الثلاثاء، 7 يناير 2014

الفصل (أ17) – محمد عزة دَرْوَزة - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ17) محمد عزة درْوَزة
بقلم: عزالدين كزابر
الأستاذ محمد عزة درْوَزة
عودة إلى فهرس الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
في معرض تفسير الأستاذ محمود عزة دَرْوَزة[1] لقول الله تعالى "بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ"(القيامة:4)، قال رحمه الله[2]: "قرأنا مقالاً أراد صاحبه أن يجعل صلة بين اختصاص البنان بالذكر، وبين ما ظهر حديثاً من علم بصمات الأصابع، وما ظهر له من خطورة في إثبات شخصيات الناس، وتمشياً مع الفكرة التي سادت بعض الناس من استخراج النظريات العلمية والفنية والكونية من الكلمات والآيات القرآنية للتدليل على صدق القرآن وإعجازه، ومعجزات الله المشار إليها فيه، وفي هذا في اعتقادنا تحميل لكلمات القرآن وآياته غير ما تتحمل، وإخراج له من نطاق قدسيته، وغايته، وتعريض له للجدل والنقاش."
نقول: رددنا في موضع آخر على ما ذكره الأستاذ دروزة هنا من إشكالات "استخراج النظريات العلمية والفنية والكونية من الكلمات والآيات القرآنية ..  والظن بـتحميل كلمات القرآن وآياته غير ما تتحمل"، وبيَّنَّا أن أخطاء المفسرين واردة، بل إنها كثيرة. وهذا لا يمنع سلامة مبدأ التفسير، مثلما أن أخطاء الأطباء لا تمنع سلامة مبدأ التداوي. إذ أن الآيات القرآنية إذا تعلقت بما خلق الله من شيء، فحتماً أن كل ما تقوله عنه حق، ومن ثم، لا يجب أن يُمنع المتدبرون لآيات الله تعالى من استقصاء معانيها. وإن كان من مؤآخذة، فعلى المتهافتين في التفسير بما عُلم من أخطائهم المنهجية أو العلمية التفصيلية، أما إن كانت المسألة تنحصر في عدم قدرة المانعين من تمييز الصواب من الخطأ في مسائل التفسير العلمي، فهنا يقع الإشكال الحقيقي. ... وهو ما سنُعرِّج عليه بعد قليل.
وننتقل إلى ما أثاره الشيخ دروزة من الاختلاف والجدل الناشئ، بما يستوجب شحن الرد على جواز الاختلاف والنقاش في معاني الآيات المتشابهات، التي جد لها من المعاني ما لم يكن معروفاً من قبل، وذلك في ثنايا الحث على التفكر والتدبر في كتاب الله من منظورات المحدثين من الناس، وللرد على الباطل من تفسيراتهم، وهو أمر يقع فيه الناس في كل شأن من شئونهم. ولولا الاختلاف والاختصام، لما عرف المخطئ خطأه، ولما انتبه الناس لمزالق أفكار المتكلمين، قدماء ومحدثين. كما وأن الاختلاف علامة على حيوية موضوعاته، وإلا عُدت في عداد موات الأفكار. ويُعد بقاء مدونات الخلافات العلمية وعاءاً لتأريخ موضوعاته وقصة لسيرورته. وما نشأ العلم الحديث ونما وامتد وطاف وظهر، إلا مع دوام اختلاف أصحابه فيه، فيصوَّب بعضُهم بعضا، وينبش في خبايا المسائل وثنايا الأدلة، ومواطن الضعف فيها. فيتقوى القوي، وينخذل الضعيف.
فالنقاش والاختلاف، ولا نقول الجدل العقيم، مزية لمن عرف ثمارها، ولا ينبغي أن يُخشى منها على تدبر القرآن وتدارك معانيه الأقرب إلى مراد الله تعالى، وفي هذا يقول الله تعالى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ"(هود:118-119). والاستثناء –"إِلَّا مَنْ رَحِمَ"- لا ينقُض الخلاف، ولكن ينقض عدم اتخاذ الخلاف منهجية علمية، ومن منهجيته أن يتفتق عن حلول محسومة بعد اشتباهها. فالـمُختَلِف مع غيره في سبيل الحق، ويكف إذا وصل إليه، هو الـمُستَثْنَى، على نقيض المختَلِف لمحض الاختلاف، المشاكس في الحق، الجاحد له، بعدما يتبين! .. فهذا مجادل لا يبغي الحق، وهذا لا استثناء له، ولا يدخل فيما أشارت إليه الآية من رحمة.
ويقول الأستاذ دروزة[3]: "لقد نزل القرآن بلسان العرب على قومٍ يفهمونه، وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بشرحه وتبيانه، والنظريات الحديثة لم تكن معلومة ولا مكشوفة، ولا يصح لمسلم مهما حسنت نيته، أن يدعي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يكن يعرف جميع ما تضمنته آيات القرآن".
العبارة الأولى " نزل القرآن بلسان العرب على قوم يفهمونه" غير صحيحة على إطلاقها، فالآيات المتشابهة غير مفهومة الدلالة على جهة اليقين، ويعلم المؤمنون أنها حق، ويتعبدون بها كما أمرهم الله تعالى، ولكنهم لم يقفوا على معاني كافة آيات القرآن وإن تظاهرت ألفاظ آياته بما يألفون. أما نظم الألفاظ التي يألفون في مفيد من القول فغير موقوف عليه، فكان – وما زال كثير منه- من المعاني التي في طريقها إلى الانكشاف بقَدَرٍ من الله سبحانه، وعندها، تصبح هذه الآيات من المحكمات.
وقد أمر الله تعالى نبيه بتبيين معاني آياته للناس، في قوله تعالى "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"(النحل:44)، ولكن هل هذا يعني تبيان الرسول صلى الله عليه وسلم لكل آيات القرآن؟ - لا، فالمأثور من تفسيره صلى الله عليه وسلم قليل! مما دلل على أن النبي قد بيَّن لأصحابه فقط ما كان يحتاج منه الناس أن يعلموه من اعتقاد وعمل في ذلك الوقت. وتبقّى الكثير من الآيات محل نظر من أهل التفسير واللغة. ولإصابة القول في هذه المسألة يلزم الانتباه إلى الآيات التي هي من المتشابه، كما قال تعالى " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ"(آل عمران:7)، وأن المتشابهات غير مشمولة بما بينه النبي، وأن البيان التام لآيات الله تعالى إنما سيبينه الله تعالى – في مستقبل الآيام - كما قال سبحانه: "ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"(القيامة:19) بما يدلل عليه حرف التراخي (ثم) وأن هذا أمر عائد إلى الله سبحانه (إِنَّ عَلَيْنَا) بما يسبب له من الأسباب، ويُخرج المعاني للناس فيعرفونها كما قال سبحانه "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"(النمل:93).
أما القول بأن التفسير العلمي بما ظهر وانكشف معه أسرار في خلق الله تعالى – وقد تآلفت مع معاني آيات القرآن - يجعل من يخوض فيه مدعياً بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف جميع ما تضمنته آيات القرآن، فقول لا سند له، ولا شواهد عليه. وإن تجرأ أحدٌ على نفي العلم بمعاني أيِّ من آيات الله عن النبي، فلا يعدو كلامه أن يكون حماقةً وغرورا، ولا يلزم وزره أحداً سواه. فرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى مقاماً، وأشرف علماً مما ظن هذا المتحامق! وما بالنا بمن علَّمه الله تعالى من لدنه كما قال سبحانه: "وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا"(النساء:113)؟! وما بالنا بمن أراه الله تعالى من آياته الكبرى، فقال سبحانه " لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى"(النجم:18)، ومعلوم أن الرؤية أشد أنواع العلوم يقيناً وحقيقة، كما قال تعالى "ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ"(التكاثر:7). كما وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو القائل: "والله لو تعلمون ما أعلم لـ ..."(البخاري)، ويدل هذا التعبير على عدم انحسار علمه صلى الله عليه وسلم فيما نطق به أمام الناس. فمن ذا الذي يتجاسر بعد ذلك ويدعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم كيت وكيت مما تعالم به بعض الناس على بعض؛ يضاهئون علوم أنفسهم وأمثالهم بعلوم الأنبياء، صلوات الله عليهم جميعاً، كما كان يفعل حمقى المتفلسفة من أهل القرون السالفة، في قولهم أن الحكمة هي الفلسفة، وليست إلا الفلسفة؟!
وفي موضع آخر من تفسيره، يقول الأستاذ  دروزة[4]: "المضامين القرآنية في هذه المواضيع (يقصد ما ذَكَرَه قبلها من ذِكْر لآيات الخلق من جريان الشمس و,,, وجعل الأرض بساطا، وتصويرها مركزا للكون والإنسان، و..) متسقة مع ما في أذهان سامعي القرآن عن مظاهر الكون ومشاهده ونواميسه، وتجلي عظمة الله وقدرته فيها. وهذه النقطة متصلة بالمبدأ العام الذي ما فتئنا نقرره من أن القرآن خاطب الناس بما يتسق مع ما في أذهانهم إجمالا من صور ومعارف لما يكون من قوة أثر الخطاب فيهم بمثل هذا الأسلوب. ..... "
تعترينا هنا دهشة بالغة! ... فما ذكره "الأستاذ دروزة" مما (في أذهان سامعي القرآن عن مظاهر الكون ومشاهده ونواميسه) يتفاوت من زمن إلى زمن، بفعل التبدلات الحضارية، وإن صدق تصورهم في زمن، فلا بد أنه يجافي الصدق في غيره، فأي هذه التصورات هو الصحيح؟! ... وكيف تتسق معاني الآيات مع ما في أذهان بعض السامعين من تصورات تخالف الحق؟! ... إلا أن يكون قاصداً صدر الإسلام الأول، وما تلاه، مما عرف بالقرون الأولى، أو بعصر السلف. .. ومعلوم بالفعل أنهم كانوا يظنون أن الأرض في مركز الكون، باعتباره مثالاً على كثير سواه، وكما ذكر هو عنهم في صريح كلامه أعلى، ولكننا نعلم الآن أن هذا التصور غير صحيح. فكيف يجاري القرآن أسماع الناس– كما يزعم الأستاذ دروزة – وهم على خطأ؟!
نعم، قد نفهم أن القرآن لا يفجأ سامعيه بما يخالف تصورهم مخالفةً تجرح أفهامهم، فَتُنَفِّرَهُم من مقاصد الرسالة الأهم، لأسباب ثانوية في درجة الأهمية، ولكننا نعلم أن ذلك قد يتم بشيء من التلميح، واشتباه المعاني، فيفهمها السامعون على نحوٍ لا يصدم تصورهم إذا تأولوه حسب فهمهم، دون قطع بالمعنى، طالما أنه لا يمس أم الكتاب (نقصد المحكم منه)، ولكنه لا يجب أن يخالف الحقيقة بحال إذا فُهم على مراد الله تعالى منه. وهذا يؤكد أن الحق في معاني الآيات لابد وأن يستقل عن خاطئ التصورات. ويصبح الاقتراب من الحق في هذه التصورات، اقتراباً من الإحكام لمعاني الآيات الكونية. ويكون تدبر الآيات الكونية على هذا النحو أمراً ممدوحاً، لا حسب ما يفهم القارئ من كلام الأستاذ دروزة من أنه أمر مُشكل ومثير للجدل، ومُعانِد لمقصود القرآن.
ويستكمل: " ملاحظة ذلك جوهرية جدا لأنها تجعل الناظر في القرآن يقف من الفصول الواردة في هذا الباب فيه عند الحدّ الذي استهدفته والذي أشرنا إليه، وتحول بينه وبين التكلف والتجوز والتخمين والتزيد ومحاولة استخراج النظريات العلمية والفنية في حقائق الكون ونواميسه وأطواره منها والتمحل والتوفيق والتطبيق مما يخرج بالقرآن عن نطاق قدسيته .. "
نقول: نعم، إذا كانت هذه التحذيرات والتوجيهات لأهل فضول الكلام، والتهافت، واللغو والتخمين والرأي المذموم، المفتقرون إلى أدلة وبراهين وعلومٍ طلعها هضيم، ولكن إذا كان الأمر من باب البحث التفسيري، الذي يجري على تُوءدة، ورَويّة، وفهم، وبمنهجيات التحليل والتنقيب، واختبار المعاني، والترجيح بما هو أصدق في الخلق والنقل، فلا ينبغي الحَجْر والصد والإقصاء والنيل من المجتهدين طالما كان اجتهادهم وتدبرهم يجري بحقه.
ويستكمل ويقول: "لملاحظة ذلك (أي ما سبق من اتساق القرآن مع تصورات الناس العامة) فائدة عظيمة لذاتها، حيث تجعل المسلم غير مقيد بنظريات كونية معينة يوهم أنها مستندة إلى القرآن ومستخرجة منه- مع ما في هذا دائما من تَمَحُّل- وتبقيه حراً طليقاً في ساحات العلوم والفنون ونظرياتها وتطوراتها وتطبيقاتها فلا يختلط عليه الأمر ولا يصطدم في السير، ويكون كل ما يجب عليه أن يظل من ذلك أن يظل في حدود الأسس والأهداف والمبادئ والمثل العليا وفي نطاق أركان الإيمان العامة التي قررها القرآن، وحيث يظل قصد القرآن ومداه ومفهومه سليما في جميع الأدوار، يخاطب بآياته وفصوله مختلف الفئات في مختلف الأزمنة فيثير فيهم الإجلال والهيبة والإذعان سواء كانوا علماء أو بسطاء. وهو قصد القرآن الجوهري من دون ريب. "
نقول: كيف يظل القرآن – الكتاب الـمُرسل من خالق الكون سبحانه، وفي مئات من آياته- عائم المعنى، مُبهم المقاصد الكونية في تصويره للكون في عين المؤمن به؟! .. حتى ولو كان عوام المسلمين لا يقفون على دقائق المعاني لو أرادوها .. أيمتنع عن هذه الآيات أن يكون فيها من الدقائق اللطيفة، وعيون المعاني التفصيلية الصادقة فقط من أجل خاطر العوام؟! ... أيمتنع أن يكون لقارئ القرآن تصور ما للكون كي لا يتقيد؟! .. وماذا تحمل آيات القرآن إذاً من تصورات؟! .. ألا يوجد للحق في ما خلق الله تعالى صورة في عين المؤمن النبيه المتفكر؟! ... أم أن تصور الخلق لا يكون إلا بلفظ "نظريات"، ثم يسقط التصور لما يحوط هذه الكلمة من  خشية الخطأ في محمولها؟! ... ولماذا يرهق أهل العلم أنفسهم اقتناصاً لمعاني القرآن فيما وراء فهم العوام إذاً؟! ... فإذا قيل أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن ما ذكرته من اجتهاد العلماء إنما من علوم العربية وأصول الفقه واستخراج أحكام المكلفين، وهذه تُتمِّم فهم القرآن وتضبط لغته وتعم أوامره ونواهيه فيقف عليها العلماء ويبينوها للعوام، .. قلنا: إن القرآن قد عمّ عطاؤه لكل الناس، ومنهم من يستجد له حاجيات وتصورات معرفية لم تكن لسالفيهم، فإن هم أرادوا الوقوف على صدق هذه التصورات، والوفاء بهذه الحاجيات، وجدوا قديم التفاسير تعج بغابر من التوهمات، والتي يعلمون يقيناً أنها قد بَلِيَت، وذهبت أيامها بما فيها من أخطاء وأوهام. فماذا هم فاعلون؟! .... إن البديل الذي لا مفر منه أن يصبح قديم المفاهيم، والتي قامت الأدلة والبراهين على فسادها، جزءاً ضرورياً من لوازم الآيات، تحمل قدسيتها، ويُحمد من يرددها، ويُذمّ من يعارضها، ... حتى ولو قامت عنده ألف حجة على زيفها؟! ... وهنا يكون الحرج .. كل الحرج. وهنا تكون الفتنة .. كل الفتنة. وهنا يصد العلماء الداعون لذلك عن سبيل الله، ... في وقت هم أولى الناس بتمهيد السبيل، والأخذ بأيدي الناس إلى ربهم بالعلم والفهم والحُجّة!!! ... وكيف بهم يصدون عن الفهم والحُجّة ... لعوام أصبحوا أفقه من معلميهم .. في هذه المسائل خاصّة؟! ... معضلة والله .. وأي معضلة!
وحول السؤال الافتراضي: هل هناك ضرورة للتفسير العلمي؟
يجيب الأستاذ دروزة[5]: "نحن نرى في مثل هذه المحاولات إخراجا للقرآن الكريم عن هدفه الوعظي والتذكيري وتعريضا له للتعديل والجرح اللذين يرافقان عادة الأبحاث العلمية على غير طائل ولا ضرورة."
فنقول: الهدف الوعظي والتذكيري حسب التصور الإنساني يتناسب وعلمه وأفق معرفته، أما الوعظ والتذكير وغيرهما مما لا نعلم، لما ينبغي أن يكون عليه كلام العليم الحكيم، فالله تعالى أعلم به، وإسقاط تصورنا على ما ينبغي وما لا ينبغي أن يكون عليه كلام الله تعالى مصادرة، وتحكم من المتعلم فيما ينبغي أن يكون عليه تعليم المعلم له. ولو فعلها طالب مع أستاذه في هذه الدنيا، لزجره ووضعه موضع الاتهام بالغرور والتسلط. وأنى له يدري وهو لن يزل يتعلم مع المتعلمين! ...
أما الظن بتعريض القرآن الكريم للجرح والتعديل اللذين يرافقان عادة الأبحاث العلمية إذا تدبرنا معانيه بمثلها، فلن يختلف عن الظن بتعرُّض ظواهر الكون للجرح والتعديل في صواب خلقتها، وما سُن لها من سنن، وحقائقها الطبيعية إذا أجريت عليها الأبحاث العلمية. وقد قال مثل ذلك بعض الباحثين في الطبيعيات، فسقط كلامهم من أعين العلماء، وأصبحوا مثالاً يُضرب في التطاول والحماقة، كي لا يقع في مثله عالم بعد. ونقصد من هؤلاء الفيزيائي إيسودور راباي I. Rabi والحائز على جائزة نوبل سنة 1944، حين اعترض على اكتشاف جسيم يُدعى (الميون muon)، وقال: (من أمر بخلق هذا؟ Who Ordered That?)، وفقط لأنه لم يجد له محلاً في منظومته الفكرية، وأفقه المعرفي! ... والأخر، وكان أشد تطاولاً ووقاحة (ولفجانج باولي W. Pauli) وذلك حين اعترض أيضاً على اكتشافٍ يقول أن التفاعلات النووية الضعيفة لا يتحقق فيها التماثل بين اليمين والشمال، فقال أخزاه الله: (لاأستطيع أن أصدق أن الخالق أعسر) I cannot believe God is a weak left-hander. ...
وإذا كنا مأمورين بتدبر القرآن، فهل لا يكون ذلك إلا أن نكتشف معانيه فجأة، من عدم العلم إلى العلم اليقيني، أم بمدارسة معانيه ، فتتكشف شيئاً فشيئا على التدرج والتصاعد، فيُخطئ البعض، ويصوبهم آخرون، وهكذا مع تتالي الأيام والسنون؟! .. وكيف تُستبعد دراسة القرآن بالأبحاث العلمية إذا كان من طبعها الخطأ والتصويب؟! .. وهل هناك أبحاث علمية بلا أخطاء وتصويب؟! .. وكيف يقال أن هذا من دون طائل ولا ضرورة.! .. وكيف يكون التدبر إذا لم يكن بحثاً علميا؟! .. أم أن البحث العلمي لا طائل له ولا ضرورة؟! وهل يجوز من المفسر المتدبر الخطأ في كل شأن إلا أعتاب الطبيعيات، من معاني في الأرض والسموات؟! ... إلا إذا كان المانعون لذلك ليس في مقدورهم المشاركة في التصويب والتخطئة! .. فيكون المنع عندئذ آمن وأسلم؟!
يقول الأستاذ  دروزة[6]: "بعض الباحثين والناظرين في القرآن بل ومفسريه من المتأخرين والمعاصرين قد ولعوا بمثل ذلك الولع مع تعديلٍ اقتضته تطورات العلوم والمفاهيم، حيث نراهم يحاولون استنباط النواميس العلمية والفنية واستخراج نظريات الدورات الشمسية والقمرية والأرضية وكروية الأرض ونظام الأفلاك والمطر وأطوار النشوء ونمو الأحياء وانفتاق الأرض والسماء والذرة والكهرباء إلخ إلخ من بعض الآيات القرآنية، أو يحاولون تطبيق النظريات العليمة والفنية المتصلة بنواميس الكون والتكوين والشمس والقمر والسماء والأرض والحياة والكهرباء والبرق والرعد إلخ إلخ على بعض الآيات القرآنية ليدللوا على احتواء القرآن أسس هذه النظريات أو نواتها."
نقول: ألم يفعل القدماء من المفسرين عين هذا الفعل؟! .. ألم يُسقطوا تصوراتهم الذي اكتسبوها من ظاهر الحواس على معاني القرآن؟! ... ألم يستشعروا أن الأرض لا تهتز تحت أقدامهم فظنوا أنها لا تهتز أبداً في غير زلزال، وأنها قارّة لا تنزاح وتقع في مركز أبدي للكون توهَّموه. فربطوا هذا التصور بقول الله تعالى "أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا"(النمل:61)؟! ونسوا أن الجنين في بطن أمّه أيضاً في قرار أشد تمكناً "ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ"(المؤمنون:13) ... ألم يروا الرياح تذروا التراب، فربطوا ذلك بقول الله تعالى "وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا"(الذاريات:1)، ألم يسقطوا تصوراتهم الدنيوية على معاني ما سمعوه من كلام الله تعالى، فقالوا أن الحاملات وقراً هي السحب الثقيلة، وقالوا المقسمات أمراً هي الملائكة، و أن العاديات هي الخيل واستبعدوا الإبل بغلبة الرأي، وغير ذلك قائمة طويلة من التفسيرات، بلا ضرورة مُلزمة معها بأنها هي ما أراده الله تعالى من آياته... فما الذي فضل تصورات الأقدمين في تفسيرهم آيات الله بها عن تصورات المحدثين؟! .. أللهم إلا ألفتنا بها والحرج من اجتراحها!!! وما أضفاها التاريخ عليها من قداسة لا سند لها من أصل الدين! .. إن الخطأ ليس في ربط التصورات بالمعاني على سبيل الاحتمال، بل في القطع بها – أي الزعم باليقين في ذلك- في وقت يغيب معه ضرورة اليقين في هذا المعنى دون سواه. فالقاطع بأن الذاريات هي الرياح الشديدة تذروا ما في طريقها، وبلا دليل ولا برهان مثله مثل القاطع بأن الرتق في قوله تعالى " أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا "(الأنبياء:30) هو مُفرَدَة الانفجار العظيم big bang singularity في علم الكونيات الحديث cosmology. فلماذا نذم تفسير الأخير ونمدح تفسير الأول؟! ... إنه منهج بلا منهج ... وصدق القائل[7]: " ثلاث علوم ليس لها أصول (أسانيد): المغازي والملاحم والتفسير "، إذا قصد من ذلك أن غالبها يخلو من يقين النقل إلى الحق، ومثله: خلوه من القطع ببرهان.
ومعنى ذلك أن الإشكال قائم في التفسيرات في عمومها: قديماً حديثا. والمخرج من هذا الإشكال إنما يكون في ترجيح القوي الصحيح وإثباته، وتوهين الضعيف المتهافت ونبذه. وهذا يعني معالجة كل مسألة برأسها قديماً كان تفسيرها أو جديدا، لا نبذ الجديد لعدم ألفته، وإبقاء القديم للحرج من جرحه!
ثم يستشهد الأستاذ دروزة بأبي حامد الغزالي في اتقائه من شر الصديق الجاهل – يريد بذلك المفسر العلمي الإعجازي - الذي يريد أن ينصر الحق بظنه من حيث هو هازمه، فيقول:
"وما أحسن ما قاله الإمام الغزالي في «تهافت الفلاسفة» من كلام قوي حكيم يتصل بهذا الموضوع حيث قال في صدد تقسيم مذاهب الفلاسفة : [والقِسْم الثاني ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلا من أصول الدين وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه كقولهم إن خسوف القمر عبارة عن إمحاء ضوئه بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث إنه يقتبس نوره من الشمس، والأرض كرة، والسماء محيطة بها من الجوانب فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس، وكقولهم إن كسوف الشمس معناه وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة. وهذا الفن أيضا لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض. ومن ظنّ أن المناظرة في إبطال هذا من الدين فقد جنى على الدين وضعف أمره، فإن هذه الأمور تقوم على براهين هندسية وحسابية لا تبقى معها ريبة في من يطلع عليها ويتحقق أدلتها حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء قبل وقوعهما، وإذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع لم يسترب فيه وإنما يستريب في الشرع. وضرر الشرع بمن ينصره بغير طريقه أكثر ممن يطعن عليه بطريقه، وكما قيل: عدوّ عاقل خير من صديق جاهل".
ولنا هنا عدة ملاحظات:
الأولى: انفكاك علة المسألة الفلكية – أي: آلية حدوث كسوف الشمس- في علاقتها بالشرع، من حيث عدم تعلقها بنقل – قرآن أو سنة – يثبت أو ينتفي بإثبات أو نفي الآلية. وهو ما يبرر حكم أبي حامد الغزالي في نفي هذه الطريقة عن الشرع في قوله: (وضرر الشرع بمن ينصره بغير طريقه أكثر ممن يطعن عليه بطريقه) .. ولكن التفسير العلمي أو الإعجازي مرتبط بآية أو حديث يزعم صاحبه أنه تأويل له، أي غير منفك العلة، إلا إذا ثبت تخطئة القائل بها. ومن ثم فالاستشهاد بكلام أبي حامد في مسألة التفسير العلمي على عمومه في غير محله.
الثانية: أن الاستشهاد بكلام أبي حامد فيما قاله، وقد قاله فيما يظهر بجلاء أنه نقد للدجل والكذب فيمن يزعم تأويلاً لكلام الله، وهو منفك العلة عنه، كما ذكرنا، وبما لا يستطيع الدجال هنا التدليل على كلامه بأي صورة؛ .. كما هو الحال في مثال كسوف الشمس، ... فيكون هذا الاستشهاد بما ينقل حكم الدجل والكذب إلى المفسر العلمي، الذي ينتقد فعله الأستاذ دروزة. وهذا اتهام خطير جاء مُسْتَبْطَناً في ثنايا الاستشهاد، ونعتبره إفراط في القدح والتجريح، ولكل من سعى أو يسعى في تفسير القرآن بثقافة العصر الراهن، وما تجلى فيه من معارف؛ فيها كثير من الحق، وإن خالطه باطل، قابل للتنحية.
الثالثة: إذا اعتبرنا أن الاستشهاد بكلام الغزالي جاء على عمومه، دون عين مسألة كسوف الشمس، وكانت العلة موهومة في ذهن الإعجازي، ويريد أن ينتصر بها للشرع، هنا يجوز الاستشهاد بمقولة الغزالي، من حيث أن الانتصار بالإعجاز الموهوم إضعاف للشريعة، وهو خلاف ما سعى إليه الإعجازي، فيكون مقامه مقام الصديق الجاهل الذي يؤذيك من حيث يظن أنه ينفعك. وهذا ما أثبتناه على عدد من الأمثلة وبوّبناه تحت عنوان (أطروحات متهافتة في التفسير العلمي). 
الرابعة: إذا لم تكن أطروحات التفسير – قديمُه وحديثُه – غير مقطوع بانفكاك علته، وغير مقطوع بتهافته، فهو مما يُقبل في إطار النظر والاجتهاد، حتى يستبين إما انفكاكه أو كذبه أو صدقه. ولكن! .. ما هي أدوات النظر والاجتهاد في مثل هذه المسائل التي تطير بجناحين؛ جناح النقل عن الله سبحانه ورسوله، وجناح التجربة والظاهرة الطبيعية. والحاصل أن غياب هذا التخصص في علم التفسير في المعاهد الأكاديمية الشرعية؛ أي: تخصص التفسير الطبيعي للآيات الكونية، لمما يساهم في بقاء هذا التفسير في الظل. فيبقى مَرْتَعَاً لكل هاوٍ في فهم آيات القرآن على غير هدى، فيكثر اللاغون، والمتهافتون، والعابثون، وينطبق عليهم ما قاله أبو حامد: " عدوّ عاقل خير من صديق جاهل "، ولا يجدون من يُصوِّبهم أو يُخَطِّئهم أو يوجّههم. ولكن، هل يَبْرأ أهل التفسير ورؤساء المدارس الشرعية فيه من المسئولية؟! ... نقول: لا .. لا يَبرؤون، بل يتحملون تبعات تركهم هذا التخصص شاغراً، فيملؤه من يملؤه بما يحلو له، ثم يجيئون يردون كلامه، ويتمثلون بكلام أبي حامد! ... والسؤال لهم: لماذا لم تُنشئوا هذا التخصص، فيتأهل له من يحمل أدوات النظر في هذا النوع من الآيات، فيصح نظره واجتهاده في كلام الله وخلْقِه؟! ... وإذا ما فعلوا، فلن يكون حُكمُهم على مثل هذه المسائل أنها من  "إسرائيليات العصر" التي لا يُعلم لها صدقاً من كذبا، كما قال بعض أهل العلم الشرعي[8]، رغم أن مسائل التفسير والإعجاز العلمي مما يُوقف على صدقه من كذبه لمن سلك إليه سبيله، كما فعلنا في الأمثلة المشار إليها أعلى... أو أن يقولوا عنها "بدعة تفسير القرآن بالعلم"[9]، فتتحول الـمَنْقبة إلى بدعة، وبدلاً من أن يُمدح المتدبر كلام الله تعالى بالاجتهاد، فإذ به يُذم بالابتداع!

المؤلف

عودة إلى فهرس الكتاب


[1] محمد عزة عبد الهادي دروزة (1887-1984)، ولد في نابلس وتوفي في دمشق. تقلد مناصب عديدة منها عضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1956، وعضو المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. وكان مفكراً وأديباً ومؤرخاً ومترجماً ومفسراً للقرآن ومناضل قومي عربي. ترك أكثر من خمسين كتابًا في علوم شتى تتعلق بالعروبة والإسلام والتاريخ.
[2] التفسير الحديث، محمد عزة دروزة،  دار إحياء الكتب العربية – القاهرة، 1383 هـ، ص 2/ 190.
[3] أحال فهد الرومي هذه العبارة إلى الأستاذ دروزة (في كتابه: " اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر"، ص584)، وقد بحثنا عن هذه الفقرة في نص كلام "محمد عزة دروزة" فلم نجدها، لذا فقد يكون تعليقاً من د. الرومي، وقد التبس الأمر في الطباعة واشتمل في علامات التنصيص على أنه من كلام الأستاذ دروزة! ولا يهم كثيراً القائل، لأن الغرض هو الرد على حجج المانعين للإعجاز العلمي، لا على أشخاصهم.
[4] التفسير الحديث، محمد عزة دروزة،  دار إحياء الكتب العربية – القاهرة، 1383 هـ، ص 1/ 183.
[5] السابق، ص 3/ 31
[6] السابق، ص 1/ 230- 232.
[7] نسبه ابن كثير إلى الإمام أحمد بن حنبل في تلخيص كتاب الاستغاثة، ص 76.
[8] الادلة النقلية و الحسية على جريان الشمس و القمر و سكون الأرض، عبد العزيز بن باز، مكنبة الرياض الحديثة، 1982، ص44. وانظر أيضاً: " التفسير العلمي للقرآن:مدخل نقدي لإسرائيليات العصر"،  http://vb.tafsir.net/tafsir33493/
[9] بدعة تفسير القرآن بالعلم، بقلم  د. محمد رضا محرم، مجلة المسلم المعاصر، العدد 22، يونيو 1980.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق