الأربعاء، 15 يناير 2014

الفصل (أ18) – طه جابر العلواني - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ18) طه جابر العلواني
بقلم: عزالدين كزابر
الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني
عودة إلى فهرس الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
في حوار مع د. طه العلواني[1]، قال مُعِدْ الحوار[2]: "العلواني يرى أن الإعجاز العلمي خطوة تالية للتفسير العلمي، فهؤلاء يفسرون القرآن تفسيرًا علميًّا، ثم يقولون بالإعجاز العلمي، فيخلصون إلى نتيجة: أنه لما كان القرآن سابقاً في الكشف عن هذه الأمور فهو معجز ومتحدٍّ حتى لهذا العلم. وبهذا فالعلم الغربي -عند هؤلاء- هو الأساس، ومن ثم فالعقل المسلم لم يتحرر، وما زال يتأثر ويتابع الغرب ولم يستقل عن مداره، وما زال يدور وهو يحمل القرآن، وهو يقول: انظر! إن القرآن تحدّث عن النظرية كذا وكذا في الفيزياء وغيرها، ثم يجعل هذا دليلُ إعجاز؛ فقط لأجل أنه سبق زمانًا. وبهذا رجعنا بالتفكير العلمي إلى الوراء."
نقول: لا ننكر رعونة التهافت في بعض دعايات الإعجاز العلمي، بل إنها من سلبيات التجربة، وتُعد سبباً رئيساً في ما تعانيه الحركة العلمية في فهم كتاب الله بروح العصر الحديث من تأخر، وتعطيل في نضوج، وقيد في انطلاق! .. وكان ينبغي أن يُحمد لها لو أتت ثمارها ناضجة، مُفحِمة، باهرة. ولا نقصد هنا بتهافت تلك الحركة، دوافعها وصدق انطلاقتها، بل عدم التأهل لها بما تقتضيه من تحديات هائلة. وأولى تلك التحديات، أن يكون المتكلمون باسمها، والحاملون لوائها، على درجة التحدي العلمي في المسائل التي يثيرونها. ومن لوازم هذا التحدي، الوقوف على مواطن الصدق التجريبي، ومزالق الاحتمال في مضامين النظريات التي يتكلمون عنها. فالإعجازيون على حق في أن الكشوف العلمية الحديثة تتكلم عن واقع يحكي عنه القرآن، ولكنهم ليسوا على حق في كل ما يزعمون أنه الحق الواقع في خلق الله تعالى، والمراد من أقوال النظريات. فكَمُن خطؤهم في تلبُّس حق الكشوف العلمي بأخطاء النظريات البشرية. وفي ثنايا دعوة الإعجازيين لهذه الجملة من الكشوف الجديدة في الثياب التنظري الغربي، يحملون الطيب والمشوه ويأتون به جميعاً بلا تمييز. وهذه هي المؤاخذة عليهم، ولكنها لا ينبغي أن تكون مؤاخذة على مبدأ انطلاقهم.
أما عن قول العلواني بما يعني أن الإعجازيين يتكلمون في العلم بأثر رجعي، فنقول أن هذا صحيح، ولكنه ليس فقط في التفسير والإعجاز العلمي، بل في كل مناحي التجربة العلمية، وبدون استثناء منها لأي مدرسة علمية من الموجودات على الساحة. بما في ذلك مدرسة أسلمة العلوم الاجتماعية والمعرفية التي هي مجال عمل الدكتور العلواني. والسبب في ذلك مشْتَرك بين كل هذه المدارس، وهو أن مخازن المعرفة المتاحة للعمل في هذا العصر الأخير، قد أُنجز الكم الطاغي منها في الغرب، وفي القرون الأربعة الأخيرة على التعيين، فكان من الطبيعي أن يبدأ العمل عليها! فالعلة مشتركة ولا تخص الإعجازيين منفردين بها يُحمّلهم وحدهم ملامتها.
أما قول العلواني: "لما كان القرآن سابقا في الكشف عن هذه الأمور فهو معجز ومتحدٍّ حتى لهذا العلم، وبهذا فالعلم الغربي - عند هؤلاء- هو الأساس، ومن ثم فالعقل المسلم لم يتحرر، وما زال يتأثر ويتابع الغرب ولم يستقل عن مداره" .... ففيه ملاحظتان:
الأولى: أنه نَسَبَ الاهتمام والدعوى لتفسير وإعجاز علمي للقرآن إلى بعض الناس (أشار إليهم بـ "هؤلاء") دون غيرهم، وكأن هذه الحركة التفسيرية تعود إلى خصيصة فيهم دون سواهم، وأن هذه الخصيصة لا تحمد لصاحبها. .. وهذا غير صحيح، فالدافع لهذه الحركة ممدوح ومدفوع بنصوص آيات القرآن، وكان ينبغي أن ينفعل معها ذوي البصائر والهمم العلمية بلا استثناء، ثم يتأهل لها من وسعه الجهد والوقت. وعلى ذلك، فالقدح في أعضاء هذه الحركة، وإن لم يأتلفوا في حوزة تضمهم، ولا أكاديمية تحتويهم، مما يُستغرب منه!
أما الملاحظة الثانية: فهي أن حُجَّة العلواني في عبارته منكسرة، وقد تصل إلى فساد الفكرة التي تحملها. والسبب أنه أراد أن يقول: أن ملاحقة حركة التفسير العلمي الإعجازي للعلم الغربي يجعله لها إماماً، ويجعلها له أسيرة، ومن ثم، يظل المسلم – المؤمن بدعوة هذه الحركة – غير متحرر من قبضة العلم الغربي. .. وسبب انكسار هذه الحُجَّة أنها لا تختلف عن قول القائل عن آيات موسى عليه السلام التي أرسله الله تعالى بها إلى فرعون وقومه [إن ملاحقة آيات موسى لأفعال تتمثل بأفعال السحرة، يجعل السحر قائداً لها، ويجعل المؤمن بموسى غير متحرر من السحر ويدور في فلكه!] ... ومثلما أن تطبيق حجة العلواني على آيات موسى أظهرت انكسارها وفسادها، فكذلك كانت نفس الحجة فيما قالته عن الإعجاز العلمي، والمؤمنين به، والسالكين إليه طريقا.
وقد يكون دوام الحاجة للعلم الغربي لنفعيته الدائمة في منظور الأيام، على خلاف أفعال سحرة فرعون، هو السبب في التشويش على فساد الحُجَّة، إلا أن هذا السبب عينُه، هو ما كان يجب أن يُثيره العلواني. بمعنى أن ما ينفع الإنسان هو الذي يقود الإنسان لاتّباعه، سواء كان هو العلم الغربي، أو معاني القرآن في عيون مسائله، أو ما أدى إلى العلم الغربي في الحقيقة من تثوير الفكر الإنساني، والذي كان قائده –القرآن ذاته – قبل أن يولد أصحاب العلم الغربي المحتفى به وبهم في عصور نهضتهم.
ثم أن عبارة العلواني تُوهِم أن العلم الغربي وعدم التحرر منه أزمة حضارية للمسلمين، وإلا لما كان هناك من ذم للإعجاز القرآني، إذا دعم هذا الأسر - بحسب وصف العلواني. .. والحقيقة أن الصورة مختلفة. فالعلم الغربي له جاذبية لا ينكرها أحد، ولا يُستثنى أحدٌ من الأسر. ولكنه ليس أسراً قلبيأً، إلا عند أصحاب القلوب الزائغة، وإنما أسراً نفعيا. فإذا ما تبين أن خُلاصات هذا العلم، هو من عطاءات الله تعالى في خلقه وقرآنه، وقبل أن تُنسب إلى الغرب، ومَنْ قبلهم من حضارات وَرِثَها الغرب، كان ذلك أدعى إلى التحرر من كون هذا العلم غربي الصنعة والنِّسبة، كما تُمليه الكتب التعليمية، وبما يتكشف معه أن هذا العلم إنما هو مكنون في طبائع الأشياء، ولا ينحجب أو يتأبَّى عن مُنَقِّب عنه، غربياً كان أو عربياً أو شرقيا.
أما الأشد أهمية مما أُنجز من علم غربي، والذي رآه المعاصرون والعلواني قُطْب رحى الحضارة، ومدار حديث الإعجاز العلمي، فهو أن مسلسل العرض العلمي للاكتشافات العلمية، والأسرار من وراءها، لم ينغلق بعد، .. وهذا ما سيفترق به القرآن عن العلم الغربي. غير أن هذا التحدي قابع في قلب آيات القرآن وبواطن الخلق، ينتظر من يستثيره، ويخرج خبء مكنونه من كلا المصدرين. ... وهذا ما يجب أن يكون في بؤرة منهج التفسير والإعجاز العلمي. فإن أعاق العلواني والمعارضون للإعجاز العلمي سبيله اليوم، فإنهم يعيقونه عن ما يمكن أن ينجزه غداً، وهذا هو الصد عن سبيل جديد من سبل الله تعالى. ولا نراهم يصدون بما يصدون إلا إذا كانوا على ثقة من انتفاء حدوث تنبؤآت تفسيرية علمية مصدرها القرآن الكريم، وهو ما يجب أن يُتوقع من إعجاز القرآن الدائم. ...فإن قطعوا السبيل عنه! .. فأنَّى يتحقق؟!
قيل: "وحول اختلاف منطلقات الجدل حول التفسير والإعجاز العلميين قديمًا وحديثًا، يرى (العلواني) أن منطلقات الشاطبي وغيره تنبثق من المحافظة على الخطاب القرآني مرتبطًا باللغة العربية؛ فكل ما لا يحتمله السياق في اللغة العربية يريد إبعاده ونفيه. في حين أن منطلق شلتوت وآخرين كان الدفاع عن الإسلام، وأنه لا يرفض العلم، ولكن لا ينبغي أن نصف القرآن بأنه كتاب علم."
نتفق مع الدكتور العلواني فيما نُقل إلينا من تحليلات آرائه، ولكننا لا نسلم للشاطبي بأن السياق في اللغة العربية لا يحتمل قيم معرفية علمية،لم تكن معهودة في كلام العرب، لأن المتكلم ليست اللغة العرببية بثقافتها التاريخية المحلية – كما نادي بذلك محمد أركون ونصر حامد أبو زيد في حديثهم الأثيم عن تاريخية القرآن – بل المتكلم هو الله سبحانه، العليم والمحيط بما وراء الثقافة العربية من ثقافات لاحقة وحقائق سيُظهرها هو سبحانه للخلق. فلا ينبغي أن نقع في شباك التأريخية، احتجاجاً بأن نشأة أي لغة – ومنها العربية- وثقافة أهلها كذلك. وإن كانت هذه الدعوة – القائلة بعدم تَحَمُّل اللغة العربية لقيم معرفية - حقٌّ، فعلى زعمائها أن يُبَرِّروا وجود المشتبهات في اللغة التي ادعوا الإحاطة بها؟! – ونقصد أن هذه الـمُشتبهات دليلٌ على أن الله تعالى قد تجاوز باللغة التاريخية المحلية، حدود التاريخية والمحلية، والتي ما كان للعرب أن يتجاوزا ضفافها، لو لم يحملهم القرآن على مَتْنِه، ومن ثَمّ كان قيد السياق وتحريمه على ما لم يعرفه العرب، قيداً تاريخياً وثقافياً، وشِراكاً تَصَيَّد به التاريخيون العقل العربي والإسلامي، لعدم قدرتهم أنفسهم على الخروج من إسَارِه، ولِظَنِّهم أنهم أصحاب القرآن، متناسين أن القرآن كلام الله تعالى لا كلام البشر، وأنه مُنزّل للبشر إلى قيام الساعة، وليس إلى ثقافة بعينها من بين ثقافاتها المتعددة والمتتابعة.
أما عن دفاع الشيخ شلتوت وغيره - في تحليل العلواني - عن الإسلام بنبذ الإعجاز العلمي، ظناً منه أن الإسلام قد ينخدش بتلبس القرآن بالعلم (التجريبي والتنظيري حوله)! فنقول أن هذا الفكر الدفاعي سلبي، لا يُدَافِع، بل يتجنب المواجهة – أي: يفر من الزحف الفكري- لسببين: الأول: عدم تصور دواعي الحاجة للمواجهة لغياب أسبابها في أذهان أصحابها، وهذه مشكلة تضاف إلى مشاكلهم. والثاني: فقدان أدوات الدفاع! ومن ثم عدم تصور فرص السلامة بافتراض حالة المواجهة. (يراجع الفصل (أ4)).
أما عن السبب الأول: أي: عدم تصور دواعي الحاجة للمواجهة، فسببها عدم الإحاطة – ولو جزئياً – بالأزمة المعرفية التي وجد المسلمون أنفسهم فيها، حيث انهالت عليهم المعرفة في ثياب استعمارية احتلالية، استشراقية، تبشيرية، أو تكنولوجية؛ وهي تمر على أبواب بيوتهم – بل إنها اخترقت جدرانها- من كل حدبٍ وصوب، وعلى نحو أسرع من استيعابهم لمعدل المتغيرات الحضارية، فلم تسعفهم صورة العالم الموروثة لديهم من تراثهم، فنظروا في كتاب ربهم فرأوا ملامح لم يكونوا يرونها من قبل في غيبوبة الثقافة القديمة، فانتفضوا من غفوتهم، فوجدوا من يقول لهم، هذه الثقافة القديمة هي ديننا، ولا دين لنا سواه. ومن أراد الثقافة الجديدة، فليعلم أنها علم بلا دين فليأخذ منها ما يعيش به لدنياه، وليأئتنا ليعيش لأخراه. فتمزقت أنفسهم بين دين بلا علم، وعلم بلا دين! – بل علمٍ وضعي، يزحف بخبثٍ ومكرٍ على الدين رويداً رويداً! يقتطع من حماه، ويهدد أصل وجوده، حتى ضيق عليه الخناق، وآل به إلى روحانيات وأنساك وأخلاقيات، وقيل لأصحابه، هذا هو الدين، وليس شيئاً وراء ذلك، شئتم أو أبيتم، وإياكم والعلم، فلستم مؤهلين له، ولا لدينكم علاقة به، ولا هو من بضاعتكم!
أما السبب الثاني: ففي فقدان أدوات الدفاع عن الإسلام في عصر العلم، حتى قال المسلمون المدافعون[3]: "إن القرآن ليس كتاباً في العلم (تنازلاً عن بعض القرآن، مثلما تنازل العرب عن بعض فلسطين حتى ضاعت جميعها، ويُخشى أن يكون مسعاهم مع الدين كذلكويستكملون: وإن كنا لا نقبل أن يتحكم الدين في مجالات العلم، فإنه يجب أن نرفض أيضاً تدخل العلم فيما هو مجال الدين."! يريدون بذلك وقف إطلاق النار، والفصل بين القوات. وما أشبه الليلة بالبارحة، فما أن أوقفوا النار في فلسطين، حتى استكمل اليهود أهبتهم، واكتسحوا حِماها بمعونة الانجليز. وفي حالتنا، أعد العلمانيون أهبتهم وما زالوا يستكملونها، فينالون من الدين باسم العلم وتسلحاً بطعون المستشرقين، حتى يأتوا عليه جميعاً، وهو ما قاله الله تعالى "وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا"(البقرة:217). وقوله تعالى "وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ"(المائدة:49)
ولنلاحظ أن الرد عن الدين لا يكون فقطاً بالسلاح، بل بالفكر الذي هو أقوى من السلاح، لذلك شرعوا أسلحتهم الفكرية في صورة العلمانية يخدشون بها الدين حتى يتآكل أو يتفتت أو يذوب أو يتبخر، فينبذون منه العلم ولا يبقى إلا ما تعلق بالقلبيات، ثم لا يكون مدنياً فينبذون منه الشريعة ولا يتبقى منها إلا المناسك، ثم لا يكون عسكرياً فينبذون المقاومة، ولا يكون فيه إلا المسالمة! فيصبح الدين قلبياً نسكياً مسالماً حتى لأعدائه، ويصبح على المسلمين أن يقولوا آمين لأعداء الدين! وبإسم الدين!
قيل: "وحول المشتغلين بالإعجاز العلمي، يرى (العلواني) أنهم يغلب عليهم مسلك الدعاة؛ فالدعوة قاسم مشترك بينهم، ويعتقدون أنهم أمسكوا بأقوى سلاح. وفيما يخص الذين هجروا تخصصاتهم العلمية للحديث في الإعجاز يقول: إن العالِم حينما يقف عند مستوى معين، خاصة عندما يترك تخصصه ويذهب للدعوة ويتحول إلى خطيب وداعية لن يخدم الإسلام في تخصصه. ويتساءل: متى أحتَرِم منهج هؤلاء؟ - وهو ما يفيد أنه لا يحترمه، أي: لا يقدر أنه ذو قيمة، فيجيب:- عندما أجدهم قادرين على إيجاد "بدائل علمية"، وحين يثبت العالِم المسلم تألقه وقدرته خارج بلاده كداخلها."
نقول: أنه لا شك أن الخروج بنتائج علمية تُنَافِسْ -  أو كبدائل في حدها الأدنى لـ - الرائج من العلوم، غربية الإنتاج، إلحادية النكهة، والتي أزكمت العقول، لا شك أنه نصر كبير، ولكن، أيدع العلواني المؤمنين يخوضون معاركهم العلمية، وينتظر منهم النصر – دون أن يؤازرهم- حتى يعترف بإيمانهم العلمي؟! ما أشبه هذا الموقف بمن آمن بالإسلام بعد الفتح، لا يعلم، أمنتصر هو أم لا، أمُؤمن هو بما عليه أصحابه أم لا! ... أو أنه يقول ما يقول فقط ليقول: ... فليُرينا هؤلاء بطولاتهم إن كانوا صادقين؟
أما هجران التخصص أو عدم هجرانه ففتنة كبرى، مفادها أن الانتظام في التخصص يستلزم موافقة مذهبه الغربي التوثيق، والإجازات العلمية، والولاء العلمي، والمنشورات المحمود إسم صاحبها. ولا سبيل لمتخصص غير هاجر لجماعة التخصص إلا التبرؤ مما سواه، أو صامتاً عنه، غاضاً الطرف عما فيه، طامساً لمقولاته، أو باختصار "كافراً به" .. وإلا كان منبوذاً، طريداً، محروماً من صفة العلم، كما تَحرِم الدول مواطنيها من جنسيتهم التي عليها ولدوا، ... يقتلونهم أحياء!!! ... ونستغرب، كيف يجمع العالم المسلم بالله ودينه وكتابه، تألقه في تخصصه خارج بلاده – مخاصماً أولياءه داخلها – كتألقه داخلها - موالياً خصومه خارجها؟! .. وهل جمع الله تعالى لرجل من قلبين في جوفه؟! – وأي وجهين يمكن أن يجتمعا في رأس واحد، إلا أن يكون منافقاً صريح النفاق، ولكنه نفاقاً علمياً بالتأكيد؟!
ويقول الدكتور العلواني: "في الحقيقة عملية التفسير العلمي والإعجاز العلمي متصلتان، ومن الصعب جدًّا أن نفرق بينهما، فمن خلال الكشف العلمي يكتشف القائل بالإعجاز علاقة بين قضية علمية والقرآن الكريم، ويقول: هذا تفسير الآية في ضوء العلم، ثم يدّعي أن القرآن سبق في الإشارة، إذن القرآن معجز؛ لأنه سبق بالإشارة قبل 14 قرنًا، فبينهما ترابط، إذن فالإعجاز يترتب على التفسير، فأنا في الخطوة الأولى أفسر القرآن تفسيرًا علميًّا، أما الخطوة الثانية فهي استنتاج، لأنه لما كان القرآن سابقًا في الكشف عن هذه الأمور فهو معجز ومتحدٍّ حتى لهذا العلم الذي تجعلونه إلهًا وهو كل شيء."
نقول: لا خلاف على أن الإعجاز العلمي تابع للتفسير العلمي، وأن الإعجاز العلمي استنتاج. أما الخلاف فهو أن المشتغل بالتفسير العلمي ومن ورائه الإعجاز، يتخذ العلم إلاها – كما قال العلواني: تجعلونه إلهًا وهو كل شيء. فنقول: أن الصورة ليست هكذا.
فالصورة الراجحة عندنا هي أنه:
لا يؤخذ من العلم الحديث – فيما ينبغي أن تكون علاقته بالقرآن- كونه اختراعاً، بل كونه اكتشافاً لما عليه الكون والخلق على ما أوجده الله سبحانه. والفرق بين اختراع العلم واكتشافه، أن صاحبه الذي خرج العلم على يديه، إما أنه ألَّفه من عند نفسه، فيصبح اختراعاً، أو أنه عثر عليه كما يعثر الـمُنَقِّب على خامات طبيعية، أو كنز من كنوز الأرض، أو آثار السابقين، فيكون اكتشافا.
ويكون العلم مُختَرَعاً تمام الاختراع إذا خلا من أي مرجعية إلى الواقع والتجربة، ومثاله علوم الفلسفة القديمة من القول بالعقول العشرة، والفيض، ووحدة الوجودة، وما كان من هذه الأوهام. فهذه هي الميتافيزيقا التي لا قيمة فيها، وهي التي قال الله تعالى في أمثالها "إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ"(النجم:23)، وهي التي نبذها منطق العلم الحديث باعتبارها كلام فارغ من المعنى[4] nonsense، ونبذها الإسلام قبله بالطبع لأنه حق، والحق ينفر من الباطل بطبعه.
أما العلم المكتشف تمام الاكتشاف، فهو الحقائق الواقعية المجردة، أو القوالب التي صيغت فيها هذه الحقائق؛ رياضية الصياغة أو كلامية. وأقرب صور تلك الاكتشافات: البيانات، والأرصاد، والقياسات التجريبية، على ما هي عليه في صورتها الخام.
أما النظريات، فهي قوالب ذهنية كلامية (و/أو) رياضية صيغت في تصورات أو نماذج مخترعة من الإنسان. والراجح في النظريات العلمية أنها صياغات مخترعة لمقاربة المكتشافات الواقعية. وقد نالت تلك النظريات من قوة الاحتجاج بها بقدر ما صدّقت تلك الاكتشافات، وما تعرضت فيه للتحسّن بفعل ما فيها من مرونة الاختراعات.
وبناءاً على ذلك، يكون ما في العلم الحديث من القيمة العلمية هو ما فيها من اكتشاف خالص للوقائع التجريبية ومنطوق الموجودات قبل أن يزاحمه منطوق البشر الـمُكتشِفين المخترعين، وهذه القيمة هي التي يجب أن يقوم عليها التفسير العلمي، ولا شك أن استخلاصها من إشكالات النظريات ليس بالأمر اليسير على ما يظنه الإعجازيون أنفسهم، بما يتطلبه من إحاطة باحثيهم بجوامع الظواهر وآليات دراستها وشروطها، والتي يجب عليهم إتقانها، وإلا هَوَت محاولاتهم كتجربة فاشلة، لا عبرة بها. أما خصوم التفسير والإعجاز العلمي الذين ركزوا جهودهم على نقضه، فقد خلطوا فهماً صالحاً وآخر سيئاً، عسى الله أن يُبَيِّنَ لهم، فأعاقوا المسيرة بالسيء من الفهم، ولم يفدهم عندئذ صالحه.
ونعود للعلواني، حيث اتهم أصحاب التفسير العلمي أنهم يتخذون العلم إلاها، ثم يعودون ليتحَدُّوا هذا العلم ذاته ويعاجزوه. فنقول أن أصحاب التفسير العلمي – على ما ينبغي أن يكونوا عليه - يأخذون الكشف المجرد الصرف من الطبيعة شاهد صدق، ولا يقال على الشاهد إلاها لمجرد صدقه. فإذا ما تطابقت مقولات القرآن – بعد تفهمها – مع مقولات الكشف العلمي المجرد، ثبت صدق القرآن ووحيه وأنه من عند الله فيما أتى به. وعند ذلك يحاجَجْ به – ليس العلم – بل الذين اكتشفوه، فيقال لهم، أليس بمن تنبأ بالكشف قبل اكتشافه صادق أم لا، فيكون في إقرارهم المُخَاطَبون إقرار بصدق الآية. وتثبت حجته، حتى ولو عاندوا بالإنكار. والحقيقة أن هذه الحجة على علوية القرآن عن كلام البشر – إذا اكتفت بالتكافؤ بين مقولات العلم وما جاء في القرآن - ليست إعجازاً للتحدي الدائم، بل دليل من أدلة الوحي.
أما إعجاز التحدي، فهو أن يُستخْرَج من القرآن صياغات علمية تمليها نصوص الآيات، تُنْبئ الناسَ بما لم يعلموا، فيجدونه حقاً بأمارت العلم، ولا يستطيعوا وصفه بأفضل مما وصفه القرآن، فيكون فشلهم في وصفه بأفضل من – أو حتى مكافئته لـ - وصف القرآن له، تحدياً لهم.
والخلاصة أن العلم (الغربي) ليس كل شيء - كما قال العلواني، ونؤيده فيه-  وليس أنه إلهاً عند أصحاب التفسير العلمي، كما قال أيضاً ونخالفه فيه، ... وذلك لأنه "لا إله إلا الله"، وإنما العلم المعتبر هو الاكتشاف الطبيعي الخالص، أي مقولات الطبيعة المسْتَنْطَقة، وليس لها من دور إلا دور الشاهد الصادق.
يقول الدكتور العلواني: "هكذا رجعنا إلى "فكر المقاربة" يعني أن مدعي التفسير العلمي والإعجاز يقارنون القرآن بالفكر الغربي، فما زال الغرب هو المحور، فالعقل المسلم لم يتحرر، وما زال يتأثر ويتابع الغرب، ولم يستقل عن مداره، وما زال يدور وهو يحمل القرآن، وهو يقول: انظر! إن القرآن تحدث عن النظرية كذا وكذا في الفيزياء وغيرها، ثم يجعل هذا دليل إعجاز؛ فقط لأجل أنه سبق زمانًا."
نقول: ليس الفكر الغربي هو المحور، بل النتائج التجريبية، أي الطبيعة المستنطقة، أي كلام الطبيعة وليس كلام الفكر الغربي. وليس الغرب هو المحور، وكل دور الغرب في هذه المسألة أنه يُأوِّل كلام الطبيعة على نحوٍ ما، هو ما نسميه النظريات العلمية الغربية، والقرآن يقول عنها ما هو حق لأن الله تعالى هو خالق الطبيعة، وهو سبحانه المتكلم بالقرآن، "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"(الملك:14). ولا يتبع القرآن – في نظر التفسير والإعجاز العلمي الحق - نظريات الغرب، بل ينافسها ويتحداها في قول الحق عن ماهية الظواهر. ومن ثم فالإتفاق غير ضروري بين القرآن والنظريات الغربية لما قد يعتري هذه النظريات البشرية من حيود عن الحق، بل الضروري هو موافقة القرآن لكلام الطبيعة ذاته، أي لما تقوله الطبيعة عن الأشياء في صورة نتائج تجريبية، ومعلومات رصدية، وما جاء على شاكلتها. وهذا أيضاً بافتراض صدق رصدها وتحليلها[5].
يقول الدكتور العلواني: "القرآن ما قال للناس: أنا معجز، القرآن تحداهم فقال: أنا هنا، وأدّعي أني كلام الله، وأني فُصّلت على علمه، ومن يزعم أني لست كلام الله ولا أحتوي على الحكمة والهداية والنور وكذا .. فليأتِ بسورة من سُوَرِي أو مثلي. هذا منطلق التحدي."
نقول: كيف يقول القرآن "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا"(النساء:82)، ثم يُقال " القرآن ما قال للناس: أنا معجز"؟!
إن معنى هذه الآية الكريمة أن القرآن مُبرأ من الاختلاف (الداخلي: بين آياته وبعضها، والخارجي: بين آياته وما تتكلم عنه) لأنه من عند الله، ولو كان من عند غير الله – كالإنس أو الجن– لكان فيه اختلافاً كثيرا. أي أنه مُعجز، أي يعجز البشر وغير البشر عن الإتيان بمثله. أي أن كتاب الله تعالى يعاجز البشر لأنه يصدق دوماً في آياته من كل وجه، ويأتي بها على أبلغ وأفصح وجه، وهو الأمر الذي لا يستطيعونه، ومن ثم هم عاجزون، ومن ثم يكون معجزاً لهم.
ثم كيف ينفي د. العلواني الإعجاز عن القرآن ويثبت له التحدي؟! فكل من يتحدى خصمه، فهو يعاجزه، أي يتهمه بالعجز عن الغلبة في موضوع التحدي!
ومن يقبل التحدي القرآني فعليه أن يأتي بسورة (مفتراة) من (مثل) سور القرآن، ولو قَلَّت عدد آياتها، أي أن يأتي بكلام له دلالة صادقة عم يتكلم عنه؛ أي إفاداته. وفي صياغة محكمة في صورتها البلاغية. وقبل أن يشرع الإنسان المتكلم بالكلام، فلا بد أن يستحضر المعنى في ذهنه قبل صياغته. ... وهنا بيت القصيد! .. فإذا كانت السورة المفتراة في حجم أصغر سور القرآن، ولتكن سورة العصر أو الكوثر، تيسيراً على المتحدي ليكون في أقصى جهده وافترائه، فلا بد أن يعلم صاحبها صادقاً من القول عن شيئ من الأشياء، مثلما أن سورة العصر، فيها قَسَمٌ بالعصر، على واقع الإنسان من استحقاقه للخسران، إلا فئة من الإنسان تُستَثْى من الخسران، إذا آمن أفرادها وعملوا الصالحات. وهذه المعلومات حقٌ دائماً وصدقٌ مطلقا. ونسأل: ما هي درجة صدق السورة المفتراة، الذي يُشترط أن يكون مفتريها صادقاً صدقاً مطلقاً في إفادتها المعرفية ورصانتها البلاغية؟
هذا السؤال الأخير عَصِيٌ على الإجابة ولكل البشر دون استثناء! – إذْ ما من أحدٍ يمكن أن يقطع بصدق تصوره لشيء من الأشياء، مهما بلغ من العلم، مستقلاً في ذلك عن الله تعالى تعليماً بالوحي، أو عن خلق الله تعالى المباشر استنطاقاً بالتجريب. وهذان هما الموقفان الوحيدان اللذان يمكن للإنسان أن يتحصل منهما على علم شيء. وحتى في هذا الموقف، لا يمكن أن يقطع الإنسان أنه قد أحاط علماً بما تَصَدَّر له، لاحتمال قصوره عن الفهم التام، أو الكلي، وهو متوهم في فهمه الكمال.
وإذا كنا ما زلنا في إطار السورة المفتراة، فليس أمام صاحبها إلا أن يستقي معلومات سورته من الطبيعة، .. وعلى تكون الطبيعة (الواقع/الأحوال) هي موضوع العلم الغربي الذي نتحدث عنه، وفي أمر من أموره سيكون موضوع السورة المفتراة، .. أي أن هذا الإنسان المسكين عليه أن يستنطق الطبيعة، أو الواقع بشكل عام: طبيعي أو إنساني، ويفهم منه ظاهرة ما فهماً يقطع مع نفسه بصدقه بعد استيفائه، وتشهد له كل الشواهد، ثم يصيغ هذا الفهم صياغة محكمة ليس هناك أبلغ منها في تعيين الظاهرة!
هذه هي أقل السور تعجيزاً من القرآن للإنسان. ومن استطاع أن يفي بها، فقد نجح بمعاجزة القرآن بما تحدى به. ولكن العقلاء جميعاً يُقِرُّون بأن المعرفة اليقينية بشيء من الوجود مستحيلة، وهذه بلا شك هي المرحلة الأولى التي يجب استيفائها حتى قبل التفكير في الصياغة وبلاغتها.
أي أن الإعجاز العلمي – من حيث إفادة المعنى - يقع في قلب المعجزة القرآنية. وخلاصته: أنه ما من شيئ يمكن للإنسان أن يتحدث عنه حديثاً صادقاً تمام الصدق كما تكلم الله تعالى. وهذا هو معنى قوله سبحانه: "وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا"(النساء:87)، وذلك لأنه على ذلك الإنسان – إن أراد ذلك - أن يحيط به علماً تمام الإحاطة، ولكن هذا يستوجب مشيئة الله تعالى كما قال سبحانه "وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ"(البقرة:255). فكيف يأتي إنسان بسورة من مِثْلِ[6] القرآن، في وقتٍ هو عاجز عن الإحاطة عن موضوع سورته المفتراة، حتى باستنطاق (الطبيعة/الواقع/الأحوال) ذاتها التي يتكلم عنها؟! ... وهذا كله في وقت، يقول الله تعالى له في سعيه، أنك ما تستطيع أن تحيط علماً بشيء إلا بمشيئتي!!! .. فكيف يعاجز هذا المسكين الله تعالى بشيء، ولا مصدر لهذا الشيء إلا من الله؟! ... منتهى الخذلان والحماقة لم يظن في نفسه قدرة على ذلك!!!
محاولة افتراضية بائسة نقدمها توضيحاً لفكرة المعاجزة القرآنية:
وهب أن المعاجز للقرآن يريد أن يأتي بسورة تقارب عدد كلماتها (سورة العصر) ويتكلم فيها عن حركة الأشياء، ... وجاءت محاولاته على النحو الآتي[7] :
1- محاولة أرسطية (ت 322 ق.م.): [والأجسام تجري بسلطان، حتى إذا زال وقفت، وما لها من نفسها سلطان إلا صدى الأصوات]، ومعنى العبارة أن (الجسم لا يتحرك إلا بتأثير قوة عليه، فإذا زالت القوة وقف، وليس في ذاته فعل، إلا رجع الأصوات). وكانت هذه هي فلسفة حركة الأجسام أيام أرسطو.
2- محاولة نيوتونية (ت 1727م): [والأجسام تجري بسلطان، من ذاتها من زخمها، حتى إذا نافسها غيرها تغير جريها]، ومعنى العبارة أن (الجسم يجري بزخم ثابت القيمة (المسمى بالعزم الخطي)، ولا يتغير العزم، ومن ثم مقدر الحركة واتجاهها إلا بتأثير قوة خارجية). وهذا هو المسمى بقانون نيوتن الثاني في الحركة.
3- محاولة نسبوية – أينشتاين (1905م): [والأجسام تجري بسلطان، من ذاتها من زخمها، حتى إذا نافسها غيرها تغير جِرْمُها]، ومعنى العبارة مثل عبارة نيوتن، إلا أننا غيرنا حرفاً واحداً (لاحظ جريُها أصبح جِرمُها)، وهذا الفرق هو ما أضافته النسبية الخاصة من أن تغير العزم يصاحبه تغير الكتلة الكلية (السكونية والحركية) وهو ما عنيناه بالجِرم.
4- محاولة كمومية نسبوية - ديراك (1928م): [والأجسام تجري بسلطان، من ذاتها من زخمها، حتى إذا نافسها غيرها تغيرت منازلها] وتشمل ما قبلها، بما فيها الحركة النسبوية، ولكنها تزيد عليها أن التغير يتم على انفصال quantum وليس على اتصال.
والآن: كل عبارة من هذه العبارات تصحيح لما قبلها، ويعلم العلماء جيداً أن العبارة الأخيرة لا تطابق الحقيقة بالضرورة، ولكنها أرجح الصياغات. وهذه هي النظرية الحركية، في صياغات بلاغية موجزة (رغم أن الصدق يسبق البلاغة، إذ لا عبرة ببلاغة في كلام غير صادق)، وشواهد هذه النظرية ما نراه في كل لحظة ينفعل أمامنا في الأرض وفي السماء، وفي أنفسنا وأبصارنا وأسماعنا ونبضات قلوبنا، ولكن، على المستوى المايكروسكوبي. فمَن مِن الذين صاغوا هذه العبارات، يستطيع أن يدَّعي، أن أي من هذه الصياغات المبتورة عن الحقيقة المطلقة، سُورة مفتراة! أي تامة الصدق! ... بل ويأت بها ليعاجز كلام الله العليم الخبير – الذي يعلم السر وأخفى.
وما أوردنا هذا المثال إلا لنؤكد على أن الأصل في إعجاز الكلام هو "الصدق"، فإن تساوى الصدق بين كلامين، وهيهات، انتقلنا إلى التقييم البلاغي، والبياني، والفصاحة وو .. إلخ ، وما شئنا من تصنيفات إبداعية، ... ولكن!!! ... متى تتحصل فضيلة الصدق لإنسان كائناً مَن كان! ليَصْدُق في الكلام عنه صدق الإحاطة؟! – أللهم إني أشهد أنه لا أحد يستطيع ذلك - من عند نفسه - سوى الله العزيز الحكيم[10]، وإلا لما كنت مؤمناً بقوله تعالى "وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا "(النساء:122)، وهذا هو مناط الإعجاز الذي لا أرى أن يُدانيه في قيمته وأولويته أي إعجازات اقترحها آخرون، رغم أنها إعجازات حقيقية. إذ ما قيمة أن أتحدى خصمي في أن يؤلف كتاباً عن البلاغة في الأدبيات الروسية، وأنا أعلم – كما يعلم هو - أنه لا يفقه أبجدية هذه اللغة!!! .. وكذلك هنا، ... لا قيمة عملية للتحدي بالبلاغة القرآنية لمن لا يستطيع أن يأتي بعبارة لغوية صادقة صدقاً أبدياً لا تنكسر. .. وباختصار، [الكذب الـمُتَجَمِّل كذب]، أو كما قال الله تعالى "قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"(المائدة:100).
فإذا أثبتنا أن القرآن أصدق من كل ما عداه من كلام الإنسان، في صورة نظريات علمية - وأغلب كلام الإنسان نظريات - وهو ما يزهو به الإنسان المعاصر، واستشهدنا على ذلك المخلوقات الحية والجامدة، أي الكشوف العلمية، كان ذلك إعجازاً للقرآن لا يدانيه إعجاز. وهذا هو "الإعجاز العلمي" لمن اراد أن يفهم معناه. ولا يُنْكر عاقل أن الإعجاز العلمي – أي الصدق ومطابقة المحكي عنه - لا بد أن يسبق الإعجاز البلاغي والنظمي، والذي يصبح عندها زينة للحق. أما من ظن أن الإعجاز القرآني الـمُتَحَدّى به ينحصر قي البلاغة والنظم، أو أن ذلك أَوْلَى الإعجازات، فنقول له: أي قيمة يمكن ان يتحصل عليه المدعي من امتلاك شيء من الزينة، وهو أضعف من أن يدعي حقاً من الكلام من عند نفسه حتى يُزينه؟!
يقول الدكتور العلواني: "والمنطلق الذي يسمونه التحدي العلمي، يعنى أني أتيت بنظرية وقلت: يا علماء! هذه النظرية استنبطتها من القرآن الكريم وأتيت بها منه، ودخلت بها المختبر وتأكدت من صحتها، وأتحداكم أن تقدموا لي ما هو خير منها. فهذا تحدٍّ وإعجاز، ولكن أن أُسقط ثقافة العصر العلمي على القرآن، وأقول: يا قرآن! ثقافةُ هذا العصر فيها نظرية النسبية، هل عندك نظرية تقول بذلك؟! فهذا ما لا يصح."
نقول: نعم ولا. أما (نعم)، فالإتيان بجديد في العلم من القرآن، وإقرار المجتمع العلمي العاقل به بعد ثبوته، فإعجازٌ وإفحام. وأما (لا)، فلا يمتنع أن أعرض دعاوى القوم على القرآن، أستفهم عنها، لا لأصطنعها فيه، ولكن لأستعلم عن صدقها من كذبها. فإن صدَّقها صَدَقَت، وإن كذّبها كذَبَت. وإن فكَّكَها وفصَّلها وأمرني بالتنقيب عن مسائلها في مواطنها، فعلت، وكان لكل حادث منها حديث.
يقول: "أَنظر في القرآن وأنا متأثر بثقافة العصر، فحين أقول لك انظر إلى الهلال ليلة رمضان أو العيد.. انظر في هذا الاتجاه، فأحيانًا الإنسان يتصور أنه 100 هلال؛ لأننا وضعنا في خيالنا ذلك، فالثقافة المعاصرة في أذهاننا جميعًا؛ وعندما يأتي للقرآن ويقرؤه بهذه النظارة، ويفهم ويستنبط ما يراه بالنظارة العلمية التي يرتديها، فيقول هذه الآية تعطي المعنى الفلاني وتتصل بنظرية كذا."
هنا الحديث عن وهم الخيال وليس العلم، إذ أن العلم يقوم على استقلاله عن شخص الناظر وأحواله. ولا يُقبل علم إلّا بإعادة إنتاجه من ناظرين مختلفين. ونستغرب ونسأل: هل لهذا قيمة في حساب العلماء؟ ألا ينكشف أمره مع أول مراجعة وتحكيم! أم أن دعاوى الإعجاز تجري هكذا بلا تحكيم؟! ولماذا لا تُؤسس المجامع العلمية والأكاديميات الدينية والعلمية مراجعات في الإعجاز ودعاويه؟! بل لماذا لا تقوم له مجلات علمية رصينة تدعم الحق وتزكيه، وتكشف الباطل وتزريه، وتصبح منارات للهدى إلى صحيح المعاني ومدارات للنظر ومرقاة للوصول إلى حقيق التفسير والإعجاز الإلهي؟!
إن ما وصف به العلواني المفسرين العلميين لا يؤول إلا إلى شطحات السُّوقة من المثقفين، لا إلى العلماء المحققين. وإن كان هذا الكلام صحيحاً على عدد من المسلمين الآن، وإن كثر عددهم، فلماذا لم يصح على الإنسان المسلم الذي فسر القرآن من قبل؟! بل على كل إنسان يفسر أو يُأوِّل مسألة ما! لماذا لا ننظر إليه على أنه فسره بوهم ثقافته التي كان يستظل بظلها؟! – بل إننا نجد بالفعل آثار الثقافات القديمة مبثوثة في التفاسير. فالحكم ليس لقول كل من له صوت، بل لما تم تحقيقه من أقوال، سواء كانت قديمة أو حديثة، ولا يُستبقى إلا ما يصمد أمام النقد والتمحيص، لا أن نتَّبع كل تفسير قديم ونُقدِّسه لمحض كونه قديماً، ونَدَعْ ونستنقص كل تفسير جديد، وفقط لكونه جديدا؟! ... فالله تعالى يقول "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ .."(الزمر:18) ولم يقل سبحانه [فيتبعون أقدمه (في ملتهم)]!
يقول العلواني:"لقد رجعنا بالتفكير العلمي إلى الوراء.. (و) بدلا من أن يقوم – يقصد التفسير العلمي- بفكر المقارنات رجع إلى المقاربات الذي هو أقل شأنًا، وأسقط ثقافة العصر الغربية على القرآن الكريم، ويا قرآن!.. هل تحتمل هذه النظرية وهل تؤيدها أم لا؟ فالقرآن هنا تابع إلى الشكل الغربي المنقطع عن الله، فهذا الفكر أعور ينظر للكون ولا ينظر إلى الوحي."
نقول: لا يعلو صوت الباطل إلا بخفوت صدح الحق. فإذا سكت أهل الحق أتاح المجال للعابثين، ومن كان أستاذنا العلواني لهم من الواصفين. أما إن كان أهل الحق عن الحق غير مدافعين، إلا بحظر ونهي وسبٍّ وتوبيخ، فلن يعلم المساكين – وإن كانوا من الطامحين لفهم كتاب رب العالمين – ما هم فاعلين؟! .. وأي خطأ كانوا يقترفون؟! .. وما السبيل لتصويبه أو تبديله إن كانوا إليه مضطرين! .. فإن فقد أهل الحق فيه الحق والقول المبين، فلن يخفو للباطل فيه صوت أو ترنيم، .. وعندئذ يستوي الخصمان في طمس حقِّ، تشرئب إليه الأفئدة والأسماع والعيون. .. سواء كانوا من المشنعين على جديد المفسرين، وإن سُئِلوا ظلوا صامتين، أو مفسرين فقدوا القبلة، فاجتهدوا وصلُّوا حيثما توجهوا غير عابئين.
ويقول: "منطلقات المتقدمين - وخاصة الشاطبي - كانت قائمة أو منبثقة عن محاولة الحفاظ على النص القرآني باعتباره خطابًا لغويًّا عربيًّا ينبغي أن لا يُخرَج عن شيء لم تفهمه العرب؛ فقد كان يقيد فهم القرآن بالقرون الثلاثة: الصحابة وكبار الصحابة والتابعين وكبارهم، فأي نص آخر يعتبره فهمًا فيه تَزيّد ينبغي عدم الذهاب إليه."
نقول: أي حجْرِ على فهم القرون المستقبلة وَضَعَه هذا التصور لمعاني القرآن، وأي جمود للحياة إذا وقف شريط الأحداث عند القرن الثالث من هجرة رسول رب العالمين، فلا تتحرك مشاهد العلم، ولا يُؤبه لتتالي الثقافات والسنين. وكيف - إن صدق هذا التصور - ينكشف للقرآن شيءٌ من المعجزات، أم أن القرن الثالث كان ختام العلم وكان علماؤه خواتيم العالِمين؟! بل كيف يمنع القاضي الورثة من ملكهم بعدما ورثوه وأصبح في رقبتهم وعليه يُسألون، أم يفرض لنفسه وصية عليهم إلى القيامة بما عليه المسلم من العلم أن يقتات، أم يظن أنه الباقي والأحياء أموات، فالباقي حي لا يموت، وبمشيئته أرزاق الناس من القوت والعلم وتَنَزُّل الرحمات. .. ونسأل: هل هذا الحَجْر فقط على آيات الطبيعيات، أم على كل قولٍ في القرآن من تفسير وفقه وموعظة وتسبيحات؟! ... وبماذا افترق جديد قولٍ في غير الطبيعيات حتّى يحلل، ثم يُحرّم ما لا تهضمه عقول المانعين والمانعات. فالعلَّة عسرُ هضمٍ إذاً، لا علةُ حبِّ سلف، ونُصرةِ حقٍّ، وزجر مُوبِقات!!!
ويقول: "ومنطلقي أنا ... أن إسقاط ثقافة العصر ممنوع على القرآن؛ فالقرآن المهيمن والمصدَّق لا ثقافة العصر الماضي ولا الحاضر، العلم نفسه مرَّ بأطوار، الطور الأول نادى فيه نيتشه بتأليه العلم، وهو طور يقوم على يقينات محضة، فأي نظرية أو مبدأ يقرّه العلم فالعلماء يعتقدون أنه يأتي باليقين الكامل."
نقول: نعم، يمتنع إسقاط ثقافة العصر على القرآن، لكن لا يمتنع سؤال العصر للقرآن! فـ [حياة القرآن إنما في دوام إجاباته]. ويصبح الإشكال: كيف يصاغ السؤال بلغة القرآن؟ وكيف تُفهم الإجابة في لغة القرآن بفهم العصر؟ فـالسؤال عن  "جريان الشمس" في عصر النبوة غير نفس السؤال في العصر الراهن، والحق في الإجابة، إذا جاء أجلها لا بد أن يظهر رغم أنف الكارهين. وقس على ذلك أسئلة عديدة مثل: سؤال غزو الفضاء، إمكانه من عدمه؟! هيئة السماء والسموات السبع وحقيقتهن؟! الأرض وماهية السبع اللاتي خلقها الله منها أو من طبيعتها أو عددها؟! ...إلخ. ... أسئلة عديدة يسألها مثقف هذا العصر، و [القرآن هو النافذة الإلهية الوحيدة التي يطل منها علم الله تعالى علينا..كلاماً مسبوكاً مسكوكاً منطوقاً مسموعا]، ... فمن ذا الذي يمنع السائلين حقهم في السؤال؟! ... ومن ذا الذي يُحرِّمُ عليهم أن يستمعوا إلى راجح الإجابات؟! .... ثم من هذا الذي يحرِّف الإجابات عن مواضعها، ليستبدلها بحق مستبين ... إن أتته آياته خالصة بيّنة، يرى دليلها وبرهانها .. يُنكرها أو يحجرها أو يمنعها أو يطمسها ؟!
يقول العلواني: "بعد أن حصلت في القرون الماضية أمورٌ أوجدت شيئًا اسمه "أزمة المنهج العلمي"، وأزمة العلوم الطبيعية، أصبح المنهج العلمي يُخطئ أحيانا، فنأخذ جميع المقدمات التي يعطيها المنهج العلمي، لكن النتيجة تأتي مغايرة، فتحولوا من اليقينية إلى الاحتمالية، فالعالِم عندما تسأله: هل تؤمن بوجود الله؟ يقول : لا أعرف.. ربما، ... قبل ذلك كان الجواب: لا .. العلم لم يثبته، فالمعلوم هو كل شيء خضع للحس والتجربة والمنهج العلمي ينتج اليقينيات، فلمّا تخلف المنهج العلمي تراجعوا عن قضيتين أساسيتين، وتغيرت كثير من النظريات الفيزيائية فدخلنا في الاحتمالات. ... نحن نقول في أصول الفقه: يوجد القطع والظن، والقرآن يأتي باليقين فلا يُشَكُّ في قضاياه، والبعض يقول: السنة ظنية فهي دون مرتبة القرآن فيضعون القرآن أولا والسنة ثانيًا، فكيف أفسر القرآن بنظريات قائمة على الاحتمال وكيف أتحداها؟. ... العلم تراجع عن السببية الجامدة، بمعنى أنه ليس بالضرورة الأخذ بالأسباب ولا حدوث النتيجة، والدليل على ذلك "ناسا" والكوارث التي حدثت بها، حادثة تشالنجر لم يجدوا سببًا لسقوطها. فالعلم تحول من اليقينية إلى الاحتمالية، فكيف أجعل القرآن يجرى وراء العلم والقرآن يقيني، في حين أن العلماء يمكن أن يتراجعوا بعد فترة عن نظرياتهم؟"
نقول: إذا تناولنا مسألة احتمالات صدق النظريات العلمية بشكل عام، دون ما استجد من احتمالات فيزيائية لم تكن متوقعة، والتي أشار إليها الدكتور العلواني، فإن إجابات العلم التي لا تصل إلى اليقين، عن أسئلة العلماء، تعني حاجته إلى مُجيب أكثر علماً، وأوسع إحاطةً. كما أن غموض السلوك الطبيعي جعل حاجة العلم الحديث إلى الفهم أشد إلحاحاً، بعد أن أصبح الفهم - الذي يطمئن إليه القلب - عزيزاً. وهذا الاحتمال، وذلك الغموض إنما هو في التأويل والتفسير لأرصاد وتجارب العلم الحديث، أكثر مما هو في مزيد من الأرصاد والتجريبيات. بمعنى أن معدل التقدم في الفهم أبطأ من معدل جمع البيانات. فالطبيعة تنطق بالتجربة، وعلى السامع أصواتها – أي بياناتها - أن يتعلم لغتها، ويفسر كلامها، ويُأوّل خطابها. وعندما يقال "الإعجاز العلمي للقرآن"، فلا يُقصد منه مطابقة بين القرآن والنظريات، بل يُقصد منه المقابلة بين القرآن وكلام الطبيعة الخالص، أي إجاباتها المباشرة عمّا يجري تجربته، أو رصده، أو قياسه. فالخلط بين كلام الطبيعة وتأويل العلماء له، والـمُسمّى بالعلم الحديث، يُفسد المسألة، ويُشوش على معنى التفسير والإعجاز العلمي، سواء عند أصحاب الإعجاز العلمي أنفسهم، أو عند خصومهم. وينتج عن ذلك جدل لا ينتهي، إلا بتجلية العلاقة بينهما على نحو ما بيّنّا.
فإذا تعينت المطابقة في الموضوع بين النص القرآني من جهة والاستنطاق الطبيعي لظاهرة ما، من الجهة الأخرى، خرج إلى مسرح المسألة تفسيران أو تأويلان، من طرفي المطابقة، التفسير الطبيعي، والتفسير القرآني، وكلاهما من اجتهادات البشر. ولأنهما اثنان، فالوصول منهما جميعاً إلى أصدق تأويل يُعد أقرب إلى الإصابة من انفراد أيهما بالإجابة. والنتيجة أن تتخاذل الاحتمالات التي أثير موضوعها أعلى، وينجلي الغموض ويصبح المعنى الحقيقي للظاهرة أكثر شفافية. ويتدعم به في نفس الوقت كل من التفسير العلمي؛ أي الآخذ القرآن في اعتباره، والتفسير الطبيعي؛ المستقل عن القرآن، فيقترب الإنسان أكثر وأكثر من تكشُّف الحقائق التي تكتنزها آيات القرآن، لِتُثبت بذلك أنه كلام الله تعالى الحق، وأنه من لدن حكيم خبير.
ويُنتبه من مراد العلواني في قوله: "القرآن يأتي باليقين فلا يُشَكُّ في قضاياه" لأنه يتطلب التحليل والتفصيل. فالقرآن في نفسه – أي عند الله – محكمٌ كله، كما قال تعالى "الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ"(هود:1)، ولكن القرآن في أفهام الناس منه المحكم والمتشابه، كما قال تعالى "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ"(آل عمران:7). وعلى ذلك، فلا بد أن يكون مقصود عبارة العلواني المحكم فقط دون المتشابه، لأنه يتكلم عن أفهام الناس للقرآن. وهذا المحكم هو يقيني الدلالة، أما المتشابه، فهو ظني الدلالة. ولا ترتقي دلالة المتشابه إلى الإحكام او تقترب منه – في أفهام الناس - إلا بأدلة الاكتشاف العياني لما تتكلم عنه الآيات. وعندما تكون هذه التزكية من الكشوف العلمية - لِما كان ظني الدلالة - تصبح الآية إعجازاً علمياً، ووقتها فقط يمكننا فهمها بدلالة راجحة أو يقينية، ويُرجّح بها أقوال العلماء الطبيعيين إن وافقتها، أو ترد إن خالفتها.
فالمعنى إذاً ليس أن القرآن والكون منقسمان بين اليقين لمعاني القرآن، والاحتمال لمعاني الظواهر الكونية كما يُفهم من كلام العلوني، وما ينتج عنه من وجوب الفصل بين نظريتين للمعرفة، الأولى لليقين الديني، والثانية للاحتمال الطبيعي! ... فالصحيح أن كلا الطرفين فيه اليقين والاحتمال عند النُظَّار. ومن ثم يتداخلان، في وقت أراد العلواني لهما الانفصال!
وعما أثاره الدكتور العلواني عن أزمة العلوم الطبيعية والتحول من اليقينية إلى الاحتمالية، فلا بد أن يشير إلى احتمالات النظرية الكمومية. ومن خبرتنا العميقة بهذا الموضوع نقول أنه وقع في خطئين: الأول أنه لا علاقة بين هذه الأزمة وبين قوله أن ناسا لم تجد سبباً لسقوط المكوك الفضائي تشالنجير الذي سقط بعد انطلاقه بـ 72 ثانية. بمعنى أن علة سقوط المكوك لم تكن ممتنعة حتى بافتراض أنهم لم يقفوا عليها. أما علة الاحتمالات الكمومية فهي مما لا يمكن الوقوف عليه طبقاً لتفسير النظرية الكمومية Quantum Theory الراهنة والـمُسمّاة بمدرسة كوبنهاجنCopenhagen Interpretation . فالخلط بين المسألتين تشويش لا يجوز. أما الخطأ الثاني، فهو أن الاحتمالات الكمومية – إذا بقيت على حالها ولم يتم تبريرها بأسباب – تنحصر في القياسات الكمية كالأطوال والسرعات دون الذرية، ولا علاقة لها بأي احتمالات في التأويل. بمعنى أنه لا معنى لأن يقول قائل أن التأويل كذا احتمالي لأسباب كمومية (أو بسبب أزمة العلوم الطبيعية) فهذا أيضاً تداخل بين قراءة البيانات على مقاييسها، وبين تأويل الظاهرة. ولا ينبغي سحب الاحتمال في الأولى على أنه مما ينتقص يقين الثانية. ومن ثمَّ يكون اتخاذ أزمة العلوم الطبيعية والاحتمالات الكمومية ذريعة لاحتمالية النظريات الطبيعية، أي: ذريعة لوقف مقابلة معاني الظواهر الطبيعية مع المعاني الكونية القرآنية، تبرير غير موفق، ويكشف عن التباس المعاني عند القائل بذلك.
يقول الدكتور العلواني: "موريس بوكاي قام بمقارنة بين الإنجيل والقرآن والتوراة وآمن بالإسلام[8]، وهو طبيب وجد التوراة تخالف العلم وكذلك الإنجيل، وهذا سبب التصادم بين الكنيسة والعلم، ووجد القرآن نزل بأسلوب خالٍ من التناقض مع أي نظرية علمية لا حالية ولا مستقبلية (نتساءل: ومن يستطيع القطع بشيء في المستقبل؟! – هذه مصادرة من العلواني)، فالقرآن يعطيه منهجًا للتأمل في الطبيعة، وليس أحكاماً صلبة."
نقول: كتابُ موريس بوكاي "التوراة والقرآن والعلم الحديث" كتابٌ صريح في التفسير والإعجاز العلمي للقرآن. ولا يمكن نفي التناقض بين القرآن والعلم – أو إثباتها- إلا بعد المواجهة بين مقولات القرآن ومقولات العلم. ثم أن انتفاء التناقض يفيد الموافقة، أو التضايف لأصل تصوري مشترك، أو تعددها دون اشتراك، وهذه النتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا بممارسة التفسير العلمي، ويُعد هذا النوع من التفاسير بذلك درجة كبيرة على سلم الوصول إلى الإعجاز العلمي.
وخلاصة هذا الإشكال في كلام العلواني أن امتداح فعل موريس بوكاي امتداح للتفسير العلمي للقرآن الذي ينتج عنه نفي التناقض بين القرآن والنظريات العلمية (الصحيحة)، أما ذم التفسير العلمي فذم لفعل موريس بوكاي ولوسيلة نفي التناقض بين القرآن والعلم الصحيح. وليس أمام العلواني من حل هذا الإشكال إلا الاعتراف بأنه لا غبار على مبدأ التفسير العلمي لآيات القرآن، مع ضبطه بما ينبغي له من ضوابط.
ومن جهة أخرى نستغرب بشدة لما قاله الدكتور العلواني "القرآن نزل بأسلوب خالٍ من التناقض مع أي نظرية علمية لا حالية ولا مستقبلية"، إذ كيف أمكن له القطع أو حتى الترجيح بذلك؟! فالمعلوم أن العلم يئن تحت وطأة النظريات العلمية المليئة بالأخطاء التأويلية، والتي لا يمكن أن يقبلها القرآن، ومثال قريب لذلك المبدأ الفيزيائي المسمى بـ "مبدأ هاينزبرج اللايقيني" في السلوك الفيزيائي، إذ لا يمكن أن يجاريه القرآن بأي حال لنفي هذا المبدأ "القطع واليقين" في حدوث الحوادث، والذي يزعمون أصحابه فيه أنه حاصل حتى في حق الإله الخالق للحوادث سبحانه وتعالى عن ذلك. فكيف يقال – في إجمال القول - أن القرآن لا يعارض نظرية كهذه؟! .. أمّا عن مستقبل النظريات، فكيف يقطع قاطع – محايد - بأن المستقبل لن يرى تعارضاً بين القرآن ونظريات البشر التي أقر العلواني بتغيرُّها، ومن ثم انتقالها من حال إلى حال مختلف، من الصواب أو الخطأ؟! ..
كما وأن وهذا التصريح من العلواني [لا حالية ولا مستقبلية] لا يعكس إلا تحيزاً أيديولوجياً ... ومصادرة على المطلوب. والأصوب أن يقال: من رأى تعارضاً فليأت به، وإنا على يقين من أنَّا سنجد فساد برهانه. فيكون اليقين يقيننا النفسي، وصدق البرهان دليلنا العملي. فيتميز اليقين في الحق الذي لا يُلزم الخصم، عن إقامة الحق الذي يفضح من ينكره بعبثيته وجحوده.
وإذا أجابنا العلواني أنه يقصد عدم التعارض في الأسلوب؛ في قوله: "القرآن نزل بأسلوب خالٍ من التناقض"، وأنه يقصد من ذلك ما أوضحته الجملة الأخيرة في عبارته؛ أي: " (أن) القرآن يعطيه منهجاً للتأمل في الطبيعة، وليس أحكامًا صلبة". فتكون هنا الطامة أكبر! .. إذ أن هذا معناه أن أسلوب القرآن مائع المعنى، يتشكل مع كل نظرية ولا يخالفها إن شطحت يمنة أو يسرة، ... وهذا كلام مرفوض، بل وفيه من الشناعة ما تنخدش به صرامته وإحكامه، التي قال الله تعالى فيها " الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ "(هود:1). وهذا التصور الهلامي لمعاني القرآن ليس إلا وهم من لم يحط خُبراً بمعاني النظريات التي يرفضها القرآن، والنظريات التي ربما لا يرفضها. أما عن صرامة معانية، وأنها أحكاماً صلبة – بعبارة العلواني -، بل شديدة الصلابة، فمِصداقُه قولُ الله تعالى "إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ"(الطارق:14). ونؤكد أن القول بأن "القرآن .. منهجاً للتأمل في الطبيعة" لا ينتقص من صرامة أحكام سنن الطبيعة المخلوقة. فالتأمل المنهجي سلوك المسلم تجاه الطبيعيات، والأحكام سنن الطبيعيات، ومن ظن أن أحدهما ينفي الآخر، أو يُغني عنه، فحتماً ظنه هباء. وإن أراد أنه يثبت الأولى وينفي الأُخرى، فأين حجته مع الوفرة الوفيرة من حديث القرآن عن مخلوقات الله تعالى وسننه فيها؟!، وهو حديث كأي حديث من حيث النوع، قد يحتمل الصواب والخطأ. ولكن لأنه من الله الحكيم العليم، فهو صارم في معانيه، مصيب في مراميه، قاطع في أحكامه، صارخ في تمييزه بين حق أحكام السنن، وباطل أوهام الناس عنها إن خالفتها. .. فكيف يقال أنه ليس بأحكامٍ صلبة. ... وهل قول الله تعالى " وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ..." ليس بحكم صلب؟! ... ألا يتعارض ذلك مع نسبية أينشتاين التي تجيز القول بسكونها التام في إطارها الإحداثي، وقولها أنه موقف فيزيائي لا غبار عليه، وأنه حق من حقائق الواقع يمتنع إنكاره. .. هذا إذاً تعارض .. ولن نجد هنا أي أثر لتمييع معنى الآية، .. والهبوط بها إلى أنها محض "منهج للتأمل" كما قيل!!!
ويقول العلواني (بتصرف): "هناك منهج للنظر في الطبيعة وليس منه أن نُدخِل القرآن المختبر، أو نجعل القرآن كتاب علم أو صناعة، هو كتاب الكون وكتاب توجيه ووحي."
نقول: وضع المفسرون احتمالان لتفسير قول الله تعالى "رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا"(الرعد:2)، أحدهما أن السموات مرفوعة بعمد ولكن لا تُرى، والثاني أنها مرفوعة بغير عمد كما "تَرَوْنَهَا"[9]. فكيف يمكن أن نُرجِّح أي الاحتمالين دون الآخر - وخاصة أنهما لا يجتمعان - إن لم نختبرهما (تجريبياً)؟! – فالرأي الذي يتقوى بالاختبار فوق الآخر، يكون له الترجيح. فإذا تبين هذا المثال ومعقوليته، وعدم مساسه بقدسية القرآن، عُلٍم أن الكلام السابق للعلواني لم يكن مُوَفَّقَا، وأن هناك من آيات القرآن الكونية، التي يتطلب حسن تأويلها، إجراء اختبارات معملية أو رصدية حاسمة! ... هذا من حيث التأويلات المحتملة..
أما من حيث صدق القرآن، ومطابقة حديثه للوقائع والأحوال والأحداث، فالله تعالى يقول "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا"(النساء:82)، والسؤال هو: هل يمكن النظر والبحث في القرآن – سواءاَ لمن يطلب الاختلاف المشار إليه، ولمن ينفيه – دون إدخاله المختبرات العقلية، والموازنات العلمية؟! .. وهل يُعلم صدقه دون الوقوف على دلائل ذلك بعلامات بينة، وأمارات ظاهرة، .. لا تستبين ولا تتظاهر إلا بالفحص والاختبار؟! ... وأي حرج في ذلك طالما أن القرآن كتاب الله، وسيصدق أبدا عند المؤمنين به. ... إنما الحرج عند من لا يستطيع الدفاع عن القرآن إن أثيرت شبهات العلمويين حوله، .. فهذا هو الذي يحرجه إدخال القرآن المختبر. .. أما نحن فلا.
يقول الدكتور العلواني: "يجب أن نصحح مشكلات العِلم المُعاصر، وأن نخرج العلوم الطبيعية من الأزمات الفلسفية، لأن العقل الغربي يرى أن الخلق قائم على أمرين: الإنسان والطبيعة، ونسي الباري سبحانه وتعالى؛ فلو أردنا حل أزمة المنهج العلمي علينا أن نعيد للفكر الإنساني الجدل بين تلك العناصر الثلاثة، فمنهج العلم يقول: إذا اتحد المُنتِج يجب أن يتحد المُنتَج، وإذا تعدد المصدر أو المُنتِج يجب أن تتعدد المنتَجات؛ لأن هذا طبيعي، هو جدل بين الإنسان والطبيعة. ... علينا أن نخرج علماء الغرب من كبوتهم والعلوم الطبيعية من أزمتها وتوقفها ونعطيها آفاقًا جديدة، وهذا ما لن نملكه إلا بالتفكر الحقيقي في القرآن؛ الكتاب الكوني الوحيد على وجه الأرض، والذي نقرؤه - بمنتهى الأسف - قراءة عادية عابرة."
نقول: كيف يمكن أن نُخرج العلوم الطبيعية من الأزمات الفلسفية، باعتبارنا مسلمين، ومرجعنا كتاب الله تعالى دون تفاعل بين ما فيه، وما يعترض العلوم الطبيعية من أزمات؟! ... إن أي مواجهة من هذا النوع تستلزم النظر العلمي في القرآن، ورؤية الكون بعيون القرآن. وهذا لا يمكن حدوثه إلا بالمقابلة العملية. ولا يمكن تحقيق تفكر حقيقي في القرآن - الكتاب الكوني الوحيد بين يَدَيْ الإنسان – دون إسقاط حقيقي لمقولاته على موضوعات الخلق التي تتكلم عنها الآيات؟! – فهناك ظواهر الكون، وهناك مقولات القرآن، وهناك الرؤى الغربية لفلسفة العلوم الطبيعية. وعلى أساس الصدق المطلق لما كان من الله تعالى خلقاً وكلاماً (الكون والقرآن)، فإن التفاعل الجدلي بين هذه الـمُعطيات الثلاث، هو الوحيد القادر على استجلاء الصورة، شريطة التمييز بين ما كان يقيني الدلالة وما كان منها ظني.
ولكن هذه الصورة لا يمكن لها أن تتحقق دون احتوائها في قالب تنظيري اصطلاحي، يتناوله مؤمنون به، وما فيه من جدليات. ولا نرى لهذا الفن التنظيري إلا ما يجمع بين الـمُعطيات الثلاث في علم واحد متعدد الاتجاهات. وليس بمستغرب أن يشمل ذلك اتجاه من الظواهر الطبيعية إلى القرآن، وهو ما يسمى بالتفسير العلمي، وأن يشمل اتجاه من القرآن إلى الظواهر الطبيعية، وهو التصور القرآني للكون باستقلال عن تصورات الناس، وأن يشمل اتجاه من القرآن إلى تصورات الناس في صورة العلم والنظريات المعاصرة، وهو ما يسمى بأسلمة العلوم، فتكون الصورة النهائية تصحيح لتصور المسلمين عن فهمهم لحكاية القرآن عن الكون، وتصحيح للفلسفة الطبيعية في العلم، وتأويل للغامض في نظر الناس من الظواهر الكونية.
هذا والله تعالى أعلم،
المؤلف



[1] طه جابر العلواني (1935-) أستاذ دكتور، من أصل عراقي. رئيس المجلس الفقهي بأمريكا منذ عام 1988، ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية (SISS) بهرندن، فيرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية. حصل على الدكتوراة في أصول الفقه من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر في القاهرة، عام 1973. كان أستاذاً في أصول الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، المملكة العربية السعودية منذ عام 1975 حتى 1985. وفي عام 1981 شارك في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة، كما كان عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، وعضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة. هاجر إلى الولايات المتحدة في عام 1983. يرأس طه العلواني الآن جامعة قرطبة الإسلامية في الولايات المتحدة. له مؤلفات عديدة منها: حاكمية القرآن، إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم، وغيرها ..

[2] " طه العلواني.. وجدالات الإعجاز العلمي"، أجرى الحوار: معتز الخطيب،
http://www.onislam.net/arabic/madarik/science-environment/86842-2007-02-25%2010-40-47.html

[4] أنظر في ذلك مثلاً: الوضعية المنطقية وحلقة فيينا، وهجومها على الميتافيزيقا، ولا تعبر هذه الميتافيزيقا المنتقدة عن الأديان السماوية المؤسسة على مرجعية الوحي، بل على الأفكار الإنسانية - التي لا أصل لها - في مسألة الوجود وما وراء الوجود، أي الطبيعة وما وراء الطبيعة، أي الفيزيقا و"ما وراء الفيزيقا" (الميتافيزيقا).

[5] راجع التصريح العلمي باكتشاف الجسيم المسمى بالكوارك (القمة/التوب Top Quark

[6] افترى (نصر حامد أبو زيد) فرية كبرى في معنى " مِنْ مِثْلِهِ " في قوله تعالى "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .."(البقرة:23)، قال فيها: أنه منذ أن سأله أحد طلابه قبل عشرين عاما، من تاريخ حكايته هذه (محاضرة ألقيت سنة 2008)، أي سنة 1988، وقال له: ما معنى (من مثله) يا أستاذ؟ - أجابه وقال: لا أدري يا بني – ثم أفاد في المحاضرة بـ أن (من مثله) تستلزم المطابقة، لأنه لا شيء يكون (مثل) شيءٍ آخر تماماً، إلا إذا طابقه، ومن ثم فرِّغ نصر حامد أبو زيد آية التحدي من قيمتها الوظيفية، وجعلها تحدٍ بالمستحيل (محاضرة: إعادة تعريف القرآن – مكتبة الإسكندرية - 2008) – ..... ولكن المعنى يسير رغم أنف المبطلين، فإذا افتقدنا نحن – على سبيل المثال- طبيباً نعرفه وقد جربناه، وسألنه عن طبيب مثله، فوجدنا هذا المثيل للطبيب الأول، أيمتنع ذلك لأنه ليس هو هو الأول؟! – لا يمتنع، لأن المثلية تعني انتفاء المفاضلة المميزة تميزاً واضحاً، ويقع المتماثلين في نفس الرتبة، مثلما أقول أن حجم الشمس إلى حجم الأرض (1,300,000) مرة، فلا يهم أهي (1,310,000) أو أنها (1,290,000)، ومثلما يقول الله تعالى (في بضع سنين)، فلا يهم التفصيل الدقيق أهي 7 أو 8، ومثلما يقول الله تعالى:  (وهم ألوف)، فلا يهم فيها التفصيل (عشرة آلاف أو إثني عشر ألف)، ومثلما يقول الله تعالى (اذكروا الله كثيرا)، ولا يهم التفصيل (ألف أو ألف ومئة)، فالمثلية تعني وحدة الرتبة، ولا تعني تمام المطابقة، فإن انتفت الرتبة، فالمطابقة أولى بالاستحالة، مثلما نقول أن عدَدَيْن؛ أحدهما من فئة العشرات والآخر من فئة المئات، وهذا يكفي لنفي التكافؤ بينهما دون أن نعلم قدرهما على سبيل الإحصاء، أن الأول 15 والثاني 370. وكذلك المثلية، يكفي فيها التساوي في الرتبة، دون تمام التكافؤ والتطابق، بما يستحيل معه التمييز بينهما.
   وهذه التعريض التجريحي من (نصر أبو زيد)– في معنى "مِن مِثله" على سبيل الخصوص – ليس جديداً، فقد أثار مثلها الطاعنون في القرآن قديما وقالوا بأن من قرأ سورة فقد جاء بمثلها – وقد رد عليهم عبدالقاهر الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز" تحت عنوان "المحاكاة والنظم" وأسهب وأطنب، وذكر الرافعي قولهم هذا في كتابه "إعجاز القرآن" ص 104، ووصفه – مع غيره من مطاعن – بأنه من السخيف، الركيك، الواهي، المضطرب، وزاد على ذلك بأنها غثٌّ بارد.

[7] سبق أن ذكرنا هذا المثال في مقالة صغيرة بعنوان [كيف يكون القرآن العربي معجزًا للأعجمي؟]، والحقيقة أن أصل هذا المثال كان هنا في كتابنا الراهن، الذي يمثل مناقشتنا لأراء الدكتور طه جابر العلواني أحد فصوله، وفي هذا الموضع منه، ثم اقتبسناه إلى ذلك المقال لوفائها بالغرض هناك.

[8] سُئل موريس بوكاي عن ذلك صراحة عام 1986 في محاضرة له بمدينة سياتل بالولايات المتحدة، فلم يُفِد بأنه أسلم، واكتفى بقوله أنه يمارس البحث العلمي. (كنت أحد الحاضرين لهذه المحاضرة)، غير أن هناك من يشهد بإسلامه، ويدعى أبو فريد القبطاني، وأن ذلك كان في نهاية سبعينيات القرن العشرين، لمعرفته الشخصية به وباعتراف بوكاي له بذلك، كما جاء في ("جوستاف لوبون في الميزان "، لشوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1990، ص 7)

[9] قال ابن كثير في تفسيره عن هذا الرأي الثاني: (هذا هو الأكمل في القدرة). فهل نأخذ من ذلك أن الأسباب في السموات والأرض، تنتقص من كمال القدرة؟! 

[10] (إضافة بتاريخ 23/ 1/ 2014) (أو من يُعلّمه الله تعالى من خلقه؛ ماذا يقول من جوامع الكلم الصادق)، سواء كان في الدنيا، كالرسل والأنبياء، أو في الآخرة، كمن قال الله تعالى في شأنه (أو شأنهم): "يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا"(النبأ:38). أي أن المعيار الأول للكلام المسموح به هو الصدق، .. وهذا يزكي أن الإعجاز الـمُتحدّى به في القرآن إنما يتحقق أولاً في الصدق المطلق، .. وإذا ما تحقق عند أحد من الناس - وما هو بمتحقق لاستحالة ذلك على الناس قاطبةً - فلننظر في البلاغة والنظم والبيان.. إلخ ... وهيهات أن نصل إلى شيء من ذلك بعد تلك العقبة الكؤود التي لن يتخطاها أحد (أي صدق الكلام أو صوابه).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق