّت به بنت الشاطئ في خضم الهجوم، رغم أنه يعد عند التحقيق الرصين في مسائل التفسير والإعجاز العلمي من أقل الخائضين فيه أخطاءاً، فضلاً عن كونه من أبدعهم تناولاً وألطفهم في إشاراته وابتكاراته الفكرية. بل إن الأمر قد نما من بعده، وطغى زخم الإعجاز والإعجازيين، وتهافتت أمثلتهم، وكثرت أخطاؤهم، بما يجعل اكثر كلامهم بدعة لا داعي للمخاطرة بتبنيها، فكانوا أَولى بالهجوم الذي شنته بنت الشاطئ على مصطفى محمود، وأليق بالزجر والتوبيخ. والحق يقال أن مسائل التفسير العلمي تستدعي الدعم والتأهيل، ولكن! كيف يتم دعم الإعجاز والإعجازيين وحال أهلها العلمي بما هم عليه من ركاكة، وخفة قول، وهزالة مبنى؟! [21] – فكانت النتيجة أمام بنت الشاطئ وجوب إعمال القاعدة الفقهية: "درء المفسدة أولى من جلب المصلحة"، أي أن دعاة الإعجاز العلمي أنفسهم صدوا عن سبيل الإعجاز القرآني، وهذا من المفارقات العجيبة لمن يدعو إلى أي دعوى، فيكون هو الصاد عنها. و إذا كان ما يدعون إليه في نفسه حق، فكم من الإثم يتحملون؟!
وكانت النتيجة اللازمة عن تجارب التفسير الإعجازي المتهافت أن تَشَوَّش فكر الفقهاء والعلماء بهذا التفسير الذي سماه أصحابه "التفسير العصري"، وحسناً فعلوا كي يتميز عن "التفسير العلمي"، ولكن الحابل قد اختلط بالنابل، ولم يعد يتميز إعجاز علمي من تفسير علمي من دعاوى عصرية جوفاء بإسم القرآن. واجتمع مع وجوب درء المفسدة الناتجة، تلبُّسه بعدم العلم بصحة دعاوى الإعجاز في خصوصياتها العلمية، وسعة ألفاظ القرآن على تحمُّلها ما أتت به الاصطلاحات من معانٍ، لم تكن مألوفة ولا ممنوعة، وكل ذلك مع ألفة ورتابة الثقافة التراثية، وانقضاء الأعمار في جِنَان الإعجاز البلاغي والبياني، فما كان من بنت الشاطئ إلا أن انتفضت تدافع عن حصون الإسلام ، وخاصة القرآن الكريم، من العبث واللهو العلمي. غير أن أمْر التفسير والإعجاز العلمي يجب ألا يُغلق لعلة عدم العلم بأحكامه بعد، بل يُعلَّق بين القبول والرفض، انتظاراً لقضاءٍ علميٍ نزيه، لا تحيز فيه لماضي ولا لحاضر، وإنما لحق مدعوم من باطل مذموم، .. وفي مسألة مسألة، .. لا تحليل بالكيْل، ... ولا تحريم بالقنطار!

والخلاصة:
1- أن بنت الشاطئ لم تكن تعارض مبدأ التفسير العلمي، غير أنها لم تجد الرصانة العلمية التي تشجعها على ذلك. ودليل ذلك قولها[22]: " قد أفهم أن يتكلم طبيب فيما يفهمه من آيات قرآنية ... وأن يكتب خبير زراعي فيما يفهمه من آيات القرآن ... وأن يلتفت خبير كيميائي إلى آية القدرة الإلهية في ... وأن يقف جغرافي عند آية القدرة في ... وأن يقف عالم فلكي عند آية القدرة في .." وهذا يوجب إعادة النظر في كلام من أدرج بنت الشاطئ بين الذين عارضوا التفسير العلمي أو الإعجاز العلمي.
2- أنها استشعرت وجود أزمة في تمييز الحق من الباطل ، والغث من السمين، في مزاعم التفسير العلمي. مع غياب التحكيم، إلا بما تقترحه من قاضٍ يحكم، ولجان متخصصة يُكتفى منها بإبداء الرأي العلمي. وهي وسيلة غير ناجعة في رأينا، لأن الفصل بين الحُكم وحيثياته - التي يجب أن تختمر في ذهن القاضي – إجراءٌ يفسد الحكم. خاصة وأن صورة المسألة لا تُستحضر جاهزة لمن أرادها، بل تتطور وتتعدل وتتلون، وتعود فتختفي أو تستبين بمتابعة البحث التحقيقي في كل مسألة مسألة، ثم يأتي الترجيح والجمع والتفريق، وربما الإرجاء، أو التقديم، أو التأخير. وما يصمد من ترجيحات مع الزمن مع إضافات البيانات والأرصاد يستقوي، وما يَبْلى يُهمل وينزوي ويذهب أدراج الرياح.
3- أن بنت الشاطئ عادت وترددت واشتبهت في معاني التفسير العلمي عندما كثرت المسائل والتخصصات والعلوم التي درات رحى التفسير في جنباتها، وقالت "بإسم العلم، نخايلهم (أبناء الأمة) بتأويلات محدثة، تلوك الفاظ ساذجة صماء عن الذرة والإلكترون وتكنولوجيا السدود وبيولوجيا الحشرات وديناميكا الصلب وجيولوجيا القمر". وإذا كثرت أسماء العلوم، واستشعر القارئ بالضياع فيما لا يعلم منها، يصيبه الضجر والنفور، والوحشة والغربة، فيندفع يستنكر ما لا يألف منها. ولو أنه تذكر أن قبضة واحدة من تراب الأرض فيها (فيزياء الذرات وكيمياء عناصر التراب وهندسة الجزيئات والأحياء الكامنة في بذورها، والتاريخ المحفوظ في حفرياتها، والجيولوجيا التي فتتت الجبال إلى هذا التراب) إذا علم الإنسان أن تعدد الأسماء يرجع إلى قصور المعرفة الإنسانية عن الإحاطة وضرورة تقسيم وتصنيف ما يمكن العلم به، وأن الأصل أن هذه العلوم جميعاً أن تعمل مجتمعة في الأشياء، ... لو علم ذلك لأدرك أن القرآن كلام الله الذي أحاط بكل شيء دون التقسيم المعرفي الإنساني. وعندئذ يزول هذا الاستغراب، ويعود يرى الأشياء في تكامل، مثلما أن الآية القرآنية تتنقل بين موضوعات عدة نراها مختلفة أو متنافرة، وإنما ذلك لحدودنا وقصورنا المعرفي عن النظرة العلمية المحيطة. والشاهد من ذلك أن الإنسان المقيد المعرفة قد يطغي على الإنسان العالم في النفس الواحدة، فيعود ليرتبك بين تقسيماته المعرفية، رغم أنه عالم بأن تقسيماته هذه ليست إلا حيلة في المنهج العلمي غايتها التيسير، وليست أصيلة في الوجود والأشياء. أما كتاب الله تعالى فهو أعلى من ذلك، وأرقى. ونُخْطِئ إن عالجناه ككتب العلم التي نألفها، أو نطالبه بأن يكون نوع من أنواع العلوم التي نُصَنِّفها في زمن ما، ثم نعيد تصنيفها في زمن آخر.
4- أن بنت الشاطئ قد تحاملت على مصطفى محمود، في عدد من السياقات التي خرجت بها عن مساراتها، رغم أنه صرح بأنه يحاول الفهم، من عنوان كتابه، وقال فيما قاله[23]: [ما قام الدين أبدا منعزلا عن الحياة و لا قام ليعادي العلم بل إنه قام ليُقدِّم لنا منتهى العلم.. و ليقودنا إلى اليقين في مقابل الشك والاحتمال والترجيح.. جاء ليقول كلمة أخيرة.. فلا يمكن أن نخوض فيه دون أن نخوض في كل شيء.. و دون أن نثير القضية كاملة برمتها علما و دينا و.. .]، وكان أولى ببنت الشاطئ أن تجيبه إجابة العالم لطالب العلم فيما يريد فهمه، وإجابة العالم لزميله فيما تتعذر فيه الإجابات – رحمهما الله وتقبل اجتهادهما.
المؤلف



* عائشة محمد علي عبد الرحمن الشهيرة ببنت الشاطئ (1912-1998)، أستاذة جامعية مصرية وباحثة ومفكرة وكاتبة، وهي أول امرأة تحاضر بالأزهر الشريف، وأول امرأة تحصل على جائزة الملك فيصل العالمية، إضافة إلى جوائز أخرى عديدة. عملت بدرجة أستاذ دكتور بعدد من الجامعات العربية، في مصر والمغرب والجزائر بين تسع دول عربية. ومن أبرز مؤلفاتها: التفسير البياني للقرآن الكريم، والقرآن وقضايا الإنسان، وتراجم سيدات بيت النبوة، بين عدد وافر من الكتب والأبحاث، وكذا تحقيق الكثير من النصوص والوثائق والمخطوطات.

[1] عائشة عبد الرحمن، القرآن وقضايا العصر، دار العلم للملايين، 1978، طبعة ثالثة، ص279 وما بعدها، و ص347 وما بعدها.
[2] مرجع سابق، ص 349-350.
[3] "مصطفى محمود"، هو محور هجوم بنت الشاطئ، ورغم وسمها له بطول النقد وعرضه باسم (الصحفي)، وعلى مدار كتابها المشار إليه، إلا أنه قبل أن يكون صحفياً كاتبا، فقد كان طبيباً، ليس كالأطباء، ومفكراً ليس كالمفكرين. فقد حكى عن نفسه – ونحسبه صادقاً - في جمع علمي كريم، ما يتضح معه أنه كان أكبر من يُستخف به:
[4] مرجع سابق، ص 320.
[5] هذه العبارة بين القوسين – من عندنا- لتغلق المعنى الذي أرادته بنت الشاطئ.
[6] نفس المرجع والصفحة.
[7] مصطفى محمود، "القرآن .. محاولة لفهم عصري"، ص 155.
[8] بنت الشاطئ، نفس المرجع، ص 320-321.
[9] مصطفى محمود، "القرآن .. محاولة لفهم عصري، دار المعارف، القاهرة ، ص 131.
[10] السابق، ص 152.
[11] أما السبب الذي احتاط له مصطفى محمود بهذه الضوابط فكانت نقمته على أدعياء النبوة وافتراءاتهم على معاني القرآن بتأويلات باطنية، يتخلصون من ظاهر الحروف، ويتحللون مما توجبه. ومن ثم يتحللون من الاعتراف بحقيقة معجزات الأنبياء، لأنهم لا معجزات لهم، فيكونون والأنبياء سواء! .. وقد أعطى مثالاً لهم، وهو (مرزا حسين أحمد – مؤسس البهائية) حين فسر القرآن وجرَّده من فكرة المعجزة والغيب (الملائكة والشياطين) حتى لا تقوم عليه حجة، ويطالبه أحد بمعجزة، أو بنبأ من الغيب.(مصطفى محمود، "القرآن.. محاولة لفهم عصري"، ص 148-152)
[12] بنت الشاطئ، نفس المرجع، ص 321-322.
[13] المرجع السابق، ص279 وما بعدها.
[14] ص 426.
[15] السابق، ص 280.
[16] مرجع سابق، ص 282.
[17] مرجع سابق، ص309.
[18] مرجع سابق، ص 311.
[19] مرجع سابق، ص 311.
[20] مرجع سابق، ص 318.
[21] يوجد على هذه المدونة دراسات عديدة، قصدنا منها أن تكون أمثلة عملية من تهافتات الإعجاز العلمي، وننوي – إن شاء الله - جمعها في كتاب بعنوان: "براءة الإعجاز العلمي من التهافت". والشاهد في هذه الأمثلة أن كثرة تهافتات أصحابها يولد حسرة في النفس، ويدفع إلى وجوب إيقاف عبث العابثين، ليس بمنعهم من الكلام، بل بإثبات تهافتهم ووجوب ضبط الإعجاز العلمي كمهنة احترافية، توقف المتجرئين على معاني القرآن عند حدهم، أو إخراجهم من دائرة العلماء الموقرة أعمالهم. وأن يكون ذلك كله مع تبرئة التفسير والإعجاز العلمي، وبقائهما مَنحَيان جديدان مرتبطان ببعضهما، ويشهدان للقرآن وعلويته على ما عداه.
[22] عائشة عبد الرحمن، القرآن وقضايا العصر، ص349.
[23] مصطفى محمود، "القرآن .. محاولة لفهم عصري"، ص 42.
[24]  http://www.youtube.com/watch?v=8M8-Nn_OMNA الوقت (1:18)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق