كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ20) محمد الصادق عرجون
بقلم: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
حَمَلَ
الدكتور محمد الصادق عرجون[1] –
يرحمه الله تعالى- على التفسير والإعجاز العلمي حملاً شديداً، واستنكره، واستنكر
منه، ولكنه في مواضع أخرى دعا إليه كضرورة لا يُستغنى عنها لفهم آيات القرآن
الكونية! .. وبين هذا وذاك، رفض من التفسيرات الجديدة – كمثال من اعتراضاته - ما لا
يدنو في إشكالاته ولا ضَعفِه ولا بُعْدِه - مع تفسير مأثور دافع عنها واستنصر به!
... ثم استنكر دواعي فهم التفسير العلمي للخاصة من العلماء على حساب العامّة من
الناس، ثم نسى استنكاره هذا، وعاد يُصرّح في مواضع عديدة بلزوم التخصص والتفرُّد في
الفهم العلمي لآيات الله الكونية، ومدح وامتدح علمائه وتفردهم بشهادة الله لهم! ...
فكيف نتفهم هذا الموقف الـمُشوَّش الـمُرتبك؟! ... بين نفيّيّات وتأييدات بلا
انفكاك في علة المضمون.. ولا نقول أنه كذلك فقط عند الدكتور الصادق العرجون – في كتابه الرائع "نحو منهج
لتفسير القرآن" الذي استمتعنا بفصاحة كلامه، وسَبْك مبانيه، ورصانة معانيه
-، بل إن الأمر كذلك عند كثير من علماء الأمة الأجلّاء في مسائل التفسير العلمي
خاصة،كما رأينا من قبل!! فضلاً عمّن دونهم.
استشكالات محتملة والرد عليها:
وبناءاً
على كل ما سبق (في هذا التفسير الاحتمالي الأول من احتمالين سنأتي على الثاني
منهما بعد قليل)، تكون الأرض التي نحيا عليها قد نبتت بذورها في طيات السماء (السماء
الدخانية) بعد أن كانا رتقاً واحدا في بداية اليوم الأول، لا تميُّز فيه لأرض من
سماء.
يبدو لنا أن
غياب منهج صريح في التعامل مع آيات القرآن الكونية وما جاء على منوالها – ربما
بسبب حداثة موضوعات التفسير وعدم تراكم الخبرة فيها - هو السبب في هذا التشويش، بل
فيما ندَّعي أنه [أزمة عميقة في فهم كلام الله تعالى في هذا العصر]!
وإذا ولجنا
الآن في صدر كتابه: "نحو منهج لتفسير القرآن" ، سنجد الدكتور
العرجون يقول عن منهجه البحثي فيه[2]: [أما
فرض الحديث في هذا البحث عن منهج للتفسير جديد، مُبتَدع، مُبتَكر، فات الأولين أن
يحوموا حول ساحته، فهذا غرورٌ أجوف، وكبرياءٌ طبولية، ودعاوى كسيحة، لا تنهض على
ساق من واقع العلم والهدى، ونعوذ بالله من خزي الغرور، ومن غرور الكبرياء الفاضحة.]
نقول أنه ما
من مهرب لقارئ هذا الكلام إلا أن يذم ما ذمَّه كاتبه، وإلا أصابه شرر من المآلات
الـمُشينة التي سردها الكاتب من غرور وكبرياء ودعاوى كسيحة، وأن هذا الذم سيشمل
بالضرورة أي بحث علمي في القرآن من تفسير أو ما سواه، وقد تأمّل صاحبُه أن يأتي
بجديد من المعاني، وابتكار في كشف النَّظْم والمباني، وابتداعٍ في تنقيح ما كتبه
الناس من مدائح أو مثالب، وتفنُّن في رتق الثغور ومحو المعايب. وأن يكون هذا
الجديد الـمُبتكر المبتدع من حِسان السنن البحثية، قد فات شيءٌ منه على الأولين،
وإلا كان تكرارا مُمِلَّا، وادعاءاً فارغاً مُضلاَّ.
ثم كيف لا
يكون فهم كلام الله في نظر قارئ القرآن المعاصر، غير مُواكب لما طرأ على معارف هذا
العصر؛ من قفزات طالت النجوم وما وراءها، والذرات وما دونها، وجَريان الأرض
وتقلُّبها، وقلب الأرض وانصهارها، وهواء السماء وانحسارها، وأصوات تعبر البحار، وصُور
تعتلي الجبال، وسفنٌ مشحونة بالخلائق تطير فوق السحاب، أسرع من الريح العباب، وأصبح
من شأن أهل الأرض أن يتشاركوا جميعاً في همسات ألسنتهم، بل خلجات أنفاسهم! .. لا
يتأخر منهم عنهم إلا من عفى؟!
ولم يكن كل
هذا وأزيد، إلا ما تَكَشَّف من كونٍ خَلَقَه الله، قد انزاحت أطرافُ أستاره ... فإن
جاء متدبر لكتابٍ أنزله الله، يستنطق منه بعض أسراره، بثقافة عيونها جديدة، وعيون
ثقافتها جديدة، وقد اختبأ عن الأولين شيءٌ من معانيه؟! ... يُقال له: [تريد أن
يأتيك ما فات الأولين، إن أنت إلا في غرور، وكبرياء طبول، وخزي مرذول!!]
نقول لا: ليس
عيباً أن يأتي مفسرٌ حفيظٌ عليم - كما كان يوسف الصديق فيما علَّمه الله- بجديد من
التفسير، يبنيه بفهمٍ بديع، وابتكارٍ منيع، .. ولا يمحو – إن محى- إلا سواقط
المعاني؛ قد أبلاها الزمان. ... ثم لماذا يُخشى من إقدامه إن أصاب أو أخطأ... وقد
ضمن الله تعالى ألا يُنقص اللاحق من أجر السابق شيئاً ... فالأولون والآخرون لا يَخلُقُون
.. وإن خَلقوا بالحُسنى، فليس إلا جهداً عليه يُؤجرون، وإن كان حَسَنا، فالأجر
أجران، من كريمٍ منان.
والغريب أن يسرع
الكاتب بخدش كلامه ويقول[3]: [إنه
(أي: كتابه) يعني الحديث عما ينبغي أن تكون عليه الدراسة القرآنية في مناهج
دراستنا الإسلامية التي يجب أن نُوَجِّه إليها – وكدت أقول – أن نُحوِّل إليها واقعنا
الدراسي في تفسير القرآن، ليكون وجودنا العلمي وواقعنا الفكري متمشيين مع ما
يقتضيه خلود القرآن العظيم باعتباره كتاب الإنسانية كلها، أُنزل لهدايتها في جميع
عصورها وأجيالها.]
ويقول أيضاً[4]: [فهل
إذا وزنا الدراسة القرآنية في مناهجنا الدراسية التي تسير عليها اليوم جميع البلاد
الإسلامية، والتي سارت عليها منذ قرون بعد انفراط عقد النهضة الإسلامية بميزان
الكفاية في واقعنا الذي يعيشه المسلمون في هذا العصر، نستطيع أن نزعم أن هذه
الدراسة القرآنية تقوم بحاجات المسلمين، وتسد مطالبهم الفكرية والاجتماعية في هذا
العصر والعصور المقبلة، بما فيها من توثبات فكرية، ومذاهب اجتماعية، وكشوف علمية،
وطموح عقلي، ومعارف تجريبية، ونظريات كونية وآراء فلسفية، وانحرافات دينية، وأوضاع
اقتصادية، ونظم سياسية؟]
نقول: فيم كان
الذم الأول إذاً، إذا كان هذا الهدف النبيل لن يتحقق إلا بصحبة معاني مبتكرة،
لأسئلة جديدة، عن أسرارٍ قديمة في آيات مكنونة؟! ... وبعيداً عن أي غرور أو كبرياء
طبول أو انتقاص من السابقين الأولين؟!!!
وإذا تابعنا
القراءة، فسنجد هجوماً من الدكتور عرجون على التفسير والإعجاز العلمي، يقول[5]: [الذي
يثير الدهش والأسف أن بعضاً من الأفاضل الذين أجادوا بيان هداية القرآن في بعض
بحوثهم الدراسية للقرآن الكريم، جرفهم تيار التجديد، فانزلقوا في منحدر التأويل
المتعسف. وحاول بعضهم إخضاع آيات القرآن لنظريات؛ زعم أصحابها أنه قد استقام لها
الاستدلال وأصبحت علماً مقررا، لا يحتمل الشك والارتياب، مع أنها نظريات لا تزال
يعوزها الاستقرار العلمي، وتفتقد البرهان الذي يرفعها إلى مظنونات الحقائق، بله
اليقين. .. ولو أن هؤلاء الأجلاء صحبهم التوفيق فقَصَروا دراساتهم القرآنية على
بيان هداية الكتاب الكريم، بعيداً عن تعسف التأويل لمجرد الرغبة في التجديد،
وإمامة المجددين، لكان للمسلمين من وراء هذه الدراسات القرآنية دعائم يقوم عليها
تفسير للقرآن، يسد بعض الفراغ الذي يشعر به العالَم الإسلامي في مجالات الأهداف
الاجتماعية التي يتطلعون إليها، من آفاق ذلك الكتاب الحكيم. ...]
نقول: هنا عدد
من الملاحظات: أولها: أن النظر في معاني آيات القرآن بمعية ما طرأ على الفهم
الإنساني من معاني نظريات مدعومة أو مزعومة، لا يُعد إخضاعاً لكتاب الله لها، بل
محض طرح أو تساؤل جاد يُنقِّب عن عمق العلاقة أو انتفائها مع الآيات المنزَّلات،
.. أللهم إلا إذا بدأ نداء ودعاوى جوفاء بالإعجاز العلمي، وهنا نقول لا! .. قف أيها الداعيَ المنادي حتى تفقه ونفقه، وتتأكد نتأكد، ونتيقن بإمامة البرهان. ومعلوم أن
الفهم يأتي بالتبصُّر، والتدبُّر، وتراكب المعاني واقتراب التصور شيئاً فشيئا، حتى
ينفلق المعنى وينطق بنفسه إن كان صادقا، وهو ما أشار إليه الطاهر ابن عاشور بقوله
أنه[6]: [يحتاج
إدراك وجه إعجازه – أي القرآن - إلى العلم بقواعد العلوم فينبلج للناس شيئا
فشيئا انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم]، أو يتخاذل
وينزوي ويخنس إن كان باطلا. وبين التعامي عن المعنى والإمساك به مراحل عدة، وفيها لابد
أن يتصعَّد التحليل والطرح والحوار. ويتم تداول المحتمل، وتنقيح المؤتمل، وتهذيب
المقترح، وتجلية الحق منه، وتجنيب ما داخله من شَوَش. ومن اشترط القفز إلى معاني
الآيات، بعد انغلاق القرون، هكذا دَفعةً واحدة، كان طالباً محالاً، أو صاداً حلالاً.
ثانياً: أن
دعوة الـمُجدِّدين إلى الاقتصار على بيان هداية الكتاب الكريم، والإعراض عن ذلك
التأويل الـمُسْتَهْجن، يُوهِم أن النظر في حقيق هذه المعاني لا هدى معه ولا
اهتداء به! .. وهذا تدخّل مُريب، وحَجْرٌ ووصاية على حد الهدى، وما هو منه، وما هو
خارجه! .. وكم من تنظير تركه كاتب هذه السطور، خارج نطاق المقبول، بسبب من آية في
كتاب الله، استرشد بها، ولولاها لغاص في معاني زائفة، وخبالات جارفة، وأزمان ضائعة.
ومنها قول علماء الكونيات cosmologists المعاصرين عن وجود ممرات دودية زمنية في السماء wormholes، يمكن أن ينسل فيها من أراد أن يعبر أزماناً سحيقة بين نواحي
الكون المترامية. وإذا سأله سائل: أي آية اهتديت بها في ذلك، لأجابه: قوله تعالى
عن السماء "وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ"(ق:6). ناهيك عن عشرات
الآيات التي فيها من الهدى العلمي الراجح، والـمُنَجِّي مما يتحير فيه العلماء،
ويقضون أعمارهم بطولها وعرضها فيها يتخبطون. وكل هذا بلا نكوص عن التدبر، ولا
تكاسل عن البحث والتقصِّي، من حساب وترجيح وتحليل. نقول ذلك لقطع الطريق على الـمُتَصيِّدين،
المتسرِّعين، وبالعطالة مُتّهِمِين.
ثالثاً: دعا الدكتور
عرجون المجدِّدين – بعد أن لَـمَزهم بدوافع الرغبة والإمامة – إلى الاقتصار في
التأويل القرآني على مجالات الأهداف الاجتماعية، ... وربما أنه – وكثيرٌ من أجلّة
علمائنا – لم ينتبه إلى أن علوم الاجتماع والإنسانيات – أصبحت مرتعاً للتنظير
الغربي، وعلى النهج الطبيعي وأدواته، تأتمّ به وتخطو الخُطى على أثره ومنواله، وقد
انفتحت أبواب الحواجز المعرفية على مصارعها في خضم العولمة المعرفية ولٌجتها
العارمة التي اكتسحت الأرض وجرفت وما زالت تجرف كل خصوصيات الأمم. .. ونقول: إن
أردْتَ أن تنافس خصوماً أو تنازع أعداءاً، فاختر أعتاها وإمَامها، كما قال تعالى
"وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي
دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ
لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ"(التوبة:12)، وإن أردت أن تردع مفاسد علوم
الاجتماعيات والإنسانيات، فاقتنص إمامها في العلوم، وما هي إلا الطبيعيات، لا عن
مغامرة خاسرة، و رِدة فعل شاردة، ... بل عن اعتداد بسلاح العلم الجامع، مما أبدع
الله وخلق، ومما نزل به جبريل عليه السلام، أمين وحي العليم الحكيم، العزيز الجبار ذو
الجلال والإكرام.
ويستكمل
الدكتور عرجون نقده، ويقول[7]: [وشاهد
هذا (يقصد: التأويل المتعسف) ما أشرنا إليه في كتابنا (القرآن العظيم –
هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين) – أن أحد هؤلاء الأجلاء (لم يُسمِّه ولم
يُحِل إلى مصدر كلامه) يقول في تفسير قوله تعالى .. "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ
بِكُمْ"(لقمان:10)، ((أن الكتاب الكريم – القرآن طبعاً – قرر أن الأرض
كانت جزءً من السموات وانفصلت عنها .. وهذا الذي قرره الكتاب الكريم هو الذي دل
عليه العلم، وقد قال أحد العلماء أن حادثاً كونياً جذب قطعة من الشمس وفصلها عنها،
وأن هذه القطعة بعد أن مرت عليها أطوار تكسرت وصارت قطعاً، كل قطعة منها سارت
سياراً من السيارات، طافت حول الشمس، وبقيت في قبض جذبها، والأرض واحد من هذه
السيارات، فهي بنت الشمس، والشمس هي المركز لكل هذه السيارات. أ هـ.))
أما أن العلماء قالوا ذلك فلا
حرج علينا – نحن أبناء القرآن – أن ننظر فيما قالوا، بل يجب علينا أن ننظر فيما
قالوا – لنعلم علمه، ونعرف بقدر ما نستطيع مصادر ما قالوا وموارده.
وأما أن الكتاب الكريم – القرآن
طبعاً – قرر، هكذا بصيغة الجزم القاطع، والإيمان المتيقن، قرر ما قال أولئك
العلماء، فهذا ما كان ينبغي لهذا الإمام في عصره أن يتحرز من التصريح الجازم به،
لأنه يجعل من القرآن الكريم كتاب نظريات تجريبية، تخضع لتطورات الكشوف العلمية
التي تُبطل اليوم ما كان بالأمس من الحقائق المقررة، وتصحح اليوم ما كان بالأمس من
الأساطير الباطلة، ولا شك أن هذا أخطر ما يُعرِّض القرآن للهزات الفكرية التي
تتراقص بها التجارب الإنسانية في ميادين الظواهر الكونية.]
نقول: الرد
على ذلك من وجهين:
الأول: أن صاحب العبارة (فوق الخط) التي ينتقدها الدكتور
عرجون، لم يقل: [أن الكتاب الكريم قرر، هكذا بصيغة الجزم القاطع، والإيمان
المتيقن، ما قاله أولئك العلماء.] بل قال (حسب ما نقله الدكتور عرجون نفسه،
ولا نعلم مصدره): [أن الكتاب الكريم قرر أن الأرض كانت جزءً من السموات
وانفصلت عنها .. وهذا الذي قرره الكتاب الكريم هو الذي دل عليه العلم] أي
أن (التقرير) الذي ينسبه للقرآن هو [أن الأرض كانت جزءً من
السموات وانفصلت عنها] ، وأنه (أي: صاحب الكلام) يرى أن [هذا الذي
قرره الكتاب الكريم هو الذي دل عليه العلم]. والفرق كبير بين ما قاله
الإمام الذي يُجِلُّه الدكتور عرجون، وما نسبه إليه من قول. لأنه يدينه بإقرار لم
يقله. ومن ثم لم يكن هناك حاجة إلى معاتبته بالقول: [ما كان ينبغي لهذا الإمام
في عصره أن يتحرز من التصريح الجازم به.]، فضلاً عن تغيير مبنى ومعنى كلامه.
الثاني: أن ما
قاله هذا العالم الجليل (حسب وصف الدكتور عرجون له) من إقرار القرآن، أي: [أن
الأرض كانت جزءً من السموات وانفصلت عنها]، فهو إقرارٌ صحيح المعنى في
عمومه، لأنه المعنى الأرجح لقول الله تعالى "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا"(الأنبياء:30)
وذلك من أي معنى مقترح غيره قرأناه حتى الآن. وما سيذكره الدكتور عرجون لاحقاً، من
تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما- للآية، ويراه أنه المعنى الصحيح، هو التأويل الصحيح،
لا يجوز للأسف، ولأسباب لُغوية، فضلاً عن كونه احتمال جائز لو حظى بالإجازة
اللغوية التي لم يحظَ بها، وذلك على ما سيتبين لنا عند تفصيل الرأيين والترجيح
بينهما.
ويواصل
الدكتور عرجون ويقول[8]: [ومن
أعجب العجب أن هذا العالِم الجليل يقرر صراحة لا تحتمل التأويل أنه لا ينبغي تعريض
القرآن لآثار الهزات الفلسفية، وذلك حين يقول تحت عنوان "غرور
المسلمين بالعقل والفلسفة": (وُجد خلاف بين المسلمين في العقائد
والأحكام الفقهية، ووُجد مرض آخر، هو الغرور بالفلسفة وتأويل القرآن ليرجع إليها،
وتأويله لبعض النظريات العلمية التي لم يقررها، وذلك خطر عظيم على الكتاب، فإن
للفلاسفة أوهاماً لا تزيد على هذيان المصاب بالحُمّى، والنظريات التي لم تستقر لا
يصح أن يُرد إليها كتاب الله). فهذا نص كلام الشيخ.
فهل انفصال الأرض من السموات أو
من الشمس من النظريات العلمية التي قر قرارها إلى درجة اليقين؟ فلا يكون في تأويل
القرآن ورجعه إليها خطر على هذا الكتاب الإلهي العظيم؟ ...]
نقول: موطن
التعجب هو العبارة [وُجد مرض آخر، هو الغرور بالفلسفة وتأويل القرآن ليرجع
إليها، وتأويله لبعض النظريات العلمية التي لم يقررها.] ويقصد صاحب العبارة من
[بعض النظريات العلمية التي لم يقررها] ما يندرج تحت المنهج الفلسفي، وبما
يؤكده نفي التقرير عنها.
ومن الواضح أن
تعجُّب الدكتور عرجون راجع إلى تسويته بين الفلسفة والنظريات ذات الطبيعة الفلسفية
من جهة، والعلم (المنهجي) الذي تنتسب إليه العلوم الطبيعية والفلكية المعاصرة من
الجهة الأخرى، والتي تنتسب إلى الأخيرة منهما (نظرية انفصال الأرض عن الشمس) أو بعبارة
أكثر دقة (السحابة الدخانية الدوارة التي تميزت إلى شمس وكواكب وأقمار). بمعنى أنه
يرى أن ذلك العالِم الجليل ينهي عن شيء ويأتيه. ولكنَّ الشيء الذي ينهي عنه كان
(الفلسفة، وما شاكلها من نظريات)، والشيء الذي يأتيه كان (العلم الحديث بمنهجيته).
ولو كانت العلة منفكة بين الفلسفة والعلم الطبيعي الحديث، عند الدكتور عرجون، لما
ساوى بينهما، ولـَمَا تعجّب مما تعجّب منه.
بمعنى آخر، أن
مقام العلم الحديث (فيزياء، فلك، ..) القائم على البحث المنهجي عند علمائنا
الأجلاء – المتخصصون في العلوم الشرعية - هو هو مقام الفلسفة القديمة المنتسبة إلى
أرسطو وابن سينا، والتي ذمها أبو حامد الغزالي وابن تيمية وغيره من أكابر العلماء
عن حقٍّ ورسوخ قدم.
والحق يقال:
لئن كان الأمر كذلك، أي: لو كانت الفلسفة القديمة تتساوى مع العلم الحديث في
مصداقيتهما، فإما نحن؛ المصدقون للموثوق عندنا من هذا العلم الحديث، أو علماء
الشرعيات؛ الذين يمثل الدكتور عرجون موقفهم، في ورطة كبيرة، وحرج بالغ!
وهنا، وفقط
هنا، يجب علينا أن نميز بجلاء بين الفلسفة والعلم الحديث. ... فالفلسفة تأمُّل
عقلي في إطار الظاهر من الأشياء واللغة الكلامية التي تعبر عنها، وقوام هذه
التأملات ظنون وتصورات لا يمكن إخضاع أغلبها إلى أي تحكيم تجريبي، فضلاً عن أنها
لا تتقيد بأي تنزيل سماوي، أي أنها لا أصل لها من متعينات معقولات راجحات، أو آيات
منزلات من عند الله دامغات. وأمثلة ذلك ما كان شائعاً في فلسفة أرسطو وأفلاطون من
القول بالعقول العشرة، والعقل الفعال، وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان. وقد
نبذها العلم الحديث بجُملتها واعتبرها من التخليط العقلي والهذيان الفكري!. وقبل
هذا نبذها علماء الإسلام بما أنار الله به بصائرهم مما أنزل من قرآن، فلما أخضع
أبو حامد الغزالي – في كتابه تهافت الفلاسفة - عدداً من مسائل الفلسفة الدارجة في
زمنه للوحي القرآني، وجد أن بعضها يتناقض معه، وبما يقطع بكونها من التَخَرُّصات، وكانت
ضربة قاصمة للفلسفة في حينها سقطت منها وما قامت، ولو كان لها وأصحابها حُجّة
لكانت للحياة عادت. وهذا ابن تيمية، ويا له من إمام، شرَّق بها وغرّب فضحاً وكشفاً
لما فيها من كذبٍ وزيفٍ وبُهتان. ولا يقرن النهضة العلمية الحديثة بتخريفات الفلسفة
القديمة إلا زائغ الفكر وعن هدى الحق فيما خلق الله ضائعٌ أو غفلان.
أما العلم
الحديث، فقوامه التجربة، حتى ولو سبقها أو لازمها تصورات تقوم على التخمين والظن،
إلا أن تدخُّل التجربة قد صحح كثيراً مما يرافقها من فاسد الظنون، وهذا ما جعل
العلم الحديث أكثر رُقياًّ من الفلسفة، وأقدر على الدفاع عن أقواله بالتنبؤات
العديدة التي صدَّقت كثير من البنى التصورية لنظرياته، ودحضت أغلب تهافاتات
الفلسفة القديمة، ودون أي ادعاء بالكمال في كل دعاويه. وهذا ما جعل لأقواله
المدعومة بالتجربة والرصد وصحة التحليل، مصداقية لا نستطيع إنكارها! .. بل إن
علينا تبنيها ... وإلا نكون من المكذبين بما قامت عليه أدلة راجحة ولا غبار عليها
... وهو ما ذمه كتاب الله تعالى. ... فكيف نؤمن بمنهج القرآن في القرآن .. وننكره
في غيره من مصادر المعارف؟!
ولهذا صَدَقَ
من ينتقد كلامَه الدكتورُ عرجون، عندما قال أن [للفلاسفة أوهاماً لا تزيد على
هذيان المصاب بالحمى، والنظريات التي لم تستقر لا يصح أن يُرد إليها كتاب الله.]
لأنه يتكلم عن النظريات الفلسفية الطابع، التأملية، الانطباعية في مرجعيتها، سواء
كانت فيزيقية أو ميتافيزيقية. وإذا استنكر الدكتور عرجون في معرض نقده بالقول: [فهل
انفصال الأرض من السموات (أو) من الشمس من النظريات العلمية التي قر قرارها
إلى درجة اليقين؟] فنقول له أن القول بذلك لم يأت من فراغ، بل إن جملة من
المرتكزات العلمية والرصدية كانت مستنداً له وما زالت. وسنعرض هنا ما يكفي للتدليل
على ذلك دون أن نستنفذه، ولكن بشيء من التفصيل الوافي بالمقصود.
وسنعمد الآن
إلى فصل سؤال الدكتور عرجون إلى سؤالين –وذلك بما ميزهما هو بالحرف (أو):
السؤال الأول:
[هل انفصال الأرض من السموات من
النظريات العلمية التي قر قرارها إلى درجة اليقين؟]
السؤال
الثاني: [هل انفصال الأرض من الشمس من
النظريات العلمية التي قر قرارها إلى درجة اليقين؟]
إعادة صياغة السؤال الأول:
هل
(تخلّق/تكوّن/تشكّل) جِرْمُ كرة الأرض التي نعيش عليها في حضن السماء قبل أن يصبح
جِرْماً أرضياً صالح لسكنى الأحياء؟ ...
الإجابة: نعم.
... وهي إجابة راجحة بلا منافس من أي رأي/قول آخر، على نحو ما سنرى بعد قليل.
إعادة صياغة السؤال الثاني:
هل
تشكَّلت المجموعة الشمسية من سحابة دُخانية دوارة واحدة تمايزت عبر ملايين السنين
إلى شمس وكواكب وأقمار وكويكبات بفعل الدوران الطارد والتكتل الجرمي الجاذب، وآل
بها الحال إلى ما نعرفه الآن بالنظام الشمسي؟ ...
الإجابة: نعم،
... وهي إجابة راجحة بلا منافس من أي رأي آخر، على نحو ما سنرى بعد قليل. ... غير
أن بعض الإشكالات ما زالت قائمة لغياب بعض التفاصيل، دون احتمال يُذكر لهدم
النظرية.
وقبل الدخول
في تفصيل الإجابتين، نؤكد أنهما متداخلتان، وأن مرحلة تَشكُّل الأرض مع المجموعة
الشمسية، بالنسبة لمرحلة تكون الأرض في حضن السماء الكبرى، تشبه مرحلة تأهيل
الطالب في الجامعة بالنسبة لتأهيل نفس الطالب عبر كل سنوات الدراسة التي مر بها
حتى تخرُّجه من الجامعة. ... بمعنى أن تشكل الأرض مع المجموعة الشمسية كان مرحلة
أخيرة من مراحل عديدة مرت بها (مادة الأرض الأصلية) كي يؤول بها الحال وتصل إلى
السحابة الدخانية، وما أعقبها من وصولها إلى أرضٍ نقف على قشرتها الصلبة.
بمعنى آخر ...
أن جِرم الأرض قد نبت جميع مادته الأولى في السماء (السموات)، وبعد هذا الإنبات
(المتسلسل زمناً طويلاً) تراكمت المادة النابتة وتشكلت جنيناً في رحم السحابة
الدخانية التي آلت إلى شمسٍ وكواكب وأقمار وكويكبات.
وقبل الولوج
في تفاصيل الاستدلال، نقول أن السؤال الثاني وصحة إجابته ليست لازمة ولا ضرورية
لصحة إجابة السؤال الأول، والذي يفيد بدرجة تقارب اليقين، أن مادة الأرض قد نبتت
بالفعل في السماء (السموات) قبل أن تتجمع وتتلاقح كيميائياً في الجرم، صلب القشرة،
والذي اسمه جرم "الأرض". بمعنى أن إجابة السؤال الأول وحدها – وما فيها
من قوة يصعب التشكيك فيها إلا على نحوٍ غير مبرر - تكفي للرد على الدكتور العوجان
... أما السؤال الثاني، فهو استكمال الصورة، وزيادة في تأهيل الأرض لمستقبلها، على
أوقع الأدلة المرصودة كما سيتبين.
الإجابة التفصيلية عن السؤال الأول: كيف نبتت مادة الأرض في
السماء/السموات:
يظن الكثيرُ
من الناس، وأغلب علماء – كما سنرى من كلام الدكتور عرجون - وطلاب العلوم الشرعية،
أن جِرم الأرض قد خُلق على نحو انبثاقي من العدم على نحوٍ ما، وأن ذلك تم قبل خلق السماء
وكل ما فيها، وأن الأرض قد خلقت في هذا الموضع الذي هي فيه، على نحو مُخَصَّص،
وبالطبع على حالة سكونية لا تَنَقُّل فيه، ولا جري ولا سبح. وأنها قد خُلِقَ فيها نفسها
كل ما فيها من مادة، نعرف الآن أغلب خواصها، وتركيبها، في علم الكيمياء. ...
ولكن
للأسف ... هذا التصور غير صحيح.
(ونلاحظ
الارتباط بين كون كوكب الأرض أول ما خُلق في هذا التصور، وكونها ساكنة عن الحركة،
على نحو ما تتمسك المدرسة السلفية به من تفسير للنصوص)
أما الصحيح،
فهو أن جِرم الأرض الذي نعيش عليها، يشبه فطيرة كروية الشكل (لغرض المثال التوضيحي
فقط، الذي سنعرضه الأن) إلا أن قشرتها السطحية فقط قد تبرَّدت وجفَّت، وبقى قلب
الأرض حاراً، بل شديد الحرارة ، وإلى درجة مائعة سائلة من شدة الانصهار والاتقاد
الدائم. وإذا كانت تلك الفطيرة مصنوعة من طحين، والطحين مصنوع من قمح، والقمح حبوب
قد نبتت في التربة وبُذرت وزُرعت وحُصدت وطُحنت، فكذلك جِرْم الأرض ... كانت
طحيناً – أقصد مادة سديمية دخانية غبارية حجارية - في سحابة المجموعة الشمسية،
وقبلها كانت حبات قمح محصودة – أقصد ذرات وجزيئات – سابحة في السماء، وقبلها كانت
نَبْتاً في قلب تربة – أقصد أفران صناعية مخصصة لصناعة الذرات، بعضها من بعض، أي
متتابعة، يتصنع الأثقل فيها من الأخف وزناً ودقة. وهذه الأفران المتتابعة التي
نبتت فيها مادة الأرض ذرات متنوعة، قد تناوبت العمل على مراحل، وكان ذلك – وما زال
قائماً في الكون يتم رصد كامل مراحله - في سلسلة طويلة من النجوم التي تنفجر كل
منها في نهاية عمرها لتبث ما أنبتته من مادة في أجواء السماء، فتتلقفه سدم نجمية
تتحول إلى نجوم من ورائها نجوم، وتعيد تصنيع الذرات المادية الأثقل من الأخف وزنا،
وأن ذلك تم وما زال يتم حتى تتكامل سلاسل العناصر الكيميائية، والتي آل القدر بحفنة
منها إلى التراكم في سدم سحابية وافرة المواد الكيميائية، ومنها سحابة المجموعة
الشمسية، ثم إلى هذه الأرض بعدما تميَّزت، بل وأراضي غيرها – وهي ما اصطلح عليه
علماء الكونيات باسم الكواكب السيارة- والتي لا يحصي عددها في أرجاء الكون إلا
خالقها "وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا"(الجن:28)، وأن هذا يجري
على نحو منتشر في الكون، سواء كانت هذه الكواكب تدور حول شمسنا أو حول شموس (نجوم)
أخرى (تم
اكتشاف عدد 242 كوكب مؤكد خارج النظام الشمسي حتى يناير 2014 بواسطة مركبة كبلر
الفضائية).
ثم حدث أن اختمر جرم الأرض في هذه السحابة، وواصلت الحرارة اتقادها عليها، حتى
نضجت، واستوت، وجفت قشرتها، وأنبت الله تعالى عليها الحياة. .. وما زالت بعض
الأراضي (الكواكب) لم تنضج، ولم يتصلب سطحها لِعِظَم جِرمها، ومنها المشترى وزحل
ونبتون في نظامنا الشمسي، ... بل أن هذه السيرورة ما زالت قائمة أمام ناظري
الفلكيين وعلماء الكونيات، تحدث على مدار الزمن في أرجاء الكون وحيثما تتوجه
المراصد. فمنها ما ينبت الآن في قلب النجوم، ومنها ما يُعاد إلى نجوم أخرى لإنبات ذرات
أثقل وأغزر، .. ومنها ما هو في طور السحابة الدخانية، ومنها ما تجرَّم في جرم حار
يميد سطحه من الميوعة لعدم التصلب وتشكل الجبال، ومنها ومنها ... كل هذه الأطوار حدثت
بالأمس البعيد والقريب[9]،
وتحدث اليوم، وستحدث غداً ... هذه هي الصورة الكلية، والأدلة عليها وفيرة لمن أراد
الوقوف على تفاصيل الخلق الذي بثها الله تعالى للناظرين، وقال سبحانه "أَفَلَمْ
يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا .."(ق:6)
وقال تعالى "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"(يونس:101)،
.. وما أوجزته لتوِّي ليس إلا شيئاً يسيراً مما يراه الناظرون. .. ولا أدري كيف
يفسر المرء كلام الله دون أن ينظر فيما يتكلم الله عنه، ... وما أشبه هذا المفسِّر
بقاضي يحكم في مسألة لا يعاين أحداثَها ولا يقف على أسبابها، ولا يسمع لشهودِها
... إلا إذا أراد أن يقول: أنا عالم بالمسألة بلا نظر ولا استقصاء!!! ويكفيني حفظ
مَتْن القانون!!!!!
ولئن سألني
سائل في مسألة خلق الأرض، ومتى كان: هل تقصد أن ذرات الأكسجين – على سبيل المثال-
في هواء الأرض، ومائها، ومركباتها الكيميائية من أكاسيد، .. قد خُلقت في نجم من
النجوم – أو أكثر من نجم، قبل أن ينتقل ويتراكم ويتفاعل مع غيره من الذرات الأخرى في
جرم الأرض؟!
أقول له ... نعم!
.. وبكل ثقة.
سيُعقِّب
السائل على ذلك بسؤال آخر، ويقول: إذاً أنت تقول أن (بعضاً من) نجوم السماء قد
خلقت قبل جرم الأرض.
سأقول: نعم!
سيقول: إذاً
أنت تقول: أن السماء – التي تحتوي هذه النجوم- قد خُلقت قبل الأرض، خلافاً لما
يُفهم من ظاهر قول الله تعالى "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ
الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا
وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ
(10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ
ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا
وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)"(فصلت)
أقول: مهلاً
... هكذا فُهمت الآية من مفسرينا الأولين! ... يومان لخلق الأرض، ويومان آخرن
لاستكمال خلقها بالرواسي والبركة وتقدير الأقوات، فيكون المجموع أربعة أيام للأرض،
ويومان لخلق السماء سبع سموات .. فيكون المجموع ستة أيام ليتطابق ذلك مع قول الله
تعالى "وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.."(ق:38).
إن هذا
التفسير (شكل 1) أقصى ما يمكن توفيقه مع خلق السموات والأرض في ستة أيام، في حالة
المحافظة على معنى الحرف (ثم) للتعقيب التتابعي المتراخي في الأحداث المعطوفة، وذلك
في قوله تعالى ".. (ثُمَّ) اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ
.."
ولكن هناك إشكال
خارجي كما ذكرنا، وهي أن مادة الأرض الكيميائية مادة مخلوقة، أي مطبوخة
طبخاً نووياً، قبل أن تتراكم ويتشكل منها جِرم الأرض. وهذا الفهم ليس نظرية
تأملية، ولا انطباعية، بل هي من الثقة العملية ما يتراءى ويُستدل عليه من كثرة من
الشواهد من أرصاد وتخليق نووي معملي وحسابات رياضية كالتي أنتجت القنابل النووية،
والتي يُعلم منها أن شمسنا فرناً، وقوده غاز الهيدروجين ويُنْتِج غاز الهيليوم وقليل
من العناصر الخفيفة، وتقطع جملة هذه المعلومات المؤكدة بأنه لا يمكن تفسير انفتاق
هذه المواد الكيميائية في جرم الأرض عن لا سابق إعداد – رغم إيماننا أن الله تعالى
قادر – لو أراد سبحانه – أن يخلق الكون كله دفعة واحدة في لحظة زمنية قاطعة، لفعل
سبحانه، ولكننا نستقصي عما حدث، وليس عما يجول به خيالنا بما نهوى من تعظيم قدرة
الله ونحن ناكصون عن حكمته في تقديره لسنن الخلق. .. بمعنى أنه من المستحيل – في
تتابع الأحداث المرئية والسنن الموثقة- أن يتواجد جرم الأرض قبل أن تُخلق نجوم
تعمل كأفران صناعة مادة الأرض.
كما أن هناك إشكال
داخلي في الآية، ويتركز في التداخل بين يومي خلق جرم الأرض، والأيام
الأربعة التي أتى ذِكْرُها وانحصرت أحداثها في (الرواسي والبركة وتقدير الأقوات)
وهذه الأحداث الثلاث لا يتميز فيها يومي الخلق عن يومي استكمال الخلق حتى نقول
بالتداخل. .. بمعنى أن المفسرين قد أبقوا على هذا التفسير مع ما فيه من إشكال فقط
لأنه أفضل تفسير يحافظ على ستة أيام للخلق جميعاً، وإلّا لكان عليهم ألا يقولوا
بالتداخل، وعندها سيكون عدد الأيام ثمانية أيام (يومان لخلق الأرض+أربعة للرواسي والبركة والأقوات+يومان للسموات) وليست ستة، وهنا سيكون الإشكال
أكبر، والتضارب أشنع.
أما علاج هذين
الإشكالين جميعاً، فهو – فيما ترجح عندي – على احتمالين مقترحين (شكل 2، 3) سنفاضل
بينهما:
(الاحتمال /الوجه) الأول في ترتيب أيام خلق السموات والأرض في ستة
أيام:
أ- الحرف (ثُمَّ)
في قوله تعالى ".. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ
فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ .." لم يأتِ للترتيب التتابعي المتراخي بين
خلق جرم الأرض وتسوية السموات، بل للترتيب الإخباري.
وهذا التفسير ليس بدعاً في اللغة، بل هو من اللغة العربية الأصيلة.. ولذلك شواهد منها:
1- في قوله
تعالى "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا
حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ... (151) وَلَا
تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي... (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ .. (153) ثُمَّ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا ... (154)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (155) "(الأنعام) - الآيات
وفيما يخص
مسألتنا، أي في (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى)، نقلاً
عن تفسير الطبري: [قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:(ثم آتينا موسى الكتاب)، ثم قل بعد ذلك يا محمد: آتى ربك موسى الكتابَ
= فترك ذكر"قل"، إذ كان قد تقدم في أول القصّة ما يدلّ على أنه مرادٌ
فيها، وذلك قوله : (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم)، فقصَّ ما حرّم عليهم
وأحلّ، ثم قال: ثم قل: "آتينا موسى"، فحذف"قل" لدلالة قوله:"قل"
عليه، وأنه مراد في الكلام. وإنما قلنا: ذلك مرادٌ في الكلام، لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا شك أنه بُعث بعد موسى بدهر طويل،
وأنه إنما أُمر بتلاوة هذه الآيات على مَنْ أمر بتلاوتها عليه بعد مبعثه. ومعلوم أن موسى أوتي الكتاب من قبل أمر الله محمدًا بتلاوة هذه الآيات
على مَنْ أمر بتلاوتها عليه. و"ثم" في كلام العرب حرف
يدلّ على أن ما بعده من الكلام والخبر، بعد الذي قبلها.]
وهذا الذي
يقوله الطبري هو ما يعرف بـ "العطف الإخباري"، أو "الترتيب
الإخباري". أي أن الترتيب ليس في عين الأحداث المروية حدثاً بعد حدث، بل في
الإخبار عنها، أي خبر وراء خبر. حتى لو كان الخبر الأخير أسبق حدوثاً من الخبر
الأول.
وإذا قابلنا
هذا التحليل الذي ذكره الطبري مع آيات خلق السموات والأرض، وإعادة كتابة الآيات
سنحصل على:
"قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ
الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ
الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا
وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ
(10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ
دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ
وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)"(فصلت)
أي أن الآيات تقبل تقدير (قل) بعد (ثم) ...
"قُلْ (يا محمد) أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ
الْأَرْضَ ... ثُمَّ (قل يا محمد أن الله) اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ .."
وإذا كان
السبب الذي ذكره الطبري (أي القرينة) (أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا شك أنه بُعث
بعد موسى بدهر طويل) – وهو يقين لكل من له عقل - مما يجعل هذا التفسير الذي
حكاه لمعنى (ثم) هو التفسير المقبول وأن خلافه ممتنع، فكذلك في حالة خلق الأرض
والسماوات، لدينا قرينة نعلم منها يقينا أن الذرات الكيميائية لا يمكن أن تكون قد
نبتت في ذات جرم الأرض التي نقف على سطحها، وأنها حتماً نبتت في جوف عدد متتابع من
النجوم، مثلما أنها تنتج في معامل الفيزياء النووية كل يوم بما علّم الله تعالى
الإنسان من أسباب تخليق العناصر. وعليه تكون تلك النجوم الأولى قد خُلقت قبل تشكُّل
جرم الأرض. ولا يكون أمامنا إلا تقدير أن (ثم) للترتيب الإخباري، وليس لترتيب
الأحداث المذكورة.
وإذا انتقلنا
لتحليل أحدث، عند الطاهر ابن عاشور، سنجده يقول (عن "ثُمَّ" في
قوله تعالى "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ"):
["ثم" للترتيب الرتبي، وهي تدل على أن مضمون الجملة المعطوفة أهم
مرتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها، فإن خلق السماوات أعظم من خلق الأرض،
وعوالمها أكثر وأعظم، فجيء بحرف الترتيب الرتبي بعد أن قضي حق الاهتمام بذكر خلق
الأرض حتى يوفى المقتضيان حقهما. وليس هذا بمقتض أن الإرادة تعلقت بخلق السماء بعد
تمام خلق الأرض ولا مقتضيا أن خلق السماء وقع بعد خلق الأرض]
نقول: يبدو
لنا أن الترتيب الرتبي نوع من أنواع الترتيب الإخباري، والذي يُسمى أيضاً الترتيب
الذّكري. بمعنى أن الترتيب الرتبي – الذي ذكره ابن عاشور- يتم فيه الإخبار بالأقل
رتبة ثم التصعّد للأعلى رتبة، أي الأعلى قيمة. ومن ثم، لا يخرج عن كونه ذكر خبر
بعد خبر، دون تصاعد زمني، يتبع فيه اللاحق السابق بالضرورة، مع الانتباه إلى أن
الترتيب الرتبي أخص من عموم الترتيب الذكري.
2- وقيل أيضاً
في مسألة (الترتيب الإخباري): [قد تقع (ثُمَّ) في عطف المتقدم بالزمان، اكتفاء
بترتيب اللفظ. وهذا منقول عن الفراء، كقولك: بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت
أمس أعجب. ومن ذلك قول الشاعر: إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده][10].
... هذا وقد استقصى الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة[11] عدداً
من آيات القرآن في مسألة الترتيب الذكري (الإخباري)، في كتابه القيّم "دراسات
لأسلوب القرآن الكريم"، يمكن الرجوع إليها[12].
3- جاء الترتيب
الزماني في خلق السماء والأرض بشكل واضح وصريح في سورة النازعات في التركيب الحرفي
"بَعْدَ ذَلِكَ"، والذي هو أصرح من "ثُمَّ" في
إفادة الترتيب الزمني بلا أدنى شك، وذلك في قوله تعالى "أَأَنْتُمْ
أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) ... "، إذ لو
أن السماء قد رُفع سَمْكَها وأُخرِج ضُحاها (أي ضوء نجومها) في اليومين الخامس
والسادس، فكيف يمكن أن تكون الأرض قد استكملت (أقواتها وبركتها) في الأيام الأربعة
الأولى بلا سماء وما فيها من ضياء؟! ... فلزم عن ذلك أن أحداث السماء المذكورة من
رفعها وإخراج ضحاها قد تم قبل دحو الأرض، حيث أن مرحلة الدحو جزء من مرحلة خلق
الأرض، أي جزء من الأيام الأربعة الخاصة بالأرض.
لكل ما سبق
نعيد الآن تصور أيام الخلق الستة على النحو المبين في (شكل 2):
استشكالات محتملة والرد عليها:
الاستشكال
الأول:
قد يعترض سائل ويقول: أن الأرض في لغة العرب هي ما نقف عليه من الأجرام دون غيرها،
وتسكن وتقر للناس خاصة كما قال تعالى "الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا"(طه:53)، وقوله تعالى "اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً"(غافر:64)،
وقوله تعالى "وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ
وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"(النحل:15)، ... هذا في
حين أن تفسيرك يجعل من لفظ "الْأَرْضَ" ما يؤول إلى الأجرام الباردة
جميعا، وبما يشمل الكواكب المعهودة، وغير المعهودة مما يتم اكتشافه في أعماق
الكون؟! .. فكيف نقبل منك هذا التفسير؟!
نقول أن
الإجابة على هذا الاستشكال مبثوثة في أحد بطون كتب علمائنا قبل حوالي ألف سنة،
وأقصد به أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى حين قال[13]: [الإسم
المفرد في لغة العرب إذا أُدخل عليه الألف واللام كان لاستغراق الجنس، وقد يُسمَّى
لفظاً عاماَ، ويقال الألف واللام للعموم، فإن قيل: كيف يستقيم هذا ومن يقول الإله
أو الشمس أو الأرض فقد أدخل الألف واللام، ولا يدل
اللفظ إلا على وجود معيّن خاص لا شركة فيه.
فاعلم
أن هذا الوهم غلط، فإن امتناع الشركة ها هنا ليس لنفس اللفظ، بل الذي وضع اللغة لو
جوّز في الآلهة عدداً، لكان يرى هذا اللفظ عاما في الالهة، فحيث امتنع الشمول، لم
يكن لوضع اللفظ، بل لاستحالة وجود إلَه ثان، فلم يكن المانع نفس مفهوم اللفظ، بل
المانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة. فإن فرضنا
عوالم، وفي كل واحد شمس وأرض كان قولنا الشمس والأرض شاملاً للكل، فتأمل هذا.
فإن من له قدم في جملة الأمور النظرية ولا يفرّق بين قوله السواد وبين قوله الشمس
وبين قوله هذه الشمس عظم شهوة (يقصد انغماساً وشطحاً)
في النظريات من حيث لا يدري.]
وحيث أننا
نعلم يقيناً مرصوداً بالنظر والتحليل الفلكي لأطياف العناصر الواردة إلينا، أن
الكون مملوء بالعوالم الأخرى من شموس وأراضي (كواكب)، فيكون من عموم معنى لفظ (الأرض)
– كما قال أبو حامد الغزالي - ما يشمل كل أرض من تلك الأراضي، ويكون الحديث عن خلق
(الأرض) حديثاً عاماً يشملها جميعاً، وإذا كان الاصطلاح الدارج على أراضي (كواكب)
الكون هو (المادة)، لكونها العلة المشتركة، وخاصة بعد أن تبرد. فيكون حديث الخلق –
في آيات القرآن- الذي يتكلم عن (الأرض)، هو حديث عن خلق المادة، وبذلك يزول
الإشكال.
الاستشكال
الثاني:
قد يعترض سائل ويقول: كيف تقطع بأن السماء قد خُلقت في اليومين الأولين، وقبل تهيئة الأرض، مع أن الله تعالى
يقول: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى
إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ...](البقرة:29). ومعنى
الآية بلا ريب أن ما في الأرض من تراب شجر وأنهار ... إلخ (أي: "مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا") قد خلق قبل تسوية السماء إلى سبع؟!
نقول: إذا واجهنا
تضارباً من هذا النوع، الأول يقول بأسبقية خلق السموات لدحو الأرض، والثاني يقول
بأسبقية خلق ما في الأرض جميعاً لتسوية السموات سبعاً، واستبعدنا أن (ثُمَّ)
هنا قد جاءت لغرض التتابع الخبري لغياب القرينة الصريحة في النص – كالتي جاءت في
آيات سورة فُصِّلت، وهي (قُلْ ...) كما رأينا في تحليلنا التي ساير تحليل
الطبري- ، ومن ثمَّ رجحان معنى (ثُمَّ) في آية (البقرة:29) إلى التتابع
الحدثي، فعندئذ نتبع طريقة الأصوليين، والتي فيها يتم افتراض انفكاك في العلة بين
القولين. بمعنى أن معنى (مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) ليس هو معنى (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ
مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا). .. أي أن لـ
(الأرض وما يلحقها من وصف هنا) وجهين من وجوهها المحتملة. (أنظر علم الوجوه
والنظائر).
وإذا استصحبنا
مقولة أبو حامد الغزالي التي عرضناها لتونا في الاستشكال السابق، والتي قال فيها:
(إن فرضنا عوالم وفي كل واحد شمس وأرض كان قولنا الشمس والأرض شاملاً للكل)
فيمكننا عندئذ
أن نضع تأويلاً جديداً لمعنى (الْأَرْضِ جَمِيعًا) بأنها لا تؤول فقط إلى
جرم الأرض الذي نعيش عليه، بل كل الأجرام التي خُلقت، لأن سنة الخلق المادية
وتزامنها لم تميز بين أرضنا، وغيرها من أجرام من حيث التشكل الجرمي. وعليه يكون (مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) هو ما في هذه الكواكب من علّة مادية، بمعنى : ما كان
منها جوهراً مادياً تراكم في التشكلات الجرمية التي انتشرت في الكون. وحيث أن بعض
هذه الأجرام ما زالت يتشكل من ذلك الجوهر، فمعنى ذلك أن ذلك الجوهر الذي نفهمه
بأنه (فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) لا بد وأن يكون في حالة (قبل-كيميائية)
وليست كيميائية. لأن الحالة الكيميائية بدأت في الإنبات مع خلق السموات (اليومين
الأولين)، أما (فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) فلا بد وأنه كان سابقاً على أغلب
هذين اليومين، ونُرجِّح أنه كان في اللحظات الأولى من اليوم الأول. ... ولا نستبعد
أن يكون هو الحالة المائية التي كانت قبل الخلق والتي أشار إليها قول الله تعالى
"وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ".
وعليه يكون
المعنى المقترح لـ (مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) – ليس ما في كرتنا الأرضية
من جبال وأنهار .. إلخ- بل هو ما في جميع أراضي الكون، وهذا ليس إلا عين المادة،
أو ما خلقت المادة منه على وجه الخصوص، وهذا ما يجعلنا نُرَجِّح أنه الجوهر الذي
انتشر مع خلق السموات (أي الماء الأولي) في هيئة متجانسة هي (الرَّتْق). ومن هذا
الرتق تفتقت المادة (الكيميائية التي نعهدها) وتميزت في السماء (الجسيمات الأولية
والذرات) كما تتفتق البذور في التربة وتنبت، وبذلك تميزت السماء إلى (مادة وخلاء)
وهذا هو الفتق في قوله تعالى "أَنَّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا". (وجدير
بالذكر هنا أن العلاقة – التي نتوصَّفَها هنا- بين الماء (الأولي) ومادة الأرض قد ذكر
مثلها الزمخشري في تفسيره وقال عن هذا الماء الأول: [فأيبس الماء فجعله أرضاً ..]). (أنظر في ذلك مقال سابقة بعنوان: حول معنى "الماء" في قوله تعالى "وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ")
وإذا كان ذلك
كذلك، فقوله تعالى "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ..."(البقرة:29)،
يتعلق بوصف اللحظة الأولى للخلق في اليوم الأول (خلق ما في الأرض جميعاً) ثم ما
بعد تلك اللحظة إلى نهاية اليوم الثاني (تسوية السماء إلى سبع سموات). ويكون (مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) هو (الجوهر الخالص) أو (الحالة المائية) أو هو
(الطاقة الخالصة) التي انحبست لاحقاً في ما نعرفه الآن بإسم (الكتلة). والتي إذا
ما تحررت، نرى الذي نراه منها في التفاعلات والانفجارات النووية.
أما آيات سورت
فُصِّلت، فتصف أيام الخلق الستة جميعاً، دون اللحظة الأولى التي جاءت في آية
(البقرة:29). ... وعليه تكون العلة بين الآيتين منفكة، ويزول الإشكال.
وإلى هنا نكون
قد ألَّفنا الإجابة التي تكفي للرد على سؤال الدكتور عرجون حين قال: [هل انفصال
الأرض من السموات من النظريات العلمية التي قر قرارها إلى درجة اليقين؟]
.... فنقول: لا نزعم اليقين المطلق المطابق لعين اليقين، ولكن نزعم الرُّجحان
المصحوب بالطمأنينة، والمدعوم بشكل تجريبي يصعب دحضه أو منافسته من جاري التصورات،
وبما نجد معه من إجابات متسقة المعنى لأغلب جوانب المسألة، وبدرجة تفوق أي تصور
آخر، إلا أن يرينا المعترض ما هو أوثق وأحكم وأثبت استدلالا.
إستشكال: قد
يعترض من له علم بالفلك ويقول: إذا كانت الأرض قد ظهرت (بزغت) كجِرم متميز بعد
يومين كاملين من بداية الخلق، كما تقولون في (شكل 2)، ثم انقضى عليها أربعة أيام
حتى الآن، وإذا كانت الأيام متساوية الطول الزمني، فيلزم عن هذا أن نسبة عمر الخلق
(الكون) إلى عمر الأرض هو 6/4. أي أنه إذا كان عمر الأرض الآن هو 4.6 بليون سنة
كما يحسب علماء من أعمار الصخور، فلا بد وأن يكون عمر الكون = 4.6 * 6/4 = 6.9
بليون سنة. وليس 13.7 بليون سنة كما هو شائع الآن.
وإذا كان
الصحيح أن عمر الكون الآن هو 13.7 بليون سنة، فيجب أن يكون عمر الأرض هو 13.7 *4/6
= 9.1 بليون سنة، وليس 4.6 بليون سنة.
نقول: أن هذه
الملاحظة قد لا تكون ضرورية إذا لاحظنا أن الأربعة أيام الأخيرة من خلق الأرض قد وُصفت
بأنها (سَوَاءً) في (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً)، وهذا يميزها
عن اليومين الأوليين. بمعنى أن طول اليوم الواحد من الأيام الأربعة الأخيرة هو هو.
ولكنه – بقياس المخالفة أو المفهوم – لا يستوي طولاً مع طول اليوم أو الثاني في
اليومين الأوليين. واللذان قد يتساويان أو لا يتساويان! ومن ثم، لا ينبغي أخذ تساوي
الأيام الستة على الضرورة، إلا الأيام الأربعة لأنها المنصوص على تساوي أيامها، أي
طولها. وإذا نُصَّ على تساوي الأربعة الأخيرة، فلا بد أن يُفهم – على الراجح - أن
اليومين الأوليين لا يدخلان في هذا التساوي. وهذا كله ما لم تكن كلمة (سَوَاءً)
عامة في وصف الأيام السابقة عليها جميعاً (الستة أيام: 2+4)، من حيث أن (قُلْ
أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ...، وَجَعَلَ
فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ (سَوَاءً) ... بمعنى
أن هذه الأيام الستة جميعاً متساوية الطول. وعند ذلك، ينبغي إعادة النظر في درجة
مصداقية الحسابات التي أدت إلى أن عمر الأرض 4.6 بليون سنة، وأن عمر الكون 13.7
مليار سنة.
فإن ثبت برجحان
تجريبي حسابي لا مهرب منه، أن عمر جرم الأرض منذ تشكل صخوره الأولى بالنسب
الكيميائية التي نراها في صفحاتها المطوية هو 4.6 بليون سنة، وأن عمر الكون الراجح
هو كذلك 13.7 بليون سنة، فهنا ننتقل إلى (الاحتمال/الوجه) الثاني في تفسير
الأيام الستة.
(الاحتمال/ الوجه) الثاني في ترتيب الأيام الستة:
يدعونا إلى
هذا الاحتمال سببان:
الأول:
التفاوت بين نسبة خلق الأرض وخلق الكون، وأنها ليست كما تأيد من علم الكونيات، كما
سبقت الإشارة أعلى، وذلك بعد تحقيق هذه النسبة وأنها لا غبار عليها، وأنها مما
يصعب دحضها.
والثاني:
أن كلمة (أَقْوَاتَهَا) قد تؤول إلى أقوات الأرض نفسها بالأَوْلى – أي تخليق
موادها الكيميائية التي علمنا أنها تخلقت في النجوم- قبل أن تتشكل الأرض كجرم
مستقل، وليس أقوات من سيعمر الأرض. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يكون جرم الأرض قد
خُلق _ أي تميَّز - في يومين وأن (تقدير الأقوات، أي خلق المادة الكيميائية) قد
استكمل في اليومين التاليين.
لذا يدفعنا
داعي الوفاء بالمعاني، إلى إعادة قراءة الآيات، مع تسليط الضوء على الكلمات الخاصة
بالدلالات المستقصى عنها.
" قُلْ ..
خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ .. وَجَعَلَ فِيهَا
رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ
فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ .. ثُمَّ (قل: أنه
سبحانه) اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ
ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ .. فَقَضَاهُنَّ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا
وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا "
وهنا ملاحظات:
الأولى:
أن السائلين، إنما هم السائلون عن مسألة الخلق. ويؤيد ذلك ما ذكره الزمخشري، حين
قال: [بم تعلق قوله { لّلسَّائِلِينَ } ؟ قلت : بمحذوف ، كأنه قيل : هذا الحصر
لأجل من سأل : في كم خلقت الأرض وما فيها؟] .. ويلاحظ أن السؤال يتعلق بالأرض،
... وهذا يجعل من ذكر السماء بعدها وخلقها إنما جاء زيادة على مطلب السائلين، ...
وهذا يزكِّي أن (ثُمَّ) جاءت للترتيب الذكري، كما سبق التحليل، وأنها بمعنى:
[ثُمَّ (قل: أنه سبحانه) اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ .... ]
الثانية:
أن ترقيم الآية المعلم بها نهاية الآية الأولى (أي الآية (9)) ربما لا تفصل
بالضرورة المعنى الذي قبلها عن المعنى الذي بعدها. وذلك مثل قوله تعالى في سورة
البقرة ".. لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
(219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .." .. فكان المعنى
متجاوزاً للترقيم .. ، ... فنقول كذلك هنا، ربما يكون المعنى في قوله تعالى " .. خَلَقَ
الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ .. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ
فِيهَا " وأن كل ذلك مشمول في اليومين المذكورين. وأن تقدير
الأقوات في قوله تعالى "... وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ سَوَاءً .." هو المقصود فقط بالأربعة أيام.
ثالثاً:
أن معنى " أَقْوَاتَهَا " أنها أقوات الأرض، أي التي نشأت الأرض منها،
وكما ذكرنا من قبل - أنها البنية الذرية الكيميائية التي تَخَلَّقت في النجوم قبل أن تتراكم في كوكب الأرض.
من ذلك نصل
إلى نتيجة، وهي أن الأربعة أيام في قوله تعالى " وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً " أسبق في الحدوث من
" خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ".
فإذا جاء ذكر
السماء بعد ذلك " فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ "
.. فكأن ترتيب ذكر الأحداث جاء عمداً على ترتيب
زمني عكسي. ... أي مما نراه من أرض (في يومين)، ثم ما سبق وقُدّرَ
لها من أقوات (أربعة أيام أسبق في الوجود)، ثم ذكر خلق السموات الأسبق في الوجود
في يومين وإن تداخلا بالضرورة مع الأربعة أيام في ابتداء الخلق.
وهذا ما
يتشابه مع العبارة الذي تأتي دائما في بيان الترتيب الإخباري [إن من ساد، ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده] ...
وكما هو واضح أنه ترتيب عكسي مع الزمن حسب واقع السامع، ثم الأقدم (أبوه) ثم الأقدم
منه (جده). وكذلك هنا في ترتيب الخلق!
وأخيراً يقودنا
هذا التصور إلى إعادة تأليف أيام الخلق الستة على النحو التالي:
الترجيح بين الشكلين (2، 3):
يبدو
لنا أن ترتيب أيام خلق السموات والأرض في (شكل 3) أكثر وفاءاً بجملة المعاني،
ومنها أن عمر الأرض إلى عمر الكون هو 2/ 6، وأنه الأقرب للقبول الدلالي لألفاظ
القرآن لتظل في اتساق مع المشاهد من تخليق المادة وأطوار النجوم وظهور الكواكب.
ويبدو لنا أننا سنتمسك به حتى يظهر لنا منه خطأٌ فاضح يطرحه، أو يتقدم عليه تفسيرٌ
أعلى مقاماً وأكثر إقناعاً يؤخره.
الإجابة التفصيلية عن السؤال
الثاني: كيف انفصلت الأرض من سحابة المجموعة الشمسية؟[14]
كان
نص السؤال هو [هل انفصال الأرض من الشمس من النظريات العلمية التي قر
قرارها إلى درجة اليقين؟]
وقد أعدنا
صياغته على النحو الآتي:
هل
تشكَّلت المجموعة الشمسية من سحابة دُخانية دوارة واحدة تمايزت عبر ملايين السنين
إلى شمس وكواكب بفعل الدوران الطارد والتكتل الجرمي الجاذب، وآل بها الحال إلى شمس
وكواكب صلبة وغازية وأقمار، وهو النظام الذي نعرفه الآن بالنظام الشمسي؟
...
نقول: في
الجزء الأخير من اليوم الثاني، (أنظر شكل 2)، أو الرابع في (شكل 3) – وهو الأرجح -
تراكمت سحابة دخانية سديمية متوهجة ومتقدة القلب، كما في (شكل 4):
ومع الزمن ودوام
الطواف ظهرت فيها تكتلات جرمية، كان أغلبها وأخف عناصرها في مركز الدوران، وأصبحت
ما نعرفه على أنه الشمس، وتطوَّحت المتحجرات منها فيما نعرفه بالكواكب، ومنها متحجرات
القشرة كالأرض والمريخ، أما الجرميات الثقيلات جداً منها فتراكمت على مسافات أبعد وكانت
كواكب المشتري وزحل ونبتون (شكل 5 ، 6).
والواقع أن
هذا التصور – حتى بعد أن تشكلت الكواكب على الوضع الراهن (شكل 3)- ليس إلا جزء من
الصورة. ولاستكمالها، يجب أن نخرج لأبعد من ذلك لنرى الصورة الأكمل، حيث نجد أن
بقية السحابة ما زالت تدور، ويتناثر فيها ومنها كوكيكبات ومذنبات وشهب هاطلة. وهذه
السحابة الكبرى التي تحيط بكامل المجموعة الشمسية يتراءى لنا منها محيطين الأقرب
منهما يُعرف بحزام كايبر Kuiper Belt (نسبة إلى مكتشفها Gerard
Kuiper)، (شكل 4)
والأبعد منهما تُعرف بسحابة أوورت Oort Cloud التي تتكون من مليارات المذنبات، والتي يزورنا منها
مذنب هالي
مرة كل 76 سنة.
والأمر لا
يقتصر على الابتعاد عن الأرض والشمس حتى نرى الصورة أوضح، بل إننا إذا تداعينا إلى
ما بين مداري كوكب المريخ وكوكب المشتري لرأينا الآتي – ويا عجب ما سنرى- (شكل 8، 9):
وفي الفيلم الآتي:
نرى حزام الكويكبات المكتشف بالرصد في الفترة (1980-2012م): وفيه تم رصد أزيد من
580 ألف كويكب وتسجيلها جميعاً في قاعدة بيانات شاملة يتعين فيها كل كويكب، وفلكه
الخاص به. وفي الفيلم الآتي نرى مسقط رأسي لهذا الاكتشاف عبر 32 سنة متصلة:
(شكل 8): اكتشاف حزام الكويكبات في الفترة (1980-2012)
وفي المقطع
الآتي يتم تدوير الفلك الجامع لسحابة الكويكبات بين فلكي المريخ والمشترى لنراه في
مسقطه الأفقي:
(شكل 9): مسقط أفقي لحزام الكويكبات المكتشف في الفترة (1980-2012)
ولنا أن
نتساءل الآن:
هل يمكن أن
نجد في الصحراء قبيلة من الناس تعيش في واحة منعزلة، وبينها وبين غيرها مسيرة مئات
السنين، ثم يشك شاك بأن أحد الناس فيها قد وُجد أو خُلق منعزلاً عن باقي أفراد
القبيلة أو أنه أسبق منهم جميعاً في الخلق، رغم أنه في مثل أعمارهم؟! ... إن كان
هذا ممكناً فعندئذ يمكن القول بأن الأرض – التي يماثل عمر صخورها غيرها من الكواكب
القريبة- قد وُجدت/خُلقت قبل هذا السديم الشمسي الذي رأينا هيئته أعلى من شمس
وكواكب وأقمار وحزام كويكبات وحزام كايبر، وسحابة أوورت. ويمتد في السماء لمسافة
يقطعها الضوء في سنة كاملة، أو ما يقرب من 50 ألف ضعف المسافة بين الأرض والشمس!!!
ولأن السؤال
الأول مستحيل، وأن أفراد القبيلة لا بد وأن يكونوا ذُرِّية بشرية خلق الله تعالى بعضها
من بعض، فكذلك يجب أن نفترض أن المجموعة الشمسية الكبرى (الشاملة لحزام كايير
وسحابة أوورت) ذُرية طبيعية، خلق الله تعالى بعضها من بعض، وقد تفتقت من سديم
غازي أولي، وأن هذا السديم كان انتشاراً من دخان مادي تشكل في نهايات اليوم
الثاني من الخلق (شكل 2)، أو اليوم الرابع (شكل 3) على الراجح، ولكن من مصادر
نجمية أسبق منه وجوداً في الكون، وإلا كان فهمنا لتخلق البنية الكيميائية للكون
فهماً غير متسق مع إيماننا بمعاني القرآن. [نأمل التمييز بين هذا (الدخان المادي) الذي نصف به السديم الشمسي و(السماء الدخانية الأولية) التي ذكرناها أسفل شكل (2)) والتي تصورناها تأويلاً لـ قوله تعالى "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ"].
وباستصحاب هذه
الصورة نكون قد أجبنا على سؤال الدكتور عرجون بجزئيه، والذي قال فيه : [هل
انفصال الأرض من السموات (أو) من الشمس من النظريات العلمية التي قر قرارها
إلى درجة اليقين؟]
___________
ويستكمل
الدكتور عرجون ويقول[15]: [
قد يتساءل متسائل: أين قرر القرآن أن الأرض كانت جزءً من السموات ثم انفصلت
عنها إثر حادث كوني؟ ...... في القرآن الحكيم آية واحدة هي التي يتشبث بها أصحاب
هذه النظرية الانفصالية، وهي قوله تعالى "أَوَلَمْ
يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا
وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ".
وفي
هذه الآية ... روى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رجلاً سأله عن السموات
والأرض كانت رتقاً ففتقناهما؟ .. فقال له ابن عمر: اذهب إلى ابن عباس فسأله، ثم
تعالى فأخبرني، فذهب الرجل، فسأل ابن عباس، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: (كانت
السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات).
فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره، فقال ابن عمر: (قد كنت أقول: "ما يعجبني
جراءة ابن عباس على تفسير القرآن"، فالآن علمت أنه أوتي علما).
(ويستأنف د.
العرجون:) فما الذي يدعو إلى استبعاد هذا التفسير؟ .. وما الذي يدعو إلى
استبعاد الآية له إن لم يكن هو المعنى القريب في أسلوب الهداية القرآنية؟ .. فلو
أن الشيخ (يقصد الذي فسر الآية بانفصال الأرض عن السديم السحابي) رحمه الله،
قرر أن أسلوب الآية صالح لفهم ما يقرره العلم الصحيح، مع صلاحيته لفهم ما قرره
أئمة الإسلام في معنى الآية، لكان ذلك أكثر ملاءمة لمقامه العلمي، ولكان أنسب مما
قرره من عدم تعريض الآية للهزات العلمية المستحدثة.]
نقول: هنا نجد
تمسُّك الدكتور عرجون بتفسير ابن عباس رضي الله عنهما، ويستنكر استبعاده، في قوله:
ما الذي يدعو إلى استبعاد هذا التفسير؟]
ونجيب بالآتي:
يرجع استبعاد
تفسير ابن عباس لسبب لُغوي قوي لم نستطع أن ننفك عنه: وهو أنه – رضي الله عنه - في
تفسير "أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا
فَفَتَقْنَاهُمَا" ساوى بين (السَّمَاءِ) و(السَّمَاوَاتِ)
من حيث ينزل المطر (أو يتفتق). فالآية "أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا" ذكرت "السَّمَاوَاتِ"،
ولم تذكر (السَّمَاءِ)، .. ولا مانع من قبول القول (فتق السماء بالمطر) باعتبارها
تلتقي مجازاً بـ (أنزل/ينزّل/نزّل/نزلنا/أنزلنا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) كما
جاءت في 21 موضع في القرآن. ولكن القول بـ (فتق السَّمَاوَاتِ بالمطر) لا
أصل له – وليلاحظ القارئ أنها: السَّمَاوَاتِ وليس السَّمَاءِ. وسبب
ذلك أنه لم يرد - حسب استقصائنا - نزول الماء من "السموات" ولو في مرة
واحدة. والفرق كبير بين إنزال المطر من السماء، أي من فوقنا حيث يوجد السحاب على
وجه الخصوص (وهو المؤكد)، وإنزاله من السَّمَاوَاتِ، أي من عين البناءات
التي تعلونا، والتي سمَّاها القرآن "سَّمَاوَاتِ"، وهي البناءات
التي ميزَّها الله تعالى بأنه سبحانه "أَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ
أَمْرَهَا"، ، أو من مواضعها في تلك السموات أو جهاتها جميعا.
وقد يحتج
علينا متكلم بقول الله تعالى " وَيَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا
مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا .."(النحل:73)،
وقوله تعالى " قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ .."(سبأ:34)، في أن
الرزق النازل من السَّمَاوَاتِ هو المطر وليس إلا المطر. فنقول أنه رغم أن
الماء النازل من العلو هو من الرزق، إلا أنه ليس كل الرزق. وعلينا أن نلاحظ أنه
عند ذكر نزول الماء صراحةً لم تجئ في ذلك ولو آية واحدة بـأنه "من السَّمَاوَاتِ"
بل جاء في 21 موضع وكما ذكرنا ، وأن كلها بلفظ "مِنَ السَّمَاءِ"،
وأن السموات في الموضعين المحتج بهما جاءت مع الرزق في عمومه، دون تخصيصه بأنه
(الماء)!!! ... وإذا تساءل المحتج مستنكراً: وما عساه يكون الرزق النازل من السَّمَاوَاتِ
غير المطر؟! .. فنجيبه بشيء من ذلك في الدراسات التي تجري منذ عقود في هذا
الشأن:
- أبحاث عن وجود علاقة بين تشكُّل
السحب والأشعة الكونية [16] (cosmic
rays وهي أشعة تهطل
دوماً على الأرض).
- أبحاث تشير إلى ارتباط حلقات الأشجار
مع كثافة الأشعة الكونية[18]،[17].
- بحث يشير إلى ارتباط دورات
آكلات الأعشاب، ودورة الشمس، وعلاقة هذه الدورات بالأشعة الكونية[19].
- وحيث أن تأثير الشمس المتغير من رياح
وعواصف شمسية على الأرض، وانعكاساتها على البيئة الأرضية، والأحياء على العموم بما
فيهم الإنسان، لا ينكره أحد الآن، فالعلم بأن هذا التأثير لا ينفك عن تأثير ما يصل
إلى الشمس من مؤثرات خارجية عن المجموعة الشمسية من أشعة كونية وغيرها، يؤكد أن ما
يأتينا من السماء من رزق ليس فقط ماء المطر. وهذا كل يرجع إلى أن الأرض محمولة على
سفينة سابحة في السماء، وأنها واقعة في لجج دائمة وأحداث جسيمة، لا يعلم أسرارها
إلا الله تعالى. ... وعلى ذلك يكون الاستنكار في أن الرزق الآتي من السماء يتجاوز
المطر، استنكار في غير محله.
- هذا وقد
وجدنا للشنقيطي في أضواء البيان رداً – لا يصمد - على اعتراضنا على (تفسير الفتق
بأنه فتق السَّمَاوَاتِ بالمطر)، قال الشنقيطي[20]:[إن
قيل : هذا الوجه مرجوح ؛ لأن المطر لا ينزل من السماوات بل من سماء واحدة وهي سماء
الدنيا . قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب
أخلاق ، وبرمة أعشار] ... وهذا القول من الشنقيطي يأتي بمعنى جديد للسموات ليس
هو "السموات السبع"، وهذا قول مستغرب نستبعده بلا حرج. كما نلاحظ أنه
تجاوز معنى السموات المألوف بأنها السموات السبع، مما يعد قرينة أنه يتجاوزه
عامداً لبُعده. مما يجعل كلامه مؤيد لكلامنا في أن هذا القول "السموات
السبع" – في أنها مصدر المطر- لا يُحتج به، إلا أنه قد أتى بمثله في البعد، بل
إنه أبعد!!!
أما قول
الدكتور عرجون بأن هذا التفسير المنقول عن ابن عباس هو [المعنى القريب في أسلوب
الهداية القرآنية؟] والذي ربما يقصد بـ الهداية القرآنية هنا؛ أنها ما
يستسيغه العوام من الناس، فلا نرى فيه بأس إذا كان في معرض ذكر آلاء الله تعالى في
السماء والآرض على نحو الاعتبار بآيات الخلق، دون الالتصاق بأنه معنى الآية على
وجه الخصوص. أما أن يُقال أن هذا هو عين مراد الآية، وأن المطر ينزل بتفتق
السموات، وأن السموات قبل نزوله كانت رتقاً، فهذا ما لا نجد له مُسوِّغا. فضلاً عن
أن السموات متمايزات، والقول بأن السموات كانت رتقاً، ينفي عنها هذا التمايز الذي
بسببه كان تعدادها سبعا، كما قال تعالى " وَبَنَيْنَا
فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا"(النبأ:12). ولا ريب أن السموات
سبعا سواء نزل المطر من جهتها أو لم ينزل، وأنها سواء في ذلك قبل النزول وبعد
نزوله!!!
وعن قول
الدكتور عرجون: بأن [أسلوب الآية صالح لفهم ما يقرره العلم الصحيح، مع صلاحيته
لفهم ما قرره أئمة الإسلام في معنى الآية] وأن ذلك.. [أكثر
ملاءمة لمقام (قائله) العلمي، ولكان أنسب مما قرره من عدم تعريض الآية
للهزات العلمية المستحدثة.]
فقول شديد
الغرابة. إذ لا يمكن أن يجتمع التفسيران، أي: تفسير ابن عباس بفتق السموات بالمطر
وفتق الأرض بالنبات من جهة ، وتفسير انفصال الأرض عن السموات أو عن الشمس. فكيف
يمكن الإبقاء على التفسيرين جنباً إلى جنب، والزعم بأن كلاهما صحيح في نفس الوقت
وأن الآية تقصدهما جميعا؟! .. وفي الواقع أن مثل هذا الزعم؛ بصلاحية بعض التفاسير
القديمة مع تفاسير جديدة رغم استحالة اجتماعها، قد رأيناه كثيراً من أصحاب الإعجاز
العلمي، الذين ينتقدهم الدكتور عرجون. ولا نراه إلا درءاً للحرج من استبعاد قول
صحابي جليل، وذراً للرماد في العيون للإفلات من الاعتراضات [في القول بأن ذلك: أكثر
ملاءمة لمقام (قائله) العلمي]. ... ولا نراه إلا تضحية بحقِّ في تفسير كلام
رب العالمين، وفقط من أجل خاطر واحد من البشر. ولا نرى إلا أن هذا المنهج الجامع
بين المختلفات – في عكس اتجاه تيار المنهج العلمي الذي يفرق بين المختلفات كما جاء
في تعريف ابن تيمية له- أمر مُسْتَهْجَن، مهما كان قدر هذا الواحد. فالحق يعلو ولا
يُداهَن فيه. أما إن كان من تفسيرين مختلفين صحيحين يمكن جمعهما، فيجب أن يشمل
أحدهما الآخر، أو أن كلاهما ليس إلا حالة خاصة من تفسير أشمل يلفَّهُمَا بعلة
جامعة.
ثم أن القول
بالحفاظ على التفسير القديم جنباً إلى جنب مع التفسير الجديد وصلاحية الجميع [أنسب
.. من تعريض الآية للهزات العلمية المستحدثة] فقول مستغرب؛ لإبقائه على
تفسيرات قديمة تعاني من إشكالات، قد تحوّلت بمزيد من العلم إلى ممتنعات. وإذا كان
التفسير الجديد ليس نهائياً بما قد يطرأ عليه من استبدال، أو تطوير، ... إلا أنه
لا يمكن إنكار أن ممارسة التفسير بالراجح من العلم – مع عدم انغلاق وختم المعاني-
أولى من ختمها بقديم من المعاني التي تهاوت حُجَجُها، ووجب إخراجها من المحتمل إلى
المحال؟! ... وذلك لأننا مأمورون باتباع الأحسن كما قال تعالى "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه"(الزمر:18)،
وهو ما نستطيعه، ولسنا مأمورين باليقين الذي نفتقد أسبابه، ومن ثم لا نستطيعه!
ويستكمل
الدكتور عرجون ويقول[21]: [فالقرآن
لم يقرر أبداً النظرية الانفصالية بين الشمس والأرض، ولكنه وهو في أفقه الأعلى من
براعة البيان المعجز تحدث عن السموات والأرض في صدد بيان جلال القدرة الإلهية
حديثاً صبه في إطار لا يناقض علماً ثبت أو ليثبت ثبوتاً لا يخالجه ريب، ولا تتوارد
عليه الشبه والشكوك، على أن المتتبع لحديث القرآن عن السموات والأرض يراه يذكر
الأرض في مقابل السموات بصورة قد تدل بفحواها – إن لم يكن بظاهرها – على استقلال
الأرض في خلقها كوكباً تعيش عليه الحياة الخاصة بمن عليه وما عليه وما فيه من
الموجودات، بل إن القرآن ينفسح لأكثر من هذا في دلالة ظاهرة على استقلال خلق الأرض
عن السموات، فهو يقول في سورة (فصلت)
"قُلْ أَئِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ .... "الآيات (9-12).
فهذه الآية الكريمة ظاهرة
الدلالة على أن الأرض خُلقت خلقاً مستقلاً عن السموات، وجعلت فيها الجبال الرواسي
لحفظها أن تميد فتختل الحياة فوقها، وأن الله بارك فيها بما شاء من أنواع البركة
في أعدادها وتهيئتها للحياة وأنه قدّر فيها أقواتها، وأنه سبحانه وتعالى حدّد لذلك
الخلق مع ما يتبعه مما ذكر ربنا تبارك وتعالى أوقاتاً خاصة معينة عنده مقربة
لعقولنا بما نعرف ونألف.
ثم ذكر ربنا تبارك وتعالى طوراً
من خلق السموات ذكراً مستقلا بحرف يفيد عند أهل اللغة الوجود المتراخي لتقريب
مراتب الخلق لعقول الخلق، التي لا تدرك إلا ما عرفت وما ألفت، وما يصح قياسه على
المعروف لها المألوف ....]
نقول: لا ريب
في العبارة الواردة أعلى من أن:[القرآن .. تحدث .. حديثاً صبه في إطار لا يناقض
علماً ثبت أو ليثبت ثبوتاً لا يخالجه ريب، ولا تتوارد عليه الشبه والشكوك]
ولكن، هذا في حق القرآن في ذاته، وليس في حق كلُّ متكلمٍ باسمه. فإن أصاب المجتهد
بحقه، فالحمد لله والمنة، وإن أخطأ، وتبين لنا خطؤه، وأظهرناه، واستبدلنا به ما هو
أصوب، دلالةً واحتجاجا، فما علينا من ملامة.
أما قول
الدكتور عرجون: [إن القرآن ينفسح .. في دلالة ظاهرة على استقلال خلق الأرض عن
السموات، فهو يقول في سورة (فصلت) "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ .... "الآيات (9-12). .. فهذه الآية الكريمة
ظاهرة الدلالة على أن الأرض خلقت خلقاً مستقلاً عن السموات] فنقول أن هذا ما
فندناه في شرحنا المسهب أعلى، وما رافقه من أشكال (1.. 9)، وأكدنا أن جِرْم الأرض
التي نعيش عليها، ما كان لها أن تستقل عن السماء في خلقها، فليرجع القارئ إلى ما
استدللنا أعلى عليه من حُجَج في ذلك.
وأما قوله: [ذكر
ربنا تبارك وتعالى طوراً من خلق السموات ذكراً مستقلا بحرف يفيد عند أهل اللغة
الوجود المتراخي] ويقصد به الحرف (ثُمَّ)، فقد فندناه أيضاً وفصَّلنا فيه
القول، على غير ما يذهب الدكتور عرجون في عبارته، من أنه للترتيب الزمني التصاعدي.
يقول الدكتور
عرجون[22]: [على
أنه لا ذكر في القرآن الكريم للشمس باعتبارها السماء التي انفصلت عنها الأرض – كما
يقول العلم في نظريته – بل المذكور السموات بعنوانها ومفهومها الشرعي الذي لا يفهم
منه إرادة الشمس إلا بضرب متعسف من التأويل، والشمس في القرآن الكريم تذكر مقابلة
للقمر وقرينة له باعتبارهما كوكبين مغايرين للسموات بمفهومها الشرعي. فنظرية
انفصال الأرض عن الشمس لم يقررها القرآن الحكيم، فلا تصلح تفسيرا لآياته على أنه
هو المعنى الذي يتحتم في فهم تعبير البيان القرآني.]
أمّا أن الشمس
ذاتها ليست السماء التي انفصلت عنها الأرض ذاتها، فهذا صحيح، ولكن صحته لا تزيد عن
صحة القائل أن أباك ليس جدك، فضلاً عن أن تتسلسل الأبوة إلى من وراء جدك. ولكن
الله تعالى يقول: "مِلَّةَ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ هُوَ
سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ "(الحج:78).
وهذا يعني أنه كما أن أُبُوَّة إبراهيم عليه السلام لنا، لا تمنع أبونا القريب من
أن يكون أبونا الملاصق، فكذلك يكون القول بأن انفصال الأرض من السموات في بداية
الخلق، لا تمنع أن النشأة الأخيرة للأرض كانت في عائلة واحدة مع الكواكب المعهودة
في كنف أم لهم، هي الشمس. وكما أن نَسَبنا إلى إبراهيم عليه السلام لا يمر إلا عبر
آبائنا القريبين، فكذلك تنتسب الأرض للسموات فقط عبر نسبها إلى سديم المجموعة
الشمسية، ثم إلى ما قبلها من سُدم نجمية متتابعة، حتى نصل بها إلى انفتاقها المادي
عن السموات. والمتتبع لذلك في التاريخ الطبيعي الكوني لن يرى تعارضاً مع كلام الله
تعالى، وفقط من هذا الوجه الذي بينَّا، ... أللهم إلا إذا أصَرْ! .. أو أن لديه وجهاً تفسيرياً أفضل، .. وإن كان، فليُرِنا إيّاه.
وأما عن كلام
الدكتور عرجون عن [المعنى الذي يتحتم في فهم تعبير البيان القرآني]... فنجيبه
بأن الحتم واليقين في الآيات المتشابهات لا يستطيعه أحد، ... وما كان لنا إلاَّ أن
نستصوب الأحسن، .. وليس استحساناً لمحض الهوى، وخفة مؤونة الألفة والعُرف، .. بل بالرُّجْحان
البَيِّن، والحجة النَّيِّرة. ... ويظل الراجح عندنا يقيناً ... إلى أن يتقدم عليه
ما هو أيقن، ... فيحل محله ويتربع على عرشه.
يقول الدكتور
عرجون[23]: [لو
أن الناظرين في هداية القرآن أمعنوا النظر في مقاصد هذه الهداية لوجدوا أن تفسير
رتق السموات والأرض وفتقها بما رُوى عن ابن عباس وتلقاه الآئمة بالرضا والقبول،
أقرب إلى تحقيق تلك المقاصد، لأنه المعنى الذي يفهمه كل من يتجه إليه بنظر الحس
والعقل من عامة الناس وخاصتهم. (لاحظ هنا التمييز بين العوام والخواص)
وتفسير آية رتق السموات والأرض
بنظرية الانفصال الشمسي التي قال بها العلم المستحدث بعيد عن مقاصد الهداية
القرآنية، لا يفهمه من أسلوب البيان القرآني إلا من قصده متأولا، ولا يفهمه
علمياً إلا أخص الخاصة من العلماء الكونيين، والقرآن لم ينزل بهدايته لهولاء العلمانيين وحدهم (يقصد العلميِّين،
وهو خطأ لُغوي شنيع، يُبرئ العلمانيين من آثام أقوالهم، ويلحق به العلميين
الأبرياء في أبحاثهم، .. أللهم إلا إذا كان خطءاً مطبعياً). وإنما نزل لهداية
كافة البشرية على مستويات عقولهم وثقافتهم. ]
نستغرب هذا
القول، لأنه حكمٌ يعم فهم القرآن في آياته الكونية وغيرها. فهل يفهم عامة الناس
القرآن في أمره ونهيه، وفي عامه وخاصه، وفي مطلقه ومقيده، وفي مبناه ومعناه، دون
الحاجة إلى تفهيم العلماء لهم؟! ... إن قال: نعم، فقد أسقط الحاجة إلى العلم
والتعلم، والفقه والتفقه، ووظيفته وقيمة مكانته العلمية، لأنها عندئذ تصبح زيادة
غير مطلوبة كالتي انتقدها! .. وإن قال: لا، فقد نقض كلامه بالحاجة إلى خاصة من
الناس يعلمون العامة ما لا يستطيعون بانفرادهم الوقوف عليه من مراد الله تعالى من
كتابه العزيز! ... وفي ذلك يقول الله تعالى "فَلَوْلَا
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ"(التوبة:122).
بل إن الدكتور
عرجون نفسه، وفي عين كتابه، يقول عن لفظ (لِلْعَالِمِين) في قول الله تعالى "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ
أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِين "(الروم:22)،
يقول[24]: [تخصيص "العالِمين" بالذكر .. توجيه لذوي العقول
المستضيئة بنور العلم إلى البحث عن أسرار آيات الله الكونية في آفاق السموات
وأرجاء الأرض لكشفها ورفع الحجب والأغطية عن حقائقها لتقع من الحياة موقعها وينتفع
بها الأحياء لأنها مخلوقة لأجلهم حتى تظهر خصيصة العلم في العلماء ويمتازوا بها عن
سائر العقلاء، لانفرادهم بإدراك حقائق آيات الله الكونية التي نصَّبها الله حُجَّة
على وجوده، وإحاطة سلطان قدرته وعلمه، وهذا ما قاله تعالى "وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ"(العنكبوت:43)،
تسجيلاً لامتياز العلماء القائمين بحجة الله على الخلق في الأرض، وبياناً
لفوقهم على من باينهم في المعارف من سائر العقلاء، لإدراكهم ما وراء حجب الحس
المادي، فهماً لمرامي إشارات الله تعالى في دلائله الآفاقية والأنفسية، وقد جاء
التصريح ببعض مظاهر هذا الامتياز الذي اختص به العلماء بالله، لإدراكهم أسرار
آياته الكونية في سورة (فاطر)، حيث أثنى عليهم هذا الثناء الذي تنقطع له أعناق
الربانيين، فوصفهم باختصاصهم بخشيته فقال: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ" وسياق هذه المدحة العظيمة بيِّن جلي في أن المراد من العلماء
بالله، الذين عرفوه بمعرفة آياته في خلقه، معرفة تقوم على إدراك أسرار ظواهر ما خلق
من أشياء.]
نقول: إذا كان
الأمر كذلك، ويعلم الدكتور عرجون كل هذا العلم المحقق في قيمة العلم بأسرار خلق
الله تعالى عند من يقتفي أسبابها وأثارها، فيعرف بها الله سبحانه ويفهم آياته،
ويبينها للعامة من الناس، ففيم كان النقد الأول إذاً؟!
وعن المحكم
والمتشابه، قال الدكتور عرجون ما لا غبار عليه في تعريف المحكم، ولكنه في المتشابه
قال[25]:
[وإن منه آيات متشابهات، وهي كما يقول الطبري ناقلاً عن الصحابة والتابعين؛ كل
ما لا حاجة إلى العباد بمعرفته، واستأثر الله بعلمه ووقته، وإنما أنزل امتحانا
لقوة إيمان المؤمنين وعبودية العابدين].
لا نتفق معه
على واحدية الغرض من المتشابه، وحصره فقط في امتحان قوة إيمان المؤمنين! .. إذ لا
يمتنع أن يظهر الله من آياته المتشابهات – على التتابع - في مستقبل الأيام للناس
معاني أرادها الله ويفهمون مراده تعالى منها، بل هو الأوْلى، حتى لا يأتي قفول
الدنيا إلا ويكون كتاب الله تعالى قد فُصِّل وأُحْكِم للناس - على عصورهم - فَهْمُه
ووعْيَ ما فيه، ويتحقق تمام معنى قوله تعالى "الر
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ"(هود:1)،
ولو بقيت المتشابهات علينا متشتبهات لما صارت مُفصَّلات، والله تعالى يقول: "وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا"(الإسراء:12).
وفي سبيل تحقُّق هذا الوعد مع الزمن يكون كلٌ قد أخذ حظَّه مما أنزل الله تعالى
مهما اختلفت ثقافات الناس ومعارفهم. ثم إن وصف القرآن بالـمُبين ليقتضي أن يصبح
جميع ما أتى فيه بيِّناً للناس؛ فَقِهَهُ من فَقِهَه وتشابه على من لم يُحِط به،
وأن هذا المتشابه واجب الإيمان به، سواءٌ من لم يفقهه، أو من فَقِهَه، حيث يكون
العُسْر في الإيمان بالمتشابه أشد على الأول، كما قال العبد الصالح " وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ
تُحِط بِهِ خُبْرًا "(الكهف:68). وهذا هو علَّة قول
الراسخين في العلم "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا" إذ أن منهم من عاصر الأوائل فلم يُحط
بالمتشابه، ومنهم من كان من الآواخر فظهر له بعد كمون، وهذا ما يبدو لنا من التردد
في الوقوف على لفظ الجلالة اللَّهُ في قوله
تعالى "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا"(آل
عمران: 7)، ومن ثم؛ التردد في إلحاق الراسخين في العلم، بالعلم بالمتشابه مع الله
تعالى، أو عدم إلحاقهم! ... فمنهم ومنهم، ... والسبب هو انكشاف معاني المتشابه مع
الزمن، بمشيئة الله تعالى وقَدَره.
ونقول أخيراً أنه رغم المؤآخذات العديدة التي
أثارها الدكتور عرجون، والتي وصلت إلى حد الهجوم التوبيخي على التفسير العلمي، إلا
أنه عاد يؤكد وفرة الآيات الكونية في القرآن بما يستوجب السعي الحثيث لفهمها، فقال[26]:
[المقام هنا لا يتسع لاستيعاب الآيات الكونية التي جاء بها القرآن الحكيم
لكثرتها، واختلاف مساقاتها وهي مبثوثة فيه، تنساب في محيطه، وتتخلل سوره، فقلما
تخلو سورة من سوره الكريمة من لون من ألوانها أو لفتة إلى ظاهرة من ظواهرها.]
وعن ضرورة
الفهم الصحيح لمثل هذه الآيات، يقول[27]: [من
البداهة أن يُطلب من القوَّامين على فهم القرآن أن يحيطوا علماً بالظواهر العلمية
الطبيعية التي تميز طبيعة النور عن طبيعة الضياء حتى يمكن فهم الآية (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ
نُورًا)
على حقيقتها..] ثم امتدح الفخر الرازي وقال[28]: [ترى
هذا الإمام الحكيم لم يقف من الآية عند أسلوبها البلاغي المعجز ببراعة بيانها،
ولكنه أدار البحث حول الآيات الكونية فيها، وفي كيفية دلالتها على الغرض المقصود
منها حسب معارف عصره وبيئته الفكرية].
ثم دعى إلى
خوض غمار العلوم ولجج المعارف لتكون معيناً لفهم كلام الله، وقال[29]:
[إذا كان أسلافنا من أعلام العلماء وحكماء الإسلام قد خاضوا بحار العلوم ولجج
المعارف فاقتحموا حصون الأفكار في أزمانهم، ولم يتركوا منها مُشرَّعاً إلا وَرَدُوه،
واتخذوا من كافة معارفهم وأفكارهم معيناً لفهم كتاب الله، فهماً يقوم على حقائق
العلم الصحيح، لتبين هدايته وإقامة حجته، فما موقفنا نحن من عصرنا ومعارفه ووسائله
وأفكاره ومذاهبه؟ .. هل نقف من آيات الله عند مبلغ ما وصل إليه أسلافنا في أعصرهم،
وهو نهاية إقدام العقول في بيئاتهم وأزمانهم ومجتمعهم؟ أو نتقدم في شجاعة كما
تقدموا إلى البحث بوسائل عصرنا، ونخوض في بحار معارفه بعقولنا التي رباها القرآن
الحكيم ...]
فنقول: إذا
كان الأمر كذلك، فَفيمَ كان الاعتراض، والأمر على ما بيَّن ووضَّح؟ .... يبدو لنا
أن ابتعاد الخلفيات المعرفية لعلماء الشريعة عن آليات البحث العلمي في المسائل
الكونية، وفنياتها، وما ثبت فيها بالرصد والتجريب والتحليل، جعل الثقة في نتائجها
أدنى مما ينبغي أن تكون عليه، لذلك نرى منهم هذا الموقف المتردد، .. بين سلامة
المبدأ التجديدي في التفسير، ومصداقية براهين العلوم التي ينبغي أن تُستخدم فيه.
المؤلف
عودة إلى فهرس الكتاب
[1] محمد الصادق إبراهيم
عرجون، عميد كلية أصول الدين سابقاً بجامعة الأزهر. من مؤلفاته: (القرآن العظيم – هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين)، (نحو منهج لتفسير القرآن)، (محمد رسول الله منهج ورسالة بحث و تحقيق- 4 أجزاء)، (سنن الله في مجتمع آمن خلال القران)، (عثمان بن عفان المفترى عليه)، (خالد بن الوليد)، (أبو حامد الغزالى المفكر
الثائر)،.. .
[2] "نحو منهج لتفسير
القرآن"، محمد الصادق عرجون، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة
الثالثة، 1979، ص 7.
[3] محمد الصادق عرجون، ص 8.
[4] السابق، ص 10.
[5] السابق، ص 19-20.
[6] التحرير والتنوير، للطاهر بن
عاشور، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 2000م،
ص1/124.
[7] محمد الصادق عرجون، ص 20-21.
[8] السابق، ص 21-22.
[9] في العام 1054م سجل الفلكيون
الصينيون (وقيل الفلكيون العرب أيضاً، وأحد حضارات المكسيك) انفجاراً هائلاً في
السماء في برج الثور Constellation Taurus، وسُمي بالنجم الضيف Guest
Star، وقيل أنه شوهد نهاراً من شدة إضاءته، كما أنه
ظل عدة أيام يضي السماء وقيل شهراً. كما قيل أنه ظل يُرى بالعين المجردة لمدة
سنتين ثم استصعب الناس رؤيته بعد ذلك إلا بعد اختراع التلسكوبات (سنة 1758، و1844،
..). هذا الانفجار لم يكن إلا نجماً قد استنفذ وقوده وانتهت دورة حياته في صناعة
ذرات جديدة، وجاء أجل بثه لها في جو السماء، في ظاهرة تُعرف الآن بإسم المستعر
الأعظم Supernova. وما يظهر منه بالرصد هو سديم شهير (عرف بإسم
سديم السرطان Crab Nebula اعتباراً من عام 1844، وقد صُنِّف قبلها بالرمز M1 اعتباراً من عام 1758 في
كتالوج أشباه المذنبات)، وهو انفجار سحابي الشكل يتمزق ويتسع على الدوام مع الزمن
حتى يومنا هذا. وقيل أنه سيتلاشيء في غضون حوالي 20 ألف سنة.
[10] كتاب "الجنى الداني في
حروف المعاني"، ابن أُمّ قَاسِم المرادي، مادة
(ثُمَّ)، نسخة إلكترونية (الشاملة).
[11] حاز الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية
عام 1403هـ - 1983م.
[12] "دراسات لأسلوب القرآن الكريم"،
محمد عبد الخالق عضيمة، (القسم الأول- الجزء الثاني / الصفحات 113- 119 ، وذكر خمس
عشرة آية فيها: ((الترتيب الذكري)) وذلك ضمن دراسة "ثم" ص 102-132) ؟؟؟
[13] محك النظر، أبو حامد الغزالي،
ص 3.
[14] http://en.wikipedia.org/wiki/Formation_and_evolution_of_the_Solar_System
[15] محمد الصادق عرجون، ص22.
[16]
- Sunshine records from Ireland: cloud factors and possible links to solar
activity and cosmic rays,
- Solar activity, cosmic rays, clouds and climate – an update
- SUNSHINE, CLOUDS AND COSMIC RAYS
- Physicists claim further evidence of link between cosmic rays and
cloud formation
[17]“A
relationship between galactic cosmic radiation and tree rings
[18]
On the possible links between tree growth and galactic cosmic rays
[20] أضواء البيان، للشنقيطي، في
تفسير الآية (سبأ:30)
[21] محمد الصادق عرجون، ص 24-25.
[22] السابق، ص 26-27.
[23] السابق، ص 31.
[24] السابق، ص 49-50.
[25] السابق، ص 40.
[26] السابق، ص 53-54.
[27] السابق، ص 56.
[28] السابق، ص 59.
[29] السابق، ص 61.