الاثنين، 17 فبراير 2014

الفصل (أ22) – محمد فريد وجدي - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ22) محمد فريد وجدي
بقلم: عزالدين كزابر
الأستاذ/ محمد فريد وجدي
عودة إلى فهرس الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب الأستاذ محمد فريد وجدي[1]، رحمه الله تعالى، أن اثنين من أصحاب الأسئلة، قد أرسلوا إليه بسؤالين عن دوران الأرض. وكان سؤال الأول[2]: [هل الأرض كروية؟ هل الأرض تدور؟]
فأجابه إجابة طويلة خلاصتها أن دوران الأرض – عند الأوربيين (أهل العلم الحديث) وبشهادة شهود من أهلها- مازال محل شك، أي أنه لا يقين في دوران الأرض، فقد تكون ثابتة لا تتحرك ولا تدور!! .. وهي إجابة تبعث على الدهشة والتعجب، لذا سنوردها بنصها بعد قليل، ونناقش ما فيها من مُسْتَغْرَبات وعدم اتساق منطقي، وخاصة أنها الإجابة التي استشهد بها الشيخ عبد العزيز بن باز  رحمه الله، على عدم دوران الأرض، احتجاجا بأن أهل العلوم الفلكية متضاربون حول المسألة[3]، وأن منهم من يرفضها!!! ... وكان استشهاداً بناقل غير محيط بالمسألة، بل ناقل خبر فردي شاذ عنها - على نحو ما سنرى في هذا الفصل - لا يُدرج في الأخبار العلمية، وليس من مصدر موثوق، ولا إجماع عليه، ولا غلبة رأي، بل ولا حتى احتمال رأي. فضلاً عن أنه لا يوزن بأي ميزان علمي استدلالي، لافتقاره لأي دليل أو برهان؟ ... ومعلوم أنه لا محل في العلم الحديث لرأي شاذ، شارد، غير مُؤصّل بدليل نفي، أو غير جارح لما يعارضه من أدلة إثبات.
أما السائل الثاني للأستاذ فريد وجدي، فكان سؤاله أيضاً عن دوران الأرض، إلا أنه جاء مُركَّباً ومتشعباً، وكان نصه كالآتي[4]:
[أولاً: هل ورد في القرآن الكريم ما يفيد دوران الأرض؟ .. إن كان ورد ذلك، ففي أي آية؟
ثانياً: إذا كان القرآن أفاد أن الشمس والقمر يَسْبَحان في فلكهما، وهذا محسوس بحاسة البصر، فما فائدة دوران الأرض؟
ثالثاً: إذا قيل أن دوران الأرض يُوجِد الليل والنهار، فما معنى قوله تعالى: "فالق الإصباح"، وقوله تعالى "ومن آياته الليل والنهار". إن قيل أنه لحصول الفصول، فما معنى قوله تعالى: "وهو الذي جعل الشمس ضياءاً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب؟
رابعاً: إذا كانت الأرض دائرة، فلم لم يرد ذلك في القرآن، مع ما ذكر فيه من تسخير الشمس والقمر والنجوم والسحاب والفلك في البحر؟. هل دوران الأرض شيء صغير في جانب تسخير السحاب؟
خامساً: ما البراهين الحسية التي يرتكز عليها الفلكيون والجغرافيون في القول بدوران الأرض؟ .. هل انفصلوا عنها إلى الفراغ وشاهدوها مستقلة، كما يشاهد الواقف على الشاطئ السفينة جارية، ولو كان فيها ينظر البحر سائراً؟
سادساً: هل قال أحد من مفسري القرآن أن الأرض دائرة حول الشمس؟ - إن قيل نعم، فمن هو من الأئمة؟ وما رأي حضرتكم في كلام الفخر الرازي في هذا الموضوع، وما الأوجه المفندة لكلامه؟]
فأجاب الأستاذ محمد فريد وجدي، قائلاً[5]: [إن ما كتبناه في هذا الفصل (يقصد إجابته على السائل الأول) كافٍ في الإجابة على أسئلة حضرة الكاتب المحترم (رغم أنه لم يُجب في الحقيقة على عيون الأسئلة)، ولا ينقصه إلا بيان محظورية الاستدلال بآيات الكتاب الكريم على تقرير ورفض العلوم الطبيعية، (في الحقيقة أن إجابته لم تتناول إلا هذا الحظر ومحاولة تبريره) ويحسن بنا أن نعيد له هنا ما كتبناه في هذا الصدد سنة 1317 في مجلة (الحياة)؛ قلنا (المتكلم هنا محمد فريد وجدي – رحمه الله تعالى):
[إن علم الفلك، مثل سائر العلوم الطبيعية، خاضع لناموس الترقي والتدرج، فلو قارنت بين نظرياته التي كانت لدى المصريين والآشوريين قبل أربعة آلاف عام، وبين نظرياته عند علماء الإسلام في القرن الثالث والرابع الهجري، وجدت اختلافاً عظيماً ورقياً محسوساً، على أن سائر نظرياته، رغماً عن تقدم العلم في هذا العصر لم تزل ظنية. ولا يخفاكم أن أقرب الظنيات للحقيقة هو أسهلها انطباقاً على الظواهر المحسوسة، وأكثرها حلاً للمعاضل المجهولة. فلو كنا الآن نقبل نظرية دوران الأرض حول الشمس، ونطرح رأي المتقدمين من ثبوتها، فما ذلك إلا لكون النظرية الأولى تحل لنا من المسائل الفلكية ما تعجز النظرية الأخيرة عن حلها، ولكن إذا ظهر رجل وأثبت لنا ثبوتها وقرر لنا نظرية علمية تحل لنا من غوامض المسائل العلوية أكثر مما تحل تلك النظرية، ولا تُعارض أحكام النواميس المحسوسة، قَبِلْنَا رأيه واعتمدناه إلى ما شاء الله. ثم قلنا هنالك (يقصد في مجلة الحياة): وإن قوله تعالى: "ويسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج"، يُرينا بطريقة جلية أن كل ما ذُكر في الكتاب الشريف من أمر الكواكب والسموات لم يقصد به تعليم علم الفلك، بل القصد منه لفتنا إلى التدبر في جلائل مصنوعات الله وتنور أسرارها ليس إلا، وعندنا أن تطبيق علم الفلك الحديث والقديم على ما جاء في القرآن المجيد، يعتبر تهجماً غير محمود على كلام الله تعالى، وذلك لأن القرآن الكريم إنما جاء بالقواعد العامة والنواميس الكلية التي لا يعتريها تبديل ولا تحوير، والتي هي لسان حال الوجود، ومطلوب الحياة الإنسانية من جهتيها المادية والمعنوية. فالساعي في تطبيق العلوم الفلكية على آياته الكريمة، يكون ملوماً لأمرين: أولهما- أن القرآن العظيم إنما جاء لتربية الإنسان وتهذيب خصائصه، تلك التربية وذلك التهذيب الذين يفكان أغلال المدارك النفسية، ويكسران مقاطر المواهب البشرية، ويستخرجان أنوار الحقائق الملكية من كثافات تلك الطبيعة الطينية، ليتجلى الإنسان في الوجود إنساناً صالحاً لأن يُلم بأسرار عالم الشهادة بحواسه الظاهرة، ومساتير عوالم الغيب بمشاعره الباطنة، كما حصل ذلك في الأمة العربية الأولى، فقد جاءها هذا الدين وهي على حالة البساطة الخلوية، فهذب نفوسها وربّى ملكاتها، فانبجست ينابيع مواهبها الإنسانية من صخور حياتها الوحشية، فتجلت بعد بضع عشرات من السنين أمة طمست لألاء مدنيتها الحقة سائر المدنيات البهيمية، وأمسكت بيمينها صولجان العظمة الدنيوية، ونشرت في الخافقين روح الحرية والعلم، لدرجة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية.
لإحداث مثل هذا الأثر التهذيبي، جاء القرآن المجيد: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم"، إلى أن قلنا هنالك (في مجلة الحياة): إذا تقرر هذا كله نقول: نحن معاشر المسلمين الذين أنزل الله علينا: "وقل ربي زدني علما"، والذين كان لآبائنا اليد الطولى في ترقية العلوم وعدم الوقوف بها عند حد، والذين سنَّ لنا عليه الصلاة والسلام خير سُنِّة في الأخذ بما صلح من تجارب الغير، يجب علينا أن نُسابق الأمم في ميادين العلوم الجديدة، ونسعى في زيادة مادتها، لا سيما وقد ظهر أنها أقرب إلى الحقيقة مما عداها. ونتمسك بآراء المتأخرين منهم، لكونها تحل لنا من معاضل الظواهر الفلكية ما لا تحله لنا تلك، منتظرين ما يهدينا الله إليه في المستقبل بمزيد التواضع. وكيف لا يتواضع للعلم قومٌ أنزل عليهم ربهم: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا".]
نقول: تؤكد لنا هذه الإجابة من محمد فريد وجدي على سؤال السائل الثاني – الذي لم يحظَ بإجابة تُذكر على أسئلته العديدة- وجود حالة من الضبابية العلمية، مع بعض الارتباك والتشَوُّش، في فهم رسالة الإسلام في مضمونها المعرفي. وقد استخلصنا من كلامه تلك العبارات التي يتجلَّى فيها ذلك:
فقوله رحمه الله تعالى: [لا يخفاكم أن أقرب الظنيات للحقيقة هو أسهلها انطباقاً على الظواهر المحسوسة] غير صحيح على العموم، فالظواهر المحسوسة للإنسان تُميز بين أبعاد الكوكب عن الأرض إذا حجب أحدهما الآخر، ولكنها لا تميز بين بُعد نجم عن نجم بالنسبة إلى الأرض، لذلك ظن القدماء أن النجوم جميعاً تبعد عن الأرض بنفس القدر، وأنها من ثمَّ تُرصِّح فلكاً واحدا؛ سموه الفلك الأعظم، وتوهموه كالجلد أو الزجاج الكروي الشكل المُرصّع بهذه النجوم. وهذا وهم بصري، فكيف يقترن بحقيقة أو يقترب منها؟! .. كما أن عدم تمييز البصر لحركات النجوم البينية جعل القدماء يظنون أنها ثابتة بالنسبة لبعضها، وهي ليست كذلك! .. ثم جاءت الصدمة الأكبر، والتي تَوَهَّم فيها البصر الإنساني انزلاق المنظر النجمي حول الأرض ليعود كما كان بعد يوم وليلة موضعاً وهيئة، وهو ما ظن معه البصر أن ذلك الفلك الأعظم الموهوم، يدور بجملته في يوم وليلة، دورة كامل حقيقية حول الأرض!! ... وما دعم هذا الفهم كان الصدمة الكبرى التي تَوَهّم فيها الحس أيضاً أن الأرض ساكنة سكوناً ثبوتياً، وأنها في قعر الوجود – أي قعر هذا؟! ... لا يدري أحد! – فركَّب الوهم منه صورة زائفة تقول أن الأرض ساكنة أبداً، وأن الوجود الـمُشاهد بالحس البصري هو الدائر حولها على مستويات؛ سموه الأفلاك، ورتبوا فيه الكواكب والشمس والقمر والنجوم!! .. وأن السماء إذا استندت على أعمدة، فقواعد هذه الأعمدة، لا بد أن تكون على أرضنا هذه!!.. وما هذا إلا بعض المحسوس من الظواهر، بلا برهان غير برهان الحس البصري، فهل دل على حقائق!!! أم على وهمٍ لا حقيقة له؟!!! .... 
وهذا الوهم البصري ليس بدعة اكتشافات العلوم الطبيعية الحديثة، بل إن كل من له فطنة وحنكة بالأدلة وتركيب البراهين كان له نصيب في الوقوف على الحق من الباطل في حسم بعض هذه الأمور، فهذا أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى يقول[6]: [العين تبصر الكبير صغيرا، فترى الشمس في مقدار مُجُن (يقصد آنية الطعام)، والكواكب في صور دنانير منثورة على بساط أزرق، والعقل يدرك أن الكواكب والشمس أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة! .. والعين ترى الكواكب ساكنة، بل ترى الظل بين يديه ساكنا، وترى الصبي ساكنا في مقداره، والعقل يدرك أن الصبي متحرك في النشوء والتزايد على الدوام، والظل متحرك دائما.] ...
لمثل هذه الأمثلة، وكثير غيرها، يَبطُل عموم قول فريد وجدي أن [أقرب الظنيات للحقيقة هو أسهلها انطباقاً على الظواهر المحسوسة]!! .. إلا إذا أقرَّها التحليل العقلي، والبرهان الذي لاغبار عليه.
قال محمد فريد وجدي: [لو كنا الآن نقبل نظرية دوران الأرض حول الشمس، ونطرح رأي المتقدمين من ثبوتها، فما ذلك إلا لكون النظرية الأولى تحل لنا من المسائل الفلكية ما تعجز النظرية الأخيرة عن حلها، ولكن إذا ظهر رجل وأثبت لنا ثبوتها وقرر لنا نظرية علمية تحل لنا من غوامض المسائل العلوية أكثر مما تحل تلك النظرية، ولا تُعارض أحكام النواميس المحسوسة، قَبِلْنَا رأيه واعتمدناه إلى ما شاء الله]
نقول: هذا التصريح والمنهج يفترض قبلياً أن كل مقولات العلم – وخاصة ما يتصل بالفضاء وهندسته، والنماذج الميكانيكية للظواهر الطبيعية - لا تزيد عن كونها تنظير محض، ومن ثم فهو قابل دوماً للاستبدال بما هو أنفع في حل مسائله. وهذا المنهج يتفق مع فلسفة العلم القائمة على اعتبار العلم تنظير آلي، أو أداتي[7] Instrumentalism في افتراق صريح مع فلسفة العلم الواقعية التنظير، القائمة على أنه يشير إلى حقائق طبيعية مستقلة عن الصياغة العلمية؛ أي: الواقعية العلمية[8] Scientific realism. وهذه الفلسفة التي يتكلم محمد فريد وجدي باسمها (أي: الأداتية) تُصَنَّف ضمن المدارس الفلسفية اللاواقعة anti-realism، وهذا إشكال كبير يفضي إلى أن تنظير الإنسان لا يؤدي إلى العلم بحقائق واقعية، وهو ما يخالف المفهوم من كلام الله تعالى لنا بالاعتبار بالظواهر الطبيعية في الخلق على ما وراءها من حق وصدق، كما في قوله تعالى " مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)"(سورة الـمُلك). ولو كان نظرنا مُقيّد بالنفعية، عارٍ عن كشف أي واقعية، لما كان لنا أن نستدل من النظر والتنظير على حق من باطل؛ بل على نافع وأنفع. ولا شك أن الأكثر واقعية أعلى نفعية، غير أن الأنفع لا يلزم عنه بالضرورة العلم بالواقعية!  ... فالرياضيات ذات نفعية عالية، إلا أن استخلاص صور واقعية منها – إذا تجردت - أمر عسير في مجمله، أو ممتنع، بل يكاد يكون شبه معدوم إذا اعتُبر من جِهة نسبة الرياضيات الواقعية – أقصد التطبيقية - إلى كامل ما اخترعه الإنسان من رياضيات حتى الآن.
ولو طبقنا كلام محمد فريد وجدي السابق على الأرض ودورانها خاصة، وتفحصنا المسألة بالبراهين الرياضية والسنن الطبيعية، لأدركنا على الفور أن الأرض تتحرك ضرورةً حول مركز ثقل المجموعة الشمسية، وليس حول عين الشمس كمركز، والقول بوقوفها في محل دون غيره ضرب من المحال، إلا إذا كانت دوماً في مركز الثقل هذا!.. ولا يتحقق لها ذلك إلا إذا كنت ذات كتلة أكبر من كتلة الشمس آلاف المرات. لأنهما إذا تساويا لتكافأ دورانهما حول مركز الكتلة، فإذا تفاوتا كانت الأكبر كتلة أقرب إلى المركز. بل إن الأرض لو وصل كتلتها إلى تلك الآلاف من كتلة الشمس لما سكنت أيضاً مثلما أن الشمس الآن غير ساكنة، ولن تكف عندئذ عن التأرجح حول ذلك المركز كالدينار يريد أن يسقط في حفرة، وكلما هم بالسقوط وهوى نحو المركز، تجاوزه، هذا بخلاف حركته الرحوية حول نفسه، وهكذا بلا نهاية لثبات. ... فأني يأتي رجل كالذي أشار إليه محمد فريد وجدي لِيُنظِّر بسكون الأرض وثباتها؟! ... فمقام هذا الفرض من التنظير كمقام من ينتظر رجل يأتي بنظرية تنفي أن مجموع سبعة أيام وثلاثة أيام - غير متداخلة - ليس عشرة أيام!
ولا نقصد من هذا التحليل السابق أن كل تنظير طبيعي حقٌ واقعٌ بالضرورة، وغير مُتَبَدِّل بغيره، فالتنظير يتفاوت بين اليقين والشك درجات كثيرة من الظن. فما كان منه يقيناً فتبدُّله منتفي إلا بما هو أكثر تفصيلاً دون الهدم، أما الظن العلمي، أي ما يحتمل الرجحان، فهدم قديمه جائز بجديده الأصوب. ولا يقع دوران الأرض حول نفسها وحول مركز المجموعة الشمس في رتبة الظن، بل هي يقين دامغ. ومن يفتقر إلى العلم ببرهان ذلك اليقين، فلن يخدش عدم وقوفه عليه، يقين البرهان في نفسه، ولا في نفس العالمين به. وذلك مثلما أن الجاهل بعلم الحساب لا حجة له إن زعم انتفاء آليه توزيع الميرات الشرعي في حقه، وقد قام على الحساب الذي جهله، مُدَّعياً أنه معفيٌ من الالتزام به لعدم وقوفه على البرهان! ... وفي مثل هذا يقول الله تعالى "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"(النحل:43).
قال الأستاذ فريد وجدي: [قوله تعالى: "ويسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج"، يُرينا بطريقة جلية أن كل ما ذُكر في الكتاب الشريف من أمر الكواكب والسموات لم يُقصد به تعليم علم الفلك، بل القصد منه لفتنا إلى التدبر في جلائل مصنوعات الله وتنور أسرارها ليس إلا.]
نقول: يختلف (علم الفلك) عن (العلم بالفلك)، فالأول؛ أي: علم الفلك، بَشَرِي الصِّياغة، محدود، ومُقيَّد بزمنه. مثلما كان أيام المصريين والبابلين، أو أيام اليونان أو المسلمين بعدهم، أو ما استُحْدِث من نظريات فلكية مختلفة في هيئة أجرام الكون ونشأتها وجريها ومآلها. وإن كان هذا هو مقصد فريد وجدي فلا غرابة، غير أن مقصده أعم من ذلك، أي أن كلامه يشمل أن (ما ذُكر في الكتاب الشريف من أمر الكواكب والسموات لم يقصد به تعليم (أي) علم (بـ) الفلك)، بمعنى المعرفة الفلكية، وهذا خطأ. فقوله تعالى "كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"(الأنبياء:33) من العلم بالفلك، وقوله تعالى "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا"(يس:38) من العلم بالفلك ... ويُقاس على ذلك آيات كثيرة، عن إفادات معرفية عن الفلك، أي السماء وما فيها. وكل هذه الآيات تتكلم عن واقع سماوي مطابق للمشار إليه منها، فكيف ينفي فريد وجدي هذه الإفادات القرآنية؟! ... أما عبارته (القصد .. لفتنا إلى التدبر في جلائل مصنوعات الله وتنور أسرارها ليس إلا) فهي صحيحة إلا في إفادتها بقصر التدبر (في: ليس إلا) على تدبر العوام. فإن استَنْفَذ القرآن معانيه على العوام، فماذا يُقدم لمن هم أرحب عِلماً ونَظرا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يشبع منه العلماء][9]؟!
أما قول محمد فريد وجدي [القرآن الكريم .. جاء بالقواعد العامة والنواميس الكلية التي لا يعتريها تبديل ولا تحوير] فلا يبدو أن فيه غرابة، ولكن! .. أنَّى لنا أن نقرر ما هو منها وما هو خارج عنها، وما هو عام فندخله في معاني الوحي وما هو خاص فنخرجه؟! ... وماذا إذا كان المأتي به ناموساً طبيعياً عاماً، فهل يمتنع؟! أو أن يكون خاصاً أريد به العام، مثل الشمس التي تجري لمستقر لها، فمن يستطيع أن يَحْجُرُه؟! .. وإذا لم يكن مما يُمتنع أو يُحجر، فكيف نتعرف عليه إن لم نواجه بين الآيات الآتية به، وموضوعها القائم في الخلق، الموصوف ناموسه الكلي؟!
لكل هذه الأسباب لا يمتنع فهم الوجود بتفصيلاته على ما أتى منه محكي عنه في القرآن، قائماً وواقعا، أمام ناظِرَي الإنسان. وإذا كان الأمر كذلك، فما كان لمحمد فريد وجدي أن يقول أن الفاعل لذلك إنما يُطبّق علم الفلك على ما جاء في القرآن المجيد، وأن ذلك مما [يُعتبر تهجماً غير محمود على كلام الله تعالى] وأنَّه من ثمَّ يكون [ملوماً] عليه! .. فالأمر ليس تطبيق أقوال للبشر على كلام الله تعالى، وإنما إخراج منطوقات علم الفلك التي نطق بها الرصد وظواهره، وليس بالضرورة التي صاغها الراصدون وأفهامُهم. والفاعل لذلك لا يكون مُتهجِّماً ولا أن صاحبه مَلوماً. .. ولا نعصم جميع العاملين في التفسير والإعجاز العلمي من الخطأ، فالحق يقال. وقد يفعل بعضهم إسقاطاً لمقولات غير محققة على فهمه لكلام الله تعالى، ويدعي تفسيراً أو إعجازاً غير حقيقي. ومثل هذا يُصحح عمله، ويُفهّم خطؤه، ويحذّر منه، وبقدر خطئه، لا أن يُحجر على فهم كتاب الله تعالى في معاني الخلق بما يستوجبه، بسبب من خطأ بشري هنا أو هناك. وإذا كان خطأ العالم مَدعاة لقفل أبواب العلم، فأنَّى نجد للعلم من أبواب يدخلها المأمورون بذلك، وكل بشرٍ خطَّاء؟!
وأخيراً، لا نستصوب قول فريد وجدي أن مصادر العلم لدى المسلم أن [يُلم بأسرار عالم الشهادة بحواسه الظاهرة، ومساتير عوالم الغيب بمشاعره الباطنة]! .. فالغيب ليس له معين إلا كلام الله تعالى، ولا ينبغي أن يرجع الناظر في ذلك إلى أي مشاعر باطنه، لا يضمن أن يُداخله فيها وسواس، أو تُلاعبه فيها الأوهام، أو يحجبه عنها تضليل. أما الشهادة فلا شك أن مباشرتها بالحواس والامتحان والأفهام هو الأصل، ولكن الله تعالى هدى من استهداه في كل شأن من شؤونه، وقدّم سبحانه هداه كما قدم رزقه للعباد قبل أن يطلبوه، فأخبر في وحيه عن هذه المخلوقات والظواهر الطبيعية بما يكشف شيئاً من علمه سبحانه بها، وشيء من شهادتها لمبدعها بدلائل إبداعه في خلقها، فأنى لنا أن نُحجم عن ارتشاف معانيها بما قاله الله تعالى عنها، في الوقت الذي نحن فيه عطشى للمعرفة بها من أي مصدرٍ كان. أيكون هذا حالنا ثم نعرض عن خبر الله فيها، ونترسمه في غيره من لغو اللّاغين. إننا إذاً حمقى إن فعلنا، وأقل ما يُقال في مثلنا أننا نعرض عن رزق الله ونستجدي غيره برزق؛ شره أكبر من خيره، وضره أكبر من نفعه!
والآن، قد استعرضنا الحكم الذي خلص إليه محمد فريد وجدي في علاقة القرآن بالعلم، متمثلاً بعلم الفلك. فلا ينبغي أن ننسى أن هذا الحكم كان له حيثيات، وأن هذه الحيثيات قد تمثلت في إجابة فريد وجدي للسائل الأول الذي سأله قائلاً: [هل الأرض كروية؟ .. ] فأجابه بما هو آت بعد قليل، وننوه لأنها الإجابة التي قال أنها تستوفي أيضاً السائل الثاني الذي جاء سؤاله مُتشعباً ومُفصلاً – على نحو ما رأينا في تفصيل السؤال أعلى- لجوانب المسألة من كل وجه، غير أننا سنجد أن تلك التشعيبات والتفصيلات التي قرأناها لم تحظ بشيءٍ يشفي الغليل في إجابة فريد وجدي. ... ولننظر الآن قيما قاله:
قال الأستاذ محمد فريد وجدي رحمه الله[10]: [أما دوران الأرض، فهنا موضع الخلاف والنزاع ليس بين أبناء العصر الأول فقط، بل بين أبناء هذا العصر أيضاً، وإن كان العلم الرسمي الأوربي، والأغلبية العظمى في جانب دورانها على نفسها وحول الشمس معاً.
مسألة دوران الأرض على ذاتها يظهر أنها كانت معلومة من القدم لتلامذة الفيلسوف فيثاغورث، قبل الميلاد بنحو خمسة قرون، ولكن، لم يَشِع هذا الأمر، ولم يدخل إلى العلم الرسمي، إلا بظهور الفلكي الشهير  (كوبرنيك) البولوني، في القرن السادس عشر (1473-1543). فإنه أثبت بالدلائل القوية المقنعة أن الأرض متمتعة بحركتين في آنٍ واحد، حركة رحوية على ذاتها، وبها يتكون الليل والنهار، وحركة مُحيطيّة حول الشمس لتكوين الفصول المختلفة من برد وحر واعتدال.
الأدلة على دوران الأرض حول الشمس غير حاصلة على صفة الأدلة المحسوسة، حتى لا يمكن الخوض فيها كمسألة كرويتها، ولذلك ترى نفراً من العلماء والرياضيين لا يزالون يتشككون في ذلك، ويشككون غيرهم.]
نقول، هذا الكلام غير صحيح، فليس هناك من خلاف ولا نزاع بين أبناء هذا العصر – النصف الأول من القرن الميلادي العشرين، الذي يشير إليه فريد وجدي، وما بعده – في مسألة دوران الأرض. ونلاحظ في الفقرة الأخيرة أعلى من كلامه قوله أن المعارضين لدورانها (نفر)، أي آحاد، وسيذكر أنهم ثلاثة بعد قليل، وقال أنهم (علماء ورياضيين)، رغم أن من سيذكرهم ليس بينهم إلا واحداً فقط يُعتَد بكلامه وهو عالم رياضيات وفيزياء نظرية، وهو بوانكاريه. ولايؤبه لغيره من المتكلمين، الذين يرتكنون هم إليه، ولا نعلمهم مدرجين في العلماء ولا الرياضيين! .. أما قوله أن هناك أغلبية تؤيد الدوران، فيُلَمِّح إلى وجود أقلية تعارضه، وهذا كلام لا صحة لها. فالأمر مقتصر على كلام بوانكاريه فقط، وسنرى أن له وجهة نظر فلسفية يسهل دحضها لمن أحاط بفلسفته العلمية ودواعيها. كما أننا نعلم من مصادر أخرى[11] أن برتراند رسل Bertrand Russell قد أشار أيضاً إلى شبهة اعتراض على واحدية وجهة النظر في مسألة الدوران، إلا أن كلامه يخلو من أي فلسفة علمية، وكل ما اعتمد عليه في ذلك فكان النظرية النسبية التي نفت إمكانية التفريق بين مرجعيات مختلفة للقياس، غير أنه طبق كلامها على الدورانات، في وقت لا يصح تطبيق نظرية النسبية – التي عليها مدار الحديث، وهي النسبية الخاصة- إلا على الحركات النسبية الخَطِّية. لذلك يؤول خطأ رَسِل إلى خطأ علمي تطبيقي، في حين يعود خطأ بوانكاريه إلى خطأ فلسفي، وسنرى أنه أيضاً ناتج عن سوء تطبيق. حيث كان بوانكاريه يستحضر (الاَّ-تفريق) أو (اللا-تمييز) بين الهندسات الإقليدية واللاإقليدية، فنقل غياب التمايز بينهما إلى النظريات الطبيعية الهندسية والميكانيكية النمذجة، وقال بأن اللا-تمايز قائم حتى بين النظريات المختلفة. وهذا خلط واضح، ويمكن لمن شاء أن ينقله إلى الأديان، ويقول أنه ما من تمايز بين تصوراتها مهما اختلفت، ويصبح مدار الخلاف بين أي اثنين، في هندسة أو نظرية علمية أو تصور ديني محض وجهات نظر – مرجعيات مختلفة - لا ينبغي الانتصار لأحدها على الأخرى!!! .. وهذا منطق فاسد لكل ذي لب. ثم أنه يكسر أهم أسس "العلم" الذي عرَّفه ابن تيمية من قبل بأنه [التفريق بين المختلفات، والجمع بين المتشابهات] فإن وحّد بين المختلفات من يشاء فقد لبّس الصحيح وغيره، من حيث هم مختلفان، وقابلان للتمايز.
أما عبارة فريد وجدي [الأدلة على دوران الأرض حول الشمس غير حاصلة على صفة الأدلة المحسوسة، حتى لا يمكن الخوض فيها كمسألة كرويتها] فغير صحيحةٍ البتة. ونُقر أن الأدلة المحسوسة في نُصرة دوران الأرض أقل جلاءاً مما هي في مسألة كروية الأرض حتى قبل رؤيتها من الفضاء، إلا أن الأدلة المحسوسة قائمة في مسألة الدوران، بل إن بوانكاريه، وهو أهم شخصية سيأتي فريد وجدي على ذكرها، يقر بأحد هذه الأدلة (تجربة رقاص فوكولت Foucault Pendulum)، على نحو ما سنرى.
يستكمل فريد وجدي ويقول:
[كتب مسيو دورمون في جريدة ليبربارول الباريسية .. يقول: " لم يقم الدليل للآن على صحة دوران الأرض، كما كان يزعم جاليليه (هو ناشر تعاليم كوبرنيك)، ولا على أنها مركز العالم الشمسي، وهذا المسيو هـ. بوانكاريه أكبر علماء الهندسة والطبيعة الفرنساويين لم يجزم للآن بدوران الأرض، لأنه يقول: - الكلام الآن لـ (بوانكاريه)[12] – "يقولون أن الأرض تدور وأنا لا أرى مانعاً من دورانها، فإن فرض دورانها سهل القبول، ويمكن به فهم كيفية تكون ونمو الدنياوات (يقصد العوالم، باعتبار المجموعة الشمسية أحدها، أي نجم يدور حوله كواكب)، ولكنه فرض لا يمكن إثباته ولا نفيه بالأدلة المحسوسة. هذا الفضاء المطلق، أي الحيز الذي يلزم نسبة الأرض إليه للتحقق من دورانها أو عدم دورانها ليس له وجود في ذاته. (هنا نجد مغالطة كبيرة، مثلها مثل ينكر دوران مروحة في الهواء مما يلعب به الأطفال لأن الأثير (الحيز) الذي تدور بالنسبة إليه غير مكتشف، رغم أن الدوران يتم بالنسبة لمجموع الوجود حول المروحة، وكذلك الأرض، ويستكمل:) من هنا ترى أن قولهم الأرض دائرة لا معنى له البتة، لأنه ليس في وسع أيه تجربة إثباته لنا بالحس. هاتان الجملتان: (الأرض دائرة) و (الأسهل فرض أن الأرض دائرة) لا تعنيان إلا شيئاً واحدا، ولا تمتاز إحداهما عن الأخرى في معنى جديد". (نلاحظ هنا قول بوانكاريه الصريح بعدم التمايز)، وكأن المنظورين؛ الدوران وعدم الدوران، متكافآن فيزيائياً، أي على الحقيقة الفيزيائية! ... وليلاحظ القارئ أن عدم دوران الأرض حول نفسها يلزم عنه دوران الكون بجملته من نجوم وأجرام حول الأرض كل يوم دورة كاملة! .. فهل يستوي هذا ودوران الأرض مع بقاء الكون على حاله؟!! .. وهذا خطأ من بوانكاريه إن ظن بعدم التمييز بين هذا وذلك، قاده إليه منطلق فاسد هو توهم ضرورة وجود مرجعية مطلقة لا يمكن وجود حقيقة للدوران إلا بمعرفتها. وإذا صدق كلامه، فما فائدة العزم الزاوي الذي نستدل به على الدورانات؟! .. وهل يستوي العزم الزاوي لدوران الأرض مع ثبات الكون بأكمله، مع العزم الزاوي لدوران الكون بأكمله مع ثبات الأرض الأرض؟! .. لا يقول بهذا التساوي ولا يوافق عليه عالم بالفيزياء .. إلا أن يكون قد تسلط عليه ضرورة وجود مرجع إحداثي فيزيائي مطلق ليحسم  بين الأمرين (أي: الأثير الساكن، الذي ذهب مع ما ذهب من فيزياء القرن التاسع عشر)!!! فالظاهر بلا جدال أن دوران الأرض هو الحاصل وإلا اضطررنا بأن الكون كله هو الدائر حول الأرض وهي ساكنة. وقد استيسر الأقدمون القول بدوران الكون كله لأنه عندهم لم يكن إلا شمساً وبضعة كواكب صغيرة في أعينهم، مع كرة واحدة مرصعة بالنجوم. كما أنهم لم يكونوا يعرفون العزم الزاوي، والذي ينبغي أن يكون لا نهائي إذا أدرنا الكون كله. وهو أمر محال. أما عزم دوران الأرض النهائي فغير محال، ومن ثم فهو الحاصل. .. وهذا الدليل ليس إلا فاتحة الأدلة على دوران الأرض، ووراءه سيل من أدلة أخرى.
(يستكمل فريد وجدي) وجاء في جريدة (اكلير) الفرنساوية في 17 فبراير الماضي (لم يشر إلى السنة)، تحت إمضاء بعض الكاتبين (يقصد "كاميل فلاميريون Camille Flammarion" كما سيتبين) قوله: "ليس من المحقق الثابت أن الأرض دائرة، ومع ذلك فهذه نظرية شائعة، وعقيدة علمية كبرى لا يحسبون لها سقوطا. هذا وإنك ترى أن نظرية الجاذبية العامة (يقصد جاذبية نيوتن) قد عادت لمجال المناقشة (يقصد بواسطة النسبية العامة لأينشتاين) وأن قوانين كبلر اشتهرت بكونها فروض ظنية ليس إلا." يريد الكاتب أن يقول: إذا كانت نظرية الجاذبية العامة وقوانين (كبلر) تعتبر فروضاً قابلة للبحث فلِمَ لا يكون الأمر كذلك بالنسبة لنظرية دوران الأرض؟!، وهذا خطأ فاضح، فقوانين كبلر Kepler قامت على قياسات رصدية حقيقة للكواكب وقد تمت على يديه ويد – تيكو براهيه Tycho Brahe- قبله، الذي كان يساعده كبلر في مرصده، وبناءاً على التحليل الرياضي لهذه الأرصاد تم استخراج هذه القوانين الثلاث، فكيف يُقال أنها محض فروض قد تخطئ؟ رغم أنها ليست إلا علاقات رياضية محضة نطقت بها الأرصاد وتخلو من أي تأويل؟! .. أما نظرية الجاذبية المادية فلم تطح بها النظرية النسبية العامة لأينشتاين كما يظن بعض قِصار النظر، بل إن النسبية العامة جاءت تقدم تبريراً لما يظهر لنا من جذب الأجسام المادية بعضها بعضاً، ولم تقل أن الأجسام لا تنجذب لبعضها، بل قالت أنها تنجذب لأن كل منها يقوس الفضاء حولها. وهذا التبرير مزيد من فهم علة التجاذب، وليس لمحو نظرية الجاذبية. وقد أدى هذا التبرير إلى صياغة رياضية جديدة لنظرية الجاذبية المادية حسّنت التنبؤات الرصدية تحسيناً طفيفاً جداً، ولم تلغ قديم التنبؤآت باعتبارها فاسدة. .. وقياساً على ذلك جاء توهين صاحب الكلام من دوران الأرض في مقابلة عدم دورانها، وهما نقيضان، قد قِيسا على نظريتي الجاذبية النيوتونية والنسبية العامة وهما متآزرتان، مما يُفضي إلى أنه قياس فاسد. إضافة إلى أن المقيس عليه (جاذبية نيوتن) ليست بالسوء الذي أراد تصوير المقيس (دوران الأرض) عليه، مما يعني أن المتكلم لم يحط علماً بالمقيس عليه، ... الأمر الذي يؤكد أن شغله الشاغل لم يكن إلا التشويش العلمي، والتشكيك في أي نظرية علمية، طالما أن لفظ (نظرية) يفتح الباب لاحتمال الصدق من عدمه، وهي كلمة (مُجملة) يُوظِّفها كل من أراد أن يشكك في شيء، فيقول أنه نظرية، ويُسوِّي بين كل نظرية وغيرها، مهما كانت النظرية التي يريد إبطالها – بأسباب عنده- مدعومة من التحقيق والرصد والتجريب!!! ....
ويستكمل فريد وجدي – رحمه الله:
سرد العلامة الفلكي الشهير هذه الأقاويل[13] في ( المجلة ) الفرنساوية في المجلد التاسع والأربعين، ورد عليها بحجج فلكية منها:
- لا يشك أحدٌ في أنه يرى كل يوم الشمس والقمر والكواكب والنجوم تشرق من جهة الشرق، ثم تستوي في كبد السماء، وتبلغ أوجها الأعلى ثم تهبط غاربة نحو الغرب، وتظهر في اليوم التالي في أفق الشرق بعد أن تكون سرت من تحت الأرض.
- ليس للإنسان في تعليل وتفسير هذه المشاهدة العامة إلا أن يفرض أحد فرضين: فإما أن يقول أن السماء هي التي تدور من الشرق إلى الغرب، أو أن أرضنا هذه هي التي تدور من الغرب إلى الشرق.
"إذا فرضنا الفرض الأول، وجب علينا أن نعزو للأجرام العلوية سرعة في الدوران مناسبة لأبعادها عنا، مثال ذلك أن الشمس التي تبعد عنا بمسافة تقدر بقطر الكرة الأرضية 2300 ضعف، يجب أن تسري في الأربعة وعشرين ساعة محيطاً أكبر من محيط الأرض 2300 ضعف، أي بسرعة 10695 كيلومتر في الثانية الواحدة، والمشتري الذي هو أبعد من الشمس عنا بخمسة أضعاف يجب أن يكون سيره بسرعة 53000 في الثانية، وأقرب نجم إلينا المسمى ألفا سنتورس الذي يبعد عنا أكثر من بعد الشمس بـ 75000 ضعف، يجب أن يجري في الجو بسرعة 2،491،000،000 كيلومتر في الثانية الواحدة. وكل النجوم أعلى منا بما لا يمكن حسبانه كما لا يخفى. فإن كانت الأرض هي الثابتة والكواكب هي الدائرة، وجب أن تكون كل هذه الدورانات المدهشة من تلك الأجرام الكبيرة حاصلة حول نقطة صغيرة هي الكرة الأرضية. عرض هذه المسألة الفلكية بهذه الطريقة هو بمثابة حلها، أللهم إلا أن يجحد بالأقيسة الفلكية والعمليات الهندسية المتوافقة تمام التوافق ودوران الأرض الليلي، وهي حقيقة مثبتة بالأمر الواقع.
إن فرض دوران الكواكب هو بمثابة فرض دوران الكانون والمطبخ والبيت والبلدة بأجمعها حول قطعة من اللحم تشوى بالنار (يديرها الطاهي على سيخ الشوي)، كما تخيل ذلك أحد المؤلفين الأخلاقيين.
 (ما قرأنا لتونا برهان عقلي ملزم بفساد القول بدوران الوجود كله حول الأرض، أي أنه يُفضي بوجوب دوران الأرض كل يوم وليلة حول نفسها، لأن نقيضها (دوران الوجود) مُحال، ... ويجب أن نستغرب من أن يورده فريد وجدي، ولا يلتزم بما يؤدي إليه.)! – ويستكمل:
هذا ما يقوله (كاميل فلاميريون)، فإن ما تركته جانباً ونظرت إلى ما يقوله الأستاذ الفلكي الطائر الصيت، الذي يُعد أول رياضي الآن في البلاد الفرنساوية[14] (يتكلم الآن عن بوانكاريه)، كما جاء في (المجلة) الفرنساوية، رأيته يقول[15]: [إذا فرضنا أن السماء مغطاة بالسحب دائماً، وأن لا وسيلة لدينا مطلقاً لرؤية الكواكب، كان يمكننا مع ذلك أن نستنتج دوران الأرض بانبعاجها (يقصد تَسَطُّحْها عند القطبين)، وبالأَوْلى تجربة (فوكلت)[16]، ومع ذلك، لو قلنا في هذه الحالة أن الأرض دائرة، فهل يكون لهذا القول معنى؟ وإذا كان ليس هنالك فضاء مطلق، فهل يمكن الدوران إلا إذا كان منسوباً لشيء موجود؟ .. – ومن جهة أخرى، كيف يسوغ لنا أن نقبل استنتاج (نيوتن) والتصديق بوجود الفضاء المطلق؟!
نقول: إذا افترضنا أن بوانكاريه هنا يشكك في دوران الأرض، فقوله هنا شديد العجب، .. حيث نراه يستحضر الدليل المادي المحسوس على دوران الأرض  – رقاص فوكولت – ويفترض أن الراصدين معزولون حتى عن رؤية السماء، فإذا ما أثبتت له التجربة أن الأرض تدور، بدوران الجهاز، نراه يعود يستنكر الاستدلال بما يظهر كأنه دليل عقلي. وهذا الدليل يقول أننا لا نعلم شيء تدور الأرض بالنسبة له إذا محونا كل شيء مادي يمكن رؤيته من الأرض، فما معنى الدوران إذاً إلا إذا كان لحيز واقعي مطلق يكتنف الأرض. وهذا الدليل إن كان الغرض منه إثبات أن الأرض لا تدور، فهو فاسد في الحقيقة لأنه يفترض شيء موهوم –فضاء فيزيائي مطلق – ثم يستنكر غيابه، ويستدل من ذلك على عدم تصور الدوران إلا بالنسبة إليه. ولو افترضنا جدلاً أنه غير فاسد، لكان أضعف من الدليل الحسي الذي أستُدل منه على دوران الأرض، فكيف يرتكن إلى الدليل العقلي الموهوم، الذي يرى فيه إشكالية الاستدلال بين الدوران والفضاء المطلق، ثم الفاسد في نفسه، ليُشكك في دوران الأرض الثابت بالحس التجريبي، بدليل التجربة التي استبعدها فقط لغرض تمهيد قبول جدلية البرهان؟!
ولكن العبارة نفسها تسمح بتأويلها على نحوٍ مختلف! .. فربما يقصد منها تساؤلاً عن إمكانية إثبات وجود الفضاء المطلق، باعتبار أن الأرض تدور بالنسبة إليه. وحيث أنها دائرة كما تثبت التجربة (رقاص فوكولت)، فلا بد أن هناك حيزاً مطلقاً تدور الأرض بالنسبة إليه، وهذا الحيز هو الفضاء المطلق، ... لذلك، لا تحمل العبارة أي دليل على عدم دوران الأرض، بل إنها تقرر أن تجربة رقاص فوكولت تثبت ذلك، حتى لو لم يكن الدوران مستوعب الفهم في نسبته إلى حيز مطلق.
يستكمل بوانكاريه (فيما ينقل عنه محمد ريد وجدي) ويقول:
- لنرجع إلى الفرض الذي فرضناه أولاً، وهو أن هنالك سحباً كثيفة تحجب الكواكب عن أعين الناس، فلا يرونها، بل ولا يتوهمون وجودها، فكيف يعلم أولئك الناس حينئذ أن الأرض تدور؟ كانوا بلا شك يعتقدون أكثر من أسلافهم بأن الأرض التي تحملهم ثابتة غير متحركة، وكانوا ينتظرون آماداً طويلة حتى يأتيهم (كوبرنيك)، ثم ينتهي الأمر بمجيئه، فكيف يجيء؟
- قبل مجيء كوبرنيك يكون العلماء قد اخترعوا شيئاً من موالاة الجد والتنقيب ليس بأعجب من كرات (بطليموس) الزجاجية[17]، ويكونون قد جمعوا الفروض على الفروض، وزادوا المسائل تعقيداً وإشكالاً حتى يأتي (كوبرنيك) المنتظر، فيكنسها كلها دفعة واحدة وهو يقول: (من الأسهل أن يفرض الإنسان أن الأرض تدور).
وكما أن (كوبرنيكنا) جاءنا يقول: (من الأسهل أن نفرض أن الأرض تدور لأن قوانين علم الفلك تدخل بهذا الشكل في قالب أسهل)، كذلك يأتيهم (كوبرنيكهم) وهو يقول: (من الأسهل أن نفرض أن الأرض تدور لأن علم الميكانيكا يصبح في ذلك في قالب أسهل)، وهذا لا يمنع أن يكون الفضاء المطلق غير موجود، أعني أن العَلَامَة التي يجب عزو الأرض إليها للتحقق من دورانها، ليس لها وجود حقيقي. ومن هنا نرى تأكيدهم بأن الأرض تدور لا معنى له، لأنه لا يوجد ما يثبته بالتجربة. إلخ.
الإثبات التجريبي الذي يقصده بوانكاريه هنا هو في علاقة الأرض الدوارة بالفضاء المطلق على الخصوص، إذ أنه اعترف من قبل بأن رقاص فوكولت يثبت دوران الأرض. ولكنه يتشبث هنا بدليل حسي مباشر، باعتبار أن رقاص فوكولت دليل حسي غير مباشر. والفرق بين الدليلين مثل الفرق بين من يركب سيارة وينظر من النافذة فيرى سيرها على الأرض، وآخر لا يرى خارجها من أي منفذ ولكن يشعر بأرجحتها واندفاعها وصوت عجلاتها. فالدليل الذي يقصد بونكاريه غيابه هو النوع الحسي المباشر، .. ولكنه قد اشترط على الحالة التي يقصدها، والتي تنعزل فيها الأرض عن أي رؤية سماوية وراء سحاب كثيف لا ينقشع. بمعنى أنه يضع شرطاً قسرياً على أهل الأرض يمنعهم من رؤية منظر السماء، ويشترط أن يستطيعوا إثبات دوران الأرض على نحو صريح. فأنّى يتيسر ذلك؟! .. وعندئذ، وفقط عندئذ، لا يستطيع أحد على الأرض أن يقطع بأن هناك دوراناً، وببساطة، لأنه قد انقطع عن أسباب البرهان. ... ولكننا نعلم ويعلم بوانكاريه بالرصد الذي يمكّن أهل الأرض من تمييز الدوران من عدمه، وهو ذلك الذي يُسمى بـ اختلاف المنظر Parallax. ... وإذا كان هذا البرهان غير متيسِّر أيام بوانكاريه، فإنه الآن فائض عن الحاجة، حتى أنه قد تم رصد اختلاف منظر آلاف النجوم بين مواقع الأرض المختلفة على مدارها حول مركز المحموعة الشمسية. .. بمعنى أن الرصد المباشر للسماء – والذي يقطع بدوران الأرض – لم يعد مستعصياً كما كان. ولكن لننتبه، .. دون انغلاق السماء بأي حجاب يمنع رؤيتها. .. ولننتبه أيضاً، ... أن يكون ذلك بفصل مسألة الدوران عن مسألة الفضاء المطلق الذي يطلب بوانكاريه الاستدلال عليه كي يقطع بدوران الأرض.
ثم يعلق محمد فريد وجدي على ما قاله بوانكاريه، ويقول:
- يرى قارئنا من تضارب هذه الأفكار بين أكبر علماء الأرض أن أمر دوران الأرض غير حاصل على ما يجعله من العلوم البديهية، فإن مثل العلامة (بونكاريه) لم يكن يتجاسر على مثل هذا القول، وهو أكبر رياضي فرنساوي اليوم، إن لم يكن أكبر رياضي فلكي في العالم، إذا لم يكن على ثقة تامة ما يقول، وعلى بينة مما يرمي إليه.
نقول: نشير إلى أهم ما دفع بوانكاريه إلى هذا التمييع لأدلة دوران الأرض، وذلك هو فلسفته العلمية القائمة على أن التنظير العلمي – وخاصة ما كان منه هندسي أو ميكانيكي التوصيف - ليس إلا مُواضعة convention، وهو المذهب الذي سـُمِّي بالمواضعاتية conventionalism. وهذا المبدأ لا يخص موضوع حركة الأرض بعينها، بل أراد أصحابه تطبيقه على كل نظرية فيزيائية من النوع المشار إليه على عمومه، ... بمعنى أنه ما من نظرية من ذلك إلا وهي عالقة بين الإثبات والنفي[18]. .. وإذا عُلم هذا، عُلم أن ما قرأناه له حول حركة الأرض لا يعود إلى إشكال أو خلاف كما فهم محمد فريد وجدي في أمر دوران الأرض! بل إلى فلسفة بوانكاريه التشكيكية في مطابقة التنظير الإنساني للحقيقة الطبيعية، وعلى مستوى كل النظريات الفيزيائية الآلية. ونذكر مثال آخر لتشكيكاته، ونقصد نظرية وجود الذرات المادية[19] أيضاً، حيث كان يراها سنة 1902 نظرية محايدة Indifferent غير قابلة للإثبات، ومثلها مثل حركة الأرض! هذا برغم إقراره بفائدة هذه النظريات في تيسير فهم الوجود الطبيعي، إلا أنه عاد سنة 1911 إلى الإعلان عن قبوله بوجود حقيقي للذرات[20]، وقال[21]: [ظلت الفرضيات الذرية والميكانيكية لوقت طويل محض فرضيات، حتى تراكم لها من الاستدلالات المتسقة ما يجعلها أخيراً تتجاوز حاجز الفرضيات والتصورات المفيدة. وبدا لنا الأمر الآن وكأننا نراها – إن جاز القول - مادام أننا نستطيع عدَّها. ويعود الإنجاز الرائع في ذلك إلى جين بيرِن  Jean Perrin، الذي أكمل به انتصار أصحاب المذهب الذري[22].  ... وأصبحت للذرة، التي افترض الكيميائيون وجودها، حقيقة واقعة].
إلا أن الحقيقة عند بوانكاريه لا يقصد بها حقيقة عينية في الوجود، بل انسجاماً في العلاقات الفيزيائية – معبراً عنها في صياغات رياضية - تتضح بها المعاني وتآلف، ومصداق ذلك قوله[23]:
[هل الانسجام في الطبيعية الذي يظن الذكاء الإنساني أنه اكتشفه، موجود بالفعل خارج عقل الإنسان؟! .. لا.. ، فبلا شك أنه من المستحيل القول بوجود حقيقة طبيعية مستقلة تماماً عن العقل الذي أدركها، وأبصرها، وأحس بها. فهذا العالم الخارجي، إذا افترضنا وجوده، غير متاح لنا العلم به على الإطلاق. وأما ما نُسميه الحقيقة الفيزيائية الموضوعية objective reality في أعلى درجات التحليل، ليست إلا ما هو متفق على العلم به بين عدد كبير من العقلاء، والتي من الممكن أن يشترك الجميع في معرفتها. وليس هذا الشيء المشترك، كما سنرى، إلا الاتساق الذي ترتسم به المشاهدات في قوانين رياضية. وهذا الاتساق – المعبر بتفرد عن ما يُسمّى حقيقة موضوعية - هو كل ما يمكن لنا نتحصل عليه من الحقيقة.]
وإذا كان الأمر كذلك، فلا ينبغي أن يُستشهد برأي بوانكاريه في نظرية بعينها حول مطابقتها للواقع، لأن موقفه يعم مبدأ التنظير، ويتبدل بوفرة الأدلة، وقد طغت الآن أدلة اختلاف منظر الهيئة النجمية star parallax من مواقع الأرض المختلفة على مدارها، بما يتحتم معه ألا ينكرها بوانكاريه لو كان معاصراً لنا. ومن أراد الإنصاف وارتكن إلى بوانكاريه، فلن يجد في كثير من نظريات الفيزياء فهماً يوثق في مطابقته الحقيقة للواقع، بأكثر من آليات وتصورات مفيدة، ولأن التجارب في زمنه لن تدعم دائماً مصداقية مطلقة للواقع experience does not justify theory. وسيؤول الحال إلى التشكك في كثير من التنظيرات، حتى وإن كان للتنظير من فائدة وقدرة على التنبؤ.
وعلى ذلك، يكون كلام فريد وجدي [تضارب هذه الأفكار بين أكبر علماء الأرض] غير صحيح لسببين، وهو أنه المستند الوحيد في التشكيك في حركة حقيقية للأرض إنما هو بوانكاريه، ولا يُعد كلامه على انفراد، تضارب أفكار بين أكبر علماء الأرض، بل شذوذ في الرأي لعالم بارز عن جملة العلماء. خاصة وأن الاثنين الذين ذكرهم فريد وجدي غيره ليسوا من رتبة المشهود لهم، كما أنهم لم يحملوا لنا أدلتهم، أللهم إلا نقولاتهم عن بوانكاريه نفسه.. وأما قوله [إن مثل العلامة (بونكاريه) لم يكن يتجاسر على مثل هذا القول، وهو أكبر رياضي فرنساوي اليوم، إن لم يكن أكبر رياضي فلكي في العالم، إذا لم يكن على ثقة تامة ما يقول، وعلى بينة مما يرمي إليه.] فلا نراه إلا تقليداً مقيتاً لغير حامل برهان. وقد استعرضنا قوله في المسألة، فلم نجد له فيها حُجّة.
وأخيراً يقول محمد فريد وجدي: [لو كان المعلمون في أثناء تدريسهم للعلوم الطبيعية يسلكون مسلك العلماء في الإقرار بالجهل، فيرون تلامذتهم وجه الضعف في المعلومات الطبيعية، لأدُّوا لتلامذتهم أكبر خدمة، لأنهم بهذا يعوّدونهم على الأدب النفسي، فتنشأ نفوسهم معتادة على التواضع أمام فخامة الكون وجلالته والسجود أمام مبدعه، ومصوره، ولكن أكثرهم يُدَرِّسون لهم العلوم المشكوك فيها والفروض الطبيعية الظنية بصفة حقائق ثابتة، فيتذرع بها أولئك التلامذة الأغرار متى كبروا إلى الإلحاد، ونفي الروح والخلود، ولا يدرون أنهم يتمسكون بالظنون "وإن الظن لا يغني من الحق شيئا".]
ونستغرب، من بناء هذا المبدأ العلمي النقدي الرائع على تشكيك فرد من العلماء لم يقدم من البرهان ما يشهد لتشكيكه. بل إن مبدأه لا يخص المسألة التي استُفتي فيها على الخصوص، بل هو تشكيكي في كل عمل علمي من هذا النوع الديناميكي، وعلى غير مبدأ صحيح. فهل هذا تفضي دعوته حقاً إلى صناعة طلاب نقاد محققون يثقون بالحق عندما يجدونه، أم إلى نقد فارغ يصنع من طلاب العلم المتبعين له، شكاكاً يتجاوزون الأدلة والبراهين إلى مائية الفكر، وفراغية معنى الوجود المادي؟! وإذا كان التشكيك في المادي قد أنكر عنه الحقيقة الوجودية المستقلة عن الفكر، فكيف بالغيبي اللامادي عند بوانكارية ومن يثق في فلسفته؟!  .. ثم أن علاقة مسألة حركة الأرض بالتشكيك بالدين ونفي الروح علاقة منعدمة. إلا إذا أراد فريد وجدي القول بأن الإسلام يقول بثبات الأرض، وأن القول بخلاف ذلك – أي دورانها وجريانها- تشكيك بما أتى به الدين! .. رغم أننا نستبعد أنه يريد ذلك على الصراحة، إلا أن كلامه قد يؤدي إليه، أو يستقرئه غيره منه! ونظن أن هنالك من تأثر بذلك من مشايخنا الأجلاء لموافقته آراءهم التي استنبطوها من موروث التفسير، (نُشير بذلك إلى الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى في كتابه " الادلة النقلية و الحسية على جريان الشمس و القمر وسكون الأرض"[3]، ومن أخذ برأيه)، فأراد الشيخ أن يستقوي بما يدعم رأيه، فاستشهد بنقولات محمد فريد وجدي التشكيكية عن بوانكاريه، في مسألة حركة الأرض ودورانها، وهي استدلالات قد جانبها الصواب كما رأينا. وخاصة أنها أقوال تؤول أيضاً إلى الشمس التي نؤمن بجريانها – بنص القرآن الصريح – مثلما أنه تؤول إلى الأرض. فهل يأخذون من مضمون كلام بوانكاريه أيضاً جواز القول بثبات الشمس وسكونها؟! .. لا أراهم يفعلون ... فإن ردوا مبدأه الذي يُبنى عليه جواز نفي حركة الشمس، فعليهم ألا يأخذوا بنفس المبدأ في جواز نفي حركة الأرض، وإلا كان استشهاداً انتقائيا، .. وهو أمر لا يجوز لوحدة العلة في مسألة حركة الأجرام عند بوانكاريه؛ للأرض كانت أو للشمس أو غيرهما.
والآن: إذا عدنا للأسئلة الستة التي طرحها السائل على "محمد فريد وجدي" عن دوران الأرض، وكان يريد لها إجابات شافية!!! ... فهل أجابه عنها فريد وجدي؟! ... الحقيقة أنه لم يجبه عن شيء منها، .. بل إنه صرفه عنها، مشككا إياه فيها! .. وهذا هو الغريب في الأمر.
نقول:
يمثل ما سبق حرصاً من الأستاذ محمد فريد وجدي على التشكيك في دوران الأرض، ولا أرى له محلاً في غرض الكاتب إلا إضعاف ثقة المسلم في علوم الإنسان المادية، من حيث أنها مادية، وما يؤدي ذلك إليه من استنكار أن تؤدي المادية الجارفة بإنسان مسلم إلى جنوح ناحية الإلحاد، إذا كان أوثق أحوالها يصل إلى هذا المستوى من الشك والريبة عند أصحابها. لذا، عمد الكاتب – رحمه الله – إلى بيان أن العلوم الأوربية، مهما علا قدرها، فهي متبدلة، مشكوك في يقينها، شاردة في أعين علمائها عن حقائق الوجود.
ومع إضعاف النزعة المادية، ونزع قناع القوة من وجهها، عمد الأستاذ محمد فريد وجدي على الجانب الآخر إلى بث شواهد وبراهين مثيرة على عودة الأوربيين – أصحاب الحضارة – إلى عالم الروحانيات. وتأكيد أن هذا المنحى قد اكتسح عالم العلوم المادية، وبدى من كلامه أن انحسار العلوم المادية أمام (العلوم) الروحانية  – إن جاز التعبير - مسألة وقت. وجاء في استشهاداته على ذلك قوله[24]: [إن غرضنا الوحيد من كثرة الكلام في أمور ما وراء المادة، على الأسلوب العصري، الذي يسمونه في أوروبا وأمريكا بالماتييتزم (التنويم المغناطيسي) والاسبيريتزم أو الاسبيريتواليزم (استحضار الأرواح)، هو مطاردة الإلحاد المتفشي الآن في كثير من أفراد النشء الجديد، المغترين بالعلوم المادية التي تعلموا شيئاً منها، وكثير من .. الذين سحرتهم مموهات المدنية الأوربية وفتنتهم مظاهرها.
إننا لليوم لم نحصّل البرهان النهائي على أن ما يظهر في أوربا للمشتغلين بمسائل ما وراء المادة هي أرواح الموتى حقيقة، ولكننا نعتقد ولا نتردد بأن شيئاً يظهر لهم من وراء هذا العالم، فلا ندري إن كان هو روح من عالم الأرواح، أو عالم الجن، أو عالم آخر لا نعمله "وما يعلم جنود ربك إلا هو"، وسبب عقيدتنا في صحة ظهور شيء من هذا القبيل، هو إجماع كل الباحثين من العلماء الثقاة في كل بلد وبكل لغة على صحة ذلك، وإعادة بعضهم لتجارب بعض على اختلاف بلادهم ولغاتهم، مما يدل المُطَّلع من أول وهلة على استحالة اجتماع هؤلاء الألوف المؤلفة من أكابر علماء الأرض على ضلة عقلية، أو ألعوبة سحرية. ]
وقوله[25]: [نحن نجشم أنفسنا كل حين ترجمة مثل هذه الحوادث (يقصد تحضير الأرواح) ليرى المسلم بعينيه، أن العالم أصبح على خلاف ما كان عليه في مقدمة القرن التاسع عشر والذي قبله، من جهة الاعتقاد بالعالم الروحاني، وإذا كان العالم الأورباوي الذي كان مادياً بالأمس أصبح يعترف - دعك من استحضار الأرواح - بأن في الإنسان سراً مكنوناً، ومعنىً علوياً مصوناً، وأن جسمه هذا غلاف مؤقت لهذا السر السماوي يضمه حيناً، ثم ينفرج عنه، فيصعد ذلك السر إلى عالمه النوراني، يسبح في سبحات الإفاضات الروحانية مع الأرواح الملكوتية، قلنا إذا كان العالم الذي كان مادياً بالأمس، أصبح يقول هذا القول: أليس الأولى به من المسلم الذي بعثه الله لإعطاء الروح حقوقها، وتأمين العواطف الإنسانية على مطلوبها، وإذا كان صرعى المدنية الجديدة يصارعون أنصار العقائد الحقة بالعلم الأوروبي، فها هو العلم الأوروبي وها هم قادته وأراكينه، حيارى أمام آية من آيات الحق جل شأنه، أرسلها إرغاماً لمعاطس الكفر، وكسراً من شرة العناد، والله غالب على أمره.]
وقوله[26]: [من هنا يرى القارئ أمرين: أولهما هذه المدهشات (من مسائل تحضير الأرواح والتنويم المغناطيسي وأمثالها من ظواهر التخاطب عن بعد) أصبح شغلاً شاغلاً لكبار العلماء في العالم المتمدن كله، خلافاً لما يذهب إليه بعض الكتّاب عندنا، وليس بعد ما نقلناه من جريدة الطان، وهي من أشهر الجرائد الأوروبية، بقلم كاتب من أشهر كتاب الفرنساويين مقال لقائل في هذا الموضوع. ثانيهما أن شرة الإلحاد الأوربي قد انكسرت وأصبح عباد المادة لا يحيرون جواباً أمام هذا السيل العرم من الخوارق للعادة، الذي لم يدع مكمناً إلا وتسرب إليه وأشرف عليه. حتى أصبحنا ننتظر من علماء المدنية الإجهاز على البقية الباقية من صنم الإلحاد والجمود، وكان ذلك أولى بنا وأوجب علينا. وياليتنا نسير مع السائرين، ولكن متطورونا وقفوا مع الواقفين، كأنهم أحفاد أولئك الماديين، ويا ليتهم وقفوا ساكتين، بل جمدوا مثبطين صادين، كأنه يضرهم أن يثبت فيما وراء المادة عالم آخر، ويؤذيهم أن يكون الإنسان ذا روح تحيا حياة أبدية، فليقفوا أو ليمشوا، إن الله ناصر رسله، ومؤيد دينه، ومحقق وعده، والسلام على من اتبع الهدى.]
والحقيقة، أننا لا نرى في كل هذه الشواهد – التي أتى بها محمد فريد وجدي - إلا استبدال سيء بسيء. فلا أن هذه المزاعم تقوّي إيمان مؤمن بالله تعالى وكتابه ونبيه إيمان العزة والإقدام، ولا تنزع عن المادي ماديته، ولا تهدي ضال من ضلاله. فالإيمان بالغيب لا يتطلب شهادة من الغيب على الغيب، وإلا لأصبح الغيب شهادة. وكل ما يفعله في ذلك هو إرهاب الإنسان بقوى خفية، والتي يغلب عليها ألا تكون خيرة في ذاتها، وهذا – وإن كان يُلجئ الإنسان إلى ربه سبحانه ليحفظه من شرور الغيب، ويستوي في ذلك العالم والجاهل– إلا أنه يبث فيه روح الخوف من الاقتحام، والتخاذل في مواقف الإقدام، والتسليم بالجهل، ما دام أن العلم مهما اشرأب له طرف فلن ينال من مثل هذا الجهل الغامر بالروحانيات شيئا.
أما المادي، فلن يكترث كثيراً بأخبار الروحانيات، ولن يراها إلا عبثيات، وجهالات. فالوجود عنده لا بد أن يثبت له وجود، وأن الغيب لا بد له من شاهد من الحاضر، وإلا لكان عدما، ولن يفترق غيابه عن عدمه في شيء - وهل نفعل نحن المسلمين شيئاً غير هذا، عندما نؤمن بغيوب السموات والأرض بشهادة القرآن - وهذا ما حدث للماديين على مدار القرن العشرين، الذي لم ير الأستاذ فريد وجدي منه إلا قليلاً من فتن العلم المتتابعة فيه ألوانا، عندما أرادوا شاهداً على الغيب. وإن لم يكن للغيب حق من شاهد صادق، فكيف يميز الناظر في ذلك بين غيوب صادقة واقعة لا محالة، وغيوب باطلة ممحوقة لا ملامة؟!
وأما الضال، في الوهم بروحانيات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، فلن تزيده أخبارها إلا تمسحاً بعتبات الدجالين والكهان، وامتثالاً للشعوذات والضلالات. وخير لنا الاشتغال بعالم الشهادة وماقاله الله تعالى في شأنها، والإيمان بعالم الغيب على النحو الذي وصفه الله تعالى لنا، دون تأويل يجنح بنا ولا تعطيل يعدمها عندنا.
وعلى هذا، فما أورده محمد فريد وجدي في كتابه: "الإسلام في عصر العلم"، وردده في غيره من كتب، مثل "كنز العلوم واللغة"، و"دائرة معارف القرن العشرين"، في سياقات شبيهة، من تهوين للعلوم المادية، ونفخ الروح في روحانيات لا يعلم حقيقتها من زيفها إلا الله سبحانه، لا علاقة له بالكشف عن علاقة القرآن بحقائق الوجود، والرباط الوثيق بين خلق الله سبحانه في العيان، وكلامه الموحى به عنها في القرآن، والذي هو العلاقة الصحيحة بين ما أنزله الله تعالى من وحي صادق، وما يؤول إليه صادق العلم الحديث عن حقائق الموجودات.
المؤلف



[1]  محمد فريد وجدي: كاتب إسلامي مصري الجنسية من أصول شركسية ولد في مدينة الإسكندرية بمصر سنة 1878م / 1295 هـ وتوفى بالقاهرة سنة 1954م / 1373 هـ. عمل على تحرير مجلة الأزهر لبضع وعشر سنوات، له العديد من المؤلفات ذات طابع ديني ووثائقي ومن أهم كتبه: "كنز العلوم واللغة"، و"دائرة معارف القرن الرابع عشر الهجري والعشرين الميلادي" وتقع في عشرة مجلدات, وله كتاب مهم بعنوان "صفوة العرفان في تفسير القرآن" أعيد طبعه عدة مرات، وله كتاب رائع في السيرة عنوانه "السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة"، وله كتاب في شرح مباديء الإسلام ورد الشبهات عنه عنوانه: "الإسلام دين عام خالد". من مؤلفاته المهمة أيضا: "الإسلام في عصر العلم" وهو محاولة في التوافق بين العلم والدين، ومنها أيضا رده العلمي على (الشعر الجاهلي) لطه حسين.
أنظر هنا أيضا.
[2]  الإسلام في عصر العلم، محمد فريد وجدي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، بدون تاريخ، ص483.
[3]  عبدالعزيز بن باز، "الادلة النقلية و الحسية على جريان الشمس والقمر و سكون الأرض"، الرياض، الطبعة الثانية، 1982، ص57-59، 60.
[4]  الإسلام في عصر العلم، محمد فريد وجدي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، ص489.
[5]  الإسلام في عصر العلم، محمد فريد وجدي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، ص490-491.
[6]  أبو حامد الغزالي، مشكاة الأنوار، ص 3.
[9] شعب الإيمان للبيهقي.
[10] الإسلام في عصر العلم، محمد فريد وجدي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 485.
[11] ABC of Relativity Theory.
[12] راجع أيضاً ما كتبه محمد فريد وجدي في: "دائرة معارف القرن العشرين"، الجزء الأول،
حيث قال صفحة 182: [أما دوران الأرض، فهذا موضع الشك. أقول الشك لأنه رغما عن شيوع فكرة دورانها، وتغلبها على النظرية المضادة لها، لم تزل بين الأعلام الرياضيين موضع شك. قال العلامة (بوانكاريه) في كتابه: (العلم والفروض العلمية): "يقولون أن الأرض تدور، وأنا أيضاً (هو أكبر رياضي فلكي فرنسي) لا أرى مانعاً من دورانها، فإن فرض دورانها سهل القبول، ويمكن به فهم كيفية تكون ونمو الدنياوات، ولكنه فرض لا يمكن إثباته، ولا نفيه بالأدلة المحسوسة"].
وفي صفحة 185 قال: [رأى القارئ من قول العلامة (بوانكاريه) أنه لا يوجد لدينا دليل حسي على دوران الأرض، ولكن لدينا أدلة غير حسية لا تُحصى وكلها تختص بالعلوم الرياضية ولا يدرك مكانها من القوة إلا الراسخون في الرياضيات، ولذلك ضربنا عنها صفحاً.]
[13]  يقصد (كاميل فلاميريون Camille Flammarion) كما سيؤكد ذلك لاحقاً,
[15]  بعد البحث والتنقيب، عثرنا على هذه العبارة لقائلها (Poincare) في كتابه (Science and hypothesis  1905, ، ص 114) في ترجمتها الإنجليزية، وجاء نصُّها كالآتي:
]If the sky were forever covered with clouds, and if we had no means of observing the stars, we might, nevertheless, conclude that the earth turns round. We should be warned of this fact by the flattening at the poles, or by the experiment of Foucault's pendulum. And yet, would there in this case be any meaning in saying that the earth turns round? If there is no absolute space, can a thing turn without turning with respect to something; and, on the other hand, how can we admit Newton's conclusion and believe in absolute space?[
[16]  طبيب فرنسي أثبت دوران الأرض أثناء الليل بواسطة البندول (الرقاص) توفي سنة 1868م (حاشية المصدر).
[17]  يقصد (الكرات السماوية  Celestial spheres).
[19]  نفس المرجع.
 [20] David Stump, “Henry Poincare Philosophy of Science”; Stud. Hist. Phil. Sci.. Vol. 20, No. 3, p.339.
 [21] H. Poincare, “Les Rapports de la Matière et de L'Éther’", Journal de Physique theorique et appliquees 5 (1912), p.347.
[22]  يتابع هذا الموضوع بتفصيل جيد في الدراسة الآتية:
- Charlotte Bigg, “Evident atoms: visuality in Jean Perrin’s Brownian motion research”, Stud. Hist. Phil. Sci. 39 (2008) 312–322.
[23] H. Poincare, The Foundations of Science: Science and Hypothesis, The Value of Science, Science
and Method, G. Halstead (trans.) (1913, rpt., Washington D.C.: University Press of America, 1982), p.209.
[24]  الإسلام في عصر العلم، ص 440-441,
[25]  السابق، ص 483.
[26]  السابق، ص 493.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق