الثلاثاء، 11 فبراير 2014

الفصل (أ21) – محمد لطفي الصباغ - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ21) محمد لطفي الصباغ
بقلم: عزالدين كزابر
الأستاذ الدكتور/ محمد لطفي الصباغ
عودة إلى فهرس الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
عرض الأستاذ الدكتور محمد لطفي الصباغ[1] (التفسير العلمي، ملتبساً بالإعجاز العلمي) في صورة تغلب عليها السلبية والابتسار، ثم أصدر بناءاً على ذلك حُكْماً إقصائياً مجملاً! .. ثم عاد على غير توقع إلى المدح بغير مميز لما يُمدح مما يُذم!!
فجاء في تعريفه للتفسير العلمي أنه[2]: [تحكيم مصطلحات العلوم في فهم الآية، والربط بين الآيات الكريمة ومكتشفات العلوم التجريبية والفلكية والفلسفية].
فنقول أن "التعريف" أو "الحد" الذي يضعه واضع لمعنى أو نشاطٍ ما، يذهب جميعاً لكل مِنْ أصْل هذا المعنى أو النشاط، وسلوك المنتسبين إليه، إلا إذا ميز بينهما بوضوح. فإذا قلنا ما هو الإسلام، فسوف تؤول الإجابة العامة إلى كل من الإسلام باستقلال عن سلوك البشر المنتسبين إليه، وأيضاً إلى ممارساتهم، سواء التي ألحقتهم به، أو شطّوا فيها عنه. ولأن هذا الخلط يُسئ إلى أصل المعنى أو النشاط إذا كان أتْبَاعه قد انحرفوا عنه بدرجة ما، فيلزم للمتصدي للإجابة، أو "واضع التعريف"، أن يميز بوضوح بين خالص المعنى أو النشاط الذي يسعى لتعريفه، وما قد يطرأ من سوء سلوك أتباعه، فيُشوّش على هذا الأصل بحسبانه عليه.
وفي موضوعنا هنا، ينبغي أن يتأصل هذا التمييز بين "التفسير العلمي" باعتباره منهجاً ينبغي أن يتبعه المفسر العلمي للوقوف على معاني آيات القرآن الأشبه بالحق، والمرتبطة على الخصوص بظواهر كونية أو اجتماعية أو إنسانية، وبين مدى التزام المشتغلين بالتفسير العلمي بهذا المنهج الأهدى.
ونتيجة غياب هذا التمييز في تعريف الشيخ الصباغ للتفسير العلمي، فقد ظهرت فيه مؤآخذتان: الأولى: قوله بـ (تحكيم مصطلحات العلوم في فهم الآية)، والثانية: إدخال (العلوم الفلسفية) في التعريف.
ومرجع هاتين المؤآخذتين إلى سوء التطبيق من المشتغلين بالتفسير الإعجاز العلمي، كما أشرنا، إضافة إلى غياب تصور جَلِي للمنهج الأهدى في هذا النشاط.
أما عن تحكيم مصطلحات العلوم في فهم الآيات الكونية، فقد وقع المشتغلون في الإعجاز بالفعل في أخطاء عديدة نذكر منها: (الذرة)، و(اليوم)، و(فلك)، و(ماء) ...والقائمة طويلة. ومعلوم أن تحكيم الاصطلاح في أي صنعة من صناعات العلوم انحراف عن معاني الآيات المستقلة عن عيون المصطلحات وما وُضعت له، وما حُدَّ لها من أسوار المعاني. فالذرة وضعت حديثاً، وفقط حديثاً للفظ atom، وليست مثلاً للدقائق المكونة لها مثل: الإلكترون، والبروتون. رغم أن لفظ (ذرة) في القرآن، عامة في دقيق الأشياء في الإدراك البشري. وقد حمل نفس الـمُسمّى atom قبل عدة قرون اصطلاحاً عربياً مفارقا، هو (الجوهر الفرد) وكان أصوب في استهداف معنى الـمُسمّى، فهل لما تغير الاصطلاح إلى (ذرة) لمحض المواضعة ليس إلا، أصبح هذا هو المعنى المراد في القرآن حيثما ترد (ذرة)، بعد أن لم يكن؟! .. فماذا لو اختلف اختيار الإنسان للاصطلاح، أتنتفي عندئذ العلاقة مع اللفظ في القرآن.
وقس على ذلك لفظ (اليوم)؛ فهو في العربية مُدة النهار، وفي الاصطلاح الحديث (دورة الأرض حول نفسها دورة كاملة بالنسبة للشمس). فلا بد وأن يصبح هذا اليوم الفلكي (كما ورد في المعجم الوسيط) هو (مجموع يوم وليلة)، ومن ثم يختلف عن اليوم في العرف العربي القرآني. ولفظ فلك، يخلط بينه المشتغلون وبين مدار، الذي هو الخط الوهمي الذي يسلكه الجرم السيار كالقمر مثلاً حول الأرض رغم عموم معنى الفلك في قوله تعالى " كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ " ليشمل كامل نطاق الدوران الـمُجَسَّم، ولفظ (ماء)، هو في القرآن – إذا أريد الماء المعروف – فإنه هذا السائل المائع الذي يملأ البحار، أو نشرب منه إن كان خالياً من أملاح الأرض، ولكن في الاصطلاح هو الماء الكيميائي، سواء كان سائلاً أو غازاً أو صلباً.
ولا يشتط فقط بعض المشتغلين في الإعجاز في سوء تطبيق معاني الألفاظ بحمل الاصطلاح إلى القرآن مع عدم تمييز مثل تلك الفروق التي أشرنا إليها كأمثلة، بل يخطئ أيضاً من يمنع معاني هي صادقة، لمجرد أنه لم يعلم أن صفات الشيء تؤهله إلى حمل مسمى اللفظ، ومثال ذلك لفظ (كوكب). ولأن (الكوكب) ورد في القرآن أنه في السماء، كما في قوله تعالى " إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ "(يوسف:4)، فامتنع بعض أهل التفسير بالمأثور عن قبول أن يكون الأرض كوكب. رغم أنهم إذا ركبوا سفينة فضاء وذهبوا ووقفوا على سطح القمر، حتى وإن لم ينتقلوا من بيوتهم على سطح الأرض، فسوف يرون الأرض كوكباً وسوف يرون القمر أرضاً!!!
فالإشكال إذا أن قضية التفسير العلمي مشوشة عند أهل القرآن، من مشتغلين بالإعجاز، أو معرضين عنه، فيما يدعون ويتركون من الاصطلاحات، وكيف يحملون أو لا يحملون الاصلاح أو يخصصونه أو يعممونه، في فهمهم لآيات القرآن. وهذا الإشكال لا ينبغي أن يكون أصلاً في التعريف، بل لا علاقة له به، من حيث أن التفسير العلمي – إن أردنا له تعريفاً أصوب - هو [تفسير آيات القرآن التي تتناول واقعاً ما بالاستعانة بالعلم التفاعلي بهذا الواقع]، وهذا عام في العلوم الكونية وغير الكونية. ولا يلحق بهذا العلم [بافتراض الإقرار به علماً متفرعاً على علم التفسير] أن من انخرطوا في نشاطه يعوزهم التأهل والدربة على سلامة ممارسته، والتمنهج الرصين الذي يستدعيه.
فإن انتقلنا إلى المأخذ الثاني على تعريف الشيخ الصباغ للتفسير العلمي، فنراه يُدرج "العلوم الفلسفية" في أنها من العلوم التي يكون النظر فيها بمعية آيات القرآن، أو النظر في معاني آيات القرآن بمعيتها، من التفسير العلمي. وهنا إشكال. .. فما يُسمى بالعلوم الفلسفية من فلسفة ومنطق ومدارس الفكر الإنساني وتاريخه وموضوعاته، ما يشوبه الكثير من عوالق الماضي التي ظهر فسادها لتوهمات أصحابه. وقد أشار كل هذا، إلى عدم جديتها في إصابة الحق الذي تدعيه، وهي كذلك. لذلك كان إدراجها مع العلوم التجريبية والفلكية، التي ترتكن إلى تجارب وأرصاد صادقة لا يختلف عليها التجريبيون والراصدون، وذلك في الارتباط مع آيات القرآن في دراسات التفسير العلمي، إدراجاً غير موفق. وبحكم ضعف مقولات العلوم الفلسفية، وما يشوبها من مائية وتقلب مع قلوب أصحابها، فقد جعل ذلك إصابتها للحق، ومصداقية دعاويها، فقيرة في الثقة، ومنخذلة في البرهان، ولا تصمد أما التجربة، أو أنها دعاوى ما ورائية لا يمكن اختبارها. أما العلوم التجريبية والرصدية، فالمرتكز فيها استنطاق المخلوقات، سواء قبل بناء النظريات أو عند الاختلاف على التأويل. فكان لها أصل يُحتكم إليه، هذا بخلاف العلوم الفلسفية، التي تتعدد فيها وجهات النظر بعدد الناظرين في المسألة الواحدة، وأيما علم لا أصل واحد، بحيث يكون الاحتكام إليها مستقل عن آراء البشر، فهو ليس بعلم. ... لذلك لا تعد العلوم الفلسفية مما يصلح التعويل عليه عند النظر في معاني آيات القرآن، أللهم إلا لنقضها وتصويبها. لذلك كان إدراجها في تعريف "التفسير العلمي" إفسادا أو تشويها له، وتحميله آثام غيره من أنشطة فكرية.
وتابع الشيخ الصباغ– حفظه الله - قائلا: [ويعتمد هذا التفسير على التوسع في مدلول الكلمات، والآيات القرآنية، والاستيحاء من الكلمة منقطعة عن سياقها في الآية أحياناً، والاعتماد على الإشارات من هنا ومن هناك أحياناً أخرى، ويذهب القائلون به إلى أن الإعجاز إنما يتحقق في الإعجاز العلمي، ويقررون بأسلوب خطابي أن كثيراً من النظريات العلمية الحديثة التي تفتَّق عنها الذهن البشري المعاصر بعد أجيال من الخبرة والمعرفة، ورُكَام من التجارب، قد سبق إليها القرآن قبل بضعة عشر قرناً وأشار إليها، ويحاولون الاستدلال بتحميل الألفاظ فوق ما تحتمل ويتكلفون لذلك ويتمحلون. .. (و) كان الاهتمام بهذ اللون من التفسير نتيجة لانبهار نفر منا بضياء الحضارة الأوربية، التي فتحنا أعيننا على مخترعاتها وثراء علومها، فذهب هذا النفر يتلمس إشارات ذلك في القرآن، ويدعو إلى فهم القرآن على ضوء النظريات الحديثة، كأنّ ما وصلت إليه هذه الحضارة حقائق ثابتة.]
وهنا يعدد الشيخ عيوب ممارسات التفسير والإعجاز العلمي، ليس باعتبارها ممارسات يجب الاحتياط لها عند الاضطرار إليه فقط، بل باعتبار أنها جوامع هذا النشاط، يقع فيها من يُلجئ نفسه إليه ويدعم ما يُسمى بالتفسير العلمي بالانخراط في لججه. فيصبح الانتساب إلى التفسير العلمي ما يعني الوقوع بالضرورة في هذه الممارسات، ويصبح عندها ممارسة التفسير العلمي وكأنَّه مَذمّة بالضرورة، يبرأ أهل الإيمان منها، ويحرصون على السلامة من الوقوع فيها.. !!!
ورغم أننا نلحظ صدق هذه الممارسات عند عدد غير قليل من المشتغلين بالإعجاز العلمي، إلا أن ذلك يعود إلى عدم تأهل الكثير منهم، كما سبق وأشرنا، وعدم التسبب بأسباب الضوابط الواجب مراعاتها في تلمس معاني آيات القرآن، للحفاظ على مكنونها الصادق، وعالي مقاصدها ومراميها.
ولا يختلف الأمر في منظورنا في ذم هذه الممارسات، عن ذم ممارسات المشتغلين بتطبيب المرضى قبل قرنين أو ثلاثة، حيث كانت قلة حيلتهم، وجرأتهم على اقتحام تجربة المعالجات، بما يشفَى القليل من مرضاهم، ويموت الكثير!!! .. ولم يستقم الأمر إلّا بعد إنشاء مدارس الطب النظامية، والتمييز بين الطبيب المؤهل، فيُقدَّم، من الممارس الشعبي لمهنة الطب، فيُؤَخّر فيُقيَّد نشاطه أو يُمنع.
أما ما ورد من عبارات التبرير الانتقاصي، من دوافع الالتجاء إلى التفسير العلمي، وبما ينفي عنه الضرورة، مثل التي قيل فيها: [انبهار نفر منا بضياء الحضارة الأوربية، التي فتحنا أعيننا على مخترعاتها وثراء علومها]، أو عبارات الانتقاص من قيمة إنجازات العلوم الحديثة، في وقت أنها تفصح بالفعل عن عالي درجات الصدق فيها، مثلما تعلن الآيات عن مصداقية حامليها، وذلك مثل التي قيل فيها: [كأن ما وصلت إليه هذه الحضارة حقائق ثابتة]، فنراها عبارات تجريحية أو تهوينية إما في حق الـمُصَدقين لقيمة هذه الحضارة، فنستغرب؛ كيف يُلام المُصدق إن جاءته أمارات الصدق، أو في مصداقية هذه الحضارة التي حظيت بها عن استحقاق، وكأن ظهور صدق الصادق إذا صدق مدعاة لاتهامه به والمزايدة عليه! ... هذا مع تحفظنا عن إطلاق عنان الانبهار بما يفوق قيمة الصدق الباعث عليه، وعن ادعاء عصمة الصادق في بعض ما قاله، فيكون معصوماً في كل ما يقول.
ثم جاء الحكم الإقصائي كالآتي[3]: [والحق أن هذا الاتجاه من التفسير غير سديد، وذلك لأن العلم في قلق وتغيير دائم، وتطور مستمر، ينقض اليوم ما أقرّه بالأمس، والحقائق العلمية تبقى ثابتة في نظر العلماء حتى تدحضها حقائق أخرى، أما الفرضيات والنظريات فهي منذ أول وهلة في نظرهم لا تعد من الحقائق في شيء. .. فكيف يجوز في المنهج الصحيح أن يُحتكم في آيات الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلقها إلى تلك النظريات القلقة، والحقائق المعرضة للتغيير؟]
نقول: هذا هو الحكم  إذاً؛ ... أي [عدم سداد مبدأ التفسير والإعجاز العلمي في القرآن].  والعلة: كون العلم: فرضيات ... نظريات .. في تغير وتبدل دائم. ...
ولكن، إذا جَنَّبْنا العلم بالوجود على منهج التجريب والتحقيق.. ، والذي منهجه التنقيح المتواصل لمعارف الإنسان ... فما الذي نستصحبه، ونتأهل به، ونتزود من معينه، من معرفة وآليات فهم، لنتدبر آيات الله تعالى التي أمرنا سبحانه أن نتدبرها؟!
فإن قيل: اللغة العربية، وأصول التفسير، وأصول الفقه، وتفسير العلماء على مدار القرون، ويتقدمها تفسير السلف. .... قلنا نَعَم، والنِّعْم (أي: لن نجد أروع من هذا)، ..... ولكن..
ولكن اللغة العربية نشأت وترعرعت في البيئة الثقافية السابقة عن المسلمين والمصاحبة لهم، والتي يخلو من مفرداتها ونوايا أهلها التي يعبرون عنها بلغتهم، معارف حدثت بعد أن لم تكن، فلم تُسَجّل اللغة أعيانها، وإن سجلت من أشباه المعاني أشياء.
وأصول الفقه، كعلم، قد وُضع لأحكام الـمُكَلَّفين، وليس لأحكام الـمُسَخَّرات من الأشياء وسننها التي سُنَّت فيها سنناً، أو غُرِزت فيها غرائز، أو سُبكت فيها طبائع، أو نُسِجَت فيها قوانين.
والتفسير وأصوله، قد وُضع من قِبَل أهل تلك الثقافة الأولى، فاحتمل معارفها، وتصوراتها في الطبيعيات والمخلوقات، ووقف على أقاصي آفاقها.
فإن جنَّبنا معارف انكشفت وتجلت، وأزاحت خافتاً ضحلاً، وجنَّبنا آليات استُحدثت وأثمرت ناضجا، فعفت النفوس عما بات من ثمرٍ، وجنَّبنا تصوراتٍ جدّت وقرَّت وأبلت بلاءاً حسنا، وأبقينا تصورات بَليت وذهبت، ..
اقول: إن جنبنا هذه التجليات المثمرات القارات الباهرات، وعن خلق الله تتكلم فصيحات، فلن نجد إلا الخافتات الباليات المهترءات. .. ولن نجد إلا الضعيفات من التصورات، المرجوحات من الدلالات، .. المدحوضات من البرهانيات.
إن النفس الواعية حتما بالمعاني ناطقة، فإن لم تجد صحيحها، نطقت بما تيسر لها من توهمات، مثلما أن العطشى لا مَحالة شاربون، فإن لم يجدوا فراتاً، نزحوا غائر آبارهم.
ولنا أن نتساءل: ...لِمَ هذا وغيث الله بالمعارف هاطلٌ، ونور الله بالعلم ساطعُ.
ولمَ نصفُ خلقَ الله بأرض عاطلة، ونجوماً في جلد السماء مُخرزا، فإن سقطت وتناثرت، لم تجد لها إلا أيدي الأرض متلقفا. .. فإن علمنا الأرضَ جاريةً، ارتبكت أوصالنا بما كان حاكينا بالأمس يتنغمُ. ... وقس على ذلك من آيات في الأرض والسماء تكشَّفت، تبحث عن أزواجٍ لها بالوحي تنزلت. فكنا عَزولٌ بين آيات وآيات، وهدمنا أعراس السماء قبل أن تُنْصَبَ، فكنا بإسم الحق عن الحق صاددُ، وقطعنا حبل الود، وحرمنا محللا. أقام الله للحق أعلاماً، فرفعنا رايات المنع، وقيدنا مطلقا.
وقد قالوا .. فهل وجدوا .. ؟!
قالوا العلم في قلق، فهل وجدوا أقوال القدماء في مأمن ؟!
وقالوا ينقض اليوم ما أقره بالأمس، فهل وجدوا ماقد أقروه قبل الأمس حقاً ومستقرا ؟!
وقالوا حقائق تدحضها حقائق، فهل وجدوا حقائق الكون عندهم حقائقا ؟!
وقالوا فروض ونظريات، فهل وجدوا أقوالاً بلا نظر أحسن فرضاً وأقوى ناظرا ؟!
وقالوا آيات لا يأتيها الباطل، وأكثر ما نجد في صفراء أوراق خطّها البشر عن الكون متباطل،
فأي الباطلين أولى؟ باطل عاطل، أم باطل يتَحَسَّنُ؟!
ثم دعّم الشيخ الصباغ – حفظه الله - حكمه الإقصائي بفقرات طويلة من كلام سيد قطب[4] رحمه الله (رددنا عليها في الفصل (أ7))، واصفاً معالجته للموضوع بأنه جاء بعمق وأصالة، .. ثم دعّم حكمه الإقصائي بكلام الشيخ شلتوت[5] رحمه الله (وقد رددنا على آرائه أيضاً في الفصل (أ4))، .. ثم دعَّم حكمه أخيراً بكلام الأستاذ الدكتور محمد الصادق عرجون رحمه الله، والذي جاء فيه قوله[6]: [حاول بعضهم إخضاع آيات القرآن لنظريات زعم أصحابها أنه قد استقر لها الاستدلال، وأصبحت علماً مقرراً لا يحتمل الشك والارتياب، مع أنها نظريات لا تزال يعوزها الاستقرار العلمي، وتفتقد البرهان الذي يرفعها إلى مظنونات الحقائق، بله اليقين]. والذي رددنا عليه مؤخراً في الفصل (أ20).
ثم قال الشيخ الصباغ قولاً يهدم كل ما أسلفه من أحكام، وانتقاص في حق مبدأ التفسير العلمي، وذلك بإقراره بنجاعة العلاقة بين القرآن والعلم في خلوه من التناقض، وذلك بتزكيته أنها تثبت خلو القرآن من أي تعارضات مع ما انتهى إليه البحث العلمي الحديث! ... فقال - حفظه الله - [1]: [من الأمور النافعة مما يتصل باتجاه التفسير العلمي، أن نقرر حقيقة لا شك فيها، هي أن هذا الكتاب الكريم لم يرد فيهما يتعارض مع ما انتهى إليه البحث العلمي الحديث، وأن الحقائق التي أشار إليها بصراحة تُعد من قبيل المعجزات التي تدل على أن هذا الكتاب من عند الله. .. وتُقدم بعض الدراسات العلمية للقرآن الشواهد على ذلك، ... وقد توفر على هذا المعنى المفكر الفرنسي موريس بوكاي، ... وخرج هذا المؤلف بأن الكتاب الذي هو من عند الله هو القرآن. ..]
نقول: ففيم كان انكار السداد في التفسير العلمي؟! ... وفيم كان الانتقاص؟! ... وهل ما فعله موريس بوكاي – الذي امتُدِح فعله هنا- شيء غير التفسير العلمي؟! .. فليرجع القارئ لكتبه، فلن يجد إلا ما تم ذمه من قبل! ... وإن كان الرجل الفرنسي، كان أوعى من إعجازيي العرب، وأقلهم انزلاقاً عن مَرَامِي المعاني، وأعلى منهم منهجا، وأشد منهم تحفظَّا!
أما عن التناقض، فلا شك أن كلام الله وخلقه سبحانه لا يتناقضا. .. ولكن معاني كلام الله التي صاغها المفسرون حسب فهمهم، فيما جدّ من معارف كونية، فيها من التناقض ما لا يحتمله العارفون بها! .. لهذا انتفضوا وانتهضوا، وحق لهم أن يفعلوا... والذين لا يعلمون عنها أعرضوا، وبما ورثوا تمسكوا، وإن سُئلوا تندروا، وقالوا ما من تعارض. وكيف يعلمون بتعارض إن لم يعلموا التناسب والتناغم والتشاكل؟! .. إشكال عويص، ونفوس عنه شارده، وضائع نفيس، ونفوس من فقدانه وإقناع المطمئنين حائرة. ترى الأخطار المدلهمة، على أعتابهم ماحقة، وهم بقيام الليل عيونهم ساهرة، وعن علومٍ الله أنزلها لهم، نفوسهم عافية، وأعداء الله لهم راصدة، بآلات القتل لإيذائهم متحفزة، يدعون الله ألا يفهم المسلمون أكثر مما فهم أجدادُهم، وإلا فسيعلموا، وخير لأعدائهم ألا يعلموا.
وأين الإشكال، ولم؟ ... - إنه التردد. بين استنكار مُخرجات الإعجازيين الـمُشَوّشة من جهة، وفضائل الفهم العلمي لآيات القرآن من جهة، ... قد أربك آراء فقهائنا وعلمائنا، فردوا التفسير العلمي للسبب الأول بجملته، ورحبوا به عينه للثاني. .. وما كان هذا شأنه، في أمر من أمور العلم، وجب أن تنفك فيه أسباب الرد عن أسباب القبول. أي أن انفكاك العلة هنا- باصطلاح أصول الفقه - واجب الأخذ به، والعمل بمقتضاه. وخلاصته أن الإشكال ليس في التفسير العلمي، وإنما في أخطاء الإعجازيين ومناهج التفسير العلمي الـمُشَوَّشة أو الباهتة الغامضة. أما من حيث ضرورة فهم آيات القرآن في ضوء الوقائع الحيّة في كل ميدان طالته الآيات؛ طبيعي أو فلكي ، أو اجتماعي، أو نفسي .. إلخ، .. فهو أمر لا يمكن لمؤمن أن يُنكره، سواء كنا من أهل هذا الفهم، أو كان اللاحقون بنا هم أهله! .. أما أن نغلق باب الفهم دون ولوجه، ومعالجة أسبابه، فهذا صد عن سبيل الله، من حيث يظن الصاد أنه يحفظ على كتاب الله تعالى مقامه العلي! .. فإذ به يصد عن فهمه!! ويصم عنه الآذان!!.. رغم أن التفسير العلمي في أخلص معانيه ليس إلا أن يحرص حامل القرآن على الإصغاء لمنطق المخلوقات فيما تَكَشَّف عنه الغطاء من أسرار الآيات المنزلات، وكما أن القرآن لا ينطق بنفسه بل ينطق به الرجال، فكذلك خلق الله ينطق بلسانه أهل التجارب والرصد والتأويل. ويتناوب التأويل من هذا وذاك، حتى نصل إلى الذي هو أحسن.
وهذا الإصغاء لكلام المخلوقات لا يخرج عن أمر الآيات القرآنية نفسها للمؤمنين بالرجوع إلى ما خلق الله من شيء، مثلما أمرت المؤمنين بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم واتِّبَاعه وطاعته. وكما أن طاعة النبي من طاعة الله سبحانه، فكذلك تصديق مخلوقات الله فيما تهمس به من أسرار هو من طاعة الله، وذلك استجابة لأمره سبحانه بالنظر في أمرها حين قال سبحانه "أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ"(الأعراف:185). قال الزمخشري في الكشاف: [فيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء ومن أجناس لا يحصرها العدد ولا يحيط بها الوصف]. فكيف يعرف المفسر " وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى " وهو لا يعرف حدَّ النَّجْمِ، ولا الهويان، أين ومتى وكيف يكون؟! .. وليقس القائس على هذا من الآيات المئات.
المؤلف
عودة إلى فهرس الكتاب


[1] محمد بن لطفي الصباغ: أستاذ علوم القرآن والحديث بكلية التربية بجامعة الملك سعود – بالرياض. ولد في دمشق عام 1930م، عمل في التدريس الجامعي أربعًا وثلاثين سنة درّس فيها مادتي علوم الحديث، وعلوم القرآن، ودرّس في بعض السنوات النحو، والبلاغة، والأدب، والمكتبة العربية، كما أشرف على عدد من الطلاب في الدراسات العليا، وناقش عدداً من الرسائل الجامعية، وشارك في لجان الاختيار لجائزة الملك فيصل العالمية مرات عديدة. والأستاذ الصباغ معروفٌ بفضله الذي يبدو في آثار قلمه، وفي بَيانه الذي يظهر دائمًا على لسانه، وفي علمه الذي يشهَدُ به عارفوه، ويستفيدُ منه تلاميذُه، فهو رجلٌ قد جمع سَعَةَ الاطِّلاع، وجَودَة الإلقاء، وسَلامَةَ اللغة، والبُعدَ عن اللَّحْن، وهو مُحدِّث موفَّق في الإذاعة والرائي، ومُدرِّس ناجحٌ في الجامعة وفي الجامع، ظاهرُ المكان، مُتميِّز الرَّأي في النَّدوات الإسلامية، عاملٌ دائبٌ في حَقل الدعوة إلى الله، قادرٌ على توضيح المسائل وتقريبها إلى الشبَّان، وهو سَليمُ العَقيدة، سَلفيُّ المشرَب، وقد صدر له عشرات  من المؤلفات.

[2] "لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير"، محمد لطفي الصباغ، المكتب الإسلامي، بيروت، طبعة ثالثة، 1990م، ص 293.
[3] السابق، ص 294.
[4] السابق، ص (294-299)
[5] السابق، ص (299-300).
[6] السبق، ص 300، نقلاً عن: نحو فهم لتفسير القرآن، ص 19، الدار السعودية للنشر، 1392هـ (1972م).
[7] السابق، ص 300-301.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق