كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ19) عبدالمجيد عبدالسلام المحتسب
بقلم: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الدكتور
عبدالمجيد المحتسب -رحمه الله- [2]،[1]:"كيف يجعل (الشيخ محمد عبده) عدم تناقض العلوم مع القرآن ضرباً من ضروب
إعجاز البشر؟ .. القرآن كتاب الإسلام، والإسلام دين سماوي جاء لتنظيم علاقة
الإنسان بخالقه وبنفسه وبغيره من البشر، ولم يكن كتاب علم حتى ينسجم أو يتناقض مع
مستحدثات العلوم."
يرى الدكتور
المحتسب هنا أن القول بعدم تناقض العلوم مع القرآن لا يجوز، والسبب عنده أن القرآن
لم يكن كتاب علم. أي أن العلة بين القرآن والعلم الحديث – التي هي احتواء القرآن
على (شيء من) العلم (الغربي) - مُنْفَكَّة، ومن ثم فمبدأ المقارنة لا يجوز عنده
سواء بالانسجام أو التناقض. ولكننا نجد نفس الكاتب يقول في موضع آخر[3]:
"حَسْبُنا أن القرآن لم يصادم – ولن يصادم – حقيقة من حقائق العلوم تطمئن
إليها العقول". وهذا تناقض صارخ من الكاتب في جمعه بين إيجاب القضية
وسلبها!
فإن قيل أنه
في الإيجاب يتكلم عن حقائق العلوم، وفي السلب يتكلم عن العلوم، قلنا: وهل يُقبل في
المقابلة بين القرآن والعلوم غير حقائق العلوم؟! – ولكن الكاتب قد نفي مبدأ
المقابلة لانفكاك العلة، ولو كان يميز بين العلوم وحقائق العلوم في التصريحين
لاستوت العلة، وتصبح المقابلة بين القرآن وحقائق العلوم أيضاً ممتنعة. وبالتالي
فهو لا يميز بين هذه وتلك في حالة تمسكه بالعلة التي قصدها. والنتيجة أن الكاتب
نفى في موضع عين المسألة التي أجازها في موضع آخر، وهذا يُسْقط مُستَنَدَه في
القولين جميعاً، حتى لو تصادف لاحقاً أن قال أن إحداهما صحيحة. وعندنا أن العلة
التي جاء بها – وهي أن القرآن ليس بكتاب علم – غير صحيحة، بل الصحيح أن نقيضها هو
الصحيح، أي أن القرآن كتاب علم (إلهي) صادق، ولأنه كذلك، فلا بد وأن ينسجم أو
يتناقض مع المقولات/النظريات العلمية التي يدَّعيها البشر، وجاء له ذكر في القرآن
بالتصريح أو التضمين. وعندئذ تكون مؤاخذة الكاتب على الشيخ (محمد عبده) في غير
محلها، ويكون التصريح الأخير الذي صرح فيه الكاتب بعدم التصادم بين القرآن وحقائق
العلوم هو الصواب، رغم أنه نفى علة ذلك في أكثر من موضع من كتابه، ونقصد "أن
القرآن كتاب علم". بل هو كذلك بما لا مزيد عليه، مصداقاً لقول تعالى "قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ
لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا"(الإسراء:88)،
وبمعية أنه قد بُثَّ في القرآن حديثاً وفيراً عن الخلق، أي: علمٌ به لمن تدبره
بحقه.
يقول[4]:
"التفسير العلمي: هو التفسير الذي يتوخى أصحابه إخضاع عبارات القرآن
للنظريات والاصطلاحات العلمية وبذل أقصى الجهد في استخراج مختلف مسائل العلوم
والآراء الفلسفية منها."
نقول: هذا
التعريف غير صحيح. فليس هناك من أعمال البشر ما يسعى التفسير العلمي للقرآن لأن
يجعل آيات القرآن لها خاضعة. فكلام الله تعالى أعلى وأبهى. ولا يُقال هذا الاتهام
إلا لاستعداء القارئ على التفسير العلمي، قبل التنقيب والتحقيق في مغزى العلاقة
بين القرآن والعلم؛ إذ ما من مسلم صحيح الإيمان، إلا ويستنكر إخضاع كلام الله لكلام
البشر! .. وخلاصة الأمر في التفسير العلمي أنه ما من موضوع يجري دراسته - طبيعي
كان أو اجتماعي أو غير ذلك - ويتبين من استنطاقه بالبحث العلمي المجرّد المستقل عن
كلام البشر لمحض مقامهم، ما يتجلَّى على أنه في اتساق مع تفسير مقترح لكلام الله
تعالى عنه، ولا غبار عليه، إلا كان ذلك الاستنطاق (التجريبي/الواقعي/البرهاني)
تزكية لهذا لتفسير، ويصبح به التفسير المقترح عندئذ تفسيراً علمياً، بل ويتقوَّى
هذا التفسير إذا استنارت مقولاته بآيات القرآن، وكثيراً ما يحدث أن يتعمق فهم آيات
القرآن المرتبطة به، إذا كان ذلك التفسير صادقا.
هذا وإن عاند
هذا التفسير العلمي تفسيراً آخر، قديماً أو حديثاً، فالغلبة للأرجح، وليس للأكثر
ألفة، ولا للأفهم لمدارك العوام. فالله تعالى قد جعل في كتابه عطاءاً لكل المدارك،
"كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ
رَبِّكَ مَحْظُورًا"(الإسراء:20)، ومن أعوزه الفهم، واستثقل الحمل، وأبى إلا
تسوير القرآن بحدود فهمه، ورَسَـمه على قدر طاقته، فقد ضيق واسعاً، وحجر خيراً
وافرا، وتسلّط على ما لم يُحز، وصادر على كلام الله الذي أرسله للبشر إلى يوم
القيامة، فأنَّى له؟!
يقول[5]:
"إن جعل الارتباط بين القرآن وبين الحقائق العلمية المختلفة ناحية من
نواحي بيان صدقه أو إعجازه أو صلاحيته للبقاء، هو خلط بين علم التفسير وعلم إعجاز
القرآن. (ويستشهد بكلام العلّامة محمود شاكر في مقدمة كتاب "الظاهرة القرآنية" ص16-19)"،
(أنظر في ذلك الفصل (أ11))
نقول: لا
يستقيم هذا الكلام إلاّ عند من كان إعجاز القرآن عنده منحصراً في صورة كلام الله
تعالى دون معناه، أي: في نظمه دون دلالاته، أي: في هيئته دون تفسيره. فإن حدث وعثر
الباحثون على إعجازٍ في معاني آيات الله المنزلة، فيصبح ذلك – عند من كان هذا شأنه
– تداخلاً بين علمي التفسير والإعجاز. ولأن هذا عنده ممتنع بما تواضع عليه هو ومن
وافقه، منعه وحجره عن كتاب الله تعالى، وعرَّض بأن في ذلك دليلاً على فساد هذا
المنحى!!!
ونتساءل: أي
مواضعة تلك التي يتواضع عليها العلماء في تصنيفاتهم للعلوم، وتكون عائقاً عن مزيد
من الفهم، وغلقاً لباب هام من أبواب العلم؟! – ألا تستوي هذه المواضعة وما يتبعها
مع من يرفض تفسير نشاط الخلية الحية في المخلوقات النباتية والحيوانية بمعرفة
تركيبها الكيميائي، وحجته في ذلك: أن هذا المنحى ممتنع لأنه يُعد تداخلاً بين علمي
الأحياء والكيمياء؟! ... ومثلما أن هذا الاستدلال فاسد، فكذلك الأول.
يقول[6]:
"العلوم التي يعرفها العرب ليست بشيء، وأكثرها يعتمد على الملاحظة البسيطة
الساذجة الفطرية. فإذا كان ذلك كذلك فإن جَعْل القرآن معجزاً لأنه يحتوي بين
تضاعيفه أصول العلوم المختلفة، مُصادم لواقع العرب الغير العلمي، وبالتالي هو مصادرة
لإعجاز القرآن ونسف له من الجذور."
نقول: هكذا جعل
الدكتور المحتسب [واقع العرب غير العلمي؛ الفطري البسيط الساذج، وما يرتبط به من نظم
اللسان العربي] المعياران الضابطان لما يجوز أن يُطلق عليه إعجازٌ في القرآن
الكريم، أي حدّه الذي حُدَّ به، وأيُّما زعم لا يتحقق فيه هذان الضابطان، فهو إخلال
بالحد، ولا يرتقي ليكون إعجازاً للقرآن، بل ربما أنه مُعارض للإعجاز ونسف له من
الجذور كما قال. هكذا إذاً يجب أن يتحقق في إعجاز كلام الله معاني بسيطة ساذجة
فطرية (بتعبير الدكتور المحتسب)، حتى يصبح مُعجزا للبشر! أما أن يحتوى بين تضاعيفه
أصولاً لعلوم مختلفة؛ أي: حقائق معرفية، تتصادم مع العربي الأمي الساذج الذي يرعى
إبله وغنمه على الفطرة في الصحراء، فهذا نسفٌ لإعجاز القرآن!!!
هل يستقيم هذا
الوصف مع ما أنزله الله تعالى من كلامه العلي، ليَدَّبر الناسُ آياته حتى تقوم
الساعة، سواء منهم من كان من أهل الـمَدَر أو الحَضَر؟! – هل يستقيم هذا الفهم مع
ما وصفه رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بأنه الكلام الذي لا يشبع منه العلماء
مهما تناولوه بالمدارسة؟! – إن هذه الأوصاف من الله تعالى ومن رسوله الكريم لا
تناسب إلا ما كان ذاخراً بالعطاء، وافراً بالمعاني التي لا ينضب معينها، فأين ذلك
من المعاني الساذجة البسيطة التي يجب أن يفهمها العامي قبل العالم؟! وما الذي
سيطلبه العلماء من مزيد فهم في القرآن حتى يخرج عن طاقتهم أن يشبعوا منه من وفرته
وفائض ذخيرته؟!
يقول الدكتور
المحتسب[7]:
"إذا أمعنَّا النظر في التفسير المأثور، فإنَّا لا نجد فيه أي أصل من أصول
العلوم المختلفة التي يتبجح بها أنصار وأصحاب
الاتجاه العلمي في تفسير القرآن. وإذا كان النبي محمد عليه السلام لا ينطق عن
الهوى بل هو وحي يوحى، فهل يجوز – عقلاً وسمعاً – أن يُخفي الله عن نبيه أصول هذه
العلوم المختلفة كالهندسة والطب والفلك والكيمياء وغيرها لو كان القرآن يحتوي
عليها ويتضمنها؟!"
نقول أولاً:
ما كا يليق ألفاظ من قبيل "يتبجح"، والأليق أن يُقال: يزعُم، أو
يدّعي.
ثانياً: أن
عدم الإيجاد لا يعني عدم الوجود! كما هو معهود، في موازين العقل النظري والعملي
منذ قرون وعقود. فالتفسير المأثور فيه الكثير من التلميحات التي يفهمها المتخصصون
في العلوم المختلفة، ولا يدركها غيرهم، لأنهم أعلم بها. ناهيك عن أن ورود هذه
التلميحات قد أتت بألفاظ دارجة، وقد وضع لها لاحقاً من الاصطلاحات ما لا يدركها
العامي. ومثال لذلك ما قاله الزمخشري في قول الله تعالى "وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ"(الذاريات:7).
قال[8]: [الحُبُك: الطرائق، مثل حُبُك الرمل والماء إذا ضربته الريح، وكذلك حُبك
الشعر: آثار تثنيه وتكسره.".ثم جاء الزمخشري بشاهد من اللسان العربي (حتى
لا يقال أن الزمخشري كان معتزلياً، وتأويله مرفوض!) .. يقول:
قال زهير: (مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ... رِيحٌ خَرِيقٌ لِضَاحِي مَائِهِ
حُبُكُ)، والدرع محبوكة : لأنّ حلقها مطرق طرائق . ويقال: إنّ خلقة السماء كذلك.] -
إنتهى كلامه.
والآن، ما هذا
الذي يصفه الزمخشري بحبك الرمل والماء والشعر؟ - إنه ما اصطُلح عليه باصطلاح
(الأمواج)، أي ذلك الشئ الذي يتحرك حركة موجية. وقوله "إن خلقة السماء
كذلك" تعني بالاصطلاح المعاصر، إن السماء التي تعلو رؤوسنا وتشمل الفضاء
الذي تجوبه الأجرام السماوية، قد خلقها الله تعالى مشحونة ببنية موجية، أي
بالأمواج – دون الإفصاح عن ماهية هذه الأمواج.
والآن: ألا نَلْمَح
من هذا الوصف القرآني – حسب تفسير الزمخشري- علاقةً ما مع ما علمه الإنسان لاحقاً
ويتحكم الآن به ليل نهار ويُطلق عليه الأمواج الكهرومغناطيسية، ومنها الضوء الذي
يصلنا من الشمس، وأمواج الاتصالات بأنواعها؟! – وذلك دون الجزم بأن هذه الأمواج
بأنواعها المشهورة هي هي المقصودة، ولكنها تشترك في بنيتها الطبيعية – في بيئتها
من السماء- مع مع يمكن استنباطه باطمئنان من هذا الوصف القرآني.
أما قول
الدكتور المحتسب: هل يجوز – عقلاً وسمعاً – أن يُخفي الله عن نبيه أصول هذه العلوم
المختلفة كـ...،
فنقول: أما الحديث
عن رسول صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالتفسير العلمي، فإقتحام مسألة لا مستند
لنا به نفياً ولا إثباتا!. أما إخفاء هذا عن البشر حتى حين، فكما رأينا – في مسألة
حبك السماء- أنه لم يكن بها خفاء، إلا أن أجلها الذي أجَّله الله لها لم يكن قد
أتى بعد. وهل إذا حدث وفسره رسول الله لصحابته على نحو ما نعلم عن أمواج السماء
الآن، فماذا كنا نتوقع من انطباعهم عما يسمعونه منه إلا الالتباس والارتياب؟! أو
كما قال تعالى في مثل ذلك مما يستوجب انتظار أجل المعنى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ"(المائدة:101).
ورحم الله عبدالرحمن الكواكبي إذ قال في ذلك[9]:
"ما بقيت (هذه التصريحات والتلميحات) مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون
عند ظهورها معجزة للقرآن بأنه كلام ربٍّ
لا يعلم الغيب سواه".
يقول الدكتور
المحتسب[10]:
"هذا القرآن إما أن يكون من عند الله سبحانه، أو من عند العرب، أو من عند
محمد عليه الصلاة والسلام. ولا يمكن أن يكون من عند الأعاجم لأن العرب عجزوا عن
الإتيان بسورة من مثله، فالأعاجم بالضرورة أعجز. فالقرآن ليس من عند العرب. أما
محمد عليه السلام فكان يتلو الآية القرآنية ويقول الحديث في نفس الوقت. ومعروف أنه
عليه السلام كان يصوغ الحديث. فلو كان القرآن من عند محمد عليه السلام لكان أسلوب
الحديث هو نفس أسلوب القرآن. والمعروف أن القرآن يختلف عن أسلوب الحديث. ويدرك ذلك
كل من عنده رمق من فهم في العربية وأساليب التعبير العربي. .. إذاً فالقرآن لا
يمكن أن يكون من عند محمد عليه السلام، كما أنه لا يمكن أن يكون من عند العرب.
فالقرآن إذاً من عند الله سبحانه وتعالى وتعالى أنزله على رسوله محمد صلى الله
عليه وسلم بطريق الوحي. .. وهذه هي الطريقة الصحيحة لإثبات صدق القرآن وصلاحيته
للحياة، وليست طريقة إثبات نظريات علمية في القرآن الكريم."
نقول: هنا عدد
من المسائل:
الأولى:
أن الطريق إلى إثبات صدق القرآن وصلاحيته للحياة ، أي الإيمان به،
غير منحصرة بالضرورة في طريقة واحدة، حتى يقال أن الطريقة هي كذا وليس سواها.
فالقلوب متفاوتة، والملكات متباعدة. وكم سمعنا ممن أسلموا، ورأينا أن أسباب
إسلامهم ربما تتعدد بتعدد أسمائهم، فهل يعُد الدكتور المحتسب من يؤمن لأسباب غير التي
ذكرها أعلى مستنهج الإيمان.
ثانياً:
أنه في الـمَوَاطن التي لا يُحسم معها الأمر بالطريقة السابقة، يمكن أن يأتي من
يدعي في لسان آخر غير العربية – كاليابانية مثلاً- أن لديه كتاب مُوحى به، وأنه ليس
لمن يدّعيه، ولا لقومه، ولا لغير الناطقين بلسانهم، ومن ثم يكون – بزعمه - من
الله! هكذا يحتج! وعندئذ تستوي حجته وحجة الطريقة الواحدة التي يُفردها الدكتور
المحتسب ولا يُثَنِّيها. وعندئذ لا يكون هناك من ترجيح بين القرآن وبين ذلك الكتاب
المزعوم – في أيهما الصادق- إلا في قيمة محتوى كل منهما، المستقل عن اللسان، أي
للإعجاز المعرفي لكل منهما. فالأصدق معرفياً وهدايةً، هو الأرجح في ذلك (أنظر في
ذلك مقالة: كيف
يكون القرآن العربي معجزًا للأعجمي؟).
ثالثاً:
أن إنكار صلاحية التفسير والإعجاز العلمي تضع من ينكرهما في مأزق إزاء تفسير عدد
كبير من آيات القرآن، منها قوله تعالى "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ
وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"(فصلت:53)،
وقوله تعالى "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا"(الطلاق:12).
ففي الآية الأولى إنباء بأنه من آيات القرآن ما ستتكشف لها معاني ظاهره (آيات) في
الآفاق تشهد له بأنه الحق، وفي الثانية استشهاد بما سيعلمون في شأن - ما تتكلم عنه
الآية - على صدق ما قاله القرآن في أمرها. ... وقد نجد في التفسير بالمأثور من
يقول أن تلك الآيات ستتكشف في الآخرة، أو في صدر الإسلام بانتصاراته، وما تحقق من نبؤآت
كانتصار الروم على الفرس. ولكننا إذا انتبهنا إلى لفظ "الْآفَاقِ"،
وهو لفظ كما هو معلوم يُعدِّد مستقبلات الزمن وتَكَشُّف غيوبه من أحداث، نرى أنه
لا يستقيم المعنى إلا مع تتابع الآيات المشار إليها مع مر الزمان. ولا نرى هذا إلا
تتابعاً معرفياً تستقبله البشرية، على نحو ما يتحقق أمامنا، في زمننا هذا، شيء من بعض
مشاهده.
رابعاً:
أن الإعجاز العلمي يتعدى غرضه إثبات صدق القرآن، ونقصد بذلك أن التفسير العلمي حُجّة
على أصحاب العقول التي بها يتباهون، وبالحكمة يتغنون. فقد يعلم الله تعالى أن منهم
من لا يؤمن، ومع ذلك يُبْلِغه مأمنه، ويقيم عليه حُجّته، مثلما أرسل رُسلاً إلى أقوام،
وقد كتب عليهم الهلاك بما علم من أمرهم أنهم سيُكذّبون. وكذلك الإعجاز العلمي، إن
أصاب حاملوه في أداء أمانته، فهو حُجّة لله تعالى، ونصرٌ على أعدائه، وكفى بهم
فخراً أن يكون حَمَلَتُه لله ناصرين، وبِرُسُلِه مُتَمَثِّلين. .. أفَيَكون هذا أمرُهم، ومن علماء المسلمين من يمنعونهم ... ؟!!!
يقول[11]:
"القرآن فكرٌ من عند الله سبحانه. والعلم يعتمد على الملاحظة والتجربة
والاستنتاج. والعرب وسائر البشر لم يكونوا بحاجة إلى العلم لينقذهم من الظلم
والاستعباد بقدر ما كانوا بحاجة إلى فكر يجمعهم ويوحدهم ونظام ينظم علاقاتهم.
فالرقي الفكري شيء والتقدم العلمي شيء آخر."
كيف يجرؤ قائل
أن يقول أن (القرآن فكرٌ من عند الله) سبحانه ؟! – بل يقال: القرآن هُدَى
الله يهدي المؤمنين به إلى الحق في تصوراتهم وأفكارهم، عن الكون والحياة والموت
والأولى والآخرة. فالفكر يُنسب إلى البشر، وليس إلى القرآن. إنه كلام الله تعالى
ولا يقال أنه فكرٌ، مهما حدّه الواصفون بظنهم، وطمح المتفكرون الطامحون إلى احتواءه
بوهمهم، وهيهات أن يفعلوا.
أما التميز
بين الفكر والعلم على النحو الذي زكّى الدكتور المحتسب فيه الفكر وأثبته في الإسلام، وأنكر
العلم ونفاه عنه، فأمر بالغ الغرابة. إلا أن يكون قد خص العلم وقيده بما هو
للصناعات أقرب، وعن الفهم والوعي والتفسير أبعد. وإن كان قد فعل، فلا بد أنه كان
ينظر إلى العلم ويعايره بما أنتجته المصانع، وأفرزته المتاجر، ونشرت ثمراته الصحف
والمجلات، وبثته وسائل الإعلام، بما يأخذ ألباب العوام، ويوهمهم بمفاخر الابتكارات
والتقنيات ورونق الأحلام. إن كان هذا ما قصده، فالعلم عنده غير العلم، ويبدو أن الأمثلة
التي قد أتى بها تدعم ذلك التصور، وذلك حين قال[12]:
"قد يكون تفوق علمي ولا يكون رقي فكري البتة، والدليل على ذلك أن الولايات
المتحدة الأمريكية .. والاتحاد السوفيتي .. قد وصلتا إلى قمة التفوق العلمي .. ومع
ذلك فإن العالم يئن تحت ظلم هذين النظامين الفاسدين..."
نقول: إن
العلم الصحيح خلاصة الفكر القويم، وأن الفكر الصادق علميّ البرهان. ولا يبعد أن
تكون العلاقة بينهما كعلاقة النفس والروح. فالفصل بين الفكر والعلم بإثبات أحدهما
ونفي الآخر كالفصل بين الروح والنفس بالنفي والإثبات. وغني عن البيان أن يحالف
الموت الحضاري مَنْ فصل بين العلم والفكر، فقد يُستحضر علمٌ – أي صورته - دون أصل
من فكر، فإذا ذهب العلم لم يبق شيء! وما لم يُنشيء الفكرُ علماً، كان كإيمان بلا
عمل، وربما إسلامٌ بلا إيمان.
والقرآن حمل
للإنسان دواعي الفكر والعلم جميعاً، فشَرِب من شَرِب، وارتوى من ارتوى، وحيَّ من
حيَ، وأبَى من أبَى، ثم مات في الأحياء من لم يُلق إلى ذلك بالا. أو كما قال تعالى
"أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ
فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ
زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(الأنعام:122).
لذلك نقول أن
العلم أعم من الحرف الصناعية التي قصر الدكتور المحتسب تعريفه عليها. فالعلم أعم
وأشمل، والصناعات ليست إلا ثمرات من ثماره، وآيات من آياته. فلا ننفتن بالإعلام
والخداع والتزيين بأن التقنيات هي العلم كل العلم، ولا فكر. وأن الدين فكر كل
الفكر ولا علم، فهذا والله طمس للأفهام، و تشويه للمعقولات، وتلبيس في المعاني.
أما قوله بأن
"العرب وسائر البشر لم يكونوا بحاجة إلى العلم لينقذهم من الظلم
والاستعباد" فنرد عليه بقول الكواكبي يرحمه الله، إذ يقول[13]:
"لا يخفى على المستبد، مهما كان غبياً، أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت
الرعية حمقاء تتخبط في ظلامة جهل وتيه عماء، فلو كان المستبد طيراً لكان خفاشاً
يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشاً لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر
في غشاء الليل، ولكنه الإنسان يصيد عالـمُه (من المستبدين) جاهلَه".
ويقول
الكواكبي أيضا[14]:
"بين الاستبداد والعلم حرباً دائمة وطرداً مستمرا، يسعى العلماء في تنوير
العقول، ويجتهد المستبدون في إطفاء نورها، والطرفان يجتذبان العوام. ومن هم
العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنهم هم الذين
متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا."
يقول الدكتور
المحتسب[15]:
"الله سبحانه وتعالى لم يطلق للعقل البشري العنان في بحث كل ما ورد في
القرآن الكريم. لأن عقل الإنسان قاصر .. . وقد يضيع في متاهات إذا بحث بعض
الموضوعات. وغير قليل من الأحكام الشرعية لا تخضع للعقل ولا يمكن أن يُدرك كنهها.
ولا يعني ذلك أن الله سبحانه قد ألغى عقل الإنسان وصادره. فللعقل ميدانه الذي يبدع
فيه مثل الاجتهاد."
في الوقت الذي
نقرأ في كتاب الله تعالى قوله سبحانه "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ"(ص: 29)، ونقرأ قوله تعالى "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"(محمد:24)، ونقرأ قوله تعالى
"أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا"(النساء:82)، ... إلخ، نجد من يجيء
ويقول لنا: الله سبحانه وتعالى لم يطلق للعقل البشري العنان في بحث كل ما ورد
في القرآن الكريم. هذا مع أن الله تعالى كتب على كل إنسان ما كتبه على آدم،
إذا قال سبحانه "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"(البقرة:31)
ولم يستثن من الأشياء الـمُسمّاة شيئا، وقال تعالى "وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(الجاثية:13)،
ولم يستثن أيضاً شيئا، ثم يأتي من يقول: لأن عقل الإنسان قاصر، وقد يضيع في متاهات
إذا بحث بعض الموضوعات!
أما قوله عن
بعض الأحكام الفقهية أن غير قليل منها لا تخضع للعقل ولا يمكن أن يُدرك كنهها، فيجاب
عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب حامل
فقه لا فقه له](مسند أحمد).
يقول الدكتور
المحتسب[16]:
"لا جدال في أن جَعْل القرآن معجزاً لأن آياته تشير إلى أصول العلوم له
خطر شديد على إعجاز القرآن، وإن شئت فقل إنه إتيان عليه من قواعده. فالعرب أمِّيون.
والقرآن الكريم تحدى العرب بأن يأتوا بسورةٍ من مثله فلم يستطيعوا، وقد سجل القرآن
عجزهم. وإذا قلنا إن بعض الآيات القرآنية تحوي أصول العلوم الحديثة، فمعنى ذلك أن
القرآن الكريم تحدى أناساً عاجزين ليس لهم حظ في العلوم بالمعنى الدقيق. ومن ثم
فالتحدي باطل من أساسه. وبالتالي فإن صحة نبوة محمد عليه السلام باطلة. وهذه
النتيجة المغايرة لواقع العرب وواقع مراد الله تعالى في القرآن إنما جاءت بسبب
إقحام القرآن في ميدان لا يمت إليه بصلة. وهذا لا يأخذ به إلا كل جاهل مكابر
بالمحسوس."
نقول: لا يصدر
التصريح السابق - والذي يقول بأن احتواء بعض آيات القرآن على أصول العلوم إتيان
على إعجاز القرآن من قواعده – إلا عمّن امتلأ قناعة بأن إعجاز القرآن ليس إلا في
بلاغته ونظمه وسبكه! .. أما غير ذلك من الزعم بإعجاز مباين لعين النظم، مُضافٌ
إليه، ويطال ما وراءه من معاني ومرامِي، فيؤدّي – كم قيل أعلى- إلى أن القرآن قد أعجز
العرب بما لا قبل لهم به!!! ولأن هذا غير مُتَصَوَّر الحقيقة عند صاحب الكلام في
حق القرآن، ومستَهْجن من قارئ كلامه، فسيكون هذا الزعم الجديد – أي الإعجاز العلمي-
إبطال للتحدي القرآني من أساسه، وإبطال - من ثم - لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم!!
هكذا تحولت
المزية إلى ذراية، والفضيلة إلى نقيصة! وهكذا أصبح الإعجاز العلمي ارتكاس! وهكذا
أصبحت ضحالة المعارف في الجاهلية معيار للمستوى المعرفي الذي جاء به القرآن ليهدي
به للبشرية جميعاً إلى قيام الساعة. وأصبح التحدي فقط لهم، والمعاني معانيهم،
والتصور تصورهم، وعندئذ، وفقط عندئذ، وفي إطار هذا المعنى الجاهلي، سيَصْدُق قول
محمد أركون[17]،
وتلميذتُه جاكلين شابي[18]،
في أن رب القرآن، رب العالمين، هو فقط رب عوالم العرب، أي، كما قالت - وأيَّدها أركون[17]-:
هو [رب القبائل] !!![19] –
تعالى الله العظيم، رب العرش العظيم، رب السموات السبع والأرضين، ورب الناس - عجماً وعرباً - أجمعين، ورب ما خلق من شيء إلى يوم الدين،
عن مثل هذه التُّرّهات، بل الافتراءات الممجوجات، وما تؤدى إليه بعيداً عن الحق من إغرابات، بل هي في الإفك والضلال خائضات ... بل عابثات غارقات.
أي انقلاب
لمنطق الفهم، وأي انحسار لدين الله الرحب، وأي إصرٍ وأغلالٍ على أفاق الأفهام
يضعها بعض من المسلمين على كتاب رب العالمين! .. وفقط لأنهم لـمّا يستوفوا العلم
بمواضع فتواهم، وقد أدلوا دِلاهم على قدر أذرعهم – فلما عادت فارغة، قالوا: وصلنا
إلى القرار، .. قد جفت الآبار؟!!! ... والغريب، أن من يسعى إلى الخروج من زنازين الفكر
هذه، يصبح بعبارتهم [جاهل مكابر بالمحسوس].
ولو علم
القائلون بهذا الكلام أنهم سحبوا رتبة (العلم) التي أتى بها القرآن من القرآن
ومنحوها لأهل المحسوس المقصور المبتور، لأدركوا الجريمة المعرفية التي اقترفوها،
ولما قالوا ما قالوا.
ولو علموا
أنهم فتحوا أبواب النَيْل من القرآن وهتك أستاره، وانحباسه في الأفق القَبَلي،
لمثل محمد أركون والـمُنكرين لمصدرية القرآن الإلاهية، وعموم رسالة الله للعالمين،
لما قالوا ما قالوا.
ولو علموا إلى
أي مدى يُصادرون على القرآن بأفهامهم المقيدة بالمكان والزمان، لندموا على ما
قالوا، ولَسألوا الله العفو والمغفرة، ... غفر الله تعالى لنا ولهم أجمعين ...
آمين.
المؤلف
عودة إلى فهرس الكتاب
[1] عبدالمجيد عبدالسلام المحتسب (1937 - 2012)م، أستاذ دكتور من الأردن، حصل على الدكتوراة تحت
إشراف شوقي ضيف (أنظر الفصل
(أ15)) من جامعة القاهرة سنة 1968، وكانت الرسالة بعنوان "منهج ابي حيان في تفسيره البحر المحيط"، له عدد من المؤلفات،
منها: "اتجاهات التفسير في العصر الراهن"، و"نقائض جرير والاخطل"، و" ثلاثة كتب في ميزان الإسلام"، و"طه حسين مفكراً".
[2] عبد المجيد المحتسب " اتجاهات التفسير في العصر الراهن"، ص 130.
[3] السابق، ص 323.
[4] السابق، ص 247.
[5] السابق، ص 314-315.
[6] السابق، ص 317.
[7] السابق، ص 317-318.
[8] جار الله الزمخشري،
"تفسير الكشاف".
[9] عبدالرحمن الكواكبي،
"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، ط3، دار النفائس، لبنان، 2006، ص
61.
[10] عبد المجيد المحتسب "
اتجاهات التفسير في العصر الراهن"، ص 320.
[11] السابق، ص 321.
[12] السابق، نفس الصفحة.
[13] الكواكبي، طبائع الاستبداد، ص
65.
[14] الكواكبي، طبائع الاستبداد، ص
67.
[15] عبد المجيد المحتسب "
اتجاهات التفسير في العصر الراهن"، ص 321.
[16] السابق، ص 322.
[17] "الفكر الاصولي و استحاله
التاصيل- نحو تاريخ اخر للفكر الاسلامي"، محمد أركون، ترجمة هاشم صالح، دار
الساقي، 1999، ص49-53، 138.
[18] Jacqueline Chabbi : Le
Seigneur des tribus. L’islam de Mahomet. Paris.1997
رب القبائل. إسلام محمد، منشورات نويزيس، باريس 1997.
[19] راجع في ذلك الفصل [(ز8) محمد
أركون] لاحقاً - إن شاء الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق