من كتاب: فتاوى شرعية في النظرية النسبية
الفصل الثالث: لماذا وكيف أنشأ أينشتاين النظرية النسبية
الجزء الأول: عندما تكلم أينشتاين وقال: هكذا اخْتَرَعْت النظرية النسبية، وهذا هو معناها
بقلم وترجمة: عزالدين كزابر
بقلم وترجمة: عزالدين كزابر
روابـــــط
عودة إلى فهرس الكتاب: فتاوى شرعية في النظرية النسبية -
محاضرة ديراك: السنوات الأولى للنسبية ولماذا يومن بها الفيزيائيون
محاضرة ديراك: السنوات الأولى للنسبية ولماذا يومن بها الفيزيائيون
لماذا وكيف أنشأ
أينشتاين النظرية النسبية
تمتلئ أدبيات الفيزياء على مدار القرن العشرين –
والحادي والعشرين أيضا - بتحليل وتأويل مبعث النظرية النسبية. وقد اختلف الباحثون؛
الفيزيائيون، والمؤرخون في العلوم، والفلاسفة، والكتاب على تشعُّب مشاربهم،
اختلافاً كبيراً في ذلك. وأصبحت مكتبة النظرية النسبية وحدها تُضاهي مكتبة
الفيزياء جميعاً في غير النسبية أو ما يتعلق بها، وإلى أن أصبح تتبُّع هذا الأمر
شديد العسر على المتخصصين أنفسهم! .. هذا إذا أراد أحدهم أن يقف على كل شاردة
وواردة، .. ناهيك عن أن يُصوِّب قولاً أو يُخطِّأه.
وبعد عدة عقود وأنا أُبحر في لجج هذه النظرية، حتى
أعيتني مخابئها ومخارجها، ولكن دون أن تُحبطني. ولتحقيق الغرض من هذه الدراسة، وفي
هذا الكتاب الذي نحن بصدده "فتاوى شرعية في النظرية النسبية"، وجدت أن
أصدق الطرق وأقصرها لعرض هذه النظرية على المثقف العربي – ثم بغرض التحقق من أمرها
وصدق بواعثها - هو سرد أحداثها الأولى على لسان من اخترعها؛ (أينشتاين
(1879-1955))، ثم على لسان من عاصرها وشارك أكثر من غيره في تأسيس الفيزياء
الحديثة على قواعدها؛ (بول ديراك (1902-1984)). ...
وعلى هذا سأبدأ بأينشتاين، ثم أُتبعه بديراك (هنا)، لأقص
عليكم قصة هذه النظرية من مبعثها الأول:
قال أينشتاين: هكذا اخْتَرَعْت[1] النظرية
النسبية
في زيارة لليابان، وفي جامعة كيوتو، في 14 ديسمبر 1922،
سُئل ألبرت أينشتاين: كيف صنعت النظرية النسبية، فأجاب ارتجالا[2]:
[ليس من اليسير أن أقص عليكم كيف توصلْت إلى فكرة
النظرية النسبية. فقد كان هناك الكثير من التشابكات الخفية التي تتدافع عليَّ
بالأفكار. وكان لكل فكرة وطأتها التي تختلف بحسب المرحلة التي أنا فيها من رحلتي
في النسبية. ولن أذكر هنا كل هذه الأفكار، كما أني لن أذكر عدد الأبحاث التي
كتبتها في الموضوع، ولكني سأصف باختصار تطور الأفكار المباشرة ذات العلاقة
بالمسألة.
كان ذلك قبل أكثر من 17 سنة مضت (قال
ذلك سنة 1922، أي أنه يقصد: قبل سنة 1905) حين راودتني فكرة تطوير نظرية النسبية لأول
مرة. ورغم أني لا أستطيع أن أقول بالضبط من أين جاءتني تلك الفكرة، إلا أني على
يقين أنها كانت متعلقة بالخصائص البصرية (يقصد الكهروديناميكية) للأجسام المتحركة.
فالضوء ينتشر في بحر الأثير، والذي تجري فيه الأرض. بمعنى أن الأثير يتحرك بالنسبة
للأرض. وقد حاولت البحث عن دليل واضح لهذه الحركة في أدبيات الفيزياء المنشورة،
ولكن بلا جدوى.
ثم رغبت أن أتحقق بنفسي من مرور الأثير على للأرض،
بمعنى أن أتحقق من حركة الأرض فيه. وعندما فكرت في ذلك أول مرة، لم أكن أشك في وجود
الأثير، ولا في حركة الأرض خلاله. وفكرت في تجربة، تحتوي على اثنين من
مقاييس الحرارة ثنائية المعدن. وتتركب في التجربة مَرَايَا بحيث تنعكس أشعة الضوء
المنبعثة من مصدر ضوئي واحد عليها، وفي اتجاهيم مختلفين، أحدهما موازي لحركة
الأرض، والآخر معاكس لها. وإذا افترضنا حدوث فرق في الطاقة بين الشعاعين المنعكسين،
فيمكننا عندئذ قياس الحرارة المتولدة عن ذلك باستخدام مقياسي الحرارة المشار
إليهما. ورغم أن فكرة هذه التجربة شبيهة جداً بتجربة مايكلسون، إلا أني لم أضع هذه
التجربة موضع الاختبار العملي.
وفي الوقت الذي كنت أفكر في هذه التجربة أيام كنت
طالباً في الدراسة، حدث أن اطلعت على النتيجة الغريبة لتجربة مايكلسون. ولم ألبث
أن وصلت إلى النتيجة التي تقول أن أفكارنا عن حركة الأرض بالنسبة للأثير غير
صحيحة، شريطة أن تكون تجربة مايكلسون صادقة في نتيجتها السلبية في قياس تلك
الحركة. وكان هذا هو المسار الأول الذي قادني إلى النظرية النسبية. ومنذ ذلك الحين
أصبحت على قناعة بأنه لا يمكن اثبات حركة الأرض بإجراء اي تجربة بصرية (يقصد
كهروديناميكية)، بالرغم من أن الأرض تدور حول الشمس.
ثم كان لي فرصة الاطلاع على كتاب لورنس Lorentz الذي وضعه سنة 1895 (هنا نسخة مترجمة من هذا الكتاب). والذي ناقش فيه
مسألة حركة الـمُكهربات (يقصد: الديناميكا الكهربية، وبالمكهربات يقصد
الإلكترونات) وأنجز لورنس حلها على التمام في تقريب أوَّلي لها (ذو القيم v/c)
حيث v هي سرعة الجسم
المكهرب، و c هي سرعة الضوء. ثم
حاولت مناقشة تجربة (فيزو Fizeau)
(يقصد التي كان يقيس فيها سرعة الضوء في ماء متحرك) على أساس أن معادلات لورنس
لحركة الإلكترونات يجب أن تكون صحيحة في الإطار الإحداثي المصاحب لحركة الجسم،
مثلما هي صحيحة في الفراغ كما ذكر ذلك لورنس. وفي ذلك الوقت كنت على يقين ثابت بأن
معادلات (ماكسول/لورنس) في الكهروديناميكا صحيحة. والأكثر من ذلك، كان فرض صحة هذه
المعادلات في الإطار الإحداثي المتحرك يؤدي إلى مفهوم ثبات سرعة الضوء، مع أن ذلك
لا يستقيم مع قانون إضافة السرعات المعلوم في الميكانيكا. (يقصد جمع السرعات جمعاً
جبريا، v = v1 + v2)
ولماذا يتعارض هذان المفهومان ؟! (يقصد: مفهوم
"ثبات سرعة الضوء" ومفهوم "قانون إضافة السرعات") – أُقر بأن
هذا التعارض من الصعب جداً علاجه. فقد استغرقت عاماً كاملاً تقريباً في محاولة
تعديل فكرة لورنس على أمل حل هذه المشكلة.
وبمحض الصدفة، ساعدني صديق لي (هو: ميشيل بيسو Michele Besso) في ذلك. فقد كان يوماً جميلاً ذلك اليوم الذي
زُرته، مصطحباً معي هذه المسألة. وبدأت النقاش معه كالآتي: قلت: "كنت أعمل
مؤخراً على مسألة صعبة. واليوم، جئتك لنقتحمها سوياً". ثم تناولنا كل جوانب
المسألة. ثم حدث فجأة أن تَكَشَّف لي أين كان يكمن مفتاح حل المسألة. وفي اليوم
التالي زرته مرة أخرى وقلت له، وحتى قبل أن ألقي عليه التحية: "شكراً، فقد
عثرت على حل المسألة حلاً كاملاً". وكان الحل في تحليل مسألة الزمن. فالزمن
لا يمكن تعريفه تعريفاً مطلقاً، كما أنه توجد علاقة ارتباط وثيق بين الزمن وسرعة
الضوء. وباصطحاب هذه الفكرة استطعت حل كل الصعوبات حلاً كاملاً لأول مرة.
وخلال خمسة أسابيع، خرجت النظرية النسبية كاملة.
ولم أشك أن النظرية الجديدة كانت معقولة من وجهة نظر فلسفية. كما أني وجدت أن
النظرية الجديدة كانت على اتفاق مع مبدأ ماخ. وذلك خلاف ما عليه الحال مع النظرية
النسبية العامة والتي يتم فيها إدراج مبدأ ماخ عن عمد. فالحاصل أن مبدأ ماخ كان
مُتضمناً (وفقط) بشكل غير مباشر في النظرية النسبية الخاصة.
هذه هي الطريقة التي اخترعت بها النظرية النسبية
الخاصة.
أما النظرية النسبية العامة، فكانت بداية الأفكار
عنها بعد ذلك بعامين، أي سنة 1907. وجاءتني الفكرة فجأة. فقد كنت غير مسرور
من كون النظرية النسبية الخاصة مقيدة بالإطارات الإحداثية التي تتحرك بالنسبة
لبعضها فقط بسرعات منتظمة، ولا يمكن تطبيقها على الإطارات الإحداثية في عموم
حركتها. فانْصَبَّ اهتمامي على رفع هذا القيد، وأردت أن أصيغ المسألة صياغة عامة،
(فتصلح عندئذ لكل أنواع الحركة).
وفي عام 1907، طلب مني (جوهانز ستارك Johannes Stark ) أن أعد دراسة عن النظرية النسبية
الخاصة لُتنشر في الكتاب السنوي لدورية الإشعاع journal Jahrbuch der Radioaktivitat. وخلال إعدادي لهذه الدراسة انتبهت إلى أن كل
القوانين الطبيعية (يقصد المعروفة في ذلك الوقت، وخاصة الكهرومغناطيسية، وميكانيكا
نيوتن) يمكن احتواؤها في منظور النظرية النسبية الخاصة إلا قانون الجاذبية. وحاولت
أن أعثر على سبب ذلك، إلا أن الأمر استعصى عليّ.
وتلخصت الصعوبة في: أن العلاقة بين القصور الذاتي
والطاقة كانت صريحة في النسبية الخاصة، إلا أن العلاقة بين القصور الذاتي والوزن،
أو طاقة المجال الجاذبي، كانت غير واضحة. فشعرت أن هذه المسألة لا يمكن حلها في
منظور النظرية النسبية الخاصة.
وذات يوم حدث اختراق مفاجئ لهذه الصعوبة. حيث كنت
جالساً في مكتبي – مكتب تسجيل براءات الاختراع في بيرن - فجاءتني فجأة فكرة الحل؛
.. فإذا سقط إنسانٌ سقوطاً حراً ناحية الأرض، فلن يشعر بوزنه. فانتبهت واعتدلت في
جلستي. وقد تَرَكَتَ هذه التجربة الذهنية البسيطة أثراً بالغاً عليَّ. وقادتني إلى
النظرية النسبية العامة. تابعت التفكير. فالساقط سقوطاً حراً يسقط بحركة متعجلة.
لذلك، فكل ما يشعر به ويصدره من أحكام يحدث بحكم أنه في إطار إحداثي متعجل الحركة.
فقررت عندها أن أعمم النظرية النسبية على الإطارات الإحداثية ذات الحركة المتعجلة
(يقصد: بعد أن كانت في النسبية الخاصة مقصورة على الإطارات المنتظمة فقط). وشعرت
أني إن فعلت ذلك لربما أكون قد حللت مسألة الجاذبية في نفس الوقت. فالساقط سقوطاً
حراً لا يشعر بوزنه لأنه يتواجد في إطاره (المتعجل) مجالاً جاذبياً جديداً يلغي
المجال الجاذبي للأرض. بمعنى أننا في الإطار الإحداثي المتعجل نحتاج إلى
مجال جاذبي جديد.
ولم أستطع حل هذه المسألة حلاً كاملاً في ذلك
الوقت. وتطلب الأمر ثماني سنوات إضافية حتى تمكنت في النهاية من حل المسألة حلاً
كاملاً. وعبر هذه السنوات كنت أحصل على أجوبة جزئية لهذه المسألة.
وكان لـ (إرنست ماخ E. Mach) رؤية؛ وقد تمسك بها بشدة، وهي أن الأنظمة
المتعجلة في حركتها بالنسبة لبعضها؛ متكافئة. وهذه الفكرة تتعارض بشدة مع الهندسة
الإقليدية، لأنه لا يمكن تطبيق الهندسة الإقليدية في الإطارات الهندسية المتعجلة.
ويُعد وصفنا للقوانين الطبيعية بلا هندسةٍ ما، مماثلاً للتعبير عن أفكارنا دون
استخدام كلمات. فنحن دوماً بحاجة إلى كلمات لِنُعبِّر بها عن أنفسنا. والآن، ما
الذي نحن بحاجة إليه (من هندسة) لنصف مسألتنا؟ - لم أستطع الإجابة عن هذا السؤال
إلا عام 1912، عندما وقعت على فكرة أن نظرية الأسطح لـ (كارل فريديريك جاوس Karl Friedrich Gauss) ربما تكون مفتاح الحل لهذه المعضلة. ووجدت أن
إحداثيات الأسطح عند (جاوس) كانت مفيدة جداً لفهم هذه المسألة. وحتى تلك اللحظة لم
أكن أعلم أن (برنهارد ريمان Bernhard Riemann)
والذي كان طالباً عند (جاوس) كان قد درس أسس هذه الهندسة بعمق. وحدث أني تذكرت
محاضرة في الهندسة أيام كنت طالباً (في زيورخ) ألقاها علينا (كارل فريدريش جايزر Carl Fridrich Geiser) وكانت في موضوع نظرية (جاوس). ووجدت أن أسس
الهندسة لها معنى فيزيائي عميق في هذه المسألة.
وعندما عُدت إلى زيورخ من براغ، كان بانتظاري
صديقي الرياضي (مارسيل جروسمان Marcel Grosman).
وكان قد ساعدني من قبل بإمدادي بالمصادر الرياضية التي احتجت إليها وأنا أعمل في
مكتب براءات الاختراع في برن، حيث كنت أواجه صعوبة في الحصول على المقالات
الرياضية. وقد علمني أعمال (جورباسترو جريجوريو ريتشي Gurbastro Gregorio Ricci) ومؤخراً أعمال (ريمان Riemann). وقد تناقشت معه حول إمكانية أن تُحل المسألة
باستخدام نظرية ريمان، وأقصد باستخدام فكرة ثبات (عناصر الخط line elements). وكتبنا سوياً بحثاً حول الموضوع سنة 1913،
إلا أننا لم نستطع أن نحصل على المعادلات الصحيحة للجاذبية. وقد واصلت دراسة
معادلات ريمان لسبب وحيد هو الوقوف على العلل التي منعتنا من الخروج بالنتيجة التي
طمحنا إليها.
وبعد عامين من النضال، وجدت أني كنت قد وقعت في
أخطاء حسابية. وعدت ثانية ًللمعادلات الأصلية باستخدام نظرية الثبات (اللاتغاير)
وحاولت تركيب المعادلات الصحيحة. وخلال أسبوعين حصلت على المعادلات الصحيحة أمام
عيني.
وفيما يتعلق بأعمالي بعد عام 1915، أود أن
أذكر فقط المسألة الكونية (أي: شكل الكون). وترتبط هذه المسألة بهندسة الكون
وبالزمن. ويرجع أصل هذه المسألة إلى الأوضاع الحدودية للكون في النظرية النسبية
العامة، وما دار من نقاشات حول مسألة القصور الذاتي التي أثارتها فكرة (ماخ Mach). ورغم أني لم أفهم جيداً فكرة ماخ عن القصور
الذاتي، إلا أن تأثيره عليَّ كان شديداً.
وقد حللت المسألة الكونية بتطبيق مبدأ الثبات
(اللاتغاير) على الأوضاع الحدودية لمعادلات الجاذبية. وقمت أخيراً بنفي وجود حدودا
للكون، باعتبار أن الكون نظام مغلق. فكانت النتيجة أن ظهر القصور الذاتي كصفة
للتفاعل المادي البيني، وأنه يختفي إذا انعدمت مادة أخرى يقع معها التفاعل. وأعتقد
أنه بهذه النتيجة، يمكن أن تُفهم النظرية النسبية العامة فهماً معرفياً
(أبستمولوجيا) مُرضياً.
كان هذا استعراض تاريخي موجز حول أفكاري التي
اخترعت النظرية النسبية على أساسها.]
قال أينشتاين: وهذا هو معنى النسبية[3]
[مجلة التايمز اللندنية في
29 نوفمبر 1919]
لقاء يجمع بين ألبرت أينشتاين وأرثر إدنجتون
لا أملك إلا أن
أستجيب بكل سرور لطلب زملائكم في مجلة التايمز لكتابة شيء عن النظرية النسبية.
وبعد ذلك الانقطاع المؤسف للعلاقات السابقة والنشطة بين رجالات العلم (يقصد: بين
بريطانيا وألمانيا بسبب الحرب العالمية الأولى)، فإنه يُسعدني أن أغتنم هذه الفرصة
للتعبير عن مشاعر الابتهاج والامتنان للفلكيين والفيزيائيين في انجلترا. وبما يتسق
مع التقاليد العلمية العظيمة والفاخرة في بلدكم، فإنه يحق للعلماء الـمُبرَّزون أن
يبذلوا من جهدهم وأوقاتهم الثمينة، مثلما حق لمؤسساتكم العلمية ألا تدخر وسعاً، وذلك
في اختبار تداعيات النظرية (النسبية)، والتي تم تنقيحها ونشرها على أرض عدوكم
(ألمانيا) أثناء الحرب. ورغم أن التحقق التجريبي (الذي تولاه إدنجتون والفرق
الاستكشافية التي أرسلها) من تأثير المجال الجاذبي للشمس على الأشعة الضوئية
الآتية من النجوم، كان إنجازاً عملياً قائماً بذاته، إلا أني لا أستطيع أن أمنع
نفسي عن التعبير عن امتناني الشخصي لزملائي الانجليز لعملهم هذا (الذي أثبتوا به
صحة تنبؤآتي في النسبية العامة)، فلولا هذا الإنجاز منهم، لما ضمنت أن أعيش لأرى
أهم نتائج نظريتي تتحقق.
(وفيما يخص معنى
النظرية النسبية، أقول أنه:) يمكننا التمييز بين نوعين من النظريات في الفيزياء.
النوع الأول، والذي يشمل معظم النظريات، نجد أنها نظريات استدلالية تركيبية constructive. والغرض منها
بناء تصور للظواهر التفصيلية المعقدة، بحيث تؤول إلى، أو تُستخرج من مخطط استدلال
بسيط نسبياً. فمثلاً تسعى النظرية الحركية للغازات إلى تفسير العمليات الميكانيكية
والحرارية والانتشارية من خلال مخطط نظامي من حركة الجزيئات – بمعنى أن يبنى فهمنا
لها على فرضية الحركة الجزيئة. وعندما نقول أننا نجحنا في فهم مجموعة من العمليات
الطبيعية، فإننا نعني دائماً أننا ركَّبنا نظرية "استدلالية تركيبية" constructive
theory،
وأنها توفّي الغرض من تفسير متعلقها من العمليات الطبيعية الجاري دراستها.
وبجانب هذا النوع
الهام للغاية من النظريات، يوجد نوع ثاني سوف أسميه "نظريات تأسيسية" Principle-Theories. وهذ النوع يقوم
على طرق تحليلية، وليس تركيبية كما في النوع الأول. وتقوم هذه النظريات التأسيسية
على مبادئ تمثل أسس أو نقاط انطلاق تنبني عليها. وهذه المبادئ "تُكتشف إمبريقياً/تجريبياً"،
وليست مبادئ "تُركَّب افتراضياً" (كما هو الحال في النظريات التركيبية).
وهذه المبادئ المكتشفة إمبريقياً/تجريبياً تصف العمليات الطبيعية توصيفاً عاماً، ويمكننا
تقنينها وصياغتها صياغة معيارية رياضية، بحيث تلتزم بها وتنصاع لها آحاد العمليات
الطبيعية المنطوية تحتها. ومن ذلك علم "الديناميكا الحرارية" thermodynamics، الذي يسعى–
بالطرق التحليلية - إلى تعيين الظروف الضرورية، التي على آحاد المسائل أن تتقيد
بها، ومثال ذلك أنه: "من الحقيقة التجريبية العامة، يستحيل بناء آلة دائبة
الحركة".
وتتميز
"النظريات التركيبية" بـ (التكاملية، والقابلية للتكيف، والشفافية). أما "النظريات التأسيسية" فتتميز بـ (الكمال
المنطقي، ورسوخ الأسس).
وتنتمي النظرية
النسبية إلى هذا النوع الأخير؛ أي "النظريات التأسيسية". ولكي يتمكن
الناظر منها، ويقف على فحواها، فعليه - قبل أي شيء - أن يُلم بـ أسسها التي قامت
عليها. وقبل أن ألج هذا الأمر، يجب أن أشير إلى أن النظرية النسبية تشبه بناية،
تتركب من طابقين منفصلين؛ الطابق الأول هو: "النظرية الخاصة" أما الثاني
فهو: "النظرية العامة". وتُطبق "النظرية الخاصة" على كل
الظواهر الطبيعية باستثناء "الجاذبية المادية" والتي تُعنى بها
"النظرية العامة". أي أن "قانون الجاذبية"، وعلاقاتها بالقوى
الطبيعية الأخرى في الطبيعة، هي فقط ما تتولاه "النظرية العامة".
وقد كان معروفاً
بالطبع منذ أيام الإغريق، أننا إذا أردنا أن نصف حركة جسم، فيجب أن يكون ذلك
بالنسبة إلى جسم آخر. فالسيارة تتحرك بالنسبة إلى سطح الأرض، ويتحرك النجم بالنسبة
إلى مجموع النجوم في السماء. وفي الفيزياء، يُسمى الجسم الذي تنسب الحركة المكانية
إليه بـ (النظام أو الإطار الإحداثي). ولا يمكن أن تُصاغ مثلاً قوانين ميكانيكا
جاليليو ونيوتن إلا بواسطة "نظام إحداثي" (بحيث تقاس بالنسبة إليه
المواضع والسرعات والتعجلات).
وليس لنا أن نختار
"النظام الإحداثي" كيفما اتفق بلا قيد على حالته الحركية، هذا إذا كان
للقوانين التي ستصاغ بدلالته أن تكون قوانين صحيحة. وأهم القيود على صلاحية النظام
الإحداثي ألا يعاني من دوران أو تعجل. ويُسمى هذا النظام الإحداثي والمعتمد
صلاحيته في الميكانيكا بـ (النظام القصوري). ومعنى ذلك أن الوضع الحركي للنظام
القصوري المعتمد صلاحيته في علم الميكانيكا ليس نظاماً وحيداً فريداً تفرضه
الطبيعة. بل على العكس من ذلك، يصح لنا أن نُعرِّف (النظام القصوري) كالآتي: [أي
نظام إحداثي يتحرك بانتظام وفي خط مستقيم بالنسبة لنظام قصوري آخر هو أيضاً نظام
قصوري]. وبناءاً على هذا التعريف، سنبني مبدأ يُسمّى: (مبدأ الحركة النسبية)،
وسيكون تعميماً للتعريف السابق، بحيث يشمل أي حدث طبيعي مهما كان. وستكون النتيجة
التي نصل إليها هي أن [كل قانون طبيعي صحيح بالنسبة لنظام إحداثيات C، يجب أن يكون
صحيحاً أيضاً – بموجب التعريف- في أي نظام إحداثيات C’، والذي يتحرك
حركة خطية منتظمة بالنسبة إلى C]. (وهذا هو
المبدأ الأول الذي تقوم عليه النظرية النسبية الخاصة).
أما المبدأ الثاني،
فهو مبدأ [ثبات سرعة الضوء في الفراغ]. وينص هذا المبدأ على أن الضوء في
الفراغ يكون له دائماً سرعة انتشار معينة قاطعة (لا تعتمد على الحالة الحركية لمصدر
الضوء أو لراصد الضوء). وتعتمد ثقة الفيزيائيين في هذا المبدأ على النجاحات التي
حققها علم الكهرديناميكا الذي أقام صرحه ماكسويل ولورنس.
ويستند كلا هذين
المبدأين بقوة إلى الخبرة التجريبية، ولكن يبدو أنهما متعارضان منطقياً، بما
يستعصي على الجمع بينهما. ويكمن نجاح النظرية النسبية الخاصة في أنها مكنتنا
أخيراً من المصالحة بين هذين المبدأين، ولكن على حساب إجراء تعديل في العلم الوصفي
للحركة (الكاينماتيكا kinematics). ونقصد بذلك تعديل علاقة المكان بالزمن (في أي قانون طبيعي). وينتج
عن هذا التعديل أن الحديث عن تزامن حَدَثَيْن (أي: وقوعهما في نفس اللحظة الزمنية)
أصبح كلاماً لا معنى له، إلا أن يكون ذلك في نظام إحداثي بعينه، وأن شكل أجهزة
القياس (يقصد طولها) وسرعة دقات[4]
الساعات (يقصد وتيرتها الزمنية) تعتمد على حالة حركتها بالنسبة لذلك النظام
الإحداثي.
ولكن الفيزياء
القديمة، والتي تشمل قوانين الحركة عند جاليليو ونيوتن، لن تستقيم مع وصف الحركة
(الكينماتيكية) النسبوية كما اقترحناها. فهذا الوصف الحركي النسبوي الجديد يضع
قيوداً رياضية عامة بما يوجب على القوانين الطبيعية أن تتقيد بها. وهذا بالطبع في
حالة تطبيق فرضَي النسبية اللَّذين ذكرناهما أعلى تطبيقاً واقعيا. بمعنى أن هذين
الفرضين يوجبان على الفيزياء أن تتعدل/تتكيف معهما. ومن الأمثلة المتميزة لهذا التعديل/التكيُّف
أن العلماء قد وصلوا إلى (يقصد: أثبتوا معملياً) أن النقاط المادية، التي تتحركة
حركة سريعة جداً (يقصد قريبة من سرعة الضوء)، تتكيّف بالفعل، بشكل مثير للإعجاب،
مع هذين الفرضين في حالة الجسيمات المشحونة كهربياً (يقصد الإلكترونات). و(يتبع
ذلك واحدة) من أكثر نتائج النظرية النسبية الخاصة أهمية فيما يتعلق بالكتلة الجامدة
في الأجسام المادية، أنه قد تبين أن (الكتلة القصورية لنظام مادي ما) تعتمد قيمتها
على محتوى الطاقة فيه. ويقود هذا مباشرةً إلى نتيجة تقول أن الكتلة الجامدة ليست
إلا طاقة كامنة. وبهذا يفقد مبدأ حفظ الكتلة استقلاله، وينصهر مع مبدأ حفظ الطاقة
(يقصد: باعتبار أن الكتلة أصبحت طاقة).
وبصورة ما، فإن
النظرية النسبية الخاصة، والتي لم تكن ببساطة إلا تطويراً للكهروديناميكا التي
صنعها ماكسويل ولورنس، قد تجاوزت تلك الحدود التي استدعتها. وتفرض الأسئلة الآتية
نفسها علينا: هل استقلال القوانين الفيزيائية عن حالة حركة نظام الإحداثيات، أمرٌ
مقيدٌ بالحركة الخطية المنتظمة لأنظمة الإحداثيات بالنسبة لبعضها؟ - وما الذي يجعل
الطبيعة تتقيد باختياراتنا من أنظمة إحداثية وكيف تتحرك؟ - وإذا كان وصف الطبيعة
يستلزم توظيفنا لأنظمة الإحداثيات على نحو اعتباطي، فبناءاً عليه تصبح حالتها
الحركية (يقصد: إن كانت منتظمة أو غير منتظمة) خارجة عن أي قيود؛ ومن ثم يجب أن
تستقل القوانين بالكلية عن أي اختيار حركي لنظام الإحداثيات، وهذا هو المبدأ النسبوي
العام (يقصد: المبدأ الذي ستقوم عليه "النظرية النسبية العامة").
ويمكن إنشاء هذا
المبدأ النسبوي العام ببساطة على حقيقة تجريبية معلومة منذ زمن بعيد؛ وأقصد بذلك
أن كتلة الجسم التي ينشأ عنها الوزن (الكتلة التثاقلية)، وكتلته التي ينشأ عنها
قصوره الذاتي (الكتلة القصورية) لهما نفس القيمة. ولنتصور نظاماً إحداثياً يدور دوراناً
منتظماً بالنسبة لنظام قصوري على طريقة نيوتن. وعندها تصبح قوى الطرد المركزي
بالنسبة لهذا النظام ناتجة بالضرورة عن تأثير القصور الذاتي. ولكن نفس هذه القوى
الطاردة مركزياً تتناسب مع كتل الأجسام، تماماً مثلها مثل قوى الجاذبية. ونتساءل: أوليس
في استطاعتنا في هذه الحالة اعتبار النظام الإحداثي ساكناً، وأن قوى الطرد المركزي
ليست إلا قوى جاذبية؟ - يبدو أن هذا هو المعنى الظاهر، إلا أن الميكانيكا الكلاسيكية
(يقصد: ميكانيكا نيوتن) ترفض/تمنع هذا التصور.
يوحي إلينا هذا
التنظير السريع بأن النظرية النسبية العامة يجب أن تُخرج لنا قوانين الجاذبية، وقد
أتت تبعات هذه الفكرة لتؤيد طموحاتنا. إلا أن الطريق إلى تحقيق ذلك كان شائكاً
أكثر مما افترضنا، لأنه استدعى التخلي عن الهندسة الإقليدية (يقصد: المستوية).
بمعنى أن القوانين التي طبقاً لها يمكن ترتيب الأجسام الصلبة في الفراغ، لا تلتئم
تماماً مع القوانين الفراغية المنسوبة إلى الهندسة الإقليدية. وهذا هو ما نعنيه
عندما نتكلم عن "انحناء الفضاء". وتفقد عندئذ المفاهيم الدراجة من
"خط المستقيم"، و"سطح" ... إلخ .. أهميتها الدقيقة في
الفيزياء.
وفي النظرية النسبية
العامة، لم تعد مفاهيم "المكان" و"الزمن" و"الوصف
البديهي لحركة الأشياء" مفاهيم أساسية تتقرر ماهيتها باستقلال عن باقي
الفيزياء. وأصبح السلوك الهندسي لحركة الأجسام، وحركة الساعات (يقصد رتابتها
الزمنية، كما جاء في الحاشية الأخيرة)، تعتمد بشكل ما على المجالات الجاذبية، وهذه
المجالات الجاذبية نفسها تنتج عن المادة المحتواه فيها.
وتفترق نظرية الجاذبية
الجديدة افتراقا كبيراً، من حيث مبادئها، عن نظرية نيوتن. إلا أن نتائجها العملية تتفق
اتفاقاً قريباً جداً مع نتائج نظرية نيوتن وإلى الدرجة التي يصعب معها العثور على
معايير افتراق للتمييز بينهما وتكون في متناول يد التجربة. وما تم اكتشافه من تلك
المعايير حتى الآن فهو:
1- دوران المسارات
الإهليجية لأفلاك الكواكب حول الشمس (وهو ما تأكد في حالة كوكب عطارد).
2- حيود أشعة الضوء
بفعل المجالات الجاذبية (وهو ما تأكد من الصور الفوتوغرافية التي التقطها الإنجليز
لمواقع النجوم لحظة الكسوفات الشمسية – يُشير إلى بعثة إدنجتون لرصد هذا الحدث سنة
1919)
3- انزياح الخطوط
الطيفية ناحية الجانب الأحمر من الطيف، وذلك في حالة الضوء الواصل إلينا من نجوم عظيمة
الكتلة (وهو ما لم يتأكد حتى الآن)[5].
وأخيراً أقول: إن أشد مواطن النظرية مصداقية
يقع في تكاملها المنطقي. فإذا ثبت خطأ ولو في واحد فقط من النتائج المستخلصة منها،
تسقط النظرية بكاملها؛ وعلة ذلك أن تعديل النظرية دون تدمير بنيتها الكلية يبدو
أمراً مستحيلاً.
ولا يجب أن يفترض أحد–
بشكل أو بآخر – أن أعمال نيوتن الجبارة يمكن أن يتجاوزها أحد بهذه النظرية الجديدة
أو بغيرها. إن أفكار نيوتن العظيمة والساطعة ستحتفظ دوماً بأهميتها الفريدة على
مدار الزمان، لأنها الأساس الذي قامت عليه البنية المفاهيمية الحديثة في مجال
الفلسفة الطبيعية.
المؤلف
[1] "How I created the Theory of Relativity", Physics Today, August 1922, pp. 45-47.
[2] أصل المقال بعنوان: "How I
Created the Theory of Relativity"، وقد اخترت ترجمة (created) بكلمة (اخترعت) لأن أينشتاين كان
يميل إلى أن التنظير الفيزيائي اختراع "Erfindung"، أنظر في ذلك:
- John
Stachel, “How Did Einstein Discover Relativity”,
و[كان ينظر إلى النظرية الفيزيائية باعتبار أنها حصيلة الاختراع الإنسان، والتي لا تستند في صدقها إلا إلى البساطة المنطقية، والاتفاق مع التبعات التجريبية والخبرة]. وأن [ملكة الاختراع في الإنسان تمنحه إمكانات عديدة في تركيب التنظيرات الرياضية، ثم تأتي الخبرة العملية التجريبية في النهاية لتحسم أي من هذه التنظيرات هو الصحيح].
Frank P.,"Einstein: His life and times", Knopf -(1947), p.282, 283.
[3] English translation: Albert Einstein, “Einstein, Ideas
and Opinions”, translated by Sonja Bargmann. New York: Crown, 1954, pp.
227-232.
- كما نُسب إلى أينشتاين أيضاً قوله: [إن مُسلَّمات البناء المنطقي للفيزياء النظرية لا يمكن أن تُستخلص من الخبرة التجريبية، ولكن يجب أن يتم اختراعها بحرية طليقة.]
["The axiomatic basis of theoretical physics cannot be extracted from experience
but must be freely invented.”
](JULIAN SCHWINGER, "A Theory of the Fundamental Interactions
", ANNALS OF PHYSICS: 2, 407-434 (1957), p.407)
- وقال أينشتاين أيضاً: [كيف لنا أن نصف العمل البحثي بلفظ "اكتشاف" التي
لا تعني أكثر من محض معرفة الشيء على ما هو عليه؟! .. البحث العلمي في الحقيقة عمل
ابتكاري اختراعي، وينكص وصفه بـ "الاكتشاف" نكوصاً كبيراً في التعبير
عما فيه من ابتكارية.] ومن ثم، كان أينشتاين يرى أن عمله في النظرية النسبية كان
اختراعاً ولم يكن اكتشافاً.
(A. Martinez, “Kinematics:
The Lost Origins of Einstein’s Relativity”, 2009, p.285)
- Original German text: Albert Einstein, Mein Weltbild.
Amsterdam: Querido Verlag, 1934, pp. 220-28.
Online on the Internet:
- http://todayinsci.com/E/Einstein_Albert/EinsteinAlbert-MyTheory.htm
(Different English Translation)
[4] هنا نتوقع خطأ: حيث جاءت العبارة بالإنجليزية (the speed at which the clocks move)، والصحيح (the speed at which the clocks tick). كما أن ترجمة إنجليزية أخرى جاءت العبارة (the rate of movement of clocks) على الرابط:
http://todayinsci.com/E/Einstein_Albert/EinsteinAlbert-MyTheory.htm
وهي أيضاً غير صريحة المعنى، وملتبسة، وإن كانت أقل من الأولى!
[5] تأكد ذلك لاحقاً (مترجم المقال من الألمانية إلى الإنجليزية).
اممممممممم
ردحذف