كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ12) أمين الخولي
بقلم: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
تشبه اعتراضات الشيخ أمين الخولي[1]
على التفسير والإعجاز العلمي في القرآن لحدٍّ كبير، بما فيها من ترتيب الاحتجاج،
اعتراضات الشيخ محمد حسين الذهبي، وكأن أحدهما قد اقتبس اعتراضات الآخر وأعاد
صياغتها وإخراجها. لذلك سنتجاوز عن تكرار ردودنا التي أسلفناها هناك. ومن أراد أن
تكتمل له صورة الرد فليرجع إليها (الفصل (أ10)). وسنقصر ردنا هنا على بعض الزيادات التي يثيرها
إخراج الأستاذ أمين الخولي، أو التي تجاوزنا عنها هناك تخفيفاً للعبء والمؤونة.
فنقول: اعترض
أمين الخولي على التفسير العلمي للقرآن من عدة نواحي، فقال في الناحية اللُّغوية[2]:
"في حياة الألفاظ وتدرج دلالاتها؛ لو ملكنا منها ما لا بد لنا أن نملكه في
تحديد هذا التدرج، وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة الواحدة، وعهد استعمالها
فيها، لوجدنا من ذلك ما يحول بيننا وبين ذلك التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن،
وجَعْلها تدل على معاني وإطلاقات لم تعرفها، ولم تستعمل فيها، أو إن كانت تلك
الألفاظ قد استُعملت في شيٍء منها، فباصطلاح حادث في الملة بعد نزول القرآن بأجيال."
يُحيل الخولي
هنا التوسع في فهم ألفاظ القرآن إلى النمو التاريخي الذي صاحب حياة الألفاظ وتدرج
دلالتها، وذلك ينطبق على أي ألفاظ كانت، وفي أي لغة. ويقول ما معناه أنه لو كان
هناك أرشيفاً تأريخياً لألفاظ القرآن الكريم، لاستطعنا عندئذ من خلاله تتبُّع اللفظ
الواحد عبر تاريخه، فيما جد له من معاني، واتساع دلالي، وتفرع اشتقاقي وانحراف
استخدامي، ولكان لنا وقفات واعتراضات على معاني لم تعرفها الألفاظ الأولى كما جاءت
في القرآن، ولم توضع تلك الألفاظ لتُستخدم فيها. وإن كان العلماء قد أجازوا
استخدام تلك الألفاظ على معاني اصطلاحية بعد نزول القرآن بأجيال، فذلك كان من باب
التجوُّز الذي يحول دون تأثُّر المعنى الشرعي للَّفظ بالمعنى الاصطلاحي. ونؤكد هنا سلامة
هذا المنطق اللُّغوي للأستاذ الخولي. وندعم رأيه بشدة في أن استخدام ألفاظ القرآن
على هذا النحو يعارض الأمانة العلمية من حيث المبدأ، ويمثل تعدياً صريحاً على
صرامة معاني الألفاظ القرآنية. ونؤكد أننا قد اعترضنا على زلات كثيرة للمشتغلين
بالإعجاز قد سقطوا فيها، وكأنها ألغام دلالية تفجرت دون انتباه منهم، نتجت بالدرجة
الأولى بسبب غياب الحس اللغوي لتاريخ الألفاظ، وعدم القدرة على التمييز بين الأصل
والفرع الدلالي، وما أدى إلى تخصيص المعاني أو نقلها أو اشتراكها أو حتى إسقاطها
من الاستخدام. ونؤُكد أخيراً أن هذا المنزلق اللغوي كان سبباً لكثير من أخطاء
الإعجازيين حديثاً. بل إن تاريخ تفسير القرآن ومن زلّ فيه، ليؤكد هذا المنحى ممن ولجه، في وضع الألفاظ في غير معانيها السياقية، وخاصَّة المعتزلة قديماً، وبما يشمل أيضاً آيات التوحيد والاعتقاد، وهي الحصن الحصين الذي ما كان يجب أن يقترب منه مفسِّر إلا بأشد الحذر، مع توخي آمن المسالك، وأبعدها عن الشُّبهات.
ومع كل ذلك،
نُؤكد أن هذا الخطأ في استخدام الألفاظ لغير ما وُضعت له من المعاني الـمُعجميّة، ليس بمانع من حيث المبدأ
من جواز العديد من التفسيرات الطبيعية، وما ارتقى منها إلى مصاف الإعجاز العلمي، وإنما هو خطأ منهجي في آليات
التوظيف اللغوي لدلالات الألفاظ. فمع خطورته، لا نرى كونه سبباً ينغلق به باب
انكشاف المزيد من المعاني، وما يجب فعله في مثل هذه الحالة، فهو وضع الضوابط اللُّغوية لسلامة الاستخدام،
ورد ما لا يلتزم به من أعمال الإعجازيين بأدلتها اللغوية، التي يقبلها أهل العلم
والمنهج الصحيح في ذلك، وبما تقوم عليه الحُجّة ويفشل في محو الإدانه.
ونعطي لذلك
مثالان، الأول لما فيه من خطأ ظاهر، والثاني لما فيه من احتمال الصواب، لغياب التخطئة
عنه حتى اللحظة:
فأما المثال الذي هو ظاهر
الخطأ .. فهو استخدام لفظ (اليوم) في قوله تعالى "وَإِنَّ يَوْمًا
عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ"(الحج:47) بمعناه الاصطلاحي
الحديث، ... حيث استخدمه عدد من المفسرين الإعجازيين بمعنى (اليوم الفلكي) الدارج
في الفهم المعاصر، والذي يكافئ 24 ساعة، ..
وهذا خطأ إذا جاء منفرداً، وصحيح إذا كان مجتمعاً ولو على وجه التقريب. بمعنى أن
(اليوم الفلكي) المعاصر، وكما جاء في العجم الوسيط، هو فقط ما يكافئ 24
ساعة، أو (يوم + ليلة) بألفاظ اللغة. وعليه يكون (اليوم) في اللغة والقرآن – إذا
انفرد – هو طول النهار فقط. ومن ثم، يكون طول "اليوم" متفاوت حسب الموقع
عل سطح الأرض، وليس ثابت الطول، ناهيك أن يستعاض عنه بـ 24
ساعة في أي معادلات تفسيرية للآيات، فيكون عندئذ الخطأ شنيعاً، ويكون من النوع
الذي أدانه الخولي، رغم أن الخولي لم يميز نوع عن نوع، بل عمم الخطأ، وكأن الخطأ
في تحكيم الاصطلاح الحادث في التفسير العلمي قاطع بفساد عموم التفسير العلمي. وهذا
هو الذي نُدينه من كلام الشيخ الخولي رحمه الله. بمعنى أننا نُدين الخطأ بقدره،
ولا نقطع به الطريق. أما إن اتخذ المعترضون على التفسير العلمي مثل هذ الأخطاء
ذريعة لدرء مفاسد محتملة للتفسير، لأنهم
لا يستطيعون التمييز بين مواضع الخطأ من الإصابة، فهذا إدانة لهم لأنهم
يتسببون في إضاعة ما هو صواب. وهذا ما دعانا إلى قبول مبدأ التفسير العلمي، ولكن
على التمييز مسألة مسألة، وأن تحاكم كل مسألة باستقلال.
وهنا نشير إلى المثال
الثاني، وهو ما يحتمل الصواب بقوة، من تفسيرات علمية جديدة، ونقصد به تفسير "الصَّدْعِ"
في قوله تعالى "وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ"(الطارق:12)، بما دلّت عليه
الكشوف الجغرافية من وجود صدوع عظيمة في الأرض تُقطِّع القشرة الأرضية إلى عدد من
القطع المميزة، وهنا نجد ذلك يأتلف أيضاً مع معنى جديد لقوله تعالى "وَفِي
الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ"(الرعد:4)، فتكون هذه القِطًع هي ما تم
تسميتها بإسم الألواح أو الصفائح plates. وهذه الصدوع والقطع الأرضية، (أو
الألواح أو الصفائح)، ليست توهمات نظرية تفسيرية، بل هي كشوف تُرصد وتُسجل على مدار الساعة واليوم
والشهر والسنة، من محطات رصد أرضية، وقد تم تعيين مواقع الصدوع ودرجات انزلاقات الألواح أو الصفائح بالنسبة لبعضها بعضاً. وإذا كانت هذه الكشوف قد جُمعت في ما يُسمى بنظرية "الألواح/الصفائح الأرضية التكتونية" Plate Tectonics، فالأصل فيها ما تم رصده من واقع طبيعي
يكشف عن حقيقة طبيعية، وليس كونها نظرية تصح أو تخطئ. فقد تخطئ النظريات في
الصياغة أو التعليل، ولكن الوقائع والقراءات التجريبية لا تخطئ، وإن أعيد التنظير
حولها. .. ومما لا شك فيه أن المفسر اللُّغوي لا يمكن أن يقف في معاجم اللغة على
هذه المعاني (من صدوع أرضية هائلة، وألواح أرضية باتساع عدد من الدول)، ولا على
تصورات لأهل اللغة العربية لشيء منها. ولكن الانفراج المعرفي والفيض المعلوماتي، والنظر الجديد في طبائع
الخلق يكشف عن ظواهر طبيعية ربما هي التي تتكلم عنها الآيات، إذا تعرفنا عليها من صفاتها دون عيون أسمائها. ومن هنا يتقوى بها
التفسير، والذي يُسمّى عندئذ "التفسير العلمي"، أو "التفسير
الطبيعي"، ويصعب الطعن فيه على أساس المعاني الـمُعجمية، أو عدم دراية أصحاب اللغة
بها.
وفي الناحية
الأدبية أو البلاغية قال الأستاذ أمين الخولي[3]:
"البلاغة فيما يقال: مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فهل كان القرآن على هذا
النحو المُوسَّع من التفسير العلمي، كلاماً يُوجَّه إلى من خوطب به من الناس في ذلك
العهد، مُراداً به تلك المعاني المذكورة، مع أنها معاني من العلم لم تعرفها الدنيا
إلا بعدما جازت آماداً فسيحة وجاهدت جهاداً طويلا، ارتقى به عقلها وعلمها!!! وهب
هذه المعاني العلمية المدَّعاة كانت هي المعاني الواردة بالقرآن، فهل فَهِمَهَا أهل
العربية منه إذ ذاك وأدركوها؟! وإذا كانوا قد فَهِمُوها، فما لنهضتهم العلمية في علوم
الحياة المختلفة لم تبدأ بظهور القرآن، ولم تقم على هذه الآيات الشارحة لمختلف
نظريات العلوم المُفَهِّمَة لدقائقها!! وإن كانت لم تُفْهَم منها، ولم يُدركها
أصحاب اللغة الخُلّص من عباراتها – كما هو الواقع فعلاً – فكيف تكون معاني القرآن
المرادة؟! وكيف تكون تلك الألفاظ مُفَهِّمة لها، وهل هذه هي المطابقة لمقتضى
الحال!"
ليكن الأمر
صريحاً، ولنقل: نعم، لم تكن آيات التفسير والإعجاز العلمي التي اشرأبت وأطلت
بهامتها في ذلك العصر، لم تكن مُوجَّهة بدلالتها إلى من خوطب بالقرآن في عهد المؤمنين الأوائل، بل كانت من المتشابهات، وما زال الكثير منها إلى يومنا هذا متشابهاً،
والذين يقفون أمام الزحف التفسيري الجديد مانعين غير مميزين بعضه من بعض، إنما
يحاولون منع هبوب الرياح الجديدة التي تتلاقح بها بعض معاني الآيات المتشابهة، فتنتقل
بها من رتبة المتشابهات إلى رتبة الـمُحكمات. وما يستطيعون إن كانت هذه هي إرادة الله تعالى. ونعوذ
بالله أن نتجاوز حدودنا، غير أن هذا المعنى سائغ بما يُفهم من عموم قول الله تعالى
"ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"(القيامة:19). ومقام هذه
الآيات المتشابهة عند الأولين في الإسلام مقام ما قال الله تعالى فيه " يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ "(المائدة:
101)، غير أنه في موضوعنا هنا يؤول السؤال المنهي عنه: أي "لَا تَسْأَلُوا
عَنْ أَشْيَاءَ" إلى محاولات التفسير القديمة والحديثة – للمتشابهات -
بلا سند ولا دليل، وهو ما حاوله الكثير من المفسرين القُدامى، وكان جل أقوالهم التفسيرية في
مثل هذه الآيات، محض رأي ينازعه محض رأي آخر أو أكثر، وكلٌّ كاسرٌ مكسور. وليس
بمستغرب ما كان سيحل بالسائلين عن التفسير الصحيح إن أبداه الله تعالى لهم في
زمنهم. هل يقول لهم إن تفسير ما أرادوا معرفته هو أن الأرض تدور حول الشمس؟! ...أم
يقول لهم أن أمراً لله تعالى في الدنيا – قد سنَّ الله تعالى عليه أن- يسير بسرعة
الضوء؟! ... أم يقول لهم أن الشفع والوتر هما أدنى التعبيرات الرياضية لتمثيل
التغيرات الطبيعية ... وأنهما الصفر والواحد، أو الغياب والحضور، أو الزوجي
والفردي (وكل ذلك متكافئ معرفياً)؟! ..... أم .. أم .. أم .. وكم كان سيسُوؤهم سماع مثل هذه
المعاني؟! .... وهذا هو ما يقابل قول الله تعالى "إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ"
في الآية الكريمة المشار إليها. وأما ما يقابل قول الله تعالى "وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا
حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ" في موضوعنا، فهو بيان الله
تعالى لها بما يرافقها من مُكتشفات جديدة - وليس أقوال مُكتشفين - تتضح معها معاني الآيات التي كانت
متشابهة، وذلك تصديقاً لقوله سبحانه "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ
فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"(النمل:
93). وإن كان بعضُنا لا يريد أن يرهق نفسه بالمزيد من العلم، أو يجده مستعصياً عليه، ويظن أنه قد استحوذ
عليه جميعا، وأنه قد انغلقت بعده الأبواب، ورُفع الميزان، وناله من الله تعالى،
منابر النور، والروح الريحان، وفسيح الجنان، فما أفسدهُ من ظنٍّ يظنه ظان، ولو أن
هذا واقع، لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يشبع منه العلماء"!!! .. أمَا وقد شبع من ظن بنفسه ذلك! فإما أن رسول الله لم يقل الحق، .... نعوذ بالله من
الخذلان بعد الإيمان ... ، أو أن هذا الظان لم يكن من العلماء الراسخين الذين يقولون "آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا"(آل عمران:7)! لأنه عندئذ سيكافي رأيه قول من يقول (آمنا وعلمنا ما به كلٌ من عند ربنا)، خلاف ما في الآية من ملمح أنهم لم يعلموا كل ما آمنوا به بالضرورة. فالإيمان بالكل، لا يستلزم العلم بالكل، وهو الذي يريده هذا الظان بإغلاقه باب المعاني وراء ظهره.
أما قول أمين
الخولي: "فما لنهضتهم العلمية في علوم الحياة المختلفة لم تبدأ بظهور
القرآن، ولم تقم على هذه الآيات الشارحة لمختلف نظريات العلوم المفهمة لدقائقها!!"
فيجافي الشواهد الحضارية وتاريخ العلوم! ونتساءل: هل قامت على الأرض نهضة علمية حقيقية
غير التي أسسها القرآن، واحتضنتها العربية، وساح علماؤهما في الأرض ما بين الهند
والأندلس والبلقان واليونان، وشنقيط والسودان، يوثقون ويثبتون وينفون، ويرصدون
ويؤلفون ويصنفون، أم يعيب على أجدادنا أنهم لم يكونوا للفضاء غازين، أم نُحَمّلهم
تقصيرَنا ونومنا مع النائمين، أم أن أعدائنا قد طمسوا تاريخنا المنير، فصدقناهم ونسيناه نحن مع الناسين؟!
... وليستمع من يتشكك في كلامنا إلى هذه المحاضرة[4]، فيتبين
له منها كيف أن دواعي القيام بأركان الإسلام، من صلاة وصيام وحج ومواقيتها الزمنية
والمكانية والاتجاهية قد استدعت قفزات في علم الفلك والجغرافيا بعد أن انزوت الأرض
تحت أقدام المسلمين وتقوس ظهرها من فرط بُعد زحفهم وجَهْدهم واجتهادهم، حتى أنهم
اخترعوا الهندسة الكروية خصيصاً لذلك على غير مثال سابق، كما أن الزكاة والميراث
قد استدعى اختراع علم الجبر، وعلى نحوٍ إبداعي لم يُسبق إليه أيضاً، وإذا كان هذا
لمحض الوفاء بأركان الإسلام، فما البال بعطاءات الله فيما أنزل من كتاب وقرآن، لا
ينفذ عطاؤه إلى يوم يقوم الناس لرب العباد، لا ينالها إلا السائحون المجتهدون في
معاني الخلق والآيات والأسباب، لا الوارثون اجتهاد آبائهم، لا حظَّ لهم فيه إلا
التقليد وغلق دونه الأبواب.
أم يظن أصحاب مثل
هذا الكلام ، أن "النهضة العلمية في علوم الحياة" تنبعث من
القرآن دون أن يمارسون الحياة! .. دون أن يعتركوا تجاربها الإنسانية والمادية ...
وينفعلوا بها وتنفعل بهم. وهل ينفع القاضي أن يحفظ من الأحكام متوناً، وقد فقد
حواسَّه، لا يسمع صوتاً! ولا يرى ضوءاً! ولا يدري بما تتقلب به الأيام؟! ... وكذلك
النهضة العلمية لحملة القرآن، لا تقوم بغير حواس، غير أنها حواسٌ أبعد مراماً،
وأرهف مقاماً، .. إنها التجارب العملية والبيانات المعملية والرصدية، وتحليلاتها التي
قيلت في شأنها. أفئن تداركتها البشرية بعد زمان، تَحْرُمُ على المسلمين أن يروها
بعيون القرآن، وأن يسمعوا لها تحدثهم عن رب القرآن وآيات الله فيما أنزل من فرقان
وما أودع في الخلق من ميزان؟! .. إن هذه النظرة الجامعة لعطاءات الله فيما أنزل
وخلق، فرض عينٍ على كل إنسان. فإن عطّلها من لم يمارس الحياة، وظن أن أمر القرآن
مقصور على المسبحة والترتيل في الخلوات، فليُعِد قراءة القرآن، وليأتمر بالأمر الذي فيه
من نظرٍ في الخلق وتركيب برهان، والأشياء يُسمِّيها مثلما كان من أول إنسان! ...
يُناظر أباهُ الملائكةَ، وهو عن مناظرة الناس في أمر الخلق عاجز أو غفلان، فيُنكر
ويستنكر ويعترض جريان نهر الزمان!
أما عن
البلاغة والمطابقة لمقتضى الحال، فقد أسلفنا فيها المقال.
وفي الناحية
الدينية أو الاعتقادية قال أمين الخولي[5]:
"هي التي تبين مهمة كتاب الدين، وهل هو يتحدث إلى عقول الناس وقواهم
العالمة عن مشكلات الكون؛ وحقائق الوجود العلمية؟! وكيف يساير ذلك حياتهم، ويكون
أصلاً ثابتاً لهم، تُختم به الرسالات السماوية، كما هو الشأن في القرآن، مع أن
هؤلاء المتدينين لا يقفون من معرفة هذه الحقائق عند غاية محدودة، ولا ينتهون منها
عند مدى ما؟! فكيف تؤخذ جوامع الطب والفلك والهندسة والكيمياء من القرآن على نحو
ما سمعت آنفا، وهي جوامع لا يضبطها اليوم أحد إلا تغير ضبطه لها بعد يسير من الزمن
أو كثير، وما ضبطه منها القدماء قد تغير عليها فيما مضى، ثم تغير تغيراً عظيماً
فيما تلا!! والحق البين أن كتاب الدين لا يعني هذا من حياة الناس ولا يتولاه
بالبيان، ولا يكفيهم مَؤُنَته حتى يتلمسوه عنده، ويعدوه مصدراً فيه."
كأن الشيخ
بالحديث عن مهمة كتاب الدين ينتقد أن يتحدث هذا الكتاب الشريف – ضمن حديثه الإلهي
- "إلى عقول الناس وقواهم العالمة
عن مشكلات الكون؛ وحقائق الوجود العلمية، وكيف يساير ذلك حياتهم، ويكون أصلاً
ثابتاً لهم، تُختم به الرسالات السماوية." فنقول: أنَّى لنا - علماء كنا
أو طلاب علم - إلاّ أن نقف جميعاً أمام كتاب الله موقف المتلقي المستفهم، لا القاضي
المستحكم. إن كتاب الدين لا ينتسب إلّا إلى لله الواحد الفرد الصمد، الحكيم العلام
القهار، فلا وصاية لأحد على ما يحتويه كتابه ويشيره إليه كلامه، سبحانه! وليس لأحد أن يقول أن "الحق
البين أن كتاب الدين لا يعني هذا من حياة الناس ولا يتولاه بالبيان، ولا يكفيهم
مؤنته حتى يتلمسوه عنده، ويعدوه مصدراً فيه". فالله تعالى هو خالق
الإنسان ومُعلِّمه، وللعلم والأمانة خلقه، لا لمحض السجود كالنجم والشجر والدواب.
أما جوامع العلوم وضبطها وتتابع تغير الوعي بها، فليس بحُجَّة إلاَّ على القصور
الإنساني، قصور في كل شيء، .. حتى في فهم المراد من كتاب الله تعالى! .. أما الكتاب
الرباني فإن تحدث عنها ... فلا بد أن حديثه الحق. وإذا نظر إلى هذا الحق ناظرٌ، وجدّ وشدّ،
ونقّب ومحّص، وقلَّب الفكر وتدبّر، وسأل الرب واستغفر، وأرهف السمع لقول الحق في
خلقه وكتابه، .. والفؤاد منه نابض، .. والوجه في خلق الرحمن متقلّب، .. فأي عيب يعيبه؟! .. إلا ما كان من حاسدٍ أمرُه
مُريب، .. أو ممن فترت همته، .. وقصرت هامته، .. وقلت بضاعته، .. فأراد أن يكف الـمُنقّبون، .. ويهدأ الباحثون، .. ثم يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون!
ويقول الشيخ
الخولي أيضاً[6]:
"وأما ما اتجهت إليه النوايا الطيبة من جعل الارتباط بين حقائق الدين
والحقائق العلمية المختلفة، ناحية من نواحي بيان صدقه، أو إعجازه، أو صلاحيته
للبقاء ... إلخ، فربما كان ضرُّه أكثر من نفعه. على أنه إذا كان لابد لأصحاب هذه
النوايا ومن لف لفهم من أن يتجهوا إليه، ليدفعوا مناقضة الدين للعلم، فلعله يكفي
في هذا ويفي ألا يكون في كتاب الدين نص صريح يُصادم حقيقة علمية يكشف البحث أنها
من نواميس الكون ونظم وجوده؛ وحَسْب كتاب الدين صلاحية للحياة، ومسايرة للعلم،
وخلاصاً من النقد .. "
نقول: كيف
يمكننا أن نعلم بعدم وجود (نص صريح في كتاب الدين يُصادم حقيقة علمية)
ونقرر عدم مناقضة العلم للدين إن لم يكن هناك مناظرات واقعية في المسائل المتعددة والمشتركة
بينهما؟! فإن كان مجاليهما غير متداخلان كما يُستشف من الفصل بين نطاقيهما، فكيف
يعلم أنهما غير متناقضان؟! .. إنها معضلة عقلية تنم عن الولع بنقض مبدأ الإعجاز
العلمي بأي حُجّة كانت، دون النظر في تضارب الحجج ذاتها! فعدم التناقض لا يُعلم دون
المواجهة. فإن لم تكن من مواجهة، فلا يعقل عدم التناقض، بل يقال عدم الاختصاص.
مثلما أن هناك عدم اختصاص بين مسائل الرياضيات البحتة وعلم النفس لانعدام الاشتراك
في مسائل بعينها. والقائل بأن علم النفس لا يتناقض والرياضيات البحتة مُستغرب
المنطق مُلتبس الفكر، وكان الصمت له أولى والإنصات أجدى.
ويواصل الشيخ
قائلاً[7]:
"على أني حين أتسمّح بهذا القدر في سبيل إرضاء رغبات هؤلاء الطيبي النية،
لا أنسى أن أُذَكِّرهم بأن التناول الفني لحقائق الكون ومشاهده، هو التناول الذي يقصد
به الدين رياضة وجدانات الناس، ويوجهه لعامتهم وخاصتهم؛ وعلمائهم وأنصاف علمائهم،
بل لجهلائهم أيضاً – كما هي مهمة الدين والغاية من تلاوة كتابه بينهم جميعاً، وهذا
التناول إنما يقوم على المشهود البادي من ناحية روعته في النفس، ووقعه على الحواس،
وانفعال الناس به، لا من ناحية دقائق قوانينه، ومنضبط نواميسه في معادلات جبرية أو
أرقام حسابية، أو بيان جاف خصائصه وحقائقه .. وبقيام هذا التناول على المشاهد،
والمدرك بادئ الرأي، والمؤثر في النفس المثير للانفعال، لا يجب الوفاء به بحماية
الحقائق العلمية، والخصائص المجربة لهذه العوالم الموصوفة والمناظر التي لا يراد
من تناولها إلا إثارة الشعور بجلالها وجمالها، ودلالتها على عظمة القوة المدبرة
لها المحققة لنظامها، ولو التزم في شيء من هذا تصحيح المقررات العلمية لأخل هذا
الالتزام كثيراً بالأهداف الفنية الوجدانية، التي يريد الدين تحقيقها ونفع الحياة
بها عن طريق التأمل المتدين، والاعتبار النفسي
العاطفي المريح، قبل كل شيء آخر.."
نقول أن
التسمُّح في سبيل إرضاء الرغبات على حساب الحق، ليس من الحق، وذلك إن كان عدم
التسمُّح دفاعاً عن حق. ووسم المخالفين بأنهم أصحاب النوايا الطيبة يضمر الاستخفاف
بهم، وتحملهم على مضض، وهذا لا يكون إلا من ظن أنهم خلاف ما يجب أن يكون عليه
متدبر كتاب الله!
أما التمييز
بين الوجدانات الإنسانية وحبور القرآن بها لعموم الخطاب القرآني لأصناف الناس،
وجفاف الخصائص العلمية من معادلات جبرية وأرقام حسابية، والتنفير من احتمال أن
يحتوي القرآن على شيء منها لإخلاله بالشعور بالجلال والجمال، فلا يعكس إلا تجربة
شخصية، وذوقاً خاصاً. ... ونتساءل!.. مَنْ ذلك الذي يزعم أن المعادلات الرياضية وقوانين الفيزياء
والكون تخلو من الجمال، في وقت يشترط فيه بعض علماء الفيزياء جمالية القوانين
وبساطتها وذوقيتها كمؤشر على صلاحيتها!!! ولكن من يعلم ومن يدري[9]،[8]؟! .. ثم من ذا الذي يتذوق الشعر والأدب وهو لا يفقه مفردات اللغة التي بها كُتب؟، ومثله
الذي لم يفقه المفردات الطبيعية والرياضيات التي تركَّب منها الكون، أو صيغت في
بنيته، وعلى منوالها أبدعه الخالق جل وعلا، كما قال سبحانه " الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ"(الرحمن: 5-6). فأنَّى
لمثل هؤلاء أن يتذوقوا الشعر والرياضيات[10]،
وجمال الفن فيهما، وحبكة الصياغات، وروعة البرهان[11]،
وفرحة القلب، وإثلاج الصدر، وسكون النبضات.
يقول أمين
الخولي: "ومن هنا قد يبدو في تعبير القرآن ما يظهر متعارضاً مع شيء من
المقررات العلمية، وإن أمكن التوفيق بينهما؛ ولا أحسب أن عليه بأساً بشئ من هذا
ولا فيه ضير ... فخير لأصحاب هذه الرغبات الذين يبينون الصدق، أو الإعجاز، أو الصلاحية
لكتاب الدين بهذا النحو من التفسير العلمي، خير لهم أن يقدروا مثل هذا الاعتبار،
فلا يتكلفون ما يتكلفون من ربط الكتاب بالعلم، على أنهم إن كانوا لا بد فاعلين
فحسبهم – كما تقدم – ألا يكون في القرآن نص صريح يُصادم حقيقة علمية، دون أن يمكن
التوفيق بينه وبينها ... وبيان هذا الأصل مما لا يسمح المقام فيه بأكثر مما قيل."
ها نحن نرى
الشيخ أمين الخولي يقارن بين صياغات القرآن والمقررات العلمية في منتصف القرن
الميلادي العشرين. فأي مجاوزة للحق تجعله يحكم على عدم الجمال او الانسجام بين هذا
وذاك؟! إن المقررات العلمية تختلف بين عقدين من الزمان، ويتمايز فيها اللاحقون عن السابقين في عصر واحد وبينهم سنوات معدودات. ثم كيف يمكن نفي التصادم بين
كتاب الله تعالى والعلم الحديث، ومن ثم، نفي محاولات التوفيق إن لم يتحد الموضوع،
وينفرد الموصوف؟! – إن تقرير عدم التصادم بين القرآن والحقائق العلمية يستلزم
بالضرورة قابلية التقايس Commensurability في القيمة العلمية في ذات الموضوعات، وإلا لما أمكن الحكم على عدم
التصادم. بمعنى أن هناك من الأنشطة الفكرية ما لا يمكن المفاضلة بينهما مثل الشعر
والرياضيات مثلاً، لأن القيمة العلمية والفنية لكليهما مختلفة عن الآخر، ولكل
منهما مقياس غير متحقق في الآخر. وإذا كان القرآن وجدانيات وبلاغة وحس أدبي فقط كما ألمح الشيخ،
لما أمكن مقايسته مع العلم – تبعاً لمن يصفه هو نفسه بالجفاف المعرفي - من حيث المبدأ! ... ولما أمكن عندها الزعم بعدم وجود تصادم أو حتى اختبار وجوده. مثلما أنه لا يمكن المفاضلة بين
الأطوال والكتل لأن لكل منهما وحدته التي لا تشارك الأخرى في شيء؟! – فكيف يزعم الشيخ
ما زعم؟! – وإن كان هناك تصادم، فأنَّى له أن يحكم عليه بالنفي وقد فارق بينهما في النوع؟!
ويقول في موضع
آخر عن تبريره للنزعة العلمية في التفسير[12]:
"ترجع هذه الفورة في التفسير العلمي إلى رد الفعل الذي أحدثه الاتصال
بأوربا، وامتزاج الثقافة العربية الإسلامية التي كانت نائمة بالثقافة الأوربية
الناضجة، وما بهر العلماء من علوم ومخترعات حديثة، فحاولوا أن يرجعوا إلى تراثهم
الإسلامي العربي يستنبطون منه أصول هذه العلوم، وخشوا إن هم لم يفعلوا أن يبدو
القرآن ضئيلاً في أعين متبعيه وأنصاره، وأن تتزعزع العقيدة فيه من قلوب الناس أمام
ما يروه من معالم المدنية الحديثة، فحاولوا أن يبينوا أن القرآن احتوى هذه العلوم،
وأشار إلى هذه المخترعات قبل أن يعرفها أهلها أنفسهم بثلاثة عشر قرنا واستفادوا من
هذه الناحية من الكلمات والجمل التي يمكن أن تتحمل تأويلات واسعة، ومما في طبيعتها
من إمكان اتساع الخيال."
نقول: لا قيمة
لهذا التحليل النفسي إذا لم يكن في القرآن ما يتحمل جديداً في التفسير. وإذا تحمل
القرآن تأويلات واسعة كما قال الشيخ الخولي، فغير مقطوع بأن رد الفعل النفسي هو
الدافع على هذا النوع من التفسير؛ إذ عندما تنطق الآيات المكتوبة بمعان تراءت
أطيافها فيما يُرى من المكتشفات والتأويلات الكونية والعلمية الجديدة، فلا يملك
الناظر والعالم في هذه الشئون إلا أن يتعرف على مواطن الالتقاء وأن يعبر عنها
باصطلاحاته التي درج عليها. ويصبح التحليل النفسي الذي نراه في كلام الشيخ غطاءاً
استنكارياً يستهدف منه قائله اتهام أصحابه، أو وصمهم بأنهم موهومون من هول صدمة
حضارية، وأنهم بحاجة ماسة إلى شفاء منها ليعودوا أناساً طبيعيين، فيروا في القرآن
كتاباً للعبادة والطقوس ليس إلا. وإنا نتعجب من أمثال هذه الاتهامات، وقد رددها
غير الشيخ الخولي آخرون، ونسألهم: ما حملكم على اتهام الناس وأنتم لم تحيطوا علماً
بالقرآن وبما يمكن أن يكون عليه ما عَلِمَه أولئك الـمُتَّهَمون؟! وإن كانت اتهاماتكم
لهم محتملة وإحاطتكم بالقرآن جزئية، أفلا تُدان أحكامُكم، وتصبح كمن قال الله
تعالى فيهم "بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ
تَأْوِيلُهُ"(يونس:39). لذا نخشى إن هم أصرّوا على اتهامهم الناس، وصادروا
على كتاب الله تعالى الذي أنزله سبحانه لزمان علمهم ولما بعده من أزمان– في
المصادرة على العلم بكامل معانيه- أن
يمسهم من جراء اتهاماتهم من تقريع الآيات في عموم معناها ما يمسهم.
وفي سياق آخر
يقول الشيخ أمين الخولي[13]:
"أن العرب الذين خوطبوا بجميع ما في القرآن منذ نزوله لم يفهموا تلك المعاني
المدعاة في التفسير العلمي، وإلا لزم أن تظهر هذه المكتشفات على أيديهم منذ فهموها
من القرآن، وإذا كانت البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، لم يجز أن تكون هذه المعاني
مرادة من الآيات حين أنزلت، وإذا لم تكن مرادة آنذاك، فما الدليل على أنها مرادة في
هذا الزمان. (هذا على فرض احتمال القرآن لها)"
نزيد على ما
رددنا به من قبل على مثل هذه الشبهة، والذي بيَّنا فيه أن البلاغة هي الوفاء
بمقتضى الحال على تغيره (سالف وراهن ومستقبل)، وليس اكتفاءاً بالسالف، وإلا لكان
قصوراً بلاغياً عن مواصلة دور القرآن المتجاوز للزمن، ولكان القرآن لبعض الناس دون
بعضهم الآخر. فيكون درء القصور البلاغي من جهة، مَدْعاة إليه من جهة أخرى، ومن حيث
لا ينتبه المتكلم لعدم إحاطته بالمسألة. ونقول أن صحابة رسول الله، صلى الله عليه
وسلم، ما كانوا ليفهموا المراد من اصطلاحات النحويين من قبيل (الفاعل والمفعول
والمبني والمعرب والممنوع من الصرف والمرفوع والمجرور والمنصوب والمجزوم، .. إلخ)،
ولو سمعوه لتعجبوا وقال لسان حالهم: أهذه الأسماء ومعانيها في كتاب الله، الذي أُنزل على رسول
الله وهو بين أظهرنا؟! .. ولو سمعوا اصطلاحات البلاغيين من استعارة وكناية .. إلخ،
لقالوا مثل ذلك، ولو سمعوا اصطلاحات الفقهاء، واصطلاحات الأصوليين ... إلخ لما
اختلفت مفاجأتهم. ولو اقتفينا كل جديد في التحليلات العلمية الجديدة لآيات القرآن
نبترها، لاستنكار السابقين عليها رسمها وسمتها، لهدمنا تراثنا الفكري بجملته، ولم يبق إلا
المصحف ومتون السنن. وهذا بالفعل هو ما يؤول إليه كلام الشيخ أمين الخولي ومن يسير
على منواله. ومثلما هو بَيِّن الخطأ في هذه العلوم، فكذلك خطؤه في التفسير العلمي!
ولا نبعد عن الحقيقة إذا ذكرنا أن الأجيال السالفة كثيراً ما تحذر من اللاحقة لتبدُّل
الزمان وما يأتي به. فيقول لنا التاريخ[14] أن
اختراع ماكينة للحياكة سنة 1830 في فرنسا قد
أثار ثائرة الخياطين اليدويين قبلها، حتى أن مخترع هذه الماكينة كاد أن يُقتل على
أيديهم خوفاً من فقدانهم وظائفهم، وقاموا بحرق مصنعه الذي أنشأه لتصنيع الملابس
العسكرية بآلته الجديدة!
كما أن شواهد
افتراق الأجيال، وصعوبة ملاحقة السابقين لتطورات الأفكار، وانعزالهم عن الأجيال
الجديدة لتتكرر أمامنا كثيراً، [فهذا ماكس بلانك، الذي نشأت النظرية الكمومية على
يديه، اضطراراً ورغم أنفه، لم يستطع أن يلاحق النظرية الجديدة، وانزوى عنها
محاولاً كل جهده أن يسترجع الميكانيكا الكلاسيكية – أي الأوضاع الذي كانت عليها
الأمور - والتي انقضى جل عمره في رحابها، ولكن دون جدوى، (وظل متشككاً في أمر هذا التصور
الجديد الـمُسمّى بالفيزياء الكمومية حتى وفاته)[15]. ثم ازدهرت الميكانيكا الكمومية على أيدي شباب، كان أكبرهم سناً إرون شرودنجر،
وكان في الثامنة والثلاثين من عمره يوم توصل إلى معادلته الشهيرة "معادلة
شرودنجر"][16].
بل إن الإسلام
نفسه لم يقم إلا على مؤازرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جلهم من
الشباب، وكان أكبرهم سناً أبو بكر الصديق، وعمره في الثامنة والثلاثين من عمره
أيضا. وكان كِبَر السن عائقاً ثقافياً يحول دون أن ينخلع الإنسان عن ثقافته القديمة ليؤمن
بغيرها، سواء كان الحق فيها أو لا. ومن ينجح في ذلك بعد تبينه للحق فهو أقل القليل.
ونستشهد أيضاً
على ذلك من قول الله تعالى "فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ"(يونس:83)،
حيث كان كبار السن من قوم موسى قد ألفوا ما ألفوا، وما كان الإيمان بما يستغربونه
يسيراً على أنفسهم. وحتى هؤلاء الذين آمنوا مع موسى، ورأوا الآيات تترا، ماذا
فعلوا حينما أمرهم الله بدخول القرية التي هابوا سكانها من الجبارين، قضى الله
تعالى عليهم بأن يستبدلهم بجيل جديد من أبنائهم، لأنهم ما كانوا ليصلُحُوا للمهمة
الجديدة، فقال تعالى "فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ
فِي الْأَرْضِ"(المائدة:26). وهو الزمن الكافي لذهاب جيل الشيوخ وحلول جيل
الذرية.
هكذا إذاً ينعم
كبار السن بما تعودوه، ويُعرضوا عما يفارقه، ويتحمل الجيل الجديد وحده التغيير ويقبل
الحجج الجديدة، متجاوزاً بها الموانع الثقافية، التي تمضي مع أهلها.
المؤلف
[1] الشيخ أمين ابراهيم عبد الباقي الخولي (1895-1966)، أديب مصري من حُماة اللغة العربية، نُفي مع سعد زغلول
إلى جزيرة سيشل سنة 1919، شارك الشيخ مصطفى عبد الرازق ليمثلا بعثة الأزهر في
مؤتمر الأديان الدولي في بروكسل سنة 1925. عمل مدرساً بمدرسة القضاء الأعلى، وكان
رئيس قسم اللغة العربية ووكيل كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول سنة 1946، ثم أبعد عن
الجامعة بسبب إشرافه على رسالة محمد أحمد خلف الله، ونُقل ليعمل كمستشار بدار
الكتب، ثم مدير إدارة الثقافة حتى تقاعده عام 1955، ثم عضواً بمجمع اللغة العربية
بالقاهرة عام 1966. له العديد من المؤلفات منها: "دراسات إسلامية"،
"التفسير : معالم حياته"، "فن القول". ومن تلاميذه: صلاح عبد
الصبور، وعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) التي أصبحت زوجته.عرف الشيخ أمين الخولي بزيه
الأزهري المميز، ووقاره المهيب، وبريق عينيه وملامحه المتفردة.
أنظر أيضاً: "الشيخ أمين الخولي .. ذكريات لقاء"، لمحمد
عمارة: مجلة الهلال 11/1998.
[2] "دراسات إسلامية"،
أمين الخولي، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1996، ص32؛ و"التفسير،
نشأته، تدرجه، تطوره"، أمين الخولي، ص 60.
[3] المرجع السابق، نفس الصفحة.
[4] Islam and the
Transformation of Greek Science، الإسلام وتطويع العلوم الفلكية والجغرافية اليونانية، للمحاضر
جورج صليبا، سلسلة محاضرات عن العلم والدين، جامعة كولومبيا، 2008.
[5] "دراسات إسلامية"،
أمين الخولي ، ص32.
[6] المرجع السابق، ص 33.
[7] السابق، ص 33.
[8] نذكر واحدة من عجائبيات
الرياضيات، تلك النسبة التي تسمى "النسبة الذهبية" golden ratio، ورغم بساطتها، إلا أنها تجمع بين معادلات شديدة التعقيد من جهة
وشديدة الجمال من جهة ثانية، حتى أن هذه النسبة أصبحت معياراً لمدى جمال اللوحات
الفنية، ونِسَب قسمات الوجه بعضها لبعض، ونسب أجزاء البنايات لنفسها ومحيطها، ونسب
المقاطع الموسيقية بعضها إلى بعض، ونسب مناطق القراءة على صفحات الكتب من فقرات
ووسائط، وغير ذلك مما لا يُحصَى من نماذج تطبيقية. وقد أذيع عن وجود هذ النسبية
بين دفتي المصحف في آيات القرآن، فهل نقبلها لأنها تعكس جماليات وجدانية في العين
البشرية والحس الموسيقي، أم نرفضها لأنها رياضية التركيب، وهندسية النسبة، أم لأن
الشيخ أمين الخولي – غفر الله له – لم يكن من أهل الرياضيات، فما كان ليستسيغها
إذا عرضت عليه؟! وقد كتبنا في تحقيق هذه النسبة مقالتين: الأولى لتفنيد التهافت نحو ادعاء وقوعها في مكان الكعبة من الأرض، والثانية لاختبار هذا الادعاء، وشروطه لو كان واقعا.
[9] وُضعت معادلات ماكسويل في صورة
معادلة واحدة توجز كل ظواهرها، وقد وصفها ريتشارد فاينمان، وحق له أن يصفها، بأنها صيغة بسيطة وجميلة (Feynman, Leyton, Sands -
Lectures on physics. Vol. 2, p.25-10) ، وتساءل باحثون غير مرة وقالوا: هل يعتبر الجمال معياراً من
معايير الحقيقة؟
(Rich, Natalie (2010) "Is Beauty A
Valid Criterion for Truth?," Res Cogitans:. Vol. 1: Iss. 1, Article 21- Available at: http://commons.pacificu.edu/rescogitans/vol1/iss1/21)
- أما
أشهر من اهتم بعلاقة الجمال بالرياضيات، وجعل جمال معادلات القوانين شرطاً
لموافقتها للطبيعة الفيزيائية، فكان بول ديراك Paul Dirac، وذلك في محاضرته التي ألقاها في أربعينيات
القرن العشرين عن العلاقة بين الرياضيات والفيزياء، فأشار فيها إلى ما سماه:
"مبدأ الجمال الرياضي" The Principle of
Mathematical Beauty، فاشتهر المبدأ به، واشتهر هو بالمبدأ. (Lecture:
Paul Dirac and The Religion of Mathematical Beauty, Minutes 35-38)
http://www.youtube.com/watch?v=YfYon2WdR40
[10] وإني لأعلم أستاذاً في الفيزياء (هو:ستيفن شتروجاتزSteven Strogatz) فيما حكاه عن نفسه في احد محاضراته، حيث كان يتابع، وهو صبي،
أستاذه في برهنته لمسألة رياضية هندسية أمام فصله الدراسي الممتلئ طلاباً، وبمجرد أن
أنهى المدرس برهانه، حتى قام الصبي يتهلل ويصرخ طرباً مما أصابه من نشوى جمال البرهان!
– وذلك على دهشة من باقي الطلاب الذين لم يوهبوا الحس الجمالي الرياضي.
[11] كثيراً ما تُذكر قصة أحد
الأطفال في فصل من فصول الرياضيات سنة 1787 تقريبا، وقد دخل المدرس وأراد أن يلهي الطلاب بمسألة رياضية تبقيهم منشغلين طوال الحِصَّة لانشغاله عنهم في شأن من شئونه.
فطلب منهم حل مسألة جمع الأرقام المتسلسلة من (1) وحتى (100)، وظن أنه سيتخلص من
إزعاجهم نهائياً في ذلك اليوم. فما كان من ذلك الطفل إلا أن أحضر له نتيجة المسألة
صحيحة بعد ثواني معدودات، فراع المدرس ما فعله الطفل، ولما تفحص الإجابة اشتد روعه
لعبقرية الطفل. وما فعله الطفل أنه سلسل الأرقام ذهنياً في اتجاهين متعاكسين، وجمع
الأرقام التي فوق بعضها والتي يجب أن تكون جميعاً (101)، ولأن عدد الأرقام 100،
فيكون المجموع هو ضرب 101 في 100، ثم القسمة على (2) لأنهما سلسلتين. وكان هذا
البرهان من أجمل البراهين الرياضية في تاريخ الرياضيات، وكان هذا الطفل هو
(كارل فريدريك جاوس) أحد عمالقة الرياضيات فيما بعد.
[12] "التفسير، معالم حياته،
ومنهجه اليوم"، أمين الخولي، ص 20، نقلاً عن ("فكرة إعجاز القرآن منذ
البعثة النبوية حتى عصرنا الحاضر"، نعيم الحمصي، موسسة الرسالة، ص218). وعلق
نعيم الحمصي على هذه المقالة قائلاً: "اتضح لي رأيٌ آخر أصح عندي وآثر، وهو
أن هؤلاء العلماء قد تكشف لهم من معاني القرآن ما لم يعرفه أسلافهم، وذلك بعد أن
اطلعوا على علوم ونظريات حديثة لم تكن معروفة قبل".
[13] التفسير، معالم حياته،
منهجه اليوم" لأمين الخولي ص25-26- نقلاً عن (منهج الاستدلال بالمكتشفات العلمية
على النبوة والربوبية - سعود بن عبد العزيز العريفي – ص12)
[14] http://en.wikipedia.org/wiki/Barth%C3%A9lemy_Thimonnier
[15] ماكس بورن Max Born، محاضرة جائزة نوبل،
1954.
[16] Franco Selleri
(auth.), Alwyn van der Merwe (eds.) Quantum Paradoxes and Physical
Reality 1990, p.4-23.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق