الاثنين، 18 نوفمبر 2013

الفصل (أ10) - محمد حسين الذهبي - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ10) محمد حسين الذهبي
بقلم: عزالدين كزابر
الدكتور محمد حسين الذهبي
عودة إلى فهرس الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
أيد الدكتور الذهبي[1] ما أورده الشاطبي من اعتراضات على التفسير العلمي، ثم عقب وقال[2]:
"هناك أُمور أُخرى يتقوى بها اعتقادنا أن الحق فى جانب الشاطبى ومَن لَفَّ لفه، فمن ذلك ما يأتى:
أولاً: الناحية اللغوية: كثير من الألفاظ القرآنية، تغيرت وتوسعت دلالاتها، بمرور الزمان. وهذه المعاني كلها تقوم بلفظ واحد، بعضها عرفته العرب وقت نزول القرآن، وبعضها لا علم للعرب به، وقت نزول القرآن، نظراً لحدوثه، وطروئه على اللفظ، فهل يعقل أن نتوسع هذا التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن، وجعلها تدل على معان جدت باصطلاح حادث ؟!
ثانياً: الناحية البلاغية: البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال، والتفسير العلمي للقرآن يضر بلاغة القرآن. لأن من خوطبوا بالقرآن في وقت نزوله، إن كانوا يجهلون هذه المعاني، وكان الله يريدها من خطابه إياهم لزم على ذلك أن يكون القرآن غير بليغ، لأنه لم يراع حال المخاطب! وإن كانوا يعرفون هذه المعاني، فلم لم تظهر نهضة العرب العلمية، من لدن نزول القرآن، الذي حوى علوم الأولين والآخرين ؟!
ثالثاً : الناحية الاعتقادية: أنزل الله القرآن إلى الناس كافة حتى قيام الساعة. ولو ذهبنا مذهب من يحمل القرآن كل شئ، وجعلناه مصدراً للعلوم ، لكنا بذلك قد أوقعنا الشك في عقائد المسلمين نحو القرآن الكريم. وذلك لأن قواعد العلوم، وما تقوم عليه من نظريات، لا قرار لها ولا بقاء. ولو نحن ذهبنا إلى تقصيد القرآن ما لم يقصد، من نظريات، ثم ظهر بطلان هذه النظريات، فسوف يتزلزل اعتقاد المسلمين في القرآن الكريم. لأنه لا يجوز للقرآن أن يُكذِّب اليوم ما صححه بالأمس."
أولاً: تكمن خلاصة اعتراض الذهبي في الناحية اللغوية في قوله: "هل يعقل أن نتوسع هذا التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن، وجعلها تدل على معان جدت باصطلاح حادث؟! "
والرد عليه أن مدار الألفاظ على المعاني، ولهذا أمكن الترجمة من لسان إلى آخر، ولو لم تكن المعاني هي الأصل لما أمكن عبورها من لغة إلى أخرى. كما وأن اللفظ الواحد ذو وجوه من المعاني، يجمعها قالب دلالي مشترك. وباعتبار السياق يتعين للَّفظ وجه واحد فريد دون باقي الأوجه. وفي سياق آخر يتعين وجه آخر إن لم يكن الأول، وهكذا. ويصعب استغراق اللفظ لعدد منحصر من الوجوه، لأن القالب الدلالي للّفظ يحتمل عدد غير محدود من المعاني المتحدة القالب. والأمثلة على ذلك عديدة، منها على سبيل المثال لفظ "السماء"، فهي تؤول - إذا انفردت - إلى كل ما هو أعلى بالنسبة لغيره، أي "كلّ ما ارتَفع وعَلا"[3]، أو: سماءك "كلُّ ما عَلاكَ فأَظَلَّكَ"، فيكون من وجوهها - بالنسبة للأرض - كل ما في الكون ويعلو الأرض، ومن ذلك قوله تعالى "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ"(الأنبياء:16)، ويكون من وجوهها السماء الواحدة من بين سبع سموات خلقهن العزيز الرحيم، كما في قوله تعالى "فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا"(فصلت:12). ومن وجوهها الغلاف الجوي كما في قوله تعالى "وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى"(طه:53). ومن وجوهها سقف البيت لأنه أعلاه، كما في قوله تعالى "مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ"(الحج:15). ومن وجوه لفظ "السماء" ما يؤول إليه قول الله تعالى "يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ..." ولم ترسو له في هذه الآية دلالة واضحة حتى الآن. وتكاد هذه القاعدة أن تعم جميع ألفاظ القرآن، أللهم إلا أسماء الأعلام والأجناس. والخلاصة أن اللفظ يحتمل وجوهاً قد تتعدد، ولا ينفرد بإصابة أحدها إلا بسياق مفيد المعنى. وحتى بعد ذلك قد يعمم الوجه المقصود أو يخصص، وقد يطلق أو يقيد، وللأصوليين في ذلك طرقهم في استنباط العلل والأحكام.
وعلى ذلك، يجوز حمل شيء من الاصطلاحات المستحدثة على بعض معاني ألفاظ القرآن في وجوه خاصة لها، بما تسمح به هذه البنية اللغوية للقالب الدلالي للّفظ، ووجوهه المحتملة، والآليات الاستنباطية المشار إليها، واشتراكات محتملة بين معنى السياق القرآني ومعنى الظاهرة الطبيعة (أو الاجتماعية أو الإنسانية أو النفسية). فمن هذه الاصطلاحات في علاقاتها المحتملة مع مفردة "السماء" في القرآن نجد: "الفضاء"، و"الغلاف الجوي" وأي من طبقاته المختلفة، و"المجرات"، والعناقيد النجمية، والنسيج الكوني، و"النجوم"، والثقوب السوداء، و"السُدُم"، و"الأشعة الكونية"، و"الفراغ"، و"الفضاء الفيزيائي"، ... .
وإذا كانت ثقافة المفسِّر ضحلة في المعارف المختلفة، وجديد المكتشفات والظواهر التى تنفلق أسرارها للإنسان دوماً، وإذا كان لم يمتثل لأمر الله تعالى " قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "(يونس:101)، فمثله مثل من يفتي الناس في غير قريته - دون أن يخالط أهلها، ويعلم طباعهم وسجاياهم وبيئتهم ومعايشهم وأحوالهم ولسانهم ودلالات كلامهم، وفي المجمل لم يعرف أعرافهم الاجتماعية، فأنى له يُسقط أحكام الله على واقع غير معلوم ولا مفهوم، وأنى له يُنْكر على المتفحص لكل ذلك من المتفقهه الواعية؛ يريد أن يعلم أن كلام الله تعالى من أحوال هؤلاء الناس هو كذا وكذا، وأن معاني كلامهم من كلام الله تعالى هو كذا وكذا؟!
وإذا كنا ننادي ألا ينغلق الباب دون التوسع الدلالي بما تسمح به المعاني في اللغة، إلا أن ذلك لا يعني تحكيم الاصطلاح الحادث في عام المعنى أو مطلقه، ويندرج هذا في التخصيص بلا مخصص، والتقييد بلا مقيد، ويقع هذا ممن يغلب على تفسيره الظن والهوى والقصور العلمي. ومن ذلك كلمة "ذرَّة" في قول الله تعالى "وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ"(يونس:61). فالاصطلاح الحادث اختار هذا اللفظ "ذرَّة" حديثاً ليعني الجزء الذي لا يتجزء من المادة، رغم أن نفس هذا المعنى كان قد اُختير له اصطلاح آخر في العربية قبل بضعة مئات من السنين، هو "الجوهر الفرد"! وقد كان هذا الاصطلاح الأقدم[6] أدل على المعنى، وأبعد من الالتباس، بما تكشف لاحقاً من أن ما حمل اصطلاح "الذرة" من المادة قابل لأن يتجزأ، رغم أنه متفرد في صفاته! أي أن الخبرة التجريبية أثبتت لاحقاً مفارقة الاصطلاح الأحدث، أي: "الذرة" لما اصطُلح له من معنى. فظن وتوهم بعض المشتغلين بالتفسير العلمي أن تفكُّك ما اصطلحوا عليه بإسم "ذرة" إلى ما هو أصغر منه، كان نبوءة القرآن، وأنه مطابق لما قصدته الآية الكريمة " وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ (أي الذرة).. إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ "! .... ولكن هذا غير صحيح، لأنه كان من الممكن إطلاق لفظ "ذرة" على ما تم تسميته "جزيء" والذي تبين أنه جمْعٌ من عناصر متشابهة (التي سُمِّيت ذرات) دون أفرادها، فهل كان تفكك الجزئ لتلك العناصر المفردة يؤدي إلى تحقق نبوءة القرآن أيضاً لو سمّي الجزيء ذرة، ولو لم تتفكك ما سموه "ذرة"؟! ... وماذا لو بقى الاصطلاح القديم "الجوهر الفرد" هو الاسم المعتمد بدلاً من الذرة، هل كانت نبوءة القرآن – المظنونة - بأن هناك أصغر من الذرة لتنمحي؟! ... ثم بعد أن يظهر أن هذا الجوهر الفرد يتفكك إلى ما هو أصغر منه (البروتونات والنيوترونات والإلكترونات والنيوترينوهات، .. و مئات أخرى من الجسيمات)، فما الذي يمنع أن يُسمى أي أو كل هذه الجسيمات الأصغر ذرات، وليس تجمع منهم على ما هو شائع الآن؟! ... بل ما الذي يمنع أن اصطلاح "ذرة" يُستبقى ويؤثر لما هو أدق من ذلك واُطلق عليه لاحقاً بالإنجليزية وغيرها (كوارك)، أو فئة الجسيمات المسماة ليبتونات، والمعلوم أنه لا تتفكك؟!!! ... الحقيقة أن إطلاق الاصطلاح لا مشاحة فيه كما قال علماء اللغة (إذا فُهمت المعاني ولم تتداخل وتتغامض)، ولكن الخطأ يقع في تقييد اللفظ القرآني ("ذرة" في هذا المثال) بقيود المواضعة دون المعنى. وهنا يكون ضبط التعامل مع اللفظ القرآني هو المنهج السوي، لا منعه كما يؤدي إليه كلام الشيخ الذهبي، ولا التلاعب به – حسب الظن والهوى وقلة الخبرة والحنكة العلمية- كما يفعل الإعجازيون (المتهافتون سريعاً نحو أي إعجاز مهما كان مشتبها).
أما عن الناحية البلاغية فقد اعترض الشيخ الذهبي وقال: "البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال، والتفسير العلمي للقرآن يضر بلاغة القرآن. لأن من خوطبوا بالقرآن في وقت نزوله، إن كانوا يجهلون هذه المعاني، وكان الله يريدها من خطابه إياهم، لزم على ذلك أن يكون القرآن غير بليغ، لأنه لم يراع حال المخاطب! وإن كانوا يعرفون هذه المعاني، فلم لم تظهر نهضة العرب العلمية، من لدن نزول القرآن، الذي حوى علوم الأولين والآخرين ؟!"
أما وأن البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال، فهذا لا مراء فيه. أما المراء فهو في القول بأن من خوطبوا به هم فقط من عاصروا نزوله. نعم، الخطاب القرآني نزل للناس كافة بلسان عربي مبين، ومن وقت نزوله إلى قيام الساعة. والأدلة على ذلك وفيرة ولا ينكرها إلا من لا يعلم الإسلام من آي القرآن، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولو شئنا لسردنا منها ما نعلم، ولسودنا بها صفحات وصفحات.
أما القرآن فمنه المحكم والمتشابه، ولا ينكر ذلك عالم بالقرآن. فالمحكم لا يختلف على فهم المراد منه أول المسلمين من آخرهم إذا تعلم اللسان العربي على وجهه الصحيح. أما المتشابه فهو ما يتكشف تباعاً للناس بما تقتضيه زيادة معارفهم، واختلاف ثقافاتهم إلى ما هو أصوب عن السابقين لهم، فيظل القرآن يخاطب كل أمة من الأمم المتتالية جيلاً بعد جيل، بما يعرفون من آيات دلائل القدرة والعلم، بما لا ينضب معينه، ولا تنقضي عجائبه.
فإذا كانت هذه هي أحوال الناس من استحقاق لمخاطبة القرآن لهم على اختلافهم وتوسع معارفهم، وإذا كان هذا هو القرآن على إحكامه وتشابهه وفيض عطائه وتجدد معينه، فلا بد وأن النموذج البلاغي الذي أورده الشيخ الذهبي قد جانب الصواب حين افترض قرآناً ساكن المعاني، ومخاطبين راكدي الثقافة. ويصبح ما ذَمَّه الشيخ رحمه الله تعالى في انتفاء البلاغة عنه هو قمة البلاغة، وما مدحه الشيخ بدعوة البلاغة ليس "بلاغة" في الحقيقة!
وكما أقررنا أن البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال، ولأن الحال أصبح أمم متعاقبة وثقافات متشعبة ومعارف متجددة، فوجب أن تقتضي بلاغة القرآن ثراء المعاني وتجددها لتفي بمتطلبات كل هذا التنوع. ولا ريب أن يكون ذلك بقَدَرٍ من الله، يخرجه وقتما يشاء، بحكمته البالغة، وهو سبحانه من تعهد ببيان وحيه بذاته العلية، فقال " ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"(القيامة: 19). ويصبح نضوب معاني القرآن على ما فهمه الأولون بقدر وعاءهم الثقافي، وفهم آياته التي كانت متشابهات على ما قيل فيها من قبل، دون أدلة راجحة ولا حجج بالغة، يصبح عبئاً تراثياً، وقيداً فكرياً، واجتراراً معرفياً. وتكون النتيجة انطلاق الحضارات المغايرة استباقاً ومغالبة وفتنة للناس وأخذاً بألباب الأغرار من أبناء المسلمين، فلا يبقى من الدين إلا كتب الأولين، وإن جدّ جديد، فلا يزيد عن النقل عنها، وطحن الطحين.
أما عن الناحية الاعتقادية فقد اعترض الشيخ الذهبي وقال: "أنزل الله القرآن إلى الناس كافة حتى قيام الساعة. ولو ذهبنا مذهب من يُحَمِّل القرآن كل شئ، وجعلناه مصدراً للعلوم، لكنا بذلك قد أوقعنا الشك في عقائد المسلمين نحو القرآن الكريم. وذلك لأن قواعد العلوم، وما تقوم عليه من نظريات، لا قرار لها ولا بقاء. ولو نحن ذهبنا إلى تقصيد القرآن ما لم يقصد، من نظريات، ثم ظهر بطلان هذه النظريات، فسوف يتزلزل اعتقاد المسلمين في القرآن الكريم. لأنه لا يجوز للقرآن أن يُكذِّب اليوم، ما صححه بالأمس."
نقول أن " الالتقاء بين بعض مقولات العلوم الحديثة و بعض المقولات الجديدة في فهم آيات القرآن " لا يتطابق مع الاتهام الذي أتى به الشيخ الذهبي والذي نصه "تحميل القرآن كل شئ، وجعله مصدراً للعلوم". إن واحدة من أهم أوليات الفكر الإسلامي تأصيلاً هي "تحرير محل النزاع". ولا نرى إلا أن الشيخ قد تراءى له محلاً للنزاع لا وجود له، ثم بنى عليه أحكاماً إقصائية. فهذا الالتقاء المشار إليه، لا يستطيع أن يدعي أصحابه مهما أُتوا من جرأة، ومهما حاولوا من إقصاء لغيرهم، أن يقولوا أنه التأويل الوحيد والفريد والنهائي لآيات القرآن. إنه لا يعدوا أن يكون طرحاً ووجهاً محتمل النظر والاعتبار، وجل خطئهم أن يحشروه في الإعجاز، وكان عليهم أن يبقوه محض تفسير، ويجوز لغيرهم أن يحققوه وأن ينقدوه، ولهم إن استطاعوا أن ينقضوه. فالنقاش منفتح الأبواب، والأفهام متفاوتة المشارب ومتفاضلة منح العزيز الوهاب. وتبقى الغلبة للحجة الأقوى، بما يعضدها من وقائع وأحوال، لا لحبس الأنفاس وحجر الأفكار. وما نرى الإسلام قام يناهض الناس ليرغمهم على الإيمان، إنما قام يناهضهم لكسر الحواجز والآصار التي كبل الناس أنفسهم بها، فيصل كلام الله إلى الناس حُراً طليقة، فيقبله من شاء الله له النجاة، ويُعرض عنه من لا يستحقه. إن أصحاب التفسير والإعجاز العلمي بشر كغيرهم، لهم إصابات، ولهم مثلما لغيرهم من الزلات. وقد تقود حماسة بعضهم إلى الزعم بيقين وهمي لا دليل عليه، أو أن يَظهر دليلٌ لا يعلمه أحدهم على خلاف زعمه، وفقط عندئذ يجب التدخل من أهل العلم والتحقيق في كل مسألة مسألة، بأن يردوا الأمور إلى نصابها، ويظل كتاب الله تعالى عزيزاً متعالياً.
وربما يكمن الإشكال في غياب أهل العلم والتحقيق المشار إليهم الذين يردون الباطل، ويدعمون الحق فيه. فمناخ الالتقاء بين القرآن والعلوم الحديثة جديد، لم تتراكم فيه الخبرات بعد، ولا تشكلت له محبوكات المناهج قط.
وما نرى إلا أن مُتَّبعي التفاسير والمذاهب الموروثة - حذو القذَّة بالقذَّة - قد انتفضوا لما أثارته عليهم تلك الثورات الإعجازية الجديدة من تعكير صفو علومهم، فاتخذوا مبدأ "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح". ويُخشى أن تكون معارضتهم لما هو جديد لا عن تحقيق وإصابة، وإنما عن اتقاء وحماية. وليس بمستغرب أن ينقلب شدة الاتقاء، وفرط الحماية إلى نقيض حرية طيور الفكر في الإسلام، والتي ما ناهض الإسلام غيره إلا للدفاع عنها. وأخشى ما نخشاه على الإسلام أن يكون أتباعه قد فقدوا الحُجَّة والبرهان، وآثروا السلامة والاطمئنان. فإن كان، فلله تعالى جنودٌ من الملائكة والأنام، لا يكلُّون فيَنامون، ولا يُصادِرون ولا يَتَّهمون، وهم بعملهم مشغولون.

ولنا في أبي حامد[4] وابن تيمية[5] مثالان، قام الأول فكشف زيف المتفلسفة وتهافتهم، ومخالفتهم للقرآن، وقام الثاني فعرى المنطق الأرسطي العقيم، وكشف خداع وأوهام العقل البهيم. ولو أنهما قطعا ألسنة المتفلسفة والمتعقلة لكان لهم دمٌ ومعهم أعذار، ولمالت معهم قلوب المتذبذبة والفجار، ولَكَمن تحت الرماد ضرامها، وترقب إلى التلظي أزيزها، غير أن للحجة البالغة سلطانها، شديدٌ على أهل الباطل لجامها.
المؤلف




[1] محمد حسين الذهبي (1915 - 1977)، حصل على درجة العالمية، أي الدكتوراه، بدرجة أستاذ في علوم القرآن عام 1946 من كلية أصول الدين، جامعة الأزهر، عن رسالته التفسير والمفسرون التي أصبحت بعد نشرها أحد المراجع الرئيسة في علم التفسير. ترقى إلى عميد كلية أصول الدين، ثم الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية (هيئة كبار العلماء سابقاً)، ثم وزيراً للأوقاف وشئون الأزهر حتى عام 1976. وفي عام 1977 أغتيل على يد جماعة التكفير والهجرة. له مؤلفات عديدة منها: الوحي والقرآن الكريم، الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم دوافعها ودفعها، تفسير ابن عربي للقرآن حقيقته وخطره. التفسير والمفسرون ، مقدمة في علم التفسير ، مقدمة في علوم القرآن ، مقدمة في علوم الحديث ، الإسرائليات في التفسير والحديث ، نور اليقين من هدي خاتم المرسلين.
[2] محمد حسين الذهبي، "التفسير والمفسرون"، 4/391.
[3] كما قال الزجاج – لسان العرب مادة (سما).
[4] أبو حامد الغزالي، في كتابه تهافت الفلاسفة.
[5] ابن تيمية الحراني، في كتبه: نقض المنطق، والرد على المنطقيين، ودرء تعارض العقل والنقل.
[6] وجدنا أن أحدث استخدام عملي لاصطلاح "الجوهر الفرد" لكلمة Atom قريب إلى حدِّ تفاجأنا له، فقد وجدناه في خطبة مترجمة في مجلة المقتطف (فبراير 1915) للفيزيائي الإنجليزي الشهير أوليفر لودج Oliver Lodge. وقد نقل ذلك لنا محمد فريد وجدي في "دائرة معارف القرن العشرين"، الجزء 6/ ص 587، 588. وجاءت العبارة الأولى التي تشمل هذا الاصطلاح "الجوهر الفرد"- من أصل عبارتين -  في الخطبة المترجمة كالآتي: [أن الإنسان ... بدأ اليوم يعرف شيئاً عن بناء الجواهر الفردة.]


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق