الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

المقدمـــــــة - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

المقدمـــــــة
بقلم: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
يشترك كل من يتردد، أو يُشكك، أو يستنكر، أو يَسْخَر من: وقوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، الذي هو كلام الله رب العالمين، في نفي ما قامت عليها الشواهد الكثيرة والأدلة القاطعة. وقبل استعراض الأقوال المرتابة والمستنكرة والجاحدة من أصحاب الآراء في ذلك، وقبل الدفاع وتفنيد آرائهم الضعيفة والمردودة - حيث لم نجد لهم حجج قوية - نسوق هنا شهادة عملية ممن خاض هذه التجربة من غير المسلمين ليُدلي بنتائج تجربته، وما تحقق هو منه، وساقه إلينا دون مواربة أو تردد.
يقول الطبيب والباحث الفرنسي في مقارنة الأديان والعلم، موريس بوكاي[1]: "الوحي القرآني ... ليس فقط خالياً من التناقض في النصوص – الذي هو ظاهرة كتابات الناس المختلفين في الأناجيل، بل إنه يبرز للذي يمارس اختباره وتحليله، بموضوعية كاملة في ضوء العلم، ذاتيته الخاصة به، وهي الاتفاق التام مع النظريات العلمية الحديثة (يقصد النظريات المُحَقَّقَة والمُسْتَيْقَنة)، ويكشف حقائق من النوع العلمي، تجعل من المستحيل على رجل في عصر محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يكتبه. وهكذا فإن المعارف العلمية الحديثة اليوم تُيسِّر لنا فهم بعض الآيات القرآنية التي عجز الإنسان عن فهمها حتى الآن.
ومقارنة العديد من نصوص التوراة مع النصوص القرآنية ذات الموضوع الواحد، تؤكد وجود اختلافات أساسية بين تأكيدات التوراة العلمية غير المقبولة وتأكيدات الأخبار القرآنية التي هي في كامل الاتفاق مع المعطيات الحديثة. وقد رأينا ذلك في موضوع الخلق والطوفان على سبيل المثال. وإن كنا قد رأينا بالنسبة لتاريخ خروج موسى في النص القرآني تكملة ثمينة للرواية التوراتية. على أن المجموع ينسجم انسجاماً جميلاً مع المعطيات الأثرية في تحديد عصر موسى في الزمن، والفوارق الهامة بين القرآن والتوراة بالنسبة لموضوعات أخرى دونت لترد كل ما أمكن زعمه – دون أي دليل – من ادعاء نسخ (يقصد استنساخ) محمد (عليه الصلاة والسلام) للتوراة ليوجد نص القرآن."
ويقدم موريس بوكاي هذه الشهادة – ضمن شهادات عديدة ضمنه كتابه المشار إليه – رغم أنه أعرض عن سؤالٍ، ألح عليه السائلون فيه، عياناً أمام سمعي وبصري سنة 1986، وذلك حين سألوه: هل أسلمت؟ - فأجابهم أنه لا يقدم أعماله إلا بصفته باحثاً عن الحق والصدق والعلم.
ورغم أن موريس بوكاي قد فتح مجالاً للبحث العلمي – الاستدلالي التحقيقي، بآليات المناهج البحثية التحقيقية الرصينة - في القرآن الكريم، إلا أن الدعاية الدينية المشوشة قد شوَّهت هذا الفتح الزاخر، بدعاية إعلانية، فرغت البحث العلمي في القرآن من قيمته البحثية، وروَّجت لما ثبت وما لم يثبت بعد، من مسائل إعجازية لم تستوف نصاب البحث واليقين. فكانت ردة الفعل في أغلبها، إما واقعة بين تقريع غير المصدقين! أو صخب سابق المقتنعين! فسادت الأحكام الانطباعية المسبقة، وأطلقها كل من له صوت، ومصلحة، وتعلُّق بالأمر من قريب أو بعيد. فأصبحت مسألة الإعجاز العلمي في القرآن مُشكلة ومُعضلة، بدلاً من أن تكون انفراجة عاجلة، ونصراً زاخرا.
وجدير بالاعتبار هنا أن مسألة الإعجاز العلمي في القرآن، وما يرتبط بها من تفسير علمي، ليست مسألة خاصة، تتقارب نتائج وجودها وعدمها، بل هي أهم مما يظن معظم المشتغلين بها والمعرضين عنها. وذلك من جهتين:
الأولى: أن العلم الحديث قد اتسع نطاق سيطرته على كل منحى من مناحي الفكر والنشاط الإنساني دون استثناء. وهذا يشمل نطاق الحرية الإنسانية في الاعتقاد دون مؤاخذة ولا توجيه لباطل من حق في الاعتقاد. وكأنّ الاعتقادات مثلها مثل المذاقات والروائح، يأخذ منها الآخذ، أو يدع بلا حرج ولا عتاب. ولكن إذا طالت الحرية الإنسانية المسائل العلمية الرصينة، فليس للإنسان إلا أن يتبع ما أقرته المجامع العلمية، ولا يسع أحدٌ التنكر لها، وإلا طُرد من رحمة العلماء، وناله الخذلان والحرمان. فكأن العلم الحديث قد أصبح ديناً تقوم له الحجة، ومن عاندها كفر بها، وناله التشهير والتضييق، وفي المقابل لم يعد الدين الحق صاحب حجة! حتى وإن احتوتها نصوصه!!! ...  لماذا؟! – لأنها أصبحت في عرف العلم ليست حجة علمية!!! .... وإن بقيت حجة دينية، فلا بأس إذاً على من أنكرها كما يشاء. وبإسم العلم، وبإسم الحرية!!! ... فإن عورض أحدٌ في ذلك كان الاعتراض اتهاماً بغلق أبواب حرية الفكر والإبداع، وإن عارض مزاعم العلم أحدٌ، اتُّهم بإسم الحجج العلمية. فأصبح العلم الحديث هو "العلم" دون كل ما سواه، ولم يعد لدين من الأديان مثل رصانة العلم الحديث، فتراجعت مرتبة كل ما حمل اسم "دين" في القيمة العلمية، وأصبح شيئاً ما من التراث البشري، لا يحاجّ به، ولا يُحتَجُّ له!!! ... وأصبح "العلم" سابقاً ومهيمناً على الدين، كل الدين، وبلا استثناء! – وما يقال عن الحرية الشخصية في الاعتقاد، يقال على كل شأنٌ كان الدين هو المنظم له، مثل العلاقات الاجتماعية، والعدالة في الميراث، ومعنى الحياة، والعبث بالخلق، ... إلخ! .. بل أصبح الدين وأصوله مبحثاً علمياً يُنظَّر فيه وحوله، في نشأته التاريخية، واختلاق مصادر آدمية له، وتأصيل منابع الوجود الإنساني من فوضوية الأحداث الكونية - بحسب العلم الحديث - ورسم الخريطة الإنسانية على ضوء علم مُنكِر، لأي وحي يُنسب إلى خالق الكون (جل في علاه). .. وباختصار، أصبح لـ "العلم" سعياً حثيثاً لاجتثاث الدين - كل الدين - بإسم فضيلة العلم. وأصبح غرض "العلم" الأساسي أن يضع الدين – كل الدين - مع عبثيات الفكر الإنساني الما-قبل-علمي!
الثانية: أن الإعجاز القرآني على مدى عصوره قد انحصر في البلاغة والنظم والبيان. والغريب كل الغرابة أن هذه الوجهة الشكلية الصورية للكلام الإلهي كانت هي الملمح الوحيد البارز والطاغي إذا ذُكر اصطلاح "إعجاز القرآن". ويكاد أن يكون هذا التصور مُتَّفَقاً أو مُجْمَعاً عليه بين أئمة المسلمين. وهذه المسألة – التي لم تكن مشكلة من قبل في نظر علماء الإسلام، ربما لرتابة المعارف الإنسانية، حيث لم تتبدل مع الزمن تبدلاً ذا شأن كما يجري في أيامنا هذه، إضافة إلى هيمنة الأديان على ساحات الفكر الإنساني – نراها الآن مشكلة كبرى. ولإظهار حجم هذ المشكلة نقرب المسألة بالتصور الآتي:
تحدى الله تعالى الذين أشركوا به من الناس، وقال سبحانه "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ"(سورة الحج:73)، فهل كان هذا التحدي بأن يصنعوا فقط ذُباباً له هيئة الذباب الذي خلقه الله تعالى جامداً لا حياة فيه، أم أن يصطنعوا، إن استطاعوا، فوق تمثُّلِه، ذباباَ حياً له الكيان المعروف، يطير ويحط، ويتكاثر ويتوالد، ويسلك مسالكه، ويسترزق رزقه؟! – مثلما حدث مع عيسى - عليه السلام - في معجزة إحياء الموتى حين قال تعالى على لسانه "أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ"(آل عمران:49). لا شك أن التحدي يشمل الهيئة والوظيفة. فالتحدي إذاً ليس في محض الهيئة، بل في خلق كائن حي، وله هيئته. فالهيئة تابعة، وليست سابقة ولا منفردة بالقيمة، بل إن جل أعمال البشر التي أشركوا فيها بالله كانت هيئاتُ أوثانٍ لا حياة فيها.
والآن، تحدى الله تعالى من كان في ريب من القرآن وقال تعالى "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"(البقرة:23)– بمعنى، إن شككتم في القرآن، فاستوثقوا؛  أهو وحي من الخالق العليم الحكيم؟! أم هو من وضع محمد - عليه الصلاة والسلام؟! ومن استطاع أن يأتي بسورة من مثله، ولو بقدر سورة العصر أو الكوثر، فقد أسقط حجة القرآن! ولكن هل التحدي كان فقط بالإتيان بمثل هيئة الكلام الإلهي في القرآن من بيان ونظم وبلاغة فقط، أم بكلام (حي) صادق مقالاً وحالاً وزماناً ودواماً؟!
لا شك أن الكلام المأتي به في التحدي يجب أن يحقق كل هذه الشروط، أي: شروط الكلام الحي.
ولكن هذه الشروط لم ترِد في الحديث عن "إعجاز القرآن" على مدى عصوره وروداً تحقيقياً، وسكت الجميع عنه أو يكادوا، إلا ذكراً عابرا غير ذي بال! مفترضين أن المعاني متحققة بالضرورة – لمن شاء من الناس- في أي كلام يقال، حتى أنه قد أُثر عن الجاحظ قوله[2] في تهوين الحصول على المعنى : "المعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العجميُّ والعربيُّ والبدويُّ والقرَوي والمدنيّ وإنَّما الشأنُ في إقامةِ الوزن وتخيُّر اللفظ وسهولة المخرج". وهذا من غرائب الأفهام والأقوال! .. وتم تسليط الضوء فقط على هيئة الكلام في تأدية المعنى – في أغلب ما قيل- دون مضمونه!
ونستغرب هنا أشد الاستغراب، إذ كيف يمكن لإنسان – يقبل تحدي القرآن- أن يُشرع في نظم كلام بديع على شاكلة إبداع القرآن، قبل أن يستوفي شروط صدق الكلام - مقالاً وحالاً وزماناً ودواماً ؟!
إن هذا الشرط - في حقيقة الأمر - مستحيل التحقيق، لمن يعلم كم هو فوق طاقة البشر، أن يتكلموا بصدق تام ودائم، عن أي شيء في هذا الوجود[3]، ولا يمكن لعاقل أن يصل إلى مرحلة النظم أبداً قبل أن يجتاز نهر الصدق التام في الكلام! فكيف بالقدماء من المسلمين قد سلطوا الضوء فقط على النظْم، مع علو قدره وقيمته، في وقت تتقدمه عقبة صدق مضمون الكلام، وبما يصبح معه الوصول إلى مرحلة النظم دونه خرط القتاد؟! .. حيث لا قيمة لنظمٍ بديع لمعاني لم يكتمل لها مطلق الصدق!! ... مثلما أنه لا قيمة لكلام فصيح بليغ إذا احتوى شيئاً من الكذب.
ولنلقي مزيداً من الضوء على ما قد يعنيه "مضمون الآيات" ونقول: مَن مِن الناس يستطيع أن يتكلم عن الأرض أو السماء أو الماضي أو الحاضر أو المستقبل، أو الحياة أو الموت، أو الإنسان أو النفس أو الخير أو الشر ... إلخ، وقبل كل ذلك وبعده، من يستطيع أن يتكلم - بكلام من عند نفسه - بحق وصدق عن ذات الله العليَّة وصفاته وإرادته ومراده وحكمته، وعلة خلقه سبحانه للبشر والكائنات والكون؟! ويكون في كل ذلك صادق الدلالة، جامع المعنى، آمن من الزيغ فيه، لا يتبدل صدقه مع الزمان ولا المكان ولا الأحوال؟!
إن المرشح الوحيد لأي قول من هذه الأقوال والمضامين والدلالات – فيما يخص الواقع المشهود بما في ذلك ظهور الديانات - هو "العلم"!
فالعلم الآن هو الذي يتصدر مشهد الحقائق النافعة، والتصريحات المبهرة، التي تتحقق في الواقع إن صادف كلامه الصدق، وتبرأ من الزيغ، ويسعى حثيثاً أن يرى ما وراء الواقع مما خفى على الحواس أو المدركات أو الطبيعيات!!! ... نعم العلم إذاً - بحكم الصرامة التي تكتنفه- وفيما يخص العالم المشهود - هو المنافس البارز لمضمون آيات القرآن.
فالإعجاز القرآني إذاً يتطلب مواجهة العلم المطروح على الساحة الفكرية قبل مواجهة النظم، إذ لا قيمة لعبارة من الكلام كاذبة مهما علا قدر نظمها. وأقل العبارات الصادقة في قيمة نظمها أعلى من أعلى العبارات الكاذبة وهي في قمة نظمها! ... ففيمَ يفيدنا قمة النظم إذاً إن انخدش الصدق؟! 
هاتان إذاً هما المسألتان اللتان يجدر بالإعجاز العلمي للقرآن أن يواجههما:
1- مواجهة هيمنة العلم الغربي على المشهد المعرفي وإقصائه للدين الحق من المشهد.
2- إعادة تحقيق مسألة الإعجاز القرآني وتقديم المضمون المعرفي لآيات القرآن وصدقه على البلاغة والنظم والبيان، ولا نقول في القيمة، ولكن في الرتبة المنطقية، والترتيب الاعتباري، والأولوية الاجتهادية.
وفي هذا الكتاب سنُجري مناقشة آراء الذين خاصموا التفسير والإعجاز العلمي في القرآن، سواء قلَّت خصومتهم له أو طغت، مع مناقشة هاتين المسألتين حينما نجد إلى ذلك سبيلا. وذلك ابتداءاً بأقلهم خصومة، ممن توجس أو تردد أو تشكك، ومروراً بطيف واسع منهم، وحتى نصل إلى الذين انتقصوا من ذات القرآن - جحوداً من أنفسهم- في صورة قيمته العلمية.
والحمد لله أولاً وأخراً، وتجلَّى سبحانه في عليائه، وتألقت كلماته، ورفرفرت سحائب رحماته على الأكوان والعالمين.
                                                                                         المؤلف


[1] "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم"، موريس بوكاي، ترجمة الشيخ حسن خالد، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1990، ص 293.
[2] كتاب الحيوان، طبعة ثانية، ج3، ص131، مطبعة الحلبي، مصر، 1965.
[3] أنظر في ذلك مقالتنا (كيف يكون القرآن العربي معجزًا للأعجمي؟)، أو هنا، والتي تقدم نموذجاً عملياً على استحالة الصدق العلمي المطلق على البشر جميعاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق