الملخص
لأي رسالة خالصة من مُرْسِل حكيم يجب أن يتعين ثلاثة أركان متمايزة: المُرسَل
إليه الصريح، ومتن الرسالة البيِّن المعنى، ولغة متاحة خالصة يُصاغ فيها المتن.
وأي خلط بين هذه الأركان الثلاثة يؤدي إلى تشويش الرسالة. وفي هذه الدراسة نُطبِّق هذه القاعدة
المتينة لـ "الفصل بين الأركان" على رسالة القرآن إلى الناس كافة. وقد
وجدنا أن تلك القاعدة لم تُطبق على القرآن في زمننا هذا كما ينبغي لها. والسبب أن
لغة الرسالة قد تشرَّبت في جنباتها بثقافة العرب القديمة، وحال ذلك دون خلوصها
كلسانٍ مجرد. وكانت النتيجة أن حملت لغة الرسالة ثقافة أهل اللغة، فتقيد بها عموم
الرسالة وعالميتها، وأصبحت رسالة ثقافية محلية للعرب في صدر الإسلام. وأشكل ذلك
على وجوب عالميتها بصريح النص. وكانت النتيجة أن ظهرت تبعات سلبية، تطورت إلى
سلسلة من التحديات المتعاظمة، وخاصة في هذا الزمن الأخير. وفي هذه الدراسة نقدم
منهجية مُفصَّلة أسميناها "تسامي المعاني القرآنية" وفيها نعيد ضبط آلية
عمل الرسالة – بحسب الأركان الثلاثة - كما ينبغي لها بضرورة العالَمية. وتقوم
الآلية المعروضة على تحويل الآيات الكونية المتشابهة، حيثما تتوفر شروط ذلك، إلى
آيات محكمات، وذلك عبر طريقةٍ استخلصناها وأسميناها "تمييز مدلولات الآيات
القرآنية عبر صفاتها الصريحة في القرآن". ويقوم ذلك على تحليل مفاده أن
الآيات المتشابهة هي الامتداد الخطابي القرآني للثقافات والأجيال المتعاقبة وراء الثقافة
العربية الأولى، والذي يتحقق بها عالمية القرآن. وفي النهاية، طبقنا هذه المنهجية
على تفسير آيات سورة العاديات (100 :1-5) ووصلنا إلى نتائج مغايرة عن موروث
التفسير في ذلك، وهو أن تفسير العاديات هو الظاهرة المعروفة في اللغات الأوربية
باسم "أورورا" Aurora ، والتي نُقلت إلى العربية بإسم "الشفق القطبي"، حيث لم
يكن للعرب علمٌ بها من قبل. وقدمنا من الأدلة ما يدعم هذه النتائج. وفي النهاية
أثبتنا أن المنهجية المستخدمة في الوصول إلى تلك النتائج وأمثالها قادرة على
التصدي للتحديات التي صدَّرنا بها الدراسة، ومن ثَمَّ قادرة على دحض حجج المعارضين
المتمسكين بالتأويل الثقافي القديم لآيات القرآن الكونية، والتي ينبغي لها أن تكون
متجاوزة للثقافات والحضارات.
كلمات مفتاحية: التفسير العلمي، التأويل العلمي، منهجيات التفسير،
الفرق بين اللسان والثقافة، سورة العاديات، عوائق النهضة الإسلامية.
المقدمة والمنهجية:
نقصد بـ " تسامي/ارتقاء المعاني القرآنية" الانتقال من نطاق
(أفق) تفسيري محدود إلى نطاق أرحب منه. ومنه إلى نطاقات أشد رحابة. وذلك استرشاداً
بما يتراكم من جديد المعلومات غير المنفكة عن موضوع الآيات. وتكون النتيجة المتوقعة
من ذلك إعادة مقايسة الأفاق التفسيرية. ويرجع السبب وراء هذا الإجراء إلى ضغوط المعارف
الجديدة المتقاطعة مع آيات الخلق المتشابهات، والحاثة على نقلها إلى جُملة الآيات
المُحْكَمات. وذلك توافقاً مع ضرورة أن تؤول المعاني القرآنية
جميعاً إلى الإحكام (تمام البيان)؛ كلاً في حينه.
أما المنظومة التي ندعو إلى إعادة مقايستها فهي ما نطمح إلى بنائه من
قاعدة معلومات للمعاني القرآنية المبثوثة في آياته، والتي يجب أن تكون طاهرة من أي
تدخل إنساني مُسبق، مهما كانت حَظوة
أصحابه، لِـ ألا يعوق ذلك اكتشاف الحق فيها. ولأننا واعون تماماً لعدم اعتبار
المعاني في هذه المنظومة على نحوٍ عشوائي، فسوف نلجأ إلى اقتفاء أثر القاعدة
الأصولية الفقهية التي تقايس الأحكام من أصولها في نطاق التطبيق الأضيق، وإلى
فروعها في النطاق الأرحب عبر وحدة العلة. وذلك في مَدِّها لآفاق التطبيق لدواعي الضرورة. أي
أننا سنعمد إلى نقل الحُكم إلى مسائل جديدة لم يكن معلوم تحقق العلة فيها، ولا أن
هذه العلة تستدعي ذلك الحكم، إلى أن يستبين ظهور ذلك. والقاعدة هي أن يدور الحكم
مع علته (منفردة أو مجتمعة) وجوداً وعدما. فحيثما تتحقق العلة يفرض الحكم نفسه. وبمنهجية
شبيهة بهذه القاعدة الأصيلة والراسخة في الفقه، فإننا نطبقها أيضاً ولكن في إطار
اللغة القرآنية، والتي نحتاج في آلية تطبيقها إلى تمييز مدلول الآية (الحكم)
اعتماداً على ورود صفاته (علله/أسبابه) الصريحة في نصوص الآيات. وذلك في مسعانا
للوصول إلى أقرب المعاني إلى الحق من تلك المعاني المتشابهة التي كانت محض وجوه لُغوية
ظنية، غير مدعومة فيما وراء اللغة. وليُلاحظ أن التماثل في هذه القاعدة بين الفقه
(في تمييز حكم بين الأحكام) واللغة (في تمييز مدلول لُغوي بين الوجوه الدلالية) هو
تفعيل الحكم الفقهي وتفعيل الدلالة، كُلاً في محله المُراد. وربما كان من المناسب
أن نُسمِّي طريقتنا بـ "قابلية الدِّلالة للإِحكام" من أن نسميها
"قابلية التفسير"، إلا أننا نفترض أن التفسير الصحيح يجب أن يتميز
بانفراد جلي كما الإحكام.
وتتلخص طريقتنا في إنشاء علاقة صريحة بين الثنائي (المدلول - صفاته) في الفضاء الطبيعي، كما هو الحال في الثنائي الفقهي (الحكم - علته) في الفضاء الفقهي. ثم نستخلص صفات صريحة في النص القرآني ونختبر تكافؤها مع صفات طبيعية مرصودة ومؤكدة. فإذا ما تأكد التكافؤ بين المجموعتين، فإننا نتعرف على (أو نُميز) المدلول القرآني صاحب تلك الصفات الصريحة والجاري البحث عنه، على أنه هو هو ذلك الموجود الطبيعي الذي يحمل تلك الصفات الطبيعية المرصودة والمؤكدة. ونتوقع لطريقتنا هذه أن تتصادم مع عدد من العقبات التي عَمَّرت طويلاً في التفاسير الإسلامية التقليدية. إلا أن القوة الإقناعية للطريقة الجديدة واعدة لحدٍّ بعيد، وليس فقط في التغلب على تلك العقبات، بل في تجاوز سلسلة من التحديات التي عجزت المنهجية التفسيرية التقليدية أن تتغلب عليها رغم طول صراعها معها حتى الآن. وسوف نأتي أولاً على هذه التحديات بشيء من التفصيل، حتى يتوفر لنا معيارٌ نتحاكم إليه في تقييم تحقق الأهداف المأمولة، ومدى الضرورة المُلحة في ذلك. ثم يلي ذلك تطبيق الطريقة على سورة "العاديات" باعتبارها نموذجاً. وعندها سيبرز لنا بوضوح أحد موجودات الخلق الطبيعي الذي يتحقق فيه أغلب الصفات الصريحة في الآيات (100: 1-5). وعلاوة على ذلك سنجد إمكانية كبيرة في تفكيك أغلب التحديات المشار إليها. والجديد كل الجدة أن يظهر هذا التحليل والمعالجة لنا فوائد لم تكن متوقعة؛ منها ظهور ارتباط دلالي جديدة بين بداية ونهاية سورة العاديات. وكما هو حال النظريات القوية سنحصل في النهاية على تنبؤ (تنبؤات) يمكن التحقق منها في العالم الطبيعي. بمعنى أن فحوى الطريقة الجديدة هي معالجة الآيات القرآنية الطبيعية على نسق معالجة الظواهر الطبيعية؛ ومستندنا في ذلك حاجتهما جميعاً (الآيات القرآنية والطبيعية) إلى اكتشاف جمعي يحقق الاتساق والترابط اليسير في كيان معرفي واحد.
أ
عوائق
الإحياء الحضاري الإسلامي:
لتحقيق هذه الغاية السابق بيانها، علينا أن نتجاوز عوائق؛ وضعها أمام الفكر
الإسلامي المعاصر نوعان من التحديات: تراثية وحداثية. وبالتراثية نقصد الخلافات
الدينية التاريخية بين علماء الإسلام أو مدارس الفكر فيه في تفسير الآيات
المتشابهات ذات المنحى الطبيعي. أما التحديات الحداثية فهي المجابهات الحضارية
والعلمية المعاصرة، والتي تدل عليها المساهمة المعدومة لأي فكر إسلامي معاصر في
الحضارة الحديثة، أللهم فيما خلا الاقتصاد الإسلامي.
وربما يبدو أن هذين النوعين من التحديات متمايزان بوضوح، إلا أنهما
غير منفصلين فعلياً على المستوي التأصيلي؛ باعتبار أرتدادهما إلى خلفية فكرية
إسلامية متجذرة. وربما كان عدم الانفصال هذا بين نوعي التحديات محط انتباه عددٍ من
المفكرين والنقاد، باعتباره السبب وراء قصور محاولات الإحياء الإسلامي الحضاري، أو
على الأقل المساهمة الجزئية في الركب الحضاري المتدافع دون فقدان الهوية
الإسلامية. إلا أن تحليلات هؤلاء المفكرين والنقاد قد غفلت عن فرق لطيف بين ما هو
إسلامي وما هو قرآني، وأدت المرادفة بينهما إلى خطئهما التحليلي. والحقيقة أن هناك
فرقاً بين لفظ: "إسلامي" ولفظ: "قرآني" ومدلولهما، لا ينبغي
إغفاله أبدا. وإذا ما أخذنا هذا الفرق بالاعتبار، فسوف يؤدي التحليل إلى التمييز
بين "القرآني" على أنه "الوحي الإسلامي" والذي يكافئ
"الإسلام القرآني"، وذلك مقابل "الإسلام التراثي" إذا اختُصر
إلى "إسلامي"، والذي هو المجموع الحشدي لإسقاطات عير خالصة للوحي
القرآني على جماعات بشرية مختلفة، والتي أصبحت تعرف منذئذ بـ "الثقافات
الإسلامية" أو ما في معناها. ثم اجتمعت هذه الثقافات تحت مظلة تاريخية واحدة
هي "التراث الإسلامي". لذلك فإن إغفال هذا الفرق لا بد أن يُفشل أي
تحليل نقدي مزعوم، كما أنه يضلل أي عملية إصلاحية أو إحيائية تنبني عليه. وهذه
النتيجة وحدها تعري هذا الإغفال وما
يستبطنه من تحليل معيب، وتكشفه على أنه تحدٍّ إضافي – علينا أن نواجهه كما سنرى –
بدلاَ من أن يكون مبعث علاج التحديات الأخرى المتراكمة كما زعم أصحابه؛ وهي مفارقة
صارخة.
ومن أغراض هذه الدراسة أن تكشف عن آثار الثقافات البشرية التي داخلت
الميراث الإسلامي، ثم بقيت كشوائب مختلطة في التفسير القرآني، ومن ثم شوهت
الإسلامي القرآني الخالص وذهبت بشيء من رونقه. وماذا كانت النتيجة؟! .. مهدت هذه
الشوائب السبيل لظهور معظم التحديات التي نواجهها اليوم. والحمد لله أن حفظ كلماته
الخالصة بذاته العلية، وإلا لكانت قد تشوهت أيضاً بالتدخلات الإنسانية لو أُوكلت
إلى أصحابها.
وعلينا الآن أن نستحضر السبب التاريخي الحقيقي وما أدى إليه من تشويه ولو جزئي للمعاني القرآنية الطبيعية، والذي انتقل إلينا في التراث الإسلامي مما كان شائعاً من تصورات ورؤى قديمة للعالم. ولم يكن هذا السبب فقط صاداً عن وعي المسلمين المعاصرين للمعاني القرآنية الطبيعية الحقيقية، والذي هو هدف قرآني دنيوي ضروري لامتلاك أزِمَّة هذا العالم، إلا أنه صدَّ أيضاً عن مقاصد قرآنية تتصدر المشهد الديني، أهمها ما يتعلق بمصداقية الوحي ذاته، ثم النقاء الدلالي للمتن مما قد يعتريه من أي تشويه لمعاني آيات القرآن بفعل الآثار التفسيرية العرضية لجماعات المؤمنين عبر تاريخهم، والتي أصبحت بالتبعية التاريخية التقديسية جزءأً لا يتجزأ من معاني كلمات الله سبحانه التي يتداولها الناس. هذا في وقت لا يعتمدها عدد غير قليل من علماء المسلمين على أنها من اليقين الدلالي لمعاني الآيات، وذلك في أقل الاعتبارات. فكانت النتيجة أن ورث المسلمون بعض المعاني القرآنية المشوهة ووَثَقُوا بها ثقة مطلقة، ثم التصقت بمعاني الآيات عبر التفاسير القرآنية الرسمية بكليتها، ثم تراجم معانيه. وبذلك أصبح الحفاظ على هذا المجموع التراثي بمجموعه ونشره على حاله التاريخي على أنه الإسلام الحق مكافئاً لبث نسخة مشوهة – ولو جزئياً - من "الإسلام الخالص"؛ أي: "الإسلام القرآني".
ب تحديات
استعادة "الإسلام القرآني":
تمثل المجموعة التالية من التحديات
ما استطعنا جمعه منها بعد طول مراجعة في أدبيات الفكر المَعْنِى بالإحياء الإسلامي
وإمكان مجاوزته للعوائق التي عرقلته في هذا السبيل:
1- تقول أولى دوجمائيات هذه التحديات أنه ما من
اكتشاف دلالي جديد يمكن أن يوجد في القرآن! لماذا؟ - يقول أصحاب هذه الدوجما: "لو
كان هناك شيء من ذلك لكان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وتابعوهم قد علموها
ونشروها! ولو أن
هناك شيئاً من ذلك، فإما أنه معنىً مُدوَّن وليس بكشف جديد. وإلا، فلابد وأن يكون كشفاً
زائفا.
نرد
على ذلك بأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنقل عنه تفسير كل آية في
القرآن. فإن قال الصحابة رضوان الله عليهم بتفسير، فيما يخص الآيات الكونية، فهو
من الرأي، لأن هذه الآيات ليست من قبيل آيات العبادات والمعاملات والسلوك والتي
يتقدمون في فهمها على من وراءهم لقرب عهدهم بالنبي. أما الآيات الكونية، فليست مما
يستقى بالسلوك، ولابد لها من نقل. وحيث لا نقل، فلا مصادرة على من بعدهم في الحديث
عن معناها: الأرجح فالأرجح. وأهم وسائل الترجيح معاينة موضوع الآيات. ويُصدِّق ذلك
قول الله تعالى "سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا"(النمل:93)
2- تقول دوجما ثانية: أنه ما من آية أو كلمة أو عبارة في القرآن إلا وقد تم تفسيرها، وخاصة خلال الثلاث أجيال الأولى في الإسلام. فإن لم يكن الأمر كذلك، لكان هناك مما أنزل في القرآن ما لن تنكشف معانيه أبدا. وحيث أنه لن يكون هناك أي كشف تفسيري فيما بعد في القرآن طبقاً لـ (1)، فلابد وأن شيئا في القرآن سيبقى أبداً غير مستبين المعنى، وهذا خلاف حكمة الوحي التي قضت بأن ما أنزل في القرآن للبشرية (وليس للقرون الأولى فقط) مُبينٌ كله.
نرد على ذلك بأن هذه النتيجة غير ضرورية إلا إذا كنا في المشهد الأخير للحياة على الأرض، ولكن هذا غير واقع. فما زال باب الزمن منفتحاً ليجيب القرآن على مطالب الأجيال القادمة من البشرية؛ مما يعني أن هناك إجابات في القرآن لم تنكشف بعد، وذلك لأن ما يستدعيها من أسئلة لم تُطرق بعد. ومما يؤسف له أن هذه الدوجما القائلة بانغلاق المدونة التفسيرية على ما فهمه العرب عند نزول القرآن قد غمر الفكر الإسلامي التراثي، وانتشر حتى في تراجم معاني القرآن. فنقرأ في ترجمة عبدالله يوسف[1] لقوله تعالى" هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ"(آل عمران:7) ما لو أعدنا ترجمته إلى العربية: [فيه آيات بينات (أي: بينة المعنى) هن أم الكتاب، وآيات أخرى أتت على المجاز].
نقول: هذه الترجمة غير مقبولة لعدة أسباب، ونضع هنا ترجمة
نراها الأصوب. نقول فيها: [فيه (أي: القرآن) آيات محكمات المعنى؛ هن أم الكتاب:
وآيات أخرى أتت مبهمة
المعنى"]. ونلاحظ أن كلمة (متشابهات) في الآية، والتي ترجمناها (مبهمة
المعنى) قد فهمها مروجوا هذه الدوجمة على أن معناها (على المجاز). والراجح عندنا
أن فهم هذه الكلمة على هذا النحو فهمٌ خاطئ. كما وأن هذا الفهم يتوافق مع دوجما
انغلاق المدونة التفسيرية، لأن المجاز لو جاء في القرآن فلن ينتقل إلى حقيقة.
وطبقاً لدعوانا في هذه الدراسة، فإن هذه الآيات المبهمات لم يأت بيانها بعد –
وحتماً سيأتي حتى يكتمل تمام البيان القرآني - رغم ما تؤكده التفاسير التراثية من أن
وجوه معاني منغلقة. ويمثل هذا النوع من الآيات نطاق عملنا، والذي نبحث فيه عن صفات
أتت الآيات على ذكرها ذكراً صريحا، بحيث يمكن لنا أن نجد فيما خلق الله تعالى من
أشياء تحمل جملة هذه الصفات، ويمكن التعرف عليها وتمييزها. ونفترض هنا أن هذه
الطريقة في كشف المعاني المبهمة في القرآن ستظل قائمة بقاءاً تقاربيا مع الزمن ما
بقيت البشرية على الأرض. (وسوف يُؤذِن تمام بيان معاني القرآن بانتهاء المهمة التي
من أجلها نزل، ومن ثم القرب الشديد لنهاية الحياة الدنيا).
3- بموجب الدوجما رقم (1)
تصبح كل التفاسير التراثية مكافئة للقرآن فيما حواه من معان. وكل ما على المسلم أن
يفعله ليعلم معاني القرآن هو أن يرجع فقط إلى تلك التفاسير، وألا يتجاوزها جميعاً،
وإلا يكون قد نالته البدعة بقدر ما تجاوَز. ويصبح من غير المسموح به دخول تفاسير
جديدة في رحاب الإسلام، مهما جاء أصحابها باستدلالات، ومهما تمثلت عليها من الصدق
أمارات. ولا بأس عند أصحاب هذه الدوجما أن تُعتبر جملة التفاسير التراثية جزء لا
يتجزأ من الإسلام، مهما حوت من محض خواطر غير مدعومة! ... ولا حرج عند أصحاب هذه
الدوجما من ذلك! .. فالحقيقة لا بد أن تكون كامنة فيما دوّنه التاريخ من أصوات
أصحابها. ويصبح الاجتهاد الوحيد المسموح به هو أن يستطيع المتدبر اقتناص تلك الأصوات،
دون أن يضيف صوتاً جديداً، وإلا كان صوتاً شاذا. وأي معاني جديدة حتما ستكون شاذة،
إلا أن تكون محض صياغة جديدة لمعاني قديمة. وعلى هذا المنوال يصوغ أصحاب الدوجما
حجتهم.
4- وهنا دوجما أخرى لا تقل جنوحاً عن سابقتها، ونجدها في ذلك الإهمال التام للكشوف العلمية الجديدة. فأصحاب هذه الدوجما على قناعة تامة بأن الإسلام مكتفٍ ذاتيا. ولا ينبغي التنقيب في معاني أي آية في القرآن إلا فيما ساد في ثقافة عرب القرن الأول الهجري، السابع الميلادي، والمتضمنة في التفاسير اللغوية الحاوية لتلك الثقافة. وكيف لا يكون الأمر كذلك، وأفضل من له أن يفهم القرآن هم العرب الأوائل الذين تلقوا الوحي غضَّا ندياً بحسب لسانهم الخالص. وليس للإسلام أن يُفهم استنادا لأي رؤى للعالم غير محتواة في ثقافة ذلك الجيل الأول. ومما يزيد الأمر سوءا – عند أصحاب هذه الدوجما - أن الكشوف العلمية الجديدة في الزمن الحديث، دائماً ما تأتي من غير المسلمين. لذا يقولون: كيف يكون هناك فهمٌ جديد لمعاني آيات القرآن ويعتمد على مساهمات من غير المسلمين (هكذا يفكر أصحاب هذه الدوجما)؟!
ويمكن إعادة صياغة العبارة السابقة كالآتي:
قام تفسير الآيات القرآنية بالأساس على تصور افتراضي سكوني للعالم، تمثل في تصورات
الناس في القرون الثلاثة الأولى بعد نزول الوحي. مع استبعاد صامت ومُطْبِق على أي
إمكانية لتعديل هذا التصور. ولكن، ومع تراكم المعارف عن الوجود والتي تطورت آليات
جمعها في القرون الأخيرة على وجه الخصوص، كان لا بد لها أن تُؤخذ بالاعتبار، وتدفع
دوماً وبشدة إلى إعادة النظر في كل التفاسير ذات الارتباط، وترصد التحديثات
اللازمة على موروث التفاسير الذي ظهر خطؤها، والتي سقطت مع سقوط ثقافاتها
اللادينية المصدر. إلا أن مثل هذا الإجراء مرفوض وبعنف من قِبَل كثير من المدارس
الأكاديمية الإسلامية الموروثة في بنيتها المنهجية، والتي ما زالت تدَّرس هذه
المنهجية على مدار 10 قرون أو يزيد، وبلا أي تحديث معرفي.
5- دوجما أخرى، نجد فيها أن "العمل
الصالح" مقصور على التعبد وإقامة الفروض والأنساك بحسب الأمر الإلهي العام
لكل مسلم. ولا تكاد تجد في الأغلب الأعم من التفاسير التراثية ذلك العمل الصالح
الذي وازعه النظر العملي في خلق الله تعالى، واستقصاء أسرار الخلق، وصناعة وسائل
تيسير أمور الحياة على الناس، حتى ولو كان تحت لواء مرضات الله تعالى. وكأن الله
تعالى لا يرضى عن عباده إلا إذا كانوا فقط عباداً في محاريبهم؟! وكأن الله تعالى
لم يهدنا سيرة ذي القرنين مدحا وقدوة للمؤمنين المستخلفين في الأرض ليسيروا على
منواله. وإذا كانت هذه الأعمال الصالحة – نقصد " النظر في الخلق واتباع
الأسباب" – نادرة في الماضي، إلا ممن كانوا في مستطاعهم تيسير الحياة على
أهليهم ومجتمعهم بالمألوف من الأسباب، مما يُعذر به المسلمون في الماضي بعض العذر،
إلا أنه لم يعد عذرا في العصور الأخيرة بعد انفتاح أبواب الأسباب والتمكن في
الأرض. والتصق ذلك المعنى التعبدي الطقوسي على أنه المعنى الوحيد والفريد للعمل
الصالح في الإسلام. ولا نكاد نجد دراسات أكاديمية إسلامية في هذا المنحى يُلتفت
إليها، دع عنك غياب السياسات الوطنية التعليمية التي تُضَمِّن مناهجها الأعمال
الصالحة الشاملة لاكتشاف الثروات وسبر أغوار الأرض، وطَرْق أبواب السماء سعياً
لامتلاك مقاليد الحياة، والإبداع في الصناعات المدنية والعسكرية .. إلخ. وإذا ما
حاورنا أصحاب هذه الدوجما في هذه المعاني، فإنهم سرعان ما يتهمونا بخلط الديني
بالدنيوي، وأن قول الله تعالى " قُلِ
انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .."(يونس
10: 101) وأمثالها (2: 164)، (3: 190) لا تؤخذ على محملها الظاهر (رغم أنهم أصحاب
الظاهر في الإلاهيات .. فإذا جاء الظاهر في الطبيعيات نُكسوا على رؤوسهم)، من حيث
أنها أوامر إلهية توجب امتثال المؤمنين لها بحسب القدرة عليها. والحاصل أنهم
يصنفون الأوامر القرآنية بحسب دوجمائيتهم، بدلاً من أن يصححوها بحسب القرآن. ولكن أنَّى
لهم، فمعاني القرآن هي ما فهموه، وليس وراءه من معاني مُرادة في القرآن! – فأي تحريف
للقرآن المحفوظ لفظه أشد من تحريف معانيه؟!
6- هذا وتمتلئ الكتب الدينية الإسلامية بالكثير من التفسيرات
الضعيفة المَحْمَل والخاطئة المعنى في أمور الخلق والأسباب الطبيعية، ناهيك عن
التفسيرات المغلوطة أو الفجة. والسبب أن هذه التفاسير قد دُونت عبر العصور الأقل
حظاً معرفياً في العلم بالخلق وأحواله. ومما يؤسف له أن هذه التفاسير مازالت
معتمدة بكل ما فيها من صواب وخطأ، سواء في الدراسات الجامعية، أو الدرجات العلمية الرفيعة،
وبدون أي تمييز علمي.
وربما يكمن الحرج من أي تهذيب لهذه التفاسير – مع وجوبه – في توقير
المفسرين السابقين لعظيم فضلهم، والخوف من اهتزاز الثقة بإنجازات تراثية محتفى
بها، أو النيل من مصداقية أصحابها المعرفية.
يُضاف إلى ذلك الهروب من أي تداعيات معقدة تنتج عن إجراءات التهذيب، وربما عدم
الاتفاق على مرجعيات تؤتمن على تلك المراجعة، وتحظى بالأهلية التامة، والإجماع
عليها، وخاصة في ظل غياب أي مشروعات معتبرة في مراجعة التراث، تصحح هذا الوضع غير
المقبول.
7- كان من المفترض أن تتميز ترجمة معاني آيات القرآن
باحتباك الصياغة وفصاحة العبارة وحرفية المعنى بمقاصدها الإلهية الخالصة. غير أنه
مما يؤسف له أن معظم الترجمات المنتشرة قد استندت إلى المعاني المتداولة في تفاسير
القرآن المختلفة، عبر العصور المتتابعة، صراحةً أو ضِمناً، وبما تحمله من ثقافات
المفسرين في أمور الخلق؛ والتي جمعت بين الاختلاف عن بعضها، والافتراق عن حقائق المخلوقات
التي ظهرت في العصر الأخير. وتُعد هذه التفاسير الثقافية - المتزمِّنة بزمنها - شديدة
الخطورة. والسبب ببساطة أنها غير معصومة من الخطأ على
العموم، وبعضها منكشف خطؤه، وكثيرٌ من تلك الأخطاء يمكن
تمييزها بيسر بواسطة المتخصصين في العلوم الحديثة بأدلتها. وكثيراً ما صادفتنا تلك
الأخطاء وساءنا تمريرها من المترجمين ولجان التحرير. وسوف يلاحظ القارئ بعضاً منها
في الصفحات التالية، وصوراً من اقتراحاتنا باستبدالها بمعاني مشهود لها بالصدق أو
الترجيح من واقع آيات الخلق المقصودة في الآيات، ثم ترجمتنا لتلك المعاني إلى ما
هو أقرب إلى الحق.
8- قامت أغلب مدارس الفقه والتفسير الإسلامية على
آراء العلماء الذين أسَّسوها، أو نُسبت إليهم؛ لِعُلو شأنهم وقوة حججهم. ويمكن
للتحليل المعرفي والمعلوماتي المعاصر أن يُسهِم في تفكيك كثير من الآراء المختلف
فيها بين تلك المدارس على أسس علمية. غير
أن الإيمان الدوجمائي لأتباع تلك المدارس يمنع أي إمكانية لقطع خطوات مأمولة في
هذا السبيل.
9- لا شك أن المواجهة واقعة – شئنا أن أبينا - بين القرآن
كمصدر معرفي، والعلم الحديث بصفته المُتحدث الرسمي الوحيد المسموع الكلمة عن
المعارف الحادثة وموضوعاتها. ولن يمكن لأحد تجنب أو إنكار هذه المواجهة سواء كانوا
علماء مسلمين يستشرفون آفاق العلم ومصادره المباشرة: القرآن والواقع الحسي، أو غير
مسلمين يتأملون النيل من مصداقية القرآن. غير أن المسلمين الذين نالوا قسطا وافراً
من العلوم الغربية ومنهجيتها لا يتصورون أي تدخل للقرآن في علومهم المُكتَسَبة المحتفى
بها، ناهيك أن يصل هذا التدخل إلى تصحيح القرآن لعقائدهم العلمية الغربية الجديدة
بشيء مقرر من قديم أو جديد تفسيراته. وعلى العكس من ذلك، نجدهم يقبلون تدخل العلم
الغربي وتقريراته العلمية على أفهامهم التي ورثوها عن القرآن، بافتراض أن لهم حظاً
في تقرير ذلك. وليس لهذا الوضع المختل منهم إلا أن يكون موقفاً متحيزا، ومواجهة
غير عادلة، تدفع بقوة مرة بعد مرة إلى مساواة العلم بـ "فلسفة الحياة"،
ومساواة الدين – وأي دين بما فيه الإسلام القرآني – بـ "فلسفة الموت". فيكونون
بذلك قد قضوا على الدين وهم لا يشعرون. ولا يتحمل هذه المسئولية إلا رعاة الدين
الذي نكصوا على أعقابهم في الدفاع عنه، وفروا من المعركة العلمية فراراً أشد جُرما
من الفرار يوم الزحف.
10- إن المتفحص الخبير بالأسس الإمبريقية (أي:
التجريبية) للعلوم الغربية لا بد وأن يُلاحظ أن قوة صدقها المعرفي ليست تامة، وغير قابلة للاستيفاء.
والنتيجة المتوقعة لذلك أن يتعاقب ظهور المعضلات والألغاز العلمية بين الفينة
والأخرى هنا وهناك. وما من ملجأ متوقع للخروج من هذا الوضع بسبب اعتماد المنهجية
العلمية الغربية الراهنة على تقليدين يُستخدمان بلا حرج؛ ألا وهما: التخمين – وإن
تجمَّل بأنه مدروسeducated guess أو أنه
ارتقى كحقيقة –، ثم مرامي
فكرية استهوت أصحابها. فإذا ما كشفنا عن الإفادات المعرفية في القرآن في هذا الشأن
العلمي الشائك أو ذاك، وزاوجنا تلك الإفادات بالأصول الإمبريقية التي نطقت بها
التجارب والأرصاد، لحصلنا من ذلك على حلول لتلك المعضلات والألغاز أو شارفنا. وليس
هناك من عائق أمام تحقيق مثل هذا الإنجاز إلا غياب مؤسسات أكاديمية وثيقة الصلة
بهذا الشأن، بحيث تكون قادرة وداعمة للجهود العلمية الفردية والجماعية، ورسم
وتنفيذ الاستراتيجيات البحثية والتعليمية.
11- انتشرت دعاوى "الإعجاز العلمي في القرآن" بين
غير المتخصصين، وإلا لكانوا أشد تحفظاً. وتكاد تكون أغلب تلك الدعاوى غير حاسمة،
ولا نهائية، وإن لم تكن، فقيمتها العلمية دون المعايير المقبولة. أما الخاطئ
والزائف فيهطل من كل حدبٍ وصوب. وهذا الوضع يستدعي إنشاء مؤسسة ذات مسئولية علمية وأهلية
تحكيمية لمراجعة وتقييم تلك
الدعاوى بأدلتها، وذلك قبل أي نشر إعلامي على مستوى التفسير العلمي المقبول،
ناهيكم عن الإعجاز العلمي. ويجب أن تمر عمليات استخلاص الآيات القرآنية ذات الطابع
الإعجازي بسلسلة من المقارنات والتقييمات والتمحيصات بين دلالاتها وتلك التي ترجحت
لها الأدلة في العلوم الحديثة في موضوعها. ثم إن هذه الإجراءات يجب أن تتم على أيدي
علماء جمعوا بين الخبرة في التفسير القرآني والخبرة في العلوم المتخصصة القائمة
على التجريب والرصد. ثم يصقلون ذلك بالخبرة المتنامية في آليات الجمع بين الجهتين
بمنهجية خاصة تراعي خصوصية كل جهة، ثم وحدة الموضوع وما يستدعيه من آليات جديدة
ندعو إلى مثلها في هذه الدراسة. ولكن، أين هي المؤسسات الأكاديمية التي تؤتمن على
هذا العمل العلمي الاجتهادي الذي لا مناص عنه؟!
12- إن التمحيص المتتابع أمر
لا مفر منه في المجالات المعرفية؛ الطبيعية أو الثقافية أو الاجتماعية، واعتماداً
على الثقافة السائدة؛ أين ومتى تحدث دوافعها. ويستلزم ذلك إعادة النظر في التفسير
القرآني والفتاوى العلمية المتفرعة عليها للوفاء بجديد المعلومات في كل مجال والبناء
المعرفي المستند إليها. ويجب الانتباه إلى أن المعرفة المتحصلة من أي مصدر كان
إنما هي معرفة إنسانية التصور، حتى ولو كانت لكتاب الإسلام المقدس؛ القرآن. أما
ثبات كلمة الله تعالى ودلالاتها الحقيقية فلا تقارن إلا مع ثبات قوانين الطبيعة،
وليس مع هذا الظرف الحضاري أو ذاك كما هو حال أفهامنا. بمعنى أنه ليس هناك من حرج
في تصحيح أفهامنا لمعاني آيات الله تعالى تباعاً، كما هو الحال مع تصحيح أفهامنا
لقوانين الكون الناتج عن مزيد من الرصد والإدراك والتنظير والتصحيح. ومما يؤسف أن أغلب
الباحثين في تفسير كلام الله تعالى عن موجودات الخلق لا يدركون ذلك، ويتمسكون
بالنظرة السكونية للحياة والعلم. وهذا هو السبب في تمنُّعهم ومقاومتهم لأي تعديل –
يستدعيه التطور العلمي المتلاحق - على تصوراتهم المفاهيمية لمعاني تلك الآيات.
فتكون نتيجة ذلك تأخرهم، ومعهم أتباعهم، عن ركب الحياة. ثم يجيء الأثر السلبي لذلك
بحجر القرآن عن آدائه لمهمته التي أنزل من أجلها. ثم ما يتبع ذلك من غير المسلمين من
نظر استنقاصي للإسلام على أنه دين تاريخي كغيره من الأديان، وأنه قد تجاوزه الزمن.
13- رغم أن الإسلام قد شارف على منتصف الألفية الثانية
منذ نزوله من السماء، إلا أن العديد من النزاعات الفكرية بين المدارس الإسلامية ما
زالت متقدة تحت الرماد منذ اندلاع شراراتها في القرون الأولى منه، أو متأججة هنا
وهناك بفعل انتشار المعلومات والمناكفات وتقاذف اتهامات أهل التقليد والأتباع عبر
وسائل الاتصال. والغريب أن كثيراً من هذه النزاعات يمكن أن تُسوَّى بسلام وتذوب مع
ارتقاء الأفهام لو استُحضر العلم الحديث – وفقط العلم الحديث - بأدلته وما تقرر
منه إلى حلقات النقاش. غير أن المعاصرين من أصحاب هذه النزاعات لا يؤمنون بأي دور
معرفي للعلم الحديث في مسائل الخلاف، لا فحواه ولا جدواه. وهنا تكمن المعضلة؛ فالمريض
لا يؤمن بالعلاج، فكيف له أن يشفى؟! .. هو ومن انتقل إليهم عدواه.
14- لا يخفى الهجوم الشامل الذي يتعرض له الإسلام والموجه
لخدش مصداقية القرآن[1]،
والمستند إلى معلومات مزعومة العلمية؛ إما منقوصة أو جدلية أو خاطئة، بالإضافة إلى
إحياء تفاسير تاريخية باطلة تخدم أغراض المهاجمين. ويحشد أصحاب هذا الهجوم في سبيلهم هذا عدتهم العلمية وعتادهم الفكري
وشبهاتهم المضلة لإيهام المعاصرين بأن القرآن غير إلهي المصدر. وموقف هذا شأنه من
الخطورة، يستدعي فوراً تأسيس مؤسسة علمية قرآنية تتحمل مسئولياتها تجاهه.
15- لا بد أن يلحظ المتتبع
لمشاريع التجديد الإسلامي عبر القرنين الأخيرين أن الفشل المتتابع لهذه المشروعات
يشير إلى غياب شيئٍ ما. فإذا ما جمعنا الخبرات التي تراكمت جراء فشل هذه
المحاولات، مع تحليلنا التشخيصي الوارد أعلى للأسباب الكامنة وراء الأزمة التي
نعانيها، إضافة إلى المنهجية التي نعرضها في الصفحات التالية، فإنه يترجح عندنا
أننا بصدد تشييد مشروع إحيائي واعد وناجح. ويجمع بين قابليته للتطوير وتجاوزه لما
تعثرت فيه المشاريع السابقة.
تمثل
التحديات السابقة الأسباب التي تعوق معرفة الناس بالإسلام الحقيقي اليوم. وهي ليست
جزءاً من الإسلام القرآني الخالص، ولكنها أُقحمت في البناء الإسلامي الشامخ أو
عليه إقحاما، أو ربما غفلةً وسهوا. وفيما يخص التحديات سالفة الذكر، فربما قَصُر المسؤولون عن إدراكها،
أو التأهل الضروري للتعامل معها. ولهاتين الصفتين عاقبة أليمة، ألا وهي وصم
"الإسلام القرآني الخالص" بما ينال منه. والحقيقة أن هؤلاء المسؤولين قد
ارتكبوا خطأً ثلاثيا؛ الأول تجاه الإسلام، والثاني تجاه المسلمين، والثالث تجاه
غير المسلمين. وكانت عاقبة تلك الخطايا حجب الناس عن الإسلام الخالص. وقد حذرنا
االله تعالى من الوقوع في مثل هذا الخطيئة عندا علمنا سبحانه أن نقول: "رَبَّنَا لَا
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ"(الممتحنة 60: 5)
جاري النشر ... تباعا إن شاء الله