الثلاثاء، 2 أكتوبر 2012

حول مركزية مكة لليابسة وإشكالات الاستدلال عليها

  On The Claim of Centrality of Mecca To Land
حول مركزية مكة لليابسة وإشكالات الاستدلال عليها(*)
بقلم عزالدين كزابر


رغم أن إسقاط هذا المنظر يحافظ على صدق المسافة الحقيقية والاتجاه بين الموضع الذي في مركز الصورة (فقط) إلى أي موضع آخر، إلا أنه لا يصدق في أي مسافة أو اتجاه بين أي موضعين آخرين. مما سبب تشوه الصورة. وهذا هو الإسقاط الذي استُخدم في إثبات مركزية مكة من اليابسة مثلما يبدو من هذه الصورة  أن مركزها هو مركز الكون!
بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

تردَّدَت الدعوات عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة النبوية على صورة كتب منشورة وندوات ومؤتمرات، وهذا أمرٌ محمود إن سَلِم من المؤاخذات العلمية. وكان جُل هذه الدعوات عامة في موضوعاتها ومحاورها كتلك التي تنظمها جمعية الإعجاز العلمي التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي وقد بلغت ثمانية مؤتمرات، أو ربما جاءت في أحد التخصصات كالذي عقد في موضوع "طب القلب"[1] في سبتمبر 2006.


إلا أن الأمر قد تطور إلى عقد مؤتمر يتناول مسألة بعينها هي مركزية مكة المكرمة للأرض، أي اليابسة، ينافح عنها ويجتهد لإذاعتها إلى آقصى مدىً. وهذا شيء جيد إن كانت تلك المسألة ومتعلقها من الإعجاز العلمي آية من آيات العلم المكتشف حديثاً أمكن تمييزها في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله. أما إن كان الأمر خلاف ذلك، وكانت تلك الدعوات لا تزيد على توهمات وظنون، وكانت الأدلة المساقة عليها ليست إلا تخبطات وأغاليط، فإننا لا بد وأن نزُود عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه بتبرئتهما من هذا الإدعاء. فإنهما أكرم من أن يُزكيهما تهافتٌ وزيغٌ علمي. والمسألة التي أشرنا إليها هي التي خُصِّص لها مؤتمرٌ عُقد بمدينة الدوحة مساء السبت 19/4/2008م، وجاء عنوانه "مكة مركز الأرض بين النظرية والتطبيق". وجاءت المشاركات جميعاً بالمؤتمر لتدعم مسألة أساسية هي أن مكة المكرمة تمثل مركزاً لليابسة. وأنها في موقع متوسط هندسياً مع أطراف القارات. ولو قيل إنها في موقع متوسط توسطاً طبيعياً للأرض مثلما هو حال البحر الأبيض المتوسط بين قارات العالم القديم لكان الأمر مقبولاً. ولكن الدعوات جاءت حاسمة قاطعة لا شك فيها ولا تردد. ولو أن الأدلة المساقة في إثبات هذه الدعوات جاءت بمثل حدة الدعوات الكلامية في الإثبات والدليل لكان الأمر رائعاً، ولكانت معجزة من المعجزات الحسية التي لا ينكرها إلا جاحد. إلا أن الأدلة جاءت أوهن من بيت العنكبوت.

هذا وقد أُعدَّت هذه الدراسة منذ عدة سنوات فضَّلَ صاحبها التريث، إلا أن ما عجَّل بنشرها عقد هذا المؤتمر المشار إليه، والذي يقطع بإمعان أصحاب تلك الدعوات على صحة مزاعمهم، وأنهم – مع فضلهم وعالي أقدارهم – لا يتحققون مما ينشرون، ولو كثرت عليه الملاحظات هنا وهناك. ورغم أننا نحب الإعجاز العلمي وأهله ومناصريه، إلا أن حب كتاب الله تعالى وسنة نبيه، ونصرتهما بالحق، أحب إلينا مما سواهما، وخاصةً لو تعارض معهما.

إدعاءات التفسير

وقد استند أصحاب دعوة مركزية مكة المكرمة لليابسة إلى ملاحظة عارضة في بحث أعده صاحبه: الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين، لإعداد خريطة تساعد على تعيين اتجاه القبلة من أي مكان في العالم. وكما هو معلوم في علم الخرائط cartography، أن إسقاط سطح الأرض الكروي الشكل تقريباً على خرائط مسطحة يأتي على عدد من أنواع الإسقاطات تعتمد على الغرض من الإسقاط. فهناك إسقاط يحافظ على المساحات وشكل القارات، ويكون ذلك على حساب تشويه الاتجاهات والمسافات، وهناك إسقاط يحافظ على الإتجاهات والمسافات بالنسبة لمركز بعينه على الأرض ويكون ذلك على حساب تشويه المساحات والأشكال. ولمَّا كان غرض د. كمال الدين هو دقة الاتجاهات ناحية موقع بعينه هو مكة المكرمة، فاختار نوع الإسقاط الذي يحقق ذلك. لذا جاءت خريطته صحيحة لغرضها بتعيين اتجاه مكة لأي مكان في العالم يمكن تعيينه على الخريطة الورقية، إلا أن شكل القارات جاء غير مطابق لأشكالها الحقيقية كما هو متوقع من هذا النوع من الإسقاط. أما ملاحظته العارضة فلم تزد عن رسم دائرة مركزها مكة المكرمة تحيط بقارات العالم – وذلك باعتبار مكة مركزاً للإسقاط المختار على الخريطة، والذي اتخذه هو كذلك حسب رغبته وغرض البحث، والذي انصب على تعيين اتجاه القبلة لا أكثر. وكانت ملاحظة د. كمال الدين عارضة قامت على التقدير البصري. ولا يُعد كلام صاحب البحث دليلاً، إنما الدليل في القياسات التي جاء بها البحث ويمكن التأكد منها بإعادة إنتاجها من قبل باحثين آخرين. ومعلوم أن د. كمال الدين لم يجرِ قياس نصف قطر الدائرة التي رسمها، ولم يثبت أنها تمر بحواف القارات. وما أسرع ما يسقط هذا الادعاء البصري إذا ما تحققنا من صحته بالقياسات. والحاصل أن أصحاب دعوات مركزية مكة من اليابسة روَّجوا لهذه الملاحظة أشد ترويج دون محاولة للتثبت.

لذا سنراجع أولاً ادعاءات مركزية مكة المكرمة من اليابسة، ثم نحقق في مدى صحة هذه الإدعاءات من عدمه:


قيل [2]: [ ذكر الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين ...‏ أنه لاحظ تمركز مكة المكرمة في قلب دائرة تمر بأطراف جميع القارات‏,‏ أي أن اليابسة علي سطح الكرة الأرضية موزعة حول مكة المكرمة توزيعا منتظما‏,‏ وأن هذه المدينة المقدسة تعتبر مركزا لليابسة‏,‏ وصدق الله العظيم إذ يقول‏:‏ "وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القري ومن حولها .."‏(‏الشوري‏:7).‏]

وفي موضع آخر نقرأ[3]: [ أثبت الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين ... تمركز مكة المكرمة في قلب دائرة تمر بأطراف جميع القارات‏,‏ أي أن اليابسة موزعة حول مكة المكرمة توزيعا منتظما‏,‏ واستنتج من ذلك أن هذه المدينة المباركة تعتبر مركزا لليابسة‏.]

وقيل في موضع ثالث[4]: [ثبت علميا توسط مكة لليابسة في كل مراحل نمو تلك اليابسة بمعني أننا إذا رسمنا دائرة مركزها مكة المكرمة فإنها تحيط باليابسة تماما‏]. نستدل من هذه الاستشهادات أن الدكتور حسين كمال الدين أثبت واستنتج أن مدينة مكة المكرمة في مركز اليابسة. في حين أن العبارة الأولى كانت التصريحات فيها أقل حدة من ذلك حيث جاء نصها: (لاحظ الدكتور حسين كمال الدين ....، وأن المدينة المقدسة تُعتبر مركزاً لليابسة..) وهناك فرق كبير بين محض الملاحظة والاعتبار وبين الإثبات والاستنتاج. وينبغي لنا أن نقف على كلام الدكتور حسين كمال الدين عينه ...

يقول الدكتور حسين كمال الدين في مقدمة بحثه[5]: [ بعدما وضعت الخطوط الأولى في هذا البحث ورسمت عليها القارات الأرضية، وجدت أن مكة المكرمة هي مركز لدائرة تمر بأطراف جميع القارات، أي أن الأرض اليابسة على سطح الكرة الأرضية موزعة حول مكة المكرمة توزيعا منتظما، وأن مدينة مكة المكرمة في هذه الحالة تعتبر مركزا للأرض اليابسة. ]

وعند تفصيل المسألة في عمق البحث يقول[6]: [لاحظنا عندما رسمنا دائرة مركزها مدينة مكة المكرمة، وحدودها خارج القارات الأرضية السبع، أن محيط هذه الدائرة يكاد يدور مع حدود القارات الخارجية. وذلك يعني أن موقع مدينة مكة المكرمة هو مركز الأرض اليابسة على سطح الكرة الأرضية .]

ونلاحظ من ذلك انخفاض حدة الحماس الوارد في المقدمة من قوله: [أن مكة المكرمة هي مركز لدائرة تمر بأطراف جميع القارات] إلى قوله: [حدودها خارج القارات وأن محيط الدائرة يكاد يدور مع حدود القارات]. وهناك فرق كبير بين وقوع الدائرة على حواف القارات ووقوعها خارج القارات. وهذا ما سيتضح لاحقاً. ثم أرفق د.حسين كمال الدين الخريطة التالية[7]، أنظر شكل (1).
شكل (1): الخريطة التي رسمها د.حسين كمال الدين. وفيها إسقاط الأرض باعتبار مكة مركز الإسقاط. وذلك بغرض الحفاظ على الاتجاهات الصحيحة تجاه المركز، بما يتفق مع غرض البحث الذي هو تعيين اتجاه القبلة.

 ونظراً لعدم وضوح الدائرة التي رسمها الدكتور حسين كمال الدين وتداخلها مع خطوط الطول التي أصبحت دائرية بسبب الإسقاط، قمنا بمحو ما وراءها باستخدام معالج الصور فحصلنا على الشكل (2):
شكل (2): نفس الخريطة في شكل (1) مع حذف ما وراء الدائرة التي رسمها د. حسين كمال الدين

ويجب التنويه إلى أن هذا الشكل ليس هو شكل الكرة الأرضية، وإنما هو الإسقاط الذي أجراه د. حسين كمال الدين ليحافظ به على الاتجاهات بين مدينة مكة المكرمة وأي موقع على سطح الكرة الأرض. كما أنه أضاف أن هذا الإسقاط يحافظ أيضاً على المسافات دون الشكل، حيث يقول[8]: [سوف نراعي بإذن الله تعالى في رسم الإسقاط المقترح بيانه في هذا البحث، أن يكون هذا الإسقاط محتفظاً بخاصية صحة الاتجاهات وكذلك صحة المسافات فقط، أما صحة التشابه فليست من أغراض هذا البحث]. ونُبدي الملاحظات الآتية على الدائرة المحيطة بقارات الأرض وتتمركز عند مكة، أنظر شكل (2).

صدق د. حسين كمال الدين في قوله إن الدائرة تقع خارج القارات. فمن الواضح أن هذه الدائرة تحيط بها من الخارج. إلا أنها لا تمر بحواف القارات تحت أي تقريب يُعتد به. ومن هنا كان القول بمرور الدائرة بحواف القارات مبالغة حماسية في مقدمة البحث أكثر من أن تكون تحقيقاً علمياً. وخاصة أنها ملاحظة بصرية غير محققة لم يكن يستهدفها البحث. لذا نجد خفوت حدة هذا الحماس حيثما تم تناول المسألة بشكل عارض في طيات البحث.

ولا بد لنا أن نلاحظ أن التفاوت في المسافات الخطية على الخريطة بين حواف القارات وبين مكة المكرمة شديد، ويصل إلى 50% بين أقصى الحواف بعداً وأدناها قرباً، ولا تمر الدائرة على الحقيقة إلا بالحواف الغربية لقارة أمريكا الشمالية والحواف الشرقية لنيوزيلاندا الواقعة شرق قارة أستراليا. أما الحواف الغربية لأمريكا اللاتينية والحواف الجنوبية لقارة أنتاركتيكا والشرقية لسيبريا فتبعد كثيراً إلى الداخل عن محيط الدائرة.

وقد قمنا بتعيين المسافات الحقيقية باستخدام برنامج "جوجل إرث" Google Earth بين مكة المكرمة وبين أبعد نقاط على اليابسة في القارات المختلفة فجاءت النتيجة على النحو التالي (بتقريب لا يزيد عن 20 كيلومتر):


المسافة بين مكة المكرمة و ..
أقصى شرق سيبريا                               = 10,070 كم
ساحل أستراليا الشرقي                            = 13,360 كم
الساحل الشرقي لنورث أيلاند (نيوزيلاندا)     = 15,660 كم
غرب ألاسكا في أمريكا الشمالية                 = 11,260 كم
ساحل المكسيك الغربي وراء خليج كاليفورنيا  = 14,100 كم
أقصى جنوب غرب أمريكا الجنوبية            = 13,600 كم
الحواف البعيدة لقارة أنتاركتيكا                  = 14,130 كم



وتظهر هذه المسافات جميعاً في شكل (3) والذي يمثل إعادة إنتاج نفس الخريطة ببرمجيات أعدت خصيصاً لذلك، وسيتم الإشارة إليها بعد قليل. وغني عن البيان أنه لا يمكن أن يلم شعث هذه المسافات أي دائرة (مع وجوب إسقاط شرق أستراليا إذا أخذنا نيوزيلاند بالاعتبار، ووجوب إسقاط غرب ألاسكا إذا أخذنا في اعتبارنا غرب خليج كاليفورنيا).


شكل (3): إعادة إنتاج خريطة د. كمال الدين إلكترونياً، ونلاحظ قدر التشوه الحاصل في مساحات القارات

ولنا أن نتساءل لماذا بدت خريطة الإسقاط في شكل (3) وكأنها متمركزة حول مركز الإسقاط، رغم أن المسافات الحقيقية بين المركز والأطراف ليست متساوية؟ ستظهر لنا الإجابة على هذا السؤال جلية إذا حققنا طريقة هذا النوع من إسقاط الخرائط.

الإسقاط السمتي متساوي المسافات: Azimuthal Equidistant Projection


يُسمى الإسقاط الذي أجراه الدكتور حسين كمال الدين في بحثه السابق عند المتخصصين في علم الخرائط بالإسقاط السمتي متساوي المسافات. وفي هذا الإسقاط تكون كل المسافات والاتجاهات صحيحة تماماً إذا قيست من مركز الإسقاط إلى أي موضع آخر في خطوط مستقيمة. أما المسافات المقاسة خلاف ذلك فهي غير صحيحة.

وفي شكل (4)، أسقطنا مرة أخرى الكرة الأرضية إسقاطاً مبرمجاً من نوع الإسقاط السمتي متساوي المسافات، وذلك باستخدام برنامج مباشر لذلك على الإنترنت[9]. وهو ما كان يغني عن إجراء بحث الدكتور حسين الدين كمال لو كانت هذه الأليات البرمجية متاحة عام 1395هـ وقتما أجرى بحثه. وإذا أردنا أن نجري نفس الإسقاط على الموضع الصفري لخطوط الطول وخطوط العرض (أي التقاء خط جرينتش بخط الاستواء) لحصلنا على الشكل الآتي:


شكل(4): إسقاط الأرض على نقطة تلاقي خط الإستواء وخط جرينتش إسقاطاً سمتياً متسواي المسافات
والجدير بالملاحظة الآن:

أن الخريطة تظهر كما لو كانت تجمعها دائرة واحدة تمر بالمركز (حيثما يتقاطع خط جرينتش وخط الاستواء) بدرجة تقريب قريبة بتلك التي تمركزت حول مكة (مع وجود انخفاض كثافة اليابسة في الجنوب الغربي من مجموع اليابسة في حين أن انخفاض كثافة اليابسة في حالة تمركز مكة كان في الشمال الشرقي، ومن ثم فإن مركزية أحدهما ليست بأسوأ من مركزية الآخر). ويرجع هذا التوهم بالتمركز حول مركز الإسقاط إلى شكل من أشكال الزيغ البصري. وذلك أن هذا النوع من الإسقاط يشوه الخرائط إلى درجة تبدو أطرافها البعيدة وكأنها منضغطة أو مطوية. وهذا الطي وهمي سرعان ما يبطل إذا قسنا المسافات الحقيقية كما بينا أعلى.


نتيجة لما سبق يمكن أن يتوهم أي إنسان يحب مدينته أنها مركز اليابسة لو أسقط الأرض على هذه المدينة بنفس نوع الإسقاط، أي إسقاطاً سمتياً متساوي المسافات. وأبسط الأدلة على اعتباطية مواضعة مراكز الخرائط أن اليابانيين يضعون جزرهم في وسط العالم. وعندئذ يمكنهم إسقاط الأرض باعتبار أن طوكيو هي المركز!!

ونلاحظ أن المسارات التي تربط مكة المكرمة وأبعد حواف للقارات عنها لم تعد مستقيمة كما ظهرت في شكل (3) والذي أسقطت فيها الخريطة على مكة بصفتها المركز. وتظهر هذه المسارات في هذا الإسقاط عند المركز (صفر،صفر) كمنحنيات لأنها تقيس المسافات الفعلية بين كل نقطتين. ونظراً للتشويه الذي يُحدثه هذا النوع من الإسقاط على خلاف المسافات والاتجاهات المستقيمة من المركز، فقد تشوهت تلك المسارات بتغيير مركز الإسقاط من مكة المكرمة إلى (خط طول، خط عرض)= (صفر،صفر). وهذا مما يؤكد صحة تعليلنا أن هذا النوع من الإسقاط يخدع الوهم بإظهار كروية غير حقيقية حول مركز الإسقاط.

وسنعمد الآن إلى إسقاط الأرض حول مدينة القاهرة كما هو مُبيَّن بشكل (5)، ونتساءل: هل هناك من اختلاف واضح بين هذا الشكل وبين الشكل الذي تُعد فيه مكة مركز الأرض، أي شكل (3)؟
شكل (5): إسقاط الأرض على مدينة القاهرة


ويلاحظ في شكل (5) أن المسافة بين القاهرة وأي موقع على الأرض (كمدينة نيويورك أوالقطب الجنوبي) تأتي في خطوط مستقيمة، أما ما بين أي نقطتين أخريتين، فالمسافة الحقيقية بينهما أطول من الخط المستقيم الواصل بينهما كما هو واضح بين نفس هذين الموضعين. وجدير بالملاحظة أن هذا هو نوع الإسقاط الذي تُرسم به خرائط شركات الطيران لبيان مسارات الطائرات الحقيقية. أي أن المنحنيات التي نراها على تلك الخرائط ليست عملاً فنياً لتجميل الخرائط، بل هي مسارات حقيقية تسلكها الطائرات بين المدن المبينة على الخريطة وتمثل أقصر المسافات بينها على الحقيقة (أي مسارات جيوديسية Geodesic)

ولنتحقق الآن من ادعاء آخر، وهو أن مكة المكرمة كانت كذلك دوماً، أي أنها مركز اليابسة (الهندسي) منذ تشكل الأرض! قيل[10]: [ ثبت علمياً أن القارات السبع التي تكون اليابسة على أرضنا في هذه الأيام كانت في الأصل قارة واحدة ثم تفتتت بفعل الصدوع والخسوف الأرضية إلي تلك القارات السبع التي أخذت في التباعد عن بعضها البعض ولا تزال تتباعد‏,‏ وبمتابعة جهود الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين رحمه الله برحمته الواسعة وجدت أنه في كل الحالات واليابسة قطعة واحدة‏,‏ وبعد تفتتها إلي القارات السبع مع قربها من بعضها البعض وفي كل مراحل زحف هذه القارات ببطء شديد متباعدة عن بعضها البعض حتى وصلت إلي أوضاعها الحالية‏. في كل هذه الحالات كانت مكة المكرمة دائما في وسط اليابسة‏.‏]

نسوق هنا التقديرات الراجحة حتى الآن[11] لتوزيع اليابسة عبر الأحقاب المختلفة، شكل (6أ-6هـ). ولا نرى منها ما يؤيد العبارة السابقة من كون مكة المكرمة – أو موضع البيت الحرام – كانت دائماً في أي وسط (هندسي) من اليابسة! اللهم إلا أن يكون موقعاً متوسطاً لا غير.
شكل (6أ)[12]: الوضع الراهن (لاحظ النقطة المظللة التي تمثل موقع مكة المكرمة)
شكل (6ب): قبل 65 مليون سنة
شكل (6ج) قبل 135 مليون سنة
شكل (6د): قبل 200 مليون سنة
شكل (6هـ): قبل 225 مليون سنة (القارة الأم أو بانجيا التي تفتقت عن قارات العالم المعروفة الآن)

تفضي بنا هذه النتيجة إلى ترجيح عدم أخذ مركزية مكة المكرمة مركزية حرفية كمركز دائرة ما إلى محيطها الدائري. وكما تدل المسافات التي بينَّاها أعلى أنها مركزية متوسطية. وحيث أن الآيات لم تنص على أكثر من ذلك، فلا ينبغي الذهاب بعيداً لإثبات ما لا تقم به دواعٍ علمية فضلاً عن أن تكون إعجازية. سواء كانت هذه الدواعي فك إشكال علمي أو الكشف عن سر طبيعي. وإذا خلا البحث العلمي من هذه الدواعي، فتناول مثل هذه الموضوعات على النحو الذي جاء في ادعاءات مركزية مكة المكرمة من الأرض اليابسة، يُعد من قبيل التكلف الذي يزيد ضرره على فائدته، ناهيك عن فتنته للناس. والأهم من ذلك وأشد وطأة أنه تَقَوُّل على الله تعالى بغير تثبُّت، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم الذي بلغ رسالته بالحق.

أما ادعاء أن ما جاء في الحديث المروي "‏كانت الكعبة خشعة على الماء فدُحيت منها الأرض‏"، أو "إنه‏ (أي بيت الله الحرام‏)‏ كان أول ما ظهر على وجه الماء عند خلق السماوات والأرض زبدة‏ (بفتح الزاي‏ ,‏ أي كتلة من الزبد‏)‏ بيضاء فدحيت الأرض من تحته‏" فلا يمكن اتخاذهما مرجعاً وحيد الدلالة لكون موضع الكعبة مركزاً هندسياً لما يظهر من أرض جديدة حولها. لأنه ليس بالضرورة أن يكون نمو الأرض حول هذا الخشعة الأولى متماثلاً من جميع الجهات. وما لم يثبت أن صخور مكة المكرمة أقدم – جيولوجياً - من أي صخور أخرى على الأرض، فلا يمكن ادعاء أي إعجاز علمي حتى يتم ذلك بجلاء ووضوح.

وإذا تم ذلك، ففائدته الكبرى أن تثبت معه صحة الحديثين المذكورين وأنهما من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلما يثبت أن لهذا الموضع أهمية تتفق وما جاء في القرآن عنه، كما في قوله تعالى "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ .."(آل عمران:96-97). وإذا لم يثبت قدم صخور مكة عن غيرها من بقاع العالم، فلا يسقط هنا إلا الحديثان أو ما جاء على شاكلتهما، ويظل القرآن وقدسية بيت الله الحرام قائمين بما أقامه الله تعالى من كونهما وحيه المنزل، وبيته الحرام الذي حرمه. فلا اعتبار لقدم صخور عن غيرها بما يجعلها مقدسة ولو ثبت قدمها، مثلما أنه لا اعتبار لمركز يابسة من أرض الله لمجرد أن هذا المركز في وسطها الهندسي!

أما ادعاء أن قول الله تعالى "فيه آيات بينات"(آل عمران:97)، يؤول إلى[13]: [(1) مركزية مكة المكرمة المزعومة من اليابسة، وإلى (2) انتفاء الانحراف المغناطيسي عند خط طول مكة المكرمة، وإلى (3) ضبط اتجاه زوايا الكعبة المشرفة في الاتجاهات الجغرافية الأربعة الأصلية]،‏ فهذه ادعاءات لا دليل عليها، وتفسير لكلام الله تعالى بمحض الظن الواهن. وسنأتي على مسألة الانحراف المغناطيسي عند خط طول مكة، في الحلقة الثانية من هذه الدراسة. كما سنأتي على ادعاء ضبط زوايا اتجاه الكعبة مع الاتجاهات الجغرافية الأصلية في الحلقة الثالثة بإذن الله تعالى.

--------------------------------------------------------------------------------
(*) (نُشرت هذه المقالة بتاريخ 5/15/2008 على موقع "الملتقى الفكري للإبداع" ، ثم زال الموقع ومحتوياته مع أحداث الثورة السورية، لذا نعيد نشر هذه المقالة هنا لكثرة تداولها على الإنترنت وغياب الرابطة الأصلية التي كثيراً ما يحال إليه)

[1] وجاء بعنوان "الملتقى العالمي الأول لطب القلب في ضوء الكتاب والسنة"، وعقد بالغرفة التجارية بالمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، 18-20 سبتمبر 2006م.
[2] (زغلول النجار، مقالات الأهرام، 28/10/2002)
[3] (زغلول النجار، مقالات الأهرام، 10/2/2003)
[4] (زغلول النجار، "من أسرار القرآن"، الأهرام المصرية، 7/7/2003)
[5] حسين كمال الدين، " إسقاط الكرة الأرضية بالنسبة لمكة المكرمة وتعيين اتجاه القبلة "، مجلة البحوث الإسلامية، 1395-1396هـ، الجزء 2، ص 292-293.
[6] المرجع السابق: ص 315.
[7] المرجع السابق: ص 316.
[8] المرجع السابق: ص 294.
[9] On Line Map Creation, http://www.aquarius.ifm-geomar.de
[10] (زغلول النجار، "من أسرار القرآن"، الأهرام المصرية ، 28/10/2002، وأيضاً 10/12/2007)


[11] بما يعرف بنظرية الانجراف القارِّي: continental drift theory.

[12] Source: United States Geological Survey website;
 http://pubs.usgs.gov/gip/dynamic/historical.html
[13] جاء ذلك ضمن كلمة د. زغلول النجار بمؤتمر "مكة مركز الأرض بين النظرية والتطبيق"، المقام بمدينة الدوحة بتاريخ 19/4/2008م. وجاءت عبارته كالآتي: "ما هي الآيات البينات التي أشارت إليها الآية الكريمة التي نحن بصددها في هذه المساحة الكبيرة التي تشكل الحرم المكي؟ وما هي دلالاتها على شرف المكان وعظمته وبركاته؟ وللإجابة على ذلك نورد ما يلي‏:‏ (1)‏ توسطة مكة المكرمة لليابسة‏: ... (2)‏ انتفاء الانحراف المغناطيسي عند خط طول مكة المكرمة: .... (3)‏ ضبط اتجاه زوايا الكعبة المشرفة: .. في الاتجاهات الأربعة الأصلية تماما ... (4)‏ الحجر الأسعد من أحجار السماء:‏ ..." وهذه العبارة تكرار جزئي لما نُشر من قبل في: ("من أسرار القرآن"، الأهرام المصرية، 17/1/2005م)

هناك تعليقان (2):

  1. تعليق الدكتور أبو يعرب المرزوقي: (بتاريخ: 18-5-1429 الموافق 22-5-2-2008)
    abouyaareb@yahoo.com
    (على موقع الملتقى الفكري للإبداع، يوم نشر المقال لأول مرة)

    نعم الفهم والتحليل:
    أخي الفاضل عز الدين السلام عليكم ورحمة الله وبعد، فإني أهنئك على هذا العمل الرصين. ففيه تؤكد على أمرين أساسيين يمكن لأن يسهما في تحرير فكر الأمة من دجل القائلين بالإعجاز العلمي:

    1- أن ما يزعمون حول مركزية مكة تخمينات لا أساس لها.
    2- أن القرآن لا يعلي من شأنه أن يكون فيه العلم، بل بالعكس، لأن ذلك سيجعله تاريخيا، وهو ما يسعى إلى فرضه العلمانيون حتى يحتجّوا بأن صفحته ينبغي أن تُطوى.

    لكن الأهم من ذلك فلو فرضنا صحة كون مكة في مركز العالم فما دلالة ذلك؟ لا شيء، أللهم إلا إذا كان للمركز دلالة دينية تؤدي إلى تقديسه.

    أبو يعرب المرزوقي

    ردحذف
  2. لا شك أن تعليق الدكتور أبو يعرب المرزوقي - لمن يعرف قدره العلمي - له قيمته الكبيرة.
    ولا شك أن التعليق كان إيجابياً لأقصى حد في توصيل رسالة المقالة.

    إلا أن التعليق أثار حفيظتنا لسببين!

    الأول: أن بعض القراء قد يختلط عليهم معنى (العلم) الذي خشي الدكتور المرزوقي من أن ربط القرآن به سيجعل القرآن تاريخياً، وأن ذلك مما يُسعد العلمانيين الذين يسعون إلى الترويج العلمي الزائف بأن القرآن مرتبط بتاريخ نزوله فقط، وأن صفحته يجب أن تُطوى! وأن هذا الربط بين القرآن و(العلم) التاريخي سيخدم قضيتهم. (ومن أمثلة هؤلاء: محمد أركون، وهشام جعيط، ...)

    والحقيقة أن الدكتور المرزوقي لم يقصد من (العلم) في عبارته: ما هو يقيني مطابق للحقائق الواقعية، بل قصد منه النظريات العلمية البشرية. ومعلوم أنها عُرضة للدحض والتبديل، وأن تاريخ العلوم قد شهد بذلك، إلا ما ندر. أما (العلم) المطابق للحقائق الواقعية التي خلقها الله تعالى على ما هي عليه، فلا شك أن وجوده في القرآن - إذا تم التوصل إليها بيقين- مما يُعلي من مصداقية القرآن عند الباحثين عن الحق، وأنه وحي من خالق الوجود، لأن خالق الشيء أعلم به، وإذا تكلم سبحانه عنه، فلا بد أن يُصدِّق خلقُه كلامَه، وكلامُه خلقَه.

    أما الأمر الثاني الذي أثار حفيظتنا، فهو أن لفظ (دجل)، لم يكن المراد منه وصف مبدأ الإعجاز العلمي، وإنما وصف مساعي الإعجازيين الرعناء، والغير منضبطة بأي نوع من مناهج العلوم، سواء الأصولية الفقهية، أو التفسيرية، أو مناهج البحث الحديثة. ومن ثم، كانت أخطاؤهم مُفجعة، وتعكس تدليساً (أو دجلاً) لا ينطلي على ذوي الخبرة من المفسرين، أو المتخصصين في عيون المسائل التي يقتحمونها. أما الإعجاز العلمي المنهجي، الملتزم بضوابط المناهج، والمرجعات والتحقيقات العلميةالمشهود لها، فلا دجل فيه، ولا تدليس. ومن ثم تُعد نتائجه معتبرة، ولا حرج فيها. بل هي مندوب إليها، وممدوح فاعلها، لوقوفه على جبهة المواجهات المعرفية ينافح عن دين الله من تشكيك المشككين، وإرجاف المرجفين. ومِثله في الأجر: الكاشف عن أخطاء المتكلمين في القرآن بغير علم، فهو كالواقف على ثغر من ثغور الدين القويم، يزود عنه عبث العابثين، ويطهرهه منه بما هو أهله.

    عزالدين كزابر

    ردحذف