الاثنين، 11 نوفمبر 2013

الفصل (أ9) - أبو إسحاق الشاطبي - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ9) أبو إسحاق الشاطبي
بقلم: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
لأبي إسحاق الشاطبي[1] موقف حاسم ضد القائلين بأن القرآن يحتوي بين دفتيه على شيء من المعارف التي لم يعهدها العرب، ويقيم حُجَجه في ذلك على أن "الشريعة أمِّية"، ويقول[2]: [هذه الشريعة المباركة أمية؛ لأن أهلها كذلك، فهو أُجْرِي على اعتبار المصالح، ويدل على ذلك أمور: أحدها:  النصوص المتواترة اللفظ والمعنى، كقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ"(الجمعة:2)، وقوله: "فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ"(الأعراف:158)، وفي الحديث: "بعثت إلى أمة أمية" لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين، والأمي منسوب إلى الأم، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره، فهو على أصل خلقته التي ولد عليها. وفي الحديث: "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"، وقد فسر معنى الأمية في الحديث، أي: ليس لنا علم بالحساب ولا الكتاب. ونحوه قوله تعالى: "وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ"(العنكبوت:48) وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة، الدالة على أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية لأن أهلها كذلك.
والثاني: أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما، إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا، فإن كان كذلك، فهو معنى كونها أمية، أي: منسوبة إلى الأميين، وإن لم تكن كذلك، لزم أن تكون على غير ما عهدوا، فلم تكن لتتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد، وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها، فلا بد أن تكون على ما يعهدون، والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية، فالشريعة إذاً أمية.
والثالث: إنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزاً ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم: هذا على غير ما عهدنا، إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام، من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا، وهذا ليس بمفهوم ولا معروف، فلم تقم الحجة عليهم به، ولذلك قال سبحانه: "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ"(فصلت:44)، فجعل الحجة على فرض كون القرآن أعجميا، ولما قالوا: "إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ"( النحل:103)، رد الله عليهم بقوله: "لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ"( النحل:103)، لكنهم أذعنوا لظهور الحجة، فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدم بمثله، مع العجز عن مماثلته، وأدلة هذا المعنى كثيرة.]
كتب الشيخ عبدالله دراز في شرحه على "الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي" توضيحاً لقول الشاطبي "هذه الشريعة المباركة أمية" وقال[3]: "أي: لا تحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها (يقصد من ذلك: من حيث هي عقائد وتكاليف) إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك، والحكمة في ذلك: أولا: أن من باشر تلقيها من الرسول صلى الله عليه وسلم أُمِّيون على الفطرة. ثانيا: أنها لو لم تكن كذلك، لما وسعت جمهور الخلق من عرب وغيرهم، فإنه كان يصعب على الجمهور الامتثال لأوامرها ونواهيها المحتاجة إلى وسائل علمية لفهمها أولا، ثم تطبيقها ثانيا، وكلاهما غير ميسور لجمهور الناس المرسل إليهم من عرب وغيرهم، وهذا كله فيما يتعلق بأحكام التكليف، لأنه عام يجب أن يفهمه العرب والجمهور ليمكن الامتثال". ثم يُفَنِّد الشيخ عبدالله دراز تعميم كلام الشاطبي لصفة "الأمية" في معنى الشريعة ويقول: "أما الأسرار والحكم والمواعظ والعبر، فمنها ما يدق عن فهم الجمهور ويتناول بعض الخواص منه شيئا فشيئا بحسب ما يسَّره الله لهم وما يلهمهم به، وذلك هو الواقع لمن تتبع الناظرين في كلام الله تعالى على مر العصور، يفتح على هذا بشيء ولم يفتح به على الآخر، وإذا عرض على الآخر أقره على أنه ليست كل الأحكام التكليفية التي جاءت في الكتاب والسنة مبذولة ومكشوفة للجمهور، وإلا لما كان هناك خواص مجتهدون وغيرهم مقلدون حتى في عصر الصحابة، وكل ما يؤخذ من مثل حديث "نحن أمة أمية" ما ذكرناه على أن التكاليف لا تتوقف في امتثالها على وسائل علمية وعلوم كونية وهكذا."
ونقول: أنْ يجعل كلام الشاطبي من وصف الشريعة "شريعة أمِّيَة"، ويحمل هذا الوصف لينسحب على كامل محتوى القرآن من قيمة معرفية، وتتوقف مع الزمن عند صدر الإسلام الأول، وتظل هكذا وحتى قيام الساعة، فهذه حالة عطالة معرفية، تتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه"(الترمذي)، إضافة إلى أنه أمر غير مُبَرَّر ضرورةً بالعلّة التي ساقها الشاطبي، وفنّد عمومها الشيخ عبدالله دراز. وللوقوف على تفصيل ذلك، نوجز ما أقمنا عليه الحجة في دراسة "فضيلة"الأُمِّية وبراءتها من يقين الحساب الفلكي في رؤية الهلال" من معنى "الأمية" في كتاب الله تعالى "النبي الأمي" و "الأميين".  وكانت خلاصة هذه الدراسة أن "الأمية" تعني الحالة المعرفية الغضة التي على مُسْتَقْبِل الشريعة أن يكون عليها كي لا يكون لتأثير ثقافته السابقة - إن لم يكن أمياً - أي تشويش معرفي، يطمس شيئاً من رونق الشريعة ونضارتها، ويعكر معانيها الخالصة، كما أرادها الشارع الحكيم، سبحانه. وقد شبّهنا في تلك الدراسة إنزال الله تعالى رسالته – القرآن - على قلب النبي – صلى الله عليه وسلم- والأمة الحافظة لها،كمن يسكب طعامه وشرابه في إناء. وإذا كان أحدنا لا يقبل أن يضع طعامه إلاّ في إناء طاهر، فكيف بالقلب الذي تتقاطر فيه آيات الله تعالى! .. أفلا يكون الأنقى والأطهر؟! .. وما ذلك إلا القلب النقي معرفياً، أي القلب الأُمّي، والأمة الخالية من آثارات الحضارات السالفة، أي الأمة الأمِّية. أي أن الأمِّية حالة معرفية قِبلية لمستقبل دين الإسلام، وليست شرط ملازم للمسلمين على الدوام.
والمفارقة أن الدراسة التي أشرنا إليها، كانت قد أُعدت لعدة أغراض، منها الرد على الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله تعالى - حين قال[4] بأن شرط رؤية الهلال العيانية ارتبطت بأمية أمة الإسلام التي نزل فيها الإسلام، لعلة النص عليها في حديث النبي عن دخول الشهر الهجري، فكان حُجته أن زوال الأمية عن المسلمين تعفيهم من لزوم الرؤية، وأن الحساب الفلكي عندئذ هو الأنسب. فكانت الأمية عنده قد زالت على التمام، ومن ثم، أراد أن يمحو معها كل ما رآه قد ارتبط بها. وإذ بنا هنا نرى من الشاطبي الرأي الضد من ذلك، أي: قوله أن بقاء الأمية في الشريعة أمر لازم لمعناها الذي لزمها ليناسب من أنزلت عليهم، ومن ثم بقاء الشرع الإسلامي - ويقصد منه المحتوى المعرفي لما في القرآن بتمامه - كما هو مطابقاً لما كان عليه السلف! ومن ذلك أن عِلَّة "الأمية" قد أوّلها الراغبون في محو الشريعة بزوال الأمية على التمام[5] ومن وراء كل ما يلزم عنها حسبما يرى هو، أما الراغبون في مطابقة ما كان عليه السلف – الخطوة بالخطوة والقذة بالقذة – مهما استجدت مسائل الحياة، ، وانكشاف معاني المخلوقات، ومنهم الشاطبي، فرأوا أن الشريعة أمية لأن أهلها الذي أنزلت عليهم كانوا كذلك، فلتتطابق حياتُنا وتصوراتُنا حياتَهم وتصوراتَهم، ولنعش ما عاشوا، ولنمحُ ما لم يشاكل ما كانوا عليه. فكان التأويلان على الضد من بعضهما، الأول يجردنا من الشريعة بما تجردنا به من الأمية، والآخر يعيدنا إلى أمية ما أنزل الله بها من سلطان، و لا ريب أن كلّاً منهما قد طوع معنى "الأمية" حسب رؤيته، لا حسب معاني آيات القرآن المنزَّهة عن التصورات القريبة!
والمستَغْرب في كلام الشاطبي آليته البرهانية في إقصاء ما لا يجيزه، حيث نراه يستخدم المنطق الأرسطي في ثنائيته المتواترة بحصر الإشكال بين الصدق والكذب (إما وإما) وذلك في قوله [أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمِّي صلى الله عليه وسلم إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما، إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا، فإن كان كذلك، فهو معنى كونها أمية، أي: منسوبة إلى الأميين، وإن لم تكن كذلك، لزم أن تكون على غير ما عهدوا.] حيث يضطر الخصم إلى قبول أحد الأمرين، وحيث أن الأمر الأخير لا شك في ضلاله (من كون الشريعة على غير ما عهد العرب) فيلزم الخصم أن الشريعة أُمّية! ... وهو لزوم ما لا يلزم بالمعنى الذي أراده الشاطبي. وهذه قسمة غير سديدة. فمن جهة كون المنطق الثنائي هو عين المنطق الأرسطي، فهذا يوقع الشاطبي في تناقض استخدامه المنطق الذي نبذه لاندراجه فيما يخرج عن الأمية، ومن جهة ثانية أن القسمة العقلية في موضع النزاع ليست ثنائية، لأن الشريعة أمية من الجهة (التكليفية التعبدية)، وغير أمية من الجهة (الاجتهادية العلمية). ومعلوم مدى الفساد الناتج عن إقصاء ما في الشريعة مما هو من تكاليف العلماء، ولا يمكن إدراجه في أمية شرائعية!
ونلحظ في حجج الشاطبي التي ساقها أعلى إشكال مربك، وذلك في قوله " إنه لو لم يكن (الشرع) على ما يعهدون (أي العرب) لم يكن عندهم معجزاً ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم: هذا على غير ما عهدنا، إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام، من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا، وهذا ليس بمفهوم ولا معروف، فلم تقم الحجة عليهم به، ولذلك قال سبحانه: "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ"(فصلت:44)" ويمكن لم شاء من خصوم الإسلام من غير أهل العربية أن يستخدم نفس حجة الشاطبي هنا ويقول بلسان قومه: "لولا فُصّلت آياته" أي بلسان القائل، يحتج بذلك لكونه غير ما يفهم من أعجميته، مثلما كان العرب ليحتجوا لو لم يكن القرآن عربياً، والذي لم يلحظه الشاطبي – عفا الله تعالى عنه – أن الآية ذاتها قد أجابت عن هذه الحجة، سواء كانت من العرب لو لم يكن القرآن عربياً، أو من العجم باعتبار أن القرآن غير أعجمي، وجاءت الإجابة صريحة موجزة بليغة فصيحة "أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ"؟! ... أي: ليست العبرة بعربية القرآن ولا أمية أهل العربية، ولا لغير عربيته لو لم يكن عربياً. ففي أي لغة نزل ففيه الهدى، إلا أن مشيئة الله تعالى، وتقديره أن يكون القرآن عربياً. فالحجة مردودة، سواء كانت من عرب لقرآن غير عربي، أو من عجم لكون القرآن عربي. فـ عِلّة الإعجاز والتحدي القرآني واقعة في المحتوى المعرفي للقرآن، وليست في كونه عربياً ولا أُمّياً. وأيما لغة نزل بها القرآن، فحتما سيكون في أعلى درجات البلاغة والنظم والفصاحة، غير أن التحدي بذلك لا يُبتدأ به إلا بعد الإتيان على معاني صادقة، وأنّى لبشرٍ أن يأتي بمعاني صادقة وتظل صادقة ما دامت على الأرض شمسٌ تشرق؟! وعلى ذلك يكون التحدي بالصدق والقيمة المعرفية أساس الإعجاز والتحدي، فمن يتجاوزه – وهيهات- فليتحدّى بالبلاغة والنظم والفصاحة والجزالة. وهذا الأخير ممتنع لممتنع –ومثله مثل من يصمم بيتاً يسكن فيه على المريخ، وهو يعلم أن الحياة على المريخ محال- فما جدوى البحث والنظر في مثل فعله؟! (أنظر في ذلك مقالة: كيف يكون القرآن العربي معجزًا للأعجمي؟)
وإذا راعى الشاطبي المعنى الحقيق للأمية، وأنها صفة قِبلية للمُرْسل إليه الإسلام، ولمن بقى منهم على فطرته وسجيته من عوامهم دون خواصهم، وأنها تتعلق بالتكاليف التعبدية والمناسك وليست للطبقات الفقهية العليا من لوازم الشريعة، التي منها علوم حسابات المواريث، والمواقيت، وأصول الدين الفقهية والعلمية، وما وراء ذلك من حجاج الكافرين، وسجالات المتفقهين، ووصف للخلق والأرض والسماء، وما يرتبط بكل ذلك من دقائق وأسرار، لما كان له أن يقول[6]: "ما تقرر من أمية الشريعة، وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب، ينبني عليه قواعد، منها: أن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدَّ ؛ فأضافوا إليه كلَّ علمٍ يُذكر للمتقدمين أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات والتعاليم (أي الرياضيات من الهندسة وغيرها)، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من أهل الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح .. وإضافة إلى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن، وبعلومه، وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحدٌ منهم في شئ من هذا المُدَّعى، سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة وما يلي ذلك. ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشئ مما زعموا! وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى"وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"(النحل:8).وقوله "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ"(الأنعام:38) ونحو ذلك …، فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين: ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ"(الأنعام:38) اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع تلك العلوم، النقلية والعقلية … فليس بجائز أن يُضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصلح أن يُنكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه، على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة، فَبِه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له، ضل عن فهمه، وتقول على الله ورسوله فيه، والله أعلم وبه التوفيق."
 و قد رَدَّ على حجج الشاطبي، الطاهر بن عاشور - رحمه الله تعالى - في تفسيره وقال[7]: "هذا (الكلام) مبني على ما أسسه (الشاطبي) من كون القرآن لـمَّا كان خطاباً للأمِّيين وهم العرب فإنما يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرتهم وطاقتهم، وأن الشريعة أمّية. ... وهو أساس واهٍ لوجوه ستة:
الأول: أن ما بناه عليه يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب من حالٍ إلى حال، وهذا باطل لما قدمناه، قال تعالى "تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا"(هود: 49).
الثاني: أن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة وهو معجزة باقية فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة.
الثالث: أن السلف قالوا (يقصد كما جاء في الحديث): "إن القرآن لا تنقضي عجائبه"، يعنون معانيه، ولو كان كما قال الشاطبي، لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه.
الرابع: أن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه، ما لم تف به الأسفار المتكاثرة.
الخامس: أن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء، لا يقضي إلا أن يكون المعنى الأصلي مفهوما لديهم، فأما ما زاد على المعاني الأساسية، فقد يتهيأ لفهمه أقوام، وتحجب عنه أقوام، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
السادس: أن عدم تكلّم السلف عليها، إن كان فيما ليس راجعاً إلى مقاصده فنحن نساعد عليه، وإن كان فيما يرجع إليها، فلا نسلم وقوفهم فيها عند ظواهر الآيات، بل قد بيَّنوا وفصَّلوا وفرَّعوا في علوم عنوا بها، ولا يمنعنا ذلك أن نقتفي على آثارهم في علوم أخرى، راجعة لخدمة المقاصد القرآنية، أو لبيان سعة العلوم الإسلامية، أما ما وراء ذلك فإن كان ذكره لإيضاح المعنى فذلك تابع للتفسير أيضا. لأن العلوم العقلية إنما تبحث عن أحوال الأشياء على ما هي عليه، وإن كان فيما زاد على ذلك، فذلك ليس من التفسير لكنه تكملة للمباحث العلمية، واستطراد في العلم لمناسبة التفسير، ليكون متعاطي التفسير أوسع قريحة في العلوم."
وقال أيضاً في موضع آخر[8]: "والشاطبي قال في الموافقات: "إن القرآن لا تُحمَل معانيه ولا يُتَأوّل إلا على ما هو متعارف عند العرب" ولعل هذا الكلام صدر منه في التفصي (الخروج ) من مشكلات في مطاعن الملحدين؛ اقتصاداً في البحث وإبقاءً على نفيس الوقت، وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كل العصور؟! وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ عجزوا عن معارضته؟! وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة والفصاحة، فهذا إعجاز إقناعي بعجز أهل عصر واحد ولا يفيد أهل كل عصر إدراك طائفة منهم لإعجاز القرآن."
وإذا كان الطاهر بن عاشور، ومن قبله محمد عبدالله دراز، قد كَفَيانا مؤونة الرد، وخاصة ما أتى به ابن عاشور من تفصيل، إلا أنه يحق لنا أن نبحث عن علة أحكام الشاطبي، التي أدت به إلى حيود قياسه عن القبول.
وقد يكون من أمثل النماذج فيما نحن بصدده من علة الأمية في الأحكام – والتي احتكم إليها الشاطبي- مسألة الهلال ودخول الشهر القمري، وما فيها من خلاف بين النظار حول الوفاء بالرؤية البصرية للهلال كما جاء في صريح أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - أو الاستعاضة عنها بالحساب الفلكي. فقد جاء نص حديث النبي كالآتي: [إنا أُمّة أمِّيَة لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا ...] ولا خلاف على أن علة عدم استخدام الحساب هنا "أمية الأمة"، والحكم هو الاقتصار فقط على رؤية الهلال رؤية عيانية صريحة. .. ولكن، هل تُعمم هذه العلة لكل أحكام الإسلام؟! ... وما جاء به الشاطبي، ونحن بصدده في هذه الدراسة، هو أنه عمم هذا الحكم على كل أحكام الإسلام، ممثلاً بالمحتوى المعرفي للقرآن. إلَّا أن التسليم بهذا التعميم غير متيسر، ولا مأمون من الاعتراض كما رأينا. .. بل إن ما قبله من المطابقة بـالأحكام الفقهية للمحتوى المعرفي للقرآن نفسه محل تساؤل ينبغي تقريره قبل حمل الأحكام الفقهية وعلتها (الجامعة المفترضة) التي هي الأمية على معاني القرآن. لأنه معلوم أن آيات الأحكام لا تمثل فقط إلا بعضاً قليلاً من آيات القرآن. .. بل وقبل هذا وذاك، هنا علة الأمية وتحكيمها على انفراد في دخول الشهر العربي. وهي مسألة غير مُسلَّم بها، إذ لا يمتنع أن يجتمع مع علة الأمية علل أخرى، يجب الوفاء بها. وهذا كله بخلاف أن حكم الهلال وتعليله بالأمية جاء نتيجة لصراحة النص في إقرار العلة، ويصبح تعدية الحكم بالأمية لغير ذلك من مسائل لا نص فيها للعلة أمراً مشكلا. ... ومن الواضح إذاً أن اقتفاء آثار ولوازم عموم حكم الأمية الذي اعتمده الشاطبي لا يتسم باليسر ولا الصراحة التي تبدو عليها. ويصبح أصل الحكم الذي بنى عليه الشاطبي حكمه الفرعي أمراً غير مستقر، ويسهل التشكيك فيه من جهات عديدة[9].
وأخيراً، .. نرى أن لهذا الموقف والحكم والرأي – أياً كان تصنيفه- من أبي إسحاق الشاطبي، صدىً لاحق أو رنين سابق في مواقف المدرسة الدينية – على اختلاف مذاهبها – من التصنيف الفكري بجملته عند المسلم. بمعنى أن أي مظهر فكري يعترض المسلم أصبح يُصنف – تصنيفاً صريحاً أو ضمنياً – بين تصنيفين لا ثالث لهما؛ ويصبح إما أنه من الدين، وهذا مصدره النقل، ويصبح الناقلون فيه أميون وظيفياً، ولا إعمال فيه لعقل إلا الحفظ والمدارسة، ... ولماذا؟ ... لأن العرف والحال في من نزل القرآن فيهم هو الأمية حتى وإن كتبوا ودوَّنوا. أما التصنيف الثاني، فهو العقل، وهذا مجاله غير مجال الدين، وفيه يمارس العقل حرية لا غبار عليها، طالما أنه لا يمس من الدين شيئاً، ... وهنا كانت الازدواجية المعرفية عن المسلم، القديم والمعاصر. ما بين دين ودنيا، ثم صار الشعار بعد القرون الأخيرة، وطفرة العلوم الحديثة: لا دين في العلم، ولا علم في الدين! ... واتسعت رقعة الحرية اللادينية من الدنيا إلى العلم إلى السياسة إلى كل مناحي الحياة التي طرقها العقل الإنساني تحت ستار العلم. وانحسرت رقعة الدين، حتى كادت ألا تتسع إلا للعبادات والمناسك، وتسارعت وتيرة المواجهة، حتى بات العلم يناقش مجتمع الدين والمتدينيين، وصلة الدين بالأساطير، والفعل التاريخي والإنساني التقديسي لكل ما هو عزيز. وأصبح الدين مادة للدراسة في أيدي المزهوين بالعلم. ...
والسؤال هو: متى يكف حملة لواء الدين عن التقهقر المعرفي، تعللاً بـ (أُمّيّة الشريعة)، حتى وإن جادلوا بالتي هي أحسن – بما يظنون أنه أحسن في اللغة فقط؟! ... رغم أنه ينبغي أن يكون أحسن في كلِّ شيء، لغةً وخبرةً ودرايةً وتجربةً وإحاطةً وتنظيراً وترجيحا!!
المؤلف



[1] أبو إسحاق الشاطبي (720-790 هـ)، هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي، الشهير بالشاطبي. أصولي حافظ محدث، لغوي مفسر مع الصلاح والعفة، والورع واتباع السنة واجتناب البدع. نشأ بغرناطة، وأخذ عن أئمة منهم: ابن الفخار وأبو عبد الله البلنسي وأبو القاسم الشريف السبتي وأبو عبد الله الشريف التلمساني والإمام المقري. كان رحمه الله من العلماء العاملين المجاهدين في إظهار الدين وإبطال البدع وإماتتها. له تآليف نفيسة منها: 'الاعتصام' و'الموافقات' و'المجالس' شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري و'الإفادات والإنشاءات' وغيرها.
[2] الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق الشاطبي، شرح الشيخ عبدالله دراز، الجزء الثاني، دار المعارف، بيروت، ص 69.
[3] السابق، حاشية نفس الصفحة.
[4] شاهد ذلك أنْ قال الشيخ أحمد محمد شاكر: [الأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللا بعلة منصوصة، وهي أن الأمة "أمية لا تكتب ولا تحسب"، والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما، فإذا خرجت الأمة عن أميتها، وصارت تكتب وتحسب، أعني صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم، وأمكن الناس عامتهم وخاصتهم أن يصلوا إلى اليقين والقطع في حساب أول الشهر، وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية أو أقوى، إذا صار هذا شأنهم في جماعتهم وزالت علة الأمية: وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت، وأن يأخذوا في إثبات الأهلة بالحساب وحده، وأن لا يرجعوا إلى الرؤية إلا حين يستعصي عليهم العلم به، كما إذا كان ناس في بادية أو قرية، لا تصل إليهم الأخبار الصحيحة الثابتة عن أهل الحساب، وإذا وجب الرجوع إلى الحساب وحده بزوال علة منعه، وجب أيضا الرجوع إلى الحساب الحقيق للأهلة، وإطراح إمكان الرؤية وعدم إمكانها، فيكون أول الشهر الحقيق الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد غروب الشمس، ولو بلحظة واحدة](أحمد محمد شاكر, "أوائل الشهور العربية: هل يجوز شرعاً إثباتها بالحساب الفلكي؟"، رسالة كتبها 13 فبراير 1939هـ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1987، ص 14-15. وقد أخذ بهذه الفتوى عدد من مؤيدي الحساب الفلكي وما زالوا إلى يومنا هذا، رغم ما يقال عن أنه ربما تراجع عنها.)
[5] أما بقاء علة الأمية في رؤية الهلال، فلا يمكن إنكارها عن عوام المسلمين في شتى أنحاء الأرض الذين ربما يتجردون من جميع أسباب المدنية، فيظل الهلال لهم هادياً ما بقى القمر في السماء. هذا بالإضافة إلى أن مناسك الإسلام لا تتغير بتطور أسباب الحياة وتمدنها، وإن اختلف وسائل آدائها، من تنقل، وتبليغ، وغيرها. يراجع في ذلك دراسة "براءة الأمية"
[6] السابق: ص 79.
[7] محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1420-2000، الجزء الأول، ص 42.
[8] (التحرير والتنوير، 1/ 126) – من 124 وحتى 127 أو بعدها.
[9] انتقد حمزة يوسف هانسن (الأمريكي المسلم) هذه العبارة للشيخ أحمد شاكر نقداً لاذعاً وقال: [يوجد بهذه العبارة أخطاء شنيعة من الممكن أن تضل الناس، وأول هذه الأخطاء أن الشيخ - أحمد شاكر - استخدم واحدة من أدق المبادئ الأصولية – يقصد القياس الفقهي- بدون أي ضبط، وتلك التي تخطئ التزام الرؤية بعد الخروج من الأمية حسبما تفيد العبارة]
(Hamza Yufuf, Caesarean Moon Births: Calculations, Moon Sighting, and the Prophetic Way, Zaytuna Institute, USA, 2007, P.49

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق